لجريدة عمان:
2025-01-13@08:26:50 GMT

دفتر مذيع :سامبا والفرقة والمغامر المغمور

تاريخ النشر: 20th, December 2023 GMT

ما زلتُ في مدرسة حسان بن ثابت بمنطقة بيت الفلج.. بين عامي 75-1977م. بعيدة كثيرا عن بيتنا في مطيرح.. اشترى لي والدي سيكل بيلون 24 (نوع من الدراجات الهوائية) حمراء اللون، بعدما حققتُ شَرطَهُ بأن يشتريه لي إذا نجحت في الصف الخامس. شعرت أنني امتلكت سيارة فارهة. والغريب أنه سمح لي بأن تكون هي وسيلة نقلي إلى المدرسة رغم بعد المسافة، وخوفه الشديد علي! يبدو أنه لم يجد وسيلة أخرى أفضل منها.

. أذكر أنني قبل حصولي على هذه الدراجة كنت مثلا أبحث عن وسيلة للعودة في بعض الأيام وأوقف أي سيارة تعيدني للبيت. في أحد الأيام وقفت لي فتاة حسناء ودعتني للركوب وتكرمت بتوصيلي. ربما لو كنت أكبر قليلا لم تكن لتقف لي. ولكن لماذا لم أنس هذه التوصيلة إلى اليوم؟! لأنها المرة الأولى التي أركب فيها سيارة مكيفة، كانت البرودة داخلها كفيلة بأن تأخذني لنوم عميق بعد تعب يوم دراسي، فما زالت المدارس بلا مكيفات. وكثير أو معظم السيارات حتى ذلك الوقت من دون مكيفات.

أما التوصيلة الأخرى التي لا أنساها فكانت مع عمي حمود (ابن خال والدتي)، عندما رآني صدفة خارجا من المدرسة فوقف ليردفني خلفه على دراجته النارية العملاقة ذات الألف cc.. قال لي قبل أن ينطلق: تقبّض زين. وانطلق مسرعا كأنه يتعمد إثارتي.. شعرت أنني أمتطي بساط الريح. عمي حمود هذا كان يعيش بقناعاته هو وليس بالضرورة بقناعات المجتمع إذا لم يناسبه شيء. وكان بسيطا في طريقة حياته. متدفقا بالحديث والحكايات فلا يمل من يجلس معه من الحكايات والمعلومات. ربما كان بإمكانه شراء سيارة بسيطة بنفس سعر هذه الدراجة تقريبا، ولكنه فضل الدراجة، بل من حبه للدراجات فقد كان يملك دراجتين.. وكان يمتطي الدراجة حتى للأماكن البعيدة بما فيها قريته في إبراء، وترافقه زوجته أحيانا.. سألته مرة وكأنني مستنكر: وتشلّ خالتي في الدراجة؟!! فرد وقد أفحمني: يوم كان على حمير كان يستوي، وتو ما يستوي؟! كما كان يسافر إلى العين بإمارة أبوظبي في زمن كان فيه الشارع ما زال ترابيا!... أما مغامرته الكبيرة بدراجته النارية، فكانت إلى صلالة، أيضا في ظروف الشارع الترابي.. قام بهذا الإنجاز وبرفقته شخص يلقب سعيد الطويل، وهو اسم على مسمى، فقد رأيت البقعة البيضاء داخل سقف سيارته أعلى رأسه، حيث كان شعر رأسه بمثابة فرشاة لا تعطي لهذا المكان الفرصة ليتسخ أو يتغير لونه، وقيل إنه في فترة من الفترات أخرج كرسي السائق ليكون جلوسه وهو يقود السيارة مرتاحا في المقعد الخلفي. (لا أجزم بدقة هذه الرواية).. سمعت جزءا من تفاصيل تلك الرحلة العجيبة من صاحب الدراجة شخصيا، وتفاصيل أخرى من آخرين. وصَفَ دراجته في الرحلة بأنه لا يكاد يُرى منها سوى المقود والجزء السفلي من الإطارين، وبدت أعرضَ بكثير من حجمها الحقيقي الكبير أصلا لكثرة ما عُلّق فيها من الزاد والحقائب والفرش وعبوات الوقود والاحتياطات الأخرى، لأن الطريق من بعد الداخلية ولمسافة حوالي ثمانمائة كيلومتر غالبا بلا محطات وقود.. ولا توجد وسائل اتصال.. أتوقع أن تفكيره كان يقول: إذا تعطلنا في أي مكان سننتظر أي شاحنة تحملنا نحن ودراجتنا.. المحطة الوحيدة التي وجدا فيها الراحة والتي ربما أنقذتهم من أي مهلكة هي معسكر للجيش في منتصف الطريق تقريبا، بضوء شاهدوه من بعيد، حيث تم إيقافهم. فقد صدم الجنود عندما رأوهما، وهما شعث غبر من أثر الطريق، غير مصدقين أنهما قادمان من العاصمة!! مؤكدين لهما أنهما أول حالة تمر بهم..

