بقلم فالح حسون الدراجي ..

ليست هناك قضية ظُلمت في مزاد السياسة العربية كالقضية الفلسطينية، بعد أن بيعت عبر مراحل التاريخ بأثمان بخسة من قبل أدعياء العروبة وتحرير فلسطين، ولا ثمة شعب تعرض لأذى الأخوة والأشقاء أكثر مما تعرض له الشعب الفلسطيني على أيدي أخوته العرب، ولا أظن أن اسماً غير اسم فلسطين استخدم كلافتة دعائية، أو كاسحة ألغام، تزيل المتفجرات، وتؤمن الطريق أمام (الزعيم) ليعبر الى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري أو ثوري، أو سَمّه بما تشاء، دون أي مخاطر أو معرقلات تواجهه !!

نعم، فقد كانت ولم تزل قضية (تحرير فلسطين)، نغمة مألوفة يعزفها أغلب السياسيين العرب في أول انقلاباتهم، بل وفي جميع أنشطتهم الدعائية أيضاً، لما فيها من سحر ونفوذ يؤثران جداً في الضمير والوجدان الشعبي العربي، لذلك ترى القادة والزعماء العرب يبدؤون ويختمون بها خطاباتهم الحماسية، وبياناتهم الثورية، فمثلاً كان صدام حسين حريصاً على أن ينهي كل خطاباته التسويقية بجملة (عاشت فلسطين حرة عربية)، بل وكان يستخدمها حتى في استجوابه أثناء جلسات محاكمته بعد سقوط نظامه وإلقاء القبض عليه في تلك الحفرة الشهيرة.

.! وطبعا فإن صدام لم يكن وحده يستخدم (قميص عثمان) الملطخ بالدماء الفلسطينية البريئة، فقد سبقه وتلاه أيضاً زعماء عرب كثر.. ولو عدنا إلى الوراء لوجدنا أن قادة الكثير من (الثورات) والانقلابات في التاريخ والجغرافيا العربية قد ادّعوا أن (ثوراتهم) جاءت رداً على احتلال فلسطين، أو احتجاجاً على نكسة الخامس من حزيران !!..

فها هو الزعيم جمال عبد الناصر يرفع اللافتة ذاتها عند قيامه مع مجموعة من تنظيم الضباط الأحرار بثورة 23 يوليو عام 1952بشهادة رفيقه ووزير إعلامه محمد حسنين هيكل، الذي قال: (تسجل أجندة التاريخ العربي الحديث، أن فكرة الثورة المصرية الكبرى 23 يوليو 1952 ، ولدت على أرض فلسطين، في ظل مناخ عربي ملبد بسحب كثيفة من التبعية والإنكسار والترهل والعجز، وقد تكشفت مشاهده العبثية مع نكبة 1948 وتأسيس المشروع الصهيوني فوق الجغرافية الفلسطينية…. الخ ..!

ولم يترك الزعيم ناصر الحديث لهيكل فحسب، إنما كتب هو بنفسه قائلاً:

( إن فلسطين احتضنت أحلام الضباط المصريين الشباب لإنقاذ وطنهم بثورة، وأن فلسطين كانت «بوابة» ثورة 23 يوليو / تموز 1952 …الخ ..)!

