سعيد بوخليط: حياة الإنسان بين الحرية والمسؤولية
تاريخ النشر: 14th, July 2023 GMT
سعيد بوخليط أبرز الوجوديون بقوة نحو مضمار التفكير اليومي،مسألتي الحرية والمسؤولية،في خضم تكريس أفق أولوية الوجود عن الماهية،فاختاروا بذلك الوجهة المناهضة كليا لمختلف الأنساق الميتافيزيقية؛ذات المنحى الثيولوجي أساسا،التي تجعل مصير الإنسان رهينة سلبية، دون إرادة عاقلة، لمنظومات قائمة سلفا، دائما وأبدا، تحدِّد استبداديا وشموليا بكيفية مبدئية وجهة الإنسان و تغتال قبل الولادة مشروعه الحياتي.
هكذا،بفضل إشارة الوجوديين،استعاد السجال الفلسفي الحديث مسألة حتمية تخلُّص الإنسان، أخيرا، من أنساق القَدَرية الخانقة والتواكل والسلبية ونمطية الحياة،نحو عوالم أخرى قوامها مركزية الذات ضمن نواة العالم وسيادتها الحرة، الواعية، على انبعاث ممكناتها، ثم استعدادها الإرادي كي تتحمل مسؤولية اختياراتها بكيفية مطلقة دون تأفُّفٍ ولا تخاذل. طبعا، يستحيل البتة إغفال شروط العوائق الموضوعية،التي تسطو على الفرد كي تضعه وفق خلفية مقصودة بكيفية حتمية،ضمن مقتضيات نظام معين. غير، أنَّ قيمة الإنسان الحقيقية وحقيقته الأصيلة،تتجلى فعليا في مدى قدرته على بلورة تعبيرات ذاته ضدا على مختلف السياقات المضادة.ربما، اتخذ ذلك،كساء توفيق تكتيكي واستراتجي أو تماما قطيعة جذرية،حسب نوعية المرجعيات المتبناة من طرف الشخص ونوعية بناء شخصيته ومستويات شجاعته وكذا حدود قدراته الذهنية والنفسية. إذن،رغم مختلف كوابح المنظومة الموضوعية، مجتمعيا وفكريا، المستوطنة بقوة خارج الذات،كي ترسخ في كل الأحوال،جملة عوائق مادية ومعنوية، أمام تحقيق وتحقُّق الحرية الإنسانية، بصيغة سوية، مكتملة النمو، متوازنة المناحي، فينبغي على الإنسان البقاء حرّا،مهما حدث، يحيا ممتلئا بحياته، يموت راضيا على يوميات مروره من هذا العالم، وقد نجا أخيرا بحياته، من حوادث موت اختزاله اعتباطيا إلى توافق مجتمعي بعينه. وحدكَ أيها الفرد، يقع على كاهلكَ مآل مصير حياتكَ.أعظم دليل ملموس بخصوص هذه المعادلة،استحالة تحمُّل شخص ثان بدلا عنكَ،أوزار الاختبارات الوجودية النوعية، والوقائع الفردية المفصلية، يكفي استحضار معاناة المرض بمنحييه الفيزيائي والنفسي،و تراجيديا الأوجاع عموما، غاية منتهاها الأكبر، المتمثِّل في الموت.لن يموت أحد مكانكَ.بعد كل شيء، سترحل وحيدا. وحدها، المحن تشكِّل فيصلا بين معاني الحياة. مقابل هذا الوضع،ربما حضر طيف الآخر دائما، بشكل من الأشكال، تبعا للسياقات العادية، وكذا احتمال تقاسمه عبء مايجري بناء على معايير زخم حِسِّه الإنساني،بيد أنَّ مستوى التماثل الوجداني المفترض، يظلُّ في النهاية محتملا ونسبيا،غير مضمون بتاتا،أو يمكن الرهان عليه كليا. عموما، لا تراهن سوى على ذاتكَ. لاتنتظر رحمة من أحد. مهما بلغت كمَّاشة الظروف الموضوعية، مهما تعاظمت مقتضيات الفضاء المجتمعي، فلا قيمة تذكر للفرد إذا لم يناظر واعيا، مختلف ذلك، ملوِّحا بنموذج حياته الشخصي الذي يعبر عن ممكنات هويته الذاتية. يجسِّده باعتباره نموذجا قائما بذاته، يدافع عن مشروعه الوجودي الخاص، مثلما الشأن بالنسبة لباقي الذوات الأخرى. بالتأكيد، يتعلق كل نموذج حياتي بجدارة حامله، يقدم في نهاية المطاف وجهة نظر صوب الحياة، ومنظورا بعينه، بالتالي تدافع زمرة نماذج كي تحقق من الحياة ماينبغي لها النَّهل منها،وتشعر بأنها حياة سخية،مطواعة.