قام الجيش باستضافتهما للمبيت في المعسكر تلك الليلة، وقدموا لهما الدعم الذي يحتاجانه لمواصلة الطريق.. كان سعيد الطويل محل بعض التعليقات اللطيفة في المعسكر لطوله اللافت خاصة عندما رآه بدوي وهو يوقظه وقد تغطى كاملا فناداه بصيغة الجمع معتقدا أن تحت الغطاء أكثر من شخص، وعندما انتصب واقفا طلب منه أن يشبره (يقيس طوله بالشبر) معلقا: (أبى أعالم بك).. ومن مواقفهما في الجبل أن سعيد شعر كأن الدراجة ستنقلب فوقف والدراجة تمشي ولم يشعر رفيقه بذلك إلا بعد مسافة قطعها.. لو قام هذا المغامر المغمور بهذه الرحلة بعد عدة سنوات، كانا سيجدان أي رعاية أو دعم من بعض الشركات، أو حتى من وكالة تلك الدراجة. أعتقد أن هذه هي أول -وربما آخر- رحلة من مسقط إلى ظفار على دراجة نارية في زمن الشارع الترابي، بتوقيع حمود بن سليمان المرجبي وسعيد بن علي المرجبي.

من ذاكرة مدرسة حسان أيضا أنه في طرف ساحة الطابور مقابل الإدارة كان يجري بناء خشبة مسرح بخلفيتها وكواليسها.. ربما هنا عرفت عن قرب لأول مرة معنى كلمة مسرحية وخشبة مسرح.. كنا نتابع البناء يوميا، ونتطفل بالاقتراب، لمعرفة ما يجري حتى اكتمل المشهد، وبرزت كلمة (سامبا) كبيرة بحجم الخلفية تقريبا.. لا أذكر أنني حضرت العرض ولكنني شاهدتها في التلفزيون (تم تصويرها في استوديو التلفزيون) وكنت أفاخر بأن هذا العمل كان في مدرستنا، وحفظت الأغنية التي غناها الفنان موسى جعفر (لاحقا د.موسى جعفر مندوبنا الدائم لدى اليونسكو، رحمه الله) يردلي سمرا قتلتيني، قبل سماعي لها بصوت الفنان العراقي سعدون جابر.. أما الأغنية الأخرى التي علقت في الذاكرة فهي التي تحمل اسم المسرحية: (سامبا، سامبا حبيبي سامبا، وعطاني وردة.. أسمر ولعني بحبه ومشاني دربه..).

في حكاية أخرى في الفصل أسرّ لي صديقي علي الهاشلي، بأنه وأخوه سعيد وجارهم محمد الجابري، وسعيد الجابري قد تم اختيارهم لفرقة موسيقية خاصة بجلالة السلطان، وقال لي بأن جلالته قابلهم وتحدث معهم ولاطفهم واختبر مواهبهم الموسيقية.. شعرت أنه يؤلف حكاية من خياله، فنحن صغار لم نتجاوز الثانية عشرة من أعمارنا فكيف يكون له ذلك! ولكنني من ناحية أخرى أثق به ولم أجرب عليه إلا الصدق. أكد لي على الموضوع أكثر من مرة.. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى رأيتهم جميعا في ما عرف آنذاك بالفرقة الشرقية السلطانية الخاصة، وهم يعزفون على تخت شرقي متكامل، ورأيت زميلين من سكان مطرح على الإيقاعات هما منصور وأحمد، ليسجلهم التاريخ الموسيقي في عمان بجانب زملاء لهم في فرقة موازية في صلالة روادا موسيقيين لهذه الفرقة، التي أسهمت في إحياء العديد من الحفلات الوطنية، وتسجيل الأغاني، والعزف في مناسبات القصر السلطاني، خاصة بحضور ضيوف جلالة السلطان.. ولعل الصورة تتكرر مع فرقة الأوركسترا السلطانية العمانية، التي تأسست كذلك بأطفال صغار شكّل ظهورهم الأول مفاجأة حقيقية، وهم يعزفون لكبار الموسيقيين العالميين في انسجام (هارموني) لافت، إلى أن أصبحوا عازفين كبارا، يبدعون في أكبر الصالات العالمية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

عُمان.. سيرة الأرض التي لا تنحني

فـي كل أمة لحظة تلتقي فـيها الأزمنة، تتشابك خيوط الماضي بآفاق المستقبل، ويتبدى الحاضر بوصفه جسرا بين إرث ثقيل بالمجد وطموح عارم لا حدود له. وعُمان، الأرض التي لم تنحنِ أمام العواصف ولم تنطفئ شعلتها رغم رياح التغيير التي عصفت بالعالم، تقف اليوم أمام مفترق تاريخي جديد، حيث يجتمع فـيها صوت الأجداد مع هتافات الأجيال الجديدة. فـي خطاب جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه- أمس لم يكن التاريخ ذكرى تُروى أو أداة تُستدعى، بل كان روحا تُبعث، وعهدا يُجدد، ورؤيةً تُبنى.. وكانت هتافات طلاب عُمان فـي العرض الطلابي أبوابا تفتح آفاق المستقبل بوعي كبير.

كان حضرة صاحب الجلالة، أيده الله، وهو يلقي خطابه الفارق فـي لحظة مهمة من لحظات عُمان كما لو كان يحاور صفحات التاريخ، يستحضر السيد أحمد بن سعيد وسلاطين وأئمة عُمان عبر القرون الذين صنعوا الوعي السيادي لعُمان وكرسوا استقلالها وصنعوا الحرية والكرامة لأبنائها الكرام. كانوا، على الدوام، مؤمنين بفكرة عُمان وبدورهم الحضاري والأمانة التاريخية الملقاة على عاتقهم، ومدركين أن الأرض تحتاج إلى فكرة، والفكرة تحتاج إلى راية ترفرف شامخة، فكانت راية عُمان خفّاقة على الدوام وكان نظامها السياسي أقدم نظام سياسي فـي العالم ما زال مستمرا منذ أربعة عشر قرنا ويزيد.. وحينما أعلن جلالة السلطان المعظم أن يوم العشرين من نوفمبر سيكون يوم عُمان الوطني لم يكن ذلك تكريما للتاريخ فقط بل يعتبر درسا للحاضر والمستقبل: إن التاريخ ليس بُعدا زمنيا، بل هو الأرض التي تُبنى عليها الطموحات.

إن الحديث عن السيادة الكاملة فـي خطاب جلالة السلطان المعظم لم يكن مجرد استذكار لحقبة، بل تأكيد على أن عُمان، التي تجاوزت محن التاريخ، تظل دولة تعرف موقعها فـي العالم وتاريخها وسط التاريخ الإنساني وتفهم حدود مسؤولياتها الحضارية والتاريخية. والسيادة هنا ليست صراعا على الأرض فقط، بل هي القدرة على بناء دولة تستطيع الحفاظ على هُويتها وسط أمواج التغيير والعولمة التي ما زالت تجتاح العالم رغم حديث انحسارها. إن السيادة التي تحدث عنها عاهل البلاد المفدى هي التي نقرؤها فـي مواقف عُمان المتزنة والعادلة، حيث لا تَميل كفة على حساب أخرى، وحيث تكون المصلحة الوطنية والإنسانية هي البوصلة الدائمة.

لكن الخطاب، بقدر ما احتفى بالتاريخ، كان رسالة مفتوحة للمستقبل على اعتبار أن المستقبل هو نتائج للتاريخ. ومن يقرأ «رؤية عمان 2040» ويتابع تطبيقها لا نجد خطة اقتصادية تقليدية، بل يجد مشروعا متكاملا لبناء الإنسان قبل بناء الأبراج وناطحات السحب.. والأمم العظيمة تُقاس بما تتركه فـي شعوبها من قيم وأخلاق وما تبنيه من مبادئ؛ ولذلك بدا جلالة السلطان المعظم فـي خطابه وهو يضع عقدا اجتماعيا: أن المواطن هو شريك فـي البناء، وليس متلقيا للمنجزات.

أضاء جلالة السلطان المعظم على مفاصل عدة، من التعليم إلى الاستثمار، لكنه ربطها دائما بفكرة مركزية: إن التحديات ليست عوائق، إنما أبواب تُفتح بالإرادة والعمل. وفـي دعوته لتحسين بيئة الاستثمار، وتطوير البنى الأساسية، وتعزيز ريادة الأعمال، كان، أعزه الله، يُعيد تعريف التنمية ليس كغاية اقتصادية، بل كوسيلة لتحقيق حياة كريمة تليق بمواطن أدرك قيمة وطنه.

وحينما تحدّث جلالة السلطان المعظم عن الشباب، كان الخطاب أشبه برسالة موجهة لجيل يبحث عن دوره فـي وطن ذاهب بثبات نحو المستقبل.. والشباب، الذين يتطلعون إلى المستقبل، يجدون فـي «رؤية 2040» طريقا واضحا يتقاطع فـيه الطموح الشخصي مع المسؤولية الوطنية والحضارية. إنها رؤية تجعل التعليم بوابة، والتدريب جسرا، والعمل ذروة السعي. لم يكن جلالته يُلقي وعودًا، بل كان يُعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن، بين الشباب وفرص الحياة.

ورغم الثوابت الكثيرة التي «نسجتها أمتنا العمانية» والتي «نرفض أي مساس بثوابتها ومقدساتها» كما تفضل جلالته وقال فـي خطابه إلا أن عُمان فـي رحلة دائمة نحو الأفضل، لكنها لا تُسقط من يدها راية التاريخ، وفـيما قاله جلالته رسالة واضحة: إن الأمة التي تُكرّم أجدادها، وتُحسن قراءة حاضرها، تستطيع أن تكتب مستقبلها بيدها لا بيد غيرها.. إنها عُمان، السيرة التي بدأت من عمق التاريخ السحيق نحو أضواء الحضارة، لتظل دائما الأرض التي لا تنحني أمام التحديات، بل تُعيد تشكيلها وفق إرادتها.

وفـي هذا الخطاب التاريخي لعاهل البلاد المفدى لم تكن الكلمات عابرة، بل كانت معاني ودلالات تُنقش على صخور هذا الوطن الصلدة لتكون شاهدة على لحظة يتحد فـيها التاريخ بالحلم، وتتجدد فـيها قصة عُمان التي لا تزال تُكتب وتعيش زمنها السرمدي.

مقالات مشابهة

  • الإعلان عن اسم الغوريلا التي عثر عليها بمطار إسطنبول
  • عام 2025م.. إرث السيد حسن نصر الله خالدً، وقوة المقاومة التي لا تُقهر
  • وصول المساعدات الإنسانية التي أرسلتها الجزائر إلى بوركينافاسو
  • تفاصيل مصرع سيدة دهسا تحت عجلات دراجة بخارية ببولاق الدكرور
  • أبطال الإمارات يسيطرون على ألقاب «دبي للدراجات المائية»
  • عُمان.. سيرة الأرض التي لا تنحني
  • عادل حمودة: ترامب فاجأ الدنيا كلها باختيار مذيع وزيرا للدفاع
  • دفتر أحوال وطن "٣٠٥"
  • الأرقام المذهلة التي أعلنتها عمان
  • ديالى تكشف عن أبرز المشاريع التي ستنفذ خلال هذا العام