-وللحق والإنصاف – فإن عبد الناصر حارب إسرائيل وسعى لتحرير فلسطين، رغم خسارته الكبيرة أمام الصهاينة في حربين مدمرتين، لكن انشغاله في حروب عبثية، كحربه في اليمن، ودعمه المحموم لعصابات المتآمرين وخونة ثورة 14 تموز في العراق، وانصرافه إلى مشاريع وهمية لا نفع منها ولا فائدة، كالوحدة والانفصال مع سوريا والسودان، وغيرها من الانشغالات والخصومات، والتنافسات بين ناصر والمشير عامر ، تسببت كلها في كارثة 5 حزيران .. وإذا كان عبد الناصر قد حارب إسرائيل فعلاً رغم فشله الذريع، فإن الزعماء العرب الذين أقاموا انقلاباتهم رداً على أسباب النكسة واغتصاب أرض فلسطين، وكانوا قد توعدوا اليهود برميهم في البحر، كانوا الأكثر ضرراً ودماراً على الفلسطينيين، فهم لم يرموا الصهاينة في البحر، بل رموا فلسطين وشعبها، وقضيتها في نار الفتنة وجحيم التصفيات، والمعارك الفلسطينية الفلسطينية، والإغتيالات المدفوع ثمنها من دماء ومستقبل الفلسطينيين أنفسهم. فحزب البعث/ فرعا العراق وسوريا / قاما بانقلابيهما في بغداد عام 1968 ودمشق عام 1970 من أجل تحرير فلسطين كما ورد في بياناتهما، وكذلك الرئيس السوداني العقيد جعفر النميري، فهو لم يقم بانقلابه (العروبي) على الحكومة المدنية برئاسة اسماعيل الازهرى عام (1969)، إلا من أجل عيون فلسطين أيضاً..!
ولنفس السبب، قام (الرائد) معمر القذافي بانقلاب (الفاتح من سبتمبر) عام 1969 .. حيث يقول القذافي نصاً: ( لقد جاءت الثورة الليبية رداً جريئاً صادقاً حاسماً وأميناً ضد النكسة والقواعد وضد التفريط والتخاذل، وضد اليأس الذي كان مخيماً على دنيا الواقع العربي جراء نكسة حزيران 1967″.. ولو عدنا لمراجعة بيانات رقم واحد لجميع (الثورات) العربية، لوجدناها جميعاً رفعت شعار تحرير فلسطين مثل أية لافتة ترفع في أغلب المناسبات والاحتفالات السياسية.. وهنا سأكتفي – لضيق مساحة المقال- بفقرة واحدة من أحد بيانات انقلاب حزب البعث العراقي عام 1968 حيث جاء فيه :

(يا أبناء شعبنا الابي..

يا أبناء أمتنا العربية ..

بعد نكسة الخامس من حزيران عام 1967 والتي اغتصب فيها الكيان الصهيوني غزة والضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء إضافة الى أرض فلسطين العربية وقد تم هذا الاحتلال بفعل تخاذل أنظمة الهزيمة والاستسلام، والذي أدى الى شيوع حالة من اليأس والقنوط والتداعي في صفوف الجماهير العربية بسبب صدمة النكسة وما ولدته من مرارات في نفوس ابناء شعبنا العربي .. ولقد جاءت ثورة البعث في العراق في السابع عشر – الثلاثين من تموز عام 1968 رداً علمياً وثورياً وطنياً وقومياً حاسماً على نكسة الخامس من حزيران وصيرورتها قاعدة صلبة لنضال حركة الثورة العربية المعاصرة، وتقديمها الدعم اللا محدود للمقاومة الفلسطينية كتعبير عن الرد الثوري الوطني والقومي الحازم ضد النكسة الحزيرانية …الخ ).

والسؤال الذي لابد من طرحه : ماذا قدم البعث الصدامي، والبعث السوري، ومعمر القذافي والنميري وعلي عبد الله صالح وأحمد بن بيلا، وبقية المتشدقين من أدعياء العروبة، ورافعي لافتة تحرير فلسطين غير الدمار والقتل والتشريد ؟

فمثلاً، حين يختلف (الرفيقان اللدودان) صدام حسين وحافظ الأسد، كانا يصفيان حساباتهما بتفجير الساحة الفلسطينية في مخيمات لبنان، أو في تونس أو باريس أو روما أو في الضفة أو حتى غزة، وطبعاً فإن التحاسب يتم بواسطة الأدوات الفلسطينية وليس بغيرها، فهذا لديه منظمة الصاعقة الفلسطينية (ملك صرف) وصدام لديه جبهة التحرير العربية (طابو )، فضلاً عن توفر بعض المسدسات الفلسطينية الجاهزة للتأجير كمسدس صبري البنا (أبو نضال) ومسدس أبو العباس وغيرهما ..!

وللتاريخ، فأنا لا أساوي قطعاً أو حتى أقارن بين مواقف صدام (المجرم) ومواقف حافظ الأسد الكريمة والنبيلة مع المعارضين واللاجئين العراقيين.. إنما أتحدث هنا فقط عن ما أُلحقه صدام والأسد بالقضية الفلسطينية من اذى، وليس عن سلوكيهما وشخصيتيهما .

وعلى المنوال ذاته اشتغل القذافي في (تفاهمه) مع خصومه، وهم كثيرون في الداخل والخارج دون شك، بحيث لم يكتف القذافي باستخدام القضية الفلسطينية لمصلحته الشخصية، ولا بتأجير القتلة في ضرب المناوئين السياسيين فحسب، إنما استخدم المنظمات الفلسطينية في حروبه الخارجية أيضاً، كالحرب التي خاضها ضد تشاد في ثمانينيات القرن الماضي !

لقد استخدمت البندقية الفلسطينية للأسف في الدفاع عن نظام القذافي، وصدام والأسد وغيرهم بدلاً من استخدامها في تحرير فلسطين من نير الاحتلال الصهيوني ..!

وطبعاً أنا لم اتحدث عن بقية الأنظمة العربية، فبعضها معروفة بعلاقاتها (الودية والتاريخية) مع الكيان الصهيوني، مثل الأردن والمغرب و( لبنان الكتائب والميليشيات الانعزالية) وغيرها، وبعضها كالسعودية والكويت وغيرها من الدول الخليجية والعربية، فهي لم ترفع الشعارات (الثورية والقومية) قط، ليس لأنها غير معنية بها فحسب، بل ولأنها أيضاً تعرف حجمها، وتدرك أنها غير مستعدة وغير مؤهلة، بل وليست في مستوى شعارات كبيرة، مثل شعار (تحرير فلسطين) .. ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه – ويبدو أن الجماعة عرفوا جيداً قدر أنفسهم -!

إن الحديث هنا ذو شجون والأحداث المفجعة في غزة اليوم تثير شهية القلم لاسيما المحنة الدامية التي يتعرض لها الأطفال والنساء الذين لاحول لهم ولاقوة، على يد الصهاينة..
ولعل الأشد إيلاماً في محنة أهل غزة، هو هذا الصمت العربي الفظيع، لاسيما الأنظمة العربية..!

وإذا ما تركت جانباً عتبي على الأنظمة العربية والإسلامية المتفرجة، لأسباب، يتعلق بعضها بـ (جبن) الأنظمة ذاتها، وبعضها يتعلق بالبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الأنظمة الهزيلة .. وثمة أسباب اخرى لا يسع المقال لذكرها جميعاً..

لذا فإني أتوجه فقط بالسؤال إلى المنظمات والحركات السلفية والجهادية الإسلامية التي صدعت رؤوسنا بالجهاد ضد اليهود منذ عشرات السنين، وبتحرير فلسطين أرض الأنبياء ومبعثهم، حيث عاش إبراهيم واسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيي وعيسي عليهم السلام.. إذ لا يعقل أن يدافع (الروافض) وحدهم عن غزة، وأهل غزة، و (حماس) غزة، بينما يلوذ المجاهدون السلفيون بصمتهم المخجل، تاركين ارض الانبياء يدنسها الكفار .. !!

ولا اعرف ماذا يقول هنا (المجاهدون) وهم يرون الشيوعيين واليساريين (الملحدين) يقلبون الدنيا بتظاهراتهم وأنشطتهم على رؤوس الصهاينة، وزعيمهم المجرم نتنياهو وهذا الأمر لم يتوقف على بلد معين، إنما شمل مختلف دول العالم، بل وحتى في إسرائيل ذاتها، بينما هم يصمتون صمت القبور ؟!

إذن، فـ(الروافض) الذين يكفرهم (مجاهدو الإسلام) يقاتلون دفاعاً عن الإسلام، والشيوعيون (الملحدون) بنظر المجاهدين، ينصرون غزة وشعبها بمختلف الوسائل دون أن يبان موقف أو مشهد، لأصحاب اللحى والثياب القصيرة الذين يتمنون الشهادة وتناول الغداء مع النبي..!!!

أليس من حقنا أن نقول: أين (مجاهدو ) القاعدة وداعش و “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين”، وأين حركة طالبان وهيئة تحرير الشام، و”ولاية سيناء” في مصر أو “أنصار بيت المقدس”، أو ما كانت تسمى بجماعة التوحيد والجهاد المصرية، وكذلك “جند الإسلام” و”أجناد مصر” و”المرابطون، خاصة وأن المسافة بين مواقع هذه الجماعات، وأرض غزة مسافة قصيرة؟!.

وأين تنظيم ولاية خراسان الذي يعتبر جزءاً مهماً من تنظيم كبير يعمل على المستوى الدولي، ويمكنه أن يشن هجمات ضد إسرائيل ومصالحها في أي موقع تصل إليه أياديه الملطخة بدماء طالبات المدارس، والممرضات، وموظفات المستشفيات، بما فيها أقسام الولادة ..!

والسؤال يتعلق أيضاً بالمسلحين الجهاديين من حركة الشباب الصومالية، وجماعة بوكو حرام في نيجيريا.. وجماعة أبو سياف الجهادية في الفلبين.. وجماعة”الحزب الإسلامي التركستاني ” الناشطة في إقليم شينجيانغ الصيني، علماً بأن هذه الجماعة قوية وقديمة، وقد سبق وأن أدرجت على قائمة المنظمات الإرهابية لمدة عشرين عاماً، لكنها رفعت من القائمة العام الماضي.

وقد برز اسم هذا الحزب بشكل واضح في سوريا منذ عام 2014، حيث سافر الكثيرون مع أسرهم عبر تركيا إليها للقتال الى جانب قوات المعارضة ضد الحكومة حتى وصل عددهم إلى حوالي عشرة آلاف مقاتل، فلماذا لا يأتي نصف هذا العدد لمقاتلة الصهاينة في غزة، أم ان القتال ضد سوريا (أثوب) من القتال ضد إسرائيل ؟!

وهناك حركات وتنظيمات وفصائل جهادية سلفية متفرقة أخرى يتجاوز عددها السبعين، تنتشر في معظم أنحاء العالم، منها محلية مثل القاعدة في بلاد المغرب العربي، وأنصار الإسلام في إقليم كردستان العراق، وأنصار الشريعة في ليبيا وتنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا بزعامة أبو مصعب البرناوي وغير ذلك..

والسؤال مرة أخرى: لماذا لايتحرك هؤلاء المجاهدون لنصرة أخوتهم (المجاهدين) في حماس، وكلهم في (الجهاد) سوا .. سوا ..؟!

فالح حسون الدراجي

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات تحریر فلسطین

إقرأ أيضاً:

القضية الفلسطينية في ضوء الانتخابات البريطانية

 

عبد النبي العكري

أجريت يوم الخميس 4 يوليو 2024 الانتخابات العامة  المبكرة  لمجلس العموم البريطاني، والذي يبلغ عدد أعضائه 650 نائبا.

ورغم أنه كان من المتوقع أن يفوز حزب العمال بأغلبية مريحة، إلا أن النتائج كانت مذهلة ولا سابق لها، سواء باكتساح حزب العمال المعارض للانتخابات والهزيمة المدوية لحزب المحافظين الحاكم.

ومع نهاية عملية فرز أوراق الاقتراع، فقد كانت النتائج  المتمثلة في عدد النواب الفائزين عن  كل حزب كما يلي 1-العمال (412) 2- المحافظين (121) 3- الأحرار الديمقراطيين (71) 4-حزب الاستقلال الاسكتلندي (9) 5- شين فين (7) 6- المستقلون (6) 7- الاتحاديون (5) 8- الإصلاح (6) 9- حزب الخضر (4)  وتتوزع باقي المقاعد على أحزاب صغيرة. 