إذن، بناء على منطق الحياة نفسها، يتمتع كل شخص بحرية العيش وفق الأسلوب الذي يراه ملائما لوجوده، ولا يملك الآخر سلطة ضمن هذا المضمار. الشاهد الوحيد، تبلور جدلية مبدعة بين الحرية والمسؤولية،حتى لايبدو التأويل تائها وفضفاضا حدَّ التضليل،يبتغي فقط سوفسطائية التِّيه والخلط،وجب التأكيد باستمرار على أنَّ كل نمط حياتي يظل مستساغا ومقبولا جملة وتفصيلا،إذا حكمته مرجعيتي الحرية والمسؤولية :أنتَ حرّ بكيفية غير قابلة للجدل،يعني تحملكَ منتهى اختياراتكَ بمسؤولية راشدة. أغلب البشر ليسوا أحرارا،و لاقدرة لهم على الانحياز إلى وازع الحرية بمسؤولية، بل يخضعون عُرْفيا فقط لما يجري، قد يتحقق ذلك بدون رغبة، أو ربما برغبة، لاأدري، لكنها بلا نكهة ولا ذوق، رغبة رمادية اللون أقرب إلى مذاق الحنظل. يمتثلون علانية وضمنيا لسلط موضوعية عدَّة،أخذت سلفا تجليات أضحت حاليا كلاسيكية،اشتهرت بفظاظتها المادية المباشرة كما الشأن مع الأنظمة الشمولية السياسية والدينية والاجتماعية، التي ناشدت بالمطلق إنسانا حَجَرا محكوما فقط ببعد واحد. تطورت هذا الصنف المرعب،نحو قبضة ماكينة ميكروفيزيائية منسابة خيوطها هُلاميا بطرق مُخْملية، تشتغل بآليات سحرية جدا، بإيماءات الجنِّ، كما الحال بالنسبة لمنظومة الاستهلاك الجشعة المدمِّرة لصفاء الإنسان ثم حيل ومكائد المقتضى الرقمي الذي لَوَّث جوانب كثيرة من العمق الإنساني. وضع مختلف يستدعي ويقتضي،من الذات ذكاء وجوديا ثاقبا للغاية، متيقظا، كي لايقع المرء فريسة سهلة تحت قبضة هذا المثيرات الجديدة، ويحافظ على حريته الداخلية. ليس الحشد بالضرورة على حق، كما أن الفرد لا يكون دائما صائبا، لذلك تكمن الحلقة المفقودة بخصوص توازن المعادلة العويصة،في كيفية تنظيم تلك العلاقة من خلال المحافظة على أولوية اختيارات الذات واحترامها،ثم في نفس الوقت احترام حياة الآخر. أساس الأفضلية والتميُّز، حرية الاختيار بوعي وجودي، ثم الشغف بهذا الاختيار. هنا، نواة خيوط السعادة التي يتطلع نحوها الجميع، أي الانطلاق من الذات والعودة إليها،يتوارى كنهها خلف العثور على معادلة الحرية والمسؤولية. لا توجد قيمة بديلة تشكِّل في ذاتها ثروة أبقى للإنسان، ولو امتلك الأخير العالم برمته، إذا انعدمت حريته، بل إن رحابة هذا العالم أو ضنكه، تتصلان عن كتب بإشباع مدى الحرية أو بالعكس تضاؤلها،لحظتها تكبر تعاسة البشر وتغدو حياتهم بلا معنى.فقط، تدور عجلة الزمان بلا طائل كي يلتهم بجنون حضوره.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.
ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.
هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.
فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.
لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.
أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.
وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟
في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.
إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.
لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري