ماذا يعني محو شعب وأمة وثقافة وهُوية؟ هذا ما نبدأ اكتشافه في غزة
تاريخ النشر: 20th, December 2023 GMT
أبدأ هذا المقال بسؤال أطرحه عليك يا عزيزي القارئ، ما الذي يربطك ببلدك، ويشعرك أنه بلدك؟ ما الذي يمنحك إحساسا بالهُوية والانتماء؟ هي الأشياء المادية بالطبع، من قبيل المكان الذي تعيش فيه، وولدت فيه، ويقيم فيه أهلك وأصدقاؤك. ولكنني أعتقد أن من وراء هذه المظاهر العملية كل الأشياء التي لا تفكر فيها، وتعدها من جملة المسلَّمات.
أطرح عليك هذا السؤال بسبب معناه اللازم: «ما الذي يصنع شعبا؟» و«ما الذي يمحو شعبا؟» وما نشهده في غزة جعل هذا السؤال أشد إلحاحا. فبجانب أهوال الموت والتشريد، يجري شيء آخر، شيء وجودي، نادرا ما يجري الاعتراف به وقد لا يكون له من علاج.
والأمر على النحو التالي. في وقت مبكر من الشهر الحالي، دمرت ضربات جوية إسرائيلية أقدم مسجد في غزة. وفي الأصل كان مسجد العمري كنيسة بيزنطية من القرن الخامس، وكان من معالم غزة الأيقونية: أربع وأربعون قدما من التاريخ والتراث المعماري والثقافي. لكنه كان موقعا حيا لممارسة وعبادة حيتين. قال غزاوي يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما لرويترز إنه كان «يصلي فيه ويلعب حوله طوال طفولتــه» وقال إن إسرائيل «تحاول أن تمحو ذكرياتنا».
تعرضت كنيسة القديس برفيريوس، وهي الأقدم في غزة، ويرجع تاريخها أيضا إلى القرن الخامس ويعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، لأضرار في غارة أخرى في أكتوبر. وكانت تؤوي النازحين، ومنهم منتمون إلى أقدم مجتمع مسيحي في العالم، وهو مجتمع يعود تاريخه إلى القرن الأول. وحتى الآن، تعرض أكثر من مائة موقع تراثي في غزة إما لأضرار أو لإزالة. ومن ذلك مقبرة رومانية عمرها ألفا عام ومتحف رفح، الذي كان مخصصا لتراث المنطقة الديني والمعماري الطويل والمختلط.
ومع اقتلاع الماضي، يجري تقليص المستقبل أيضا. فقد تم تدمير الجامعة الإسلامية في غزة، وهي أول مؤسسة للتعليم العالي تأسست في قطاع غزة عام 1978، وتقوم بتعليم الأطباء والمهندسين في غزة، بالإضافة إلى أكثر من مائتي مدرسة. قُتل سفيان تايه، رئيس الجامعة، وعائلته في غارة جوية. وقد عينته اليونسكو رئيسا للعلوم الفيزيائية والفيزياء الفلكية والفضاء في فلسطين. ومن الأكاديميين البارزين الآخرين الذين تعرضوا للقتل عالم الأحياء الدقيقة الدكتور محمد عيد شبير، والشاعر والكاتب البارز الدكتور رفعت العرير، الذي انتشرت قصيدته «إذا كان لا بد أن أموت» انتشارا واسعا بعد وفاته.
كتب يقول «إذا كان لا بد أن أموت، فليأت موتي بالأمل، فليصبح حكاية». ولكن حتى تلك الحكاية، الشاهدة على الحقيقة، والتي ستلتحم بنسيج الوعي والتاريخ الوطنيين في غزة وفلسطين، سوف يصعب أن تروى بدقة. لأن الصحفيين يتعرضون هم أيضا للقتل. إذ قتل منهم حتى الأسبوع الماضي أكثر من ستين. وبعض من بقوا منهم على قيد الحياة، مثل وائل الدحدوح من قناة الجزيرة، اضطروا إلى الاستمرار في العمل بعد وفاة عائلاتهم. وفي الأسبوع الماضي، تعرض الدحدوح نفسه للإصابة في غارة جوية على مدرسة. ولم ينج المصور الذي كان يرافقه. وقالت لجنة حماية الصحفيين، وهي منظمة أمريكية غير ربحية، إن من يقومون بتغطية أخبار الحرب لا يخاطرون فقط بالموت أو الإصابة، بل «بالاعتداءات المتعددة والتهديدات والهجمات الإلكترونية والرقابة وقتل أفراد الأسرة».
وليست القدرة على رواية هذه القصص هي فقط التي تتعرض للهجوم، فالأمر يمتد إلى طقوس الحداد وإحياء الذكرى الخاصة. وفقا لتحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز، تقوم القوات البرية الإسرائيلية بتجريف المقابر أثناء تقدمها في قطاع غزة، مما أدى إلى تدمير ست مقابر على الأقل. وقد نشر أحمد مسعود، الكاتب الفلسطيني البريطاني من غزة، صورة له وهو يزور قبر أبيه، إلى جانب مقطع فيديو لأطلال هذا القبر. وكتب: «هذه هي مقبرة مخيم جباليا»، التي دفن فيها والده. «ذهبت لزيارته في شهر مايو. دمرته الدبابات الإسرائيلية الآن، واختفى قبر أبي. لن أتمكن من زيارته أو الحديث إليه مرة أخرى».
إن فجوة في الذاكرة تتشكل. فالمكتبات والمتاحف تسوَّى بالأرض، وما ضاع من الوثائق التي احترقت ينضم إلى حصيلة أكبر من السجلات. وفي الوقت نفسه، فإن حجم عمليات القتل كبير جدا لدرجة أن عائلات بكل ما فيها من أسر قد اختفت. والنتيجة أشبه بانتزاع صفحات من كتاب. لقد قالت دينا مطر، الأستاذة في جامعة ساس في لندن، لصحيفة فاينانشيال تايمز إن «مثل هذه الخسارة تؤدي إلى محو الذكريات والهويات المشتركة لأولئك، لمن يبقون على قيد الحياة. التذكر. هذه عناصر مهمة لمن يريد تجميع تاريخ وقصص الحياة العادية».
التذكر أمر مهم، ومن السهل أن ننسى وسط مشاهد الموت والدمار الجارية منذ أكتوبر أن قطاع غزة مكان حقيقي، على الرغم من وجوده خلف سياج وتحت قيود مشددة، وأنه ليس محض «سجن مفتوح». ففيه مدن متوسطية مليئة بالشوارع تصطف على جوانبها الأشجار وأشجار الجهنمية، وفيه ساحل يمنح الراحة في القيظ وعند انقطاع التيار الكهربائي.. وكثير من هذا تعرض الآن إما للدمار أو التجريف.
وقطاع غزة أيضا مكان ازدهر فيه فنانون وموسيقيون وشعراء وروائيون، وهذا طبيعي لأي شعب تتاح له فرصة التعبير عن نفسه، مهما صعبت الظروف. وهؤلاء أيضا يختفون الآن، فقد تعرضت هبة زقوت للقتل في أكتوبر، وهي رسامة للأماكن المقدسة والنساء الفلسطينيات في ملابسهن التقليدية المطرزة وجاء مقتلها بعد أيام قليلة فقط من نشرها مقطع فيديو على الإنترنت تقول فيه «إنني أعتبر الفن رسالة أنقلها إلى العالم الخارجي من خلال تعبيري عن القضية الفلسطينية والهوية الفلسطينية».
ومحمد سامي قريقة، فنان آخر، كان يحتمي بمستشفى، ونشر على فيسبوك أنه يوثق التجربة، «وينقل الأخبار والأحداث التي تجري داخل المستشفى، ملتقطا مجموعة من التفاصيل المؤلمة بكاميرا هاتفي، فمنها الصورة، والفيديو، والصوت، والكتابة والرسم، إلخ.. أجمع العديد من هذه القصص بتقنيات مختلفة». وبعد ثلاثة أيام لقي مصرعه إثر إصابة المستشفى بصاروخ.