إن انتصار حزب العمال الباهر بقيادة كير ستراموند والخسارة المدوية لحزب المحافظين بقيادة ريشي سوناك  قد تم تأكيدها في كلمتي كلا منهما بعد إعلان النتائج الرسمية بنهاية يوم الاقتراع، ثم تأكيدها ودلالاتها في خطاب وداع ريشي سوناك أمام مقر رئيس الوزراء وخطاب انتقال ستراموند لمقر رئيس الحكومة ذاته، وحسب التقاليد فقد ذهب كل منهما على انفراد إلى قصر بكنجهام حيث مقر الملك شارلز الثالث، وقدم سوناك استقالته وبعده مثل ستراموند أمام الملك ليكلف بتأليف الحكومة كونه يملك الأغلبية في البرلمان.

في خطابه الوداعي، أقر سوناك بهزيمة المحافظين وانتصار العمال متحملا مسؤولية ذلك ومعتذرا لجميع أعضاء  حزب المحافظين ومرشحي الحزب الذين خسروا وجميع من عملوا في الحكومة  من وزراء ومسؤولين، وخصوصا من عملوا في مقر رئيس الوزراء، ودعت إلى مراجعة شاملة لحزب المحافظين وسياساته، مشيرا إلى أنه فهم رسالة الناخبين. 

أما كير ستراموند الذي وصل إلى مقر رئيس الوزراء مع زوجته، فقد كان في انتظاره حشد كبير من مسؤولي وأعضاء وأنصار حزب العمال المبتهجين، وحرص هو وزوجته على عناق ومصافحة العديدين منهم في بادرة  ملفته.

 وفي خطابه أمام المقر، شكر ستراموند جميع من أسهم في هذا النصر التاريخي  ومن صوت لمرشحي الحزب ومن لم يصوت له، وأكد على أن هذا الانتصار يؤكد رغبة البريطانيين في التغيير الشامل، وأن العمل لذلك قد بدأ اليوم، ودعا الجميع للتعاون مع حكومته لإنجاز التغيير الصعب بالعمل المثابر، مؤكدا أن الخدمة في مؤسسات  هي مهمة وليست وظيفة وأن مهام حكومته تسترشد بمصلحة الشعب البريطاني أولا وحزب العمال ثانيا.

دلالات الانتخابات لقضية فلسطين

تعتبر قيادة سترامر لحزب العمال والتغييرات الهائلة  التي أحدثها فيه ظاهرة استثنائية، ولقد دخل كير ستارمر حزب العمال متأخرا جدا في حياته المهنية والسياسية، وكان قبلها ومنذ 1987 محاميا مشهورا  ومتخصصا في القضايا الجنائية وحقوق الإنسان حتى عام 2002، وبعدها تم تعيينه بأمر ملكي مستشارا للملكة  ثم  مستشارا لحقوق الإنسان اشرطة أيرلندا الشمالية، وفي الفترة من 2008 حتى 2013 مديرا للادعاء العام والتحقيق في قضايا فساد النواب وانتهاك حريات الصحافة والاغتيالات السياسية، ومن هنا جاء اهتمامه بالسياسة، وتقديرا لإنجازاته فقد منحته الملكة  وسام فارس ولقب  سير في 2014.

وفي عام 2015 ترشح لعضوية مجلس العموم عن  حزب العمال الذي انضم اليه وكان في المعارضة وشق طريقه بسرعة في صفوف الحزب تحت قيادة اليساري جيرمي كوربن الذي اختاره وزير داخلية في حكومة الظل، وانتخب لزعامة الحزب في مؤتمره في سبتمبر 2020 بعد استقالة جيمي كوربن اليساري والداعم لقضية فلسطين  إثر هزيمة حزب العمال القاسية في انتخابات 2019 إثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

أحدث كير سترامر تغييرات كبيرة في توجهات الحزب وبنيته القيادية   منذ مؤتمر الحزب في سبتمبر 2021 بعيدا عما كان عليه في ظل كوربن من توجه يساري وبدعم القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال "الإسرائيلي" واقامة الدولة الفلسطينية.

أعاد سترامر مواقف حزب العمال إلى ما كانت عليه في عهد بلير بالتأكيد على شرعية "إسرائيل" والعلاقات الراسخة ما بين بريطانيا و"إسرائيل" ومكافحة ما يدعى  بمعاداة السامية أي معارضة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين في أوساط حزب العمال والمجتمع البريطاني، وقد كشف سترامر متفاخرا أن زوجته يهودية متدينة وتربي أولادها على ذلك وأن العائلة تراعي التقاليد اليهودية.

