هل يحقّ للمسؤول الغنيّ راتبٌ من أموال الجمعيّة وما معيار تحديده؟
تاريخ النشر: 20th, December 2023 GMT
أخذُ المسؤول راتبا مقابل تفرّغه للعمل لا علاقة له بغناه أو فقره، بل له أن يأخذ راتبا ومعاشا من مال الجمعيّة أو المؤسّسة العامة مقابل تفرّغه للقيام بمسؤوليّاته ولو كان غنيّا موسرا.
أخرج البخاريّ في صحيحه عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه "أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ السَّعْدِيِّ أخْبَرَهُ، أنَّه قَدِمَ علَى عُمَرَ في خِلَافَتِهِ، فَقالَ له عُمَرُ: ألَمْ أُحَدَّثْ أنَّكَ تَلِيَ مِن أعْمَالِ النَّاسِ أعْمَالا، فَإِذَا أُعْطِيتَ العُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلتُ: بَلَى، فَقالَ عُمَرُ: فَما تُرِيدُ إلى ذلكَ؟ قُلتُ: إنَّ لي أفْرَاسا وأَعْبُدا، وأَنَا بخَيْرٍ، وأُرِيدُ أنْ تَكُونَ عُمَالَتي صَدَقَة علَى المُسْلِمِينَ، قالَ عُمَرُ: لا تَفْعَلْ؛ فإنِّي كُنْتُ أرَدْتُ الذي أرَدْتَ، فَكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فأقُولُ: أعْطِهِ أفْقَرَ إلَيْهِ مِنِّي، حتَّى أعْطَانِي مَرَّة مَالا، فَقُلتُ: أعْطِهِ أفْقَرَ إلَيْهِ مِنِّي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وتَصَدَّقْ به، فَما جَاءَكَ مِن هذا المَالِ وأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ ولَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وإلَّا فلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ".
فهذا الحديث صريحٌ في أنّ الغنيّ الموسر القائم بعملٍ من أعمال المسلمين يستحقّ راتبا مقابل عمله، وكما ذكرتُ آنفا إنّ أخذ الرّاتب يكون أدعى في المحاسبة على الإنجاز والعمل. وقد نقل ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث في "فتح الباري" سبب القول بأنّ الأفضل هو أخذ المسؤول راتبا مقابل عمله ولو كان موسرا فقال:
"والوجه في تعليل الأفضليّة أنّ الآخذ أعون في العمل وألزم للنّصيحة من التّارك، لأنّه إن لم يأخذ كان عند نفسِه متطوّعا بالعمل؛ فقد لا يجدّ جدّه من أخذ ركونا إلى أنّه غير ملتزم، بخلاف الذي يأخذ فإنّه يكون مستشعرا بأنّ العمل واجبٌ عليه فيجدّ جدّه فيه".
معيار تحديد راتب المسؤول في الجمعيّة أو المؤسّسة
وأمّا المقدار الذي يتمّ تحديده للمسؤول في الجمعيّة أو المؤسّسة العامّة فمعيارُه الرئيسُ هو أن يأخذ ما يسدّ حاجته وحاجة أسرته ومن يعولهم، من غير تقتيرٍ ولا إسراف.
المقدار الذي يتمّ تحديده للمسؤول في الجمعيّة أو المؤسّسة العامّة فمعيارُه الرئيسُ هو أن يأخذ ما يسدّ حاجته وحاجة أسرته ومن يعولهم، من غير تقتيرٍ ولا إسراف
قال ابن جماعة في "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام": "للسّلطان أن يأخذ من بيت المال كفايتَه اللّائقة بحاله وأهله بالمعروف؛ من غير إسرافٍ ولا تقتير، قال عمر رضي الله عنه: إنّي أنزلتُ نفسي من مال الله تعالى بمنزلة وليّ اليتيم، إن استغنيتُ استعففت، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف".
وذكر ابن الأثير في "الكامل في التّاريخ" أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال للمسلمين: "إنّي كنت امرأ تاجرا يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أنّه يحلّ لي في هذا المال؟ وعلي رضي الله تعالى عنه ساكت، فأكثرَ القوم، فقال: ما تقول يا عليّ؟ قال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف ليس لك غيره، فقال القوم: القول ما قاله علي".
وذكر ابن حجر العسقلانيّ في "فتح الباري": "وأخرج الكرابيسيّ بسندٍ صحيح عن الأحنف قال: كنّا بباب عمر فذكر قصّة وفيها: فقال عمر: أنا أخبركم بما أستحلّ؛ ما أحجّ عليه وأعتمر، وحلّتَي الشّتاء والقيظ، وقوتي وقوت عيالي كرجلٍ من قريشٍ ليسَ بأعلاهم ولا أسفلهم" وفي رواية: " ثمّ أنا رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم"
وهذا المعيار يختلف باختلاف البيئة والواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ من زمانٍ لآخر ومن مكانٍ لآخر في الزّمان ذاته، فلذلك لا بدّ من