هذا ما سيبدو عليه الأمر، محو شعب. باختصار، طمس بنيان الانتماء الذي نعده جميعا أمرا مفروغا منه، بحيث إنه مهما يبلغ عدد سكان غزة الذين سيبقون على قيد الحياة، فإن ما يربطهم ببعضهم بعضا في كلٍّ صالحٍ سوف يتضاءل بمرور الوقت. وهكذا سيكون الأمر عند حرمانهم من رواية قصتهم، ومن إنتاج فنهم، ومن عرض موسيقاهم وغنائهم وشعرهم، ومن الأساس التاريخي الذي يعيش في معالمهم ومساجدهم وكنائسهم، وحتى في مقابرهم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مشروع رفيق الحريري... الذي انتقم له التاريخ!
في 14 شباط (فبراير) 2005، كان اغتيال رفيق الحريري. كان ذلك قبل 20 عاماً.
كان إيذاناً بحرب جديدة تستهدف إلغاء لبنان عبر قتل مشروع إعادة الحياة إلى البلد على غرار إعادة الحياة إلى بيروت بكلّ ما ترمز إليه. صدّ لبنان الحرب التي استهدفته. لم يربح بعد الحرب التي شنّت عليه باسم «المقاومة»، لكنّه خسر رفيق الحريري الذي يظلّ مشروعه المحاولة الوحيدة لإعادة وضع لبنان على خريطة المنطقة والعالم... وإعادة لبنان بعمقه العربي إلى اللبنانيين، جميع اللبنانيين إلى الشيعي والمسيحي قبل السنّي.قتلوا رفيق الحريري، القتلة معروفون. لكنّ هؤلاء القتلة لم يتمكنوا من مشروعه الذي هزمهم. إنّه المشروع الذي لا خيار آخر أمام العهد الجديد في لبنان غير العودة إلى خطوطه العريضة التي تستند إلى ربط البلد بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم... بدل أن يكون لبنان ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.
خسر لبنان رفيق الحريري، لكنه لم يخسر نفسه بفضل ما بناه الرجل، بفضل رؤيته المستقبلية، التي عمّرت خمس سنوات تقريباً. بين نهاية 1992 ومنتصف 1998، عندما انتخب إميل لحود رئيسا للجمهورية في سياق حرب إيرانيّة - سوريّة على رفيق الحريري. جُنّد في تلك الحرب بشار الأسد، الذي كان يجري تحضيره لخلافة والده، تمهيداً لعملية وضع اليد الإيرانيّة على سوريا ولبنان في آن.
استطاع رفيق الحريري، إعادة بناء جزء كبير من البنية التحتية بأقل مقدار ممكن من الاستدانة وأكبر مقدار ممكن من الفعاليّة. فعل ذلك على الرغم من كلّ الحملات التي شُنّت عليه من كلّ حدب وصوب. اغتيل سياسياً ومعنوياً قبل اغتياله جسدياً. تبيّن أنّه كان على حق عندما قال لي شخصياً مساء السبت، قبل أقلّ من 48 ساعة من تفجير موكبه: «من سيغتالني مجنون». كان ذلك في منزله في قريطم، حيث سألني عن مدى جدّية التهديدات التي تستهدفه، فأجبته إنّها «أكثر من جدّية». زدت على ذلك ردّاً على سؤال منه: «هل النظام السوري عاقل أم مجنون؟» إن هذا النظام «بقي عاقلاً إلى اليوم الذي قرّر فيه التمديد لإميل لحود، في رئاسة الجمهوريّة على الرغم من صدور القرار 1559».
في الواقع، ما كنت لأجازف بالقول إنّ النظام السوري لم يعد عاقلاً لولا لقاء لي مع بشّار الأسد، قبل وفاة والده بأسابيع. اكتشفت في اللقاء الذي استمرّ ثلاث ساعات، في حضور شاهد، أنّ بشّار، شخص متهور لا علاقة له لا بما يدور في المنطقة ولا بما يدور في العالم. يقول بشّار، الشيء وعكسه في غضون دقائق قليلة. زادت قناعتي بأنّه سيقدم على عمل مجنون مثل تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري، وجرائم أخرى. معلومات بلغتني لاحقاً من شخص موثوق به فحواها أنّ خليفة حافظ الأسد «معجب بحسن نصرالله وبات تحت تأثيره»!
ما حقّقه رفيق الحريري، للبنان كان أقرب إلى معجزة من أي شيء آخر. مضى عشرون عاماً على غيابه ولا يزال حاضراً أكثر من أي وقت، خصوصاً بعد كلّ ما شهده اللبنانيون في عقدين كان فيهما الهمّ الأوّل لـ«الحرس الثوري» الإيراني، عبر أداته اللبنانيّة، تدمير كلّ مؤسسة لبنانية وكل رموز لبنان. هذا ما فهمه رفيق الحريري، باكراً، أي قبل تسلّمه مهمات رسمية.
لذلك، دعم المجتمع اللبناني عن طريق التعليم. ثلاثون ألف شاب لبناني من كلّ الطوائف والمناطق تعلموا على حسابه. دعم أيضاً كلّ ما له علاقة بصمود لبنان مثل المؤسسة العسكرية التي تكفل في مرحلة معيّنة بجزء من رواتب ضباطها وعناصرها. دعم الجامعة الأميركية وأساتذتها في بيروت على كل المستويات وقبل ذلك الجامعة اللبنانية. دعم أيضاً جريدة «النهار» بكل ما تمثله في وقت مرّت فيه بظروف صعبة. أثار ذلك غضب بشّار الأسد، الذي طلب منه بيع أسهمه في «النهار». ما لبث بشّار، أن حرض على جبران تويني، الذي اغتيل في أواخر العام 2005، مع مجموعة الشرفاء، من سمير قصير، إلى لقمان سليم ومحمد شطح وباسل فليحان، مروراً ببيار أمين الجميل، وكلّ مَنْ ساهم في ترسيخ فكرة «لبنان أوّلاً» مثل وسام الحسن ووسام عيد وجورج حاوي ووليد عيدو وانطوان غانم وفرنسوا الحاج...
بعد 20 عاماً على اغتيال رفيق الحريري، بقي المشروع، مشروع قيامة لبنان... ورحل القتلة. ليس ما يدعو إلى الشماتة، مقدار ما أنّ ليس هناك ما يعوض خسارة رجل أمضى حياته القصيرة وهو يبني. بنى نفسه أولاً ثم انتقل، بدعم سعودي وعربي ودولي، إلى بناء بلد كان مهووساً به اسمه لبنان.
كان رفيق الحريري، مهووساً بسوريا أيضاً. لم يسع إلى إنقاذ لبنان فحسب، بل سعى أيضاً إلى إنقاذ سوريا. سألني بعد عودتي من دمشق إلى بيروت ومقابلتي بشّار الأسد، عن رأيي في الرجل، فاجبته إنّّه «يكرهك إلى أبعد حدود». أخرجني من الغرفة التي كنا فيها إلى حديقة المنزل في قريطم، ليسألني مجدداً: «إلى أي حد يكرهني بشّار؟». أجبته مستخدماً عبارة بالفرنسية معناها «كرهه لك في العظم». لم اتجرأ وقتذاك، في العام 2000، على القول إنّّه يمكن أن يصل الأمر ببشار إلى حد التحريض على اغتيالك.
ليس ما يعوض خسارة لبنان لرفيق الحريري. لكنّ الأكيد أن مشروعه لايزال حيّاً يرزق. انتقم التاريخ له. انتقم له في لبنان وسوريا التي كان رفيق الحريري، أيضاً حريصاً عليها حرصه على لبنان!