من هنا فقد جرى تغيير شامل في برنامج الحزب وأولوياته  لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية ودعم بريطانيا بل وتحالفها مع "إسرائيل"، وترتب على ذلك تغييرات كبيرة في قيادات حزب العمال بإبعاد مؤيدي خط كوربن اليساري واستبدالهم بمؤيدي سترامر وخطه الجديد، وتبعا لذلك جرى تحديد مرشحي حزب العمال للانتخابات التي جرت في  4 يوليو 2024.

وقد ترتب على طوفان الأقصى مواقف منحازة جدا لحزب العمال بقيادة سترامر إلى جانب "إسرائيل" وحرب الإبادة  ضد شعب فلسطين  حيث تطابق موقفه  مع موقف الحكومة وحزب  المحافظين، بل إن سترامر وصف حماس والمقاومة الفلسطينية  بالإرهاب وأيد ما يعتبره "حق  إسرائيل في الدفاع عن نفسها" بما في ذلك حرب الإبادة والحصار "الإسرائيلي" القاتل لقطاع غزة ومعارضة الوقف الفوري لإطلاق النار وتبادل الرهائن، وكذلك موقفه المعادي للحراك الاحتجاجي الجماهيري المناصر للقضية الفلسطينية والمعارض لموقف الحكومة البريطانية وحزب المحافظين الحاكم وحزب العمال المعارض والذي أصبح حاكما وحركة المقاطعة  (بي دي اس) ووصف كل ذلك بمعاداة السامية المزعومة.

لكن الجديد في هذا الحراك كما انعكس في هذه الانتخابات هو ما يلي:

1-ترتب على طوفان الأقصى وما رافقه من حركة احتجاجية في العديد من بلدان الغرب، أن مثلت بريطانيا ساحة مهمة لعدة اعتبارات ومنها الدور التاريخي لبريطانيا في اغتصاب فلسطين وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة في ظل الحكم البريطاني، كذلك الدور البريطاني في مشاركة ودعم هذا الكيان الغاصب حتى الآن حيث تعد بريطانيا الشريك الثاني بعد أمريكا للكيان الصهيوني في حرب الابادة، وفي ذات الوقت سياسة القمع لهذه الحركة الاحتجاجية وشيطنتها واتهامها بالتطرف الإسلامي  ومعاداة السامية، وفي ذات الوقت الدفاع عن "إسرائيل" تحت شعار حقها في الدفاع عن النفس ووصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب.

2- خلال الأشهر التسعة من الحركة الجماهيرية المؤيدة لفلسطين، تنامى في أوساط المجتمع البريطاني وعي لخطورة سياسة النخب السياسية  المعادية لفلسطين والمناصرة لـ"إسرائيل"،حيث تصاعدت الاحتجاجات ضد سياسة ومواقف قيادات الحزب بزعامة سترامر بعد انحراف الحزب عقب إزاحة زعيمه المناضل جيرمي كوربن وخطه بل إقالته من الحزب وحذفه من لائحة ترشيح الحزب للنيابة. 

كما تمثل في استقالات عدد مهم من قيادات وكوادر الحزب من الحزب وخصوصا في أوساط المجتمعات الإسلامية والعربية والتقدمية من أوساط الحزب ومناصريه، وتحول عدد من المنتخبين عن الحزب في المؤسسات الرسمية الى مستقلين.

3- مع الدعوة للانتخابات العامه قبل شهر فقد عمدت قيادة حزب العمال بزعامه سترامر إلى غربله مرشحي الحزب في دوائر الانتخابات ال 650 دائرة، فاستبعدت العديدين ممن يعارضون سياسة الحزب الرسمية ويدعمون القضية الفلسطينية.

وهنا قد حدث تطور مهم وهو ترشح هؤلاء ومنهم ذوي انتماءات فلسطينية وإسلامية وعربية وتقدميه كمستقلين  في مواجهة مرشحي حزب العمال والآخرين، وقد ترتب على ذلك فوز 6 منهم أبرزهم جيرمي كوربن  الزعيم السابق لحزب العمال ومناصر القضية الفلسطينية.

ورغم خسارة قطب دعم فلسطين السياسي المخضرم جورج جالاواي والذي فاز بأغلبية ساحقه في الانتخابات الفرعية في فبراير الماضي، فإنه خاض الانتخابات ضمن قائمة حزبه الجديد (حزب الشغيلة) وفي مقدمة أهدافه نصره فلسطين ومعاداة الصهيونية وكيانها ومعارضة السياسة البريطانية حكومة ومحافظين وعمال.

4- لقد انبثق من الحراك الجماهيري حركة سياسية لها ممثلوها في البرلمان البريطاني ستشكل كتلة برلمانية كصوت لجماهير واسعة للشعب البريطاني في دعم الحق الفلسطيني والحق الإنساني وقضايا الشعوب ومعارض لسياسات الدولة العميقة والنخبة الحاكمة في السياسات الداخلية للرأسمالية الليبرالية والسياسة الخارجية للامبرياليه المتوحش بقياده امريكا والكيان الصهيوني العنصري والاستعمار الاستيطاني في فلسطين.

5-لا تقتصر الأهمية السياسية على البرلمانيين المستقلين الستة، ولكن كون العديدين من المنتمين لهذا التيار قد خاضوا الانتخابات وكانوا قريبين من النصر وحال دون ذلك عدة عوامل ومنها قصر مدة وجودهم على الساحة السياسية وافتقادهم للموارد المادية وتكالب الأحزاب الأخرى وخصوصا حزبي العمال والمحافظين ضدهم وكذلك تحالف الدولة العميقة والحركة الصهيونية.

6- لقد أشار بعض زعماء حزب العمال ومنهم وزير الخارجية ديفد لامي  لهذه الظاهرة الاحتجاجية والتمرد في صفوف ومؤسسات وكوادر حزب العمال من قبل هذا التيار رغم الفرحة الكبرى لانتصار حزب العمال التاريخي، كما أن ذلك القلق موجود أيضا في أوساط النخبة الحاكمة وقيادات أحزاب أخرى، وسيتكرس هذا الخط الفاصل ما بين النخبة السياسية المسيطرة على مجمل حياة البريطانيين والخط المقاوم، لذلك وإن كان صغيرا الآن لكنه يمكن ان ينموا مع تزايد أزمة النظام الحاكم ومعسكر الرأسمالية المتوحشة من ناحية، وصمود المقاومة  كطليعه لمقاومة تحالف الصهيونية العنصرية  والرأسمالية المتوحشة ومرتكزها الاستيطاني في فلسطين المحتلة،  وتمثل بريطانيا ساحة مهمة في هذا الصراع.

هذا الصراع لن يقتصر على بريطانيا بل سيشمل العديد من البلدان الغربية وسيتخذ عدة أشكال سياسية بما فيها الحياة الحزبية والتنافس السياسي والانتخابي.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • مناصرو فلسطين في بريطانيا يتظاهرون بلندن دعما لغزة ومطالبة بوقف الحرب
  • القضية الفلسطينية في ضوء الانتخابات البريطانية
  • البرلمان العربي يواصل تحركاته لإيقاف حرب الإبادة في غزة
  • البرلمان العربي يؤكد مواصلة مساعيه لإيقاف حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني
  • البرلمان العربي يؤكد استمراره في دعم القضية الفلسطينية بالمحافل الدولية
  • رئيس البرلمان العربي يؤكد مواصلة تحركه لإيقاف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني
  • الحديدة .. 26 مسيرة لأبناء حارس البحر الأحمر بعنوان “مع غزة.. جبهات الإسناد ثبات وجهاد”
  • بعد حرب الطوفان: ماذا بقي من النظام الرسمي العربي؟
  • فلسطين.. 5 شهداء بينهم 3 أطفال في قصف إسرائيلي استهدف جباليا شمال غزة
  • فصائل فلسطينية: أوقعنا قوة إسرائيلية في كمين محكم بين قتيل وجريح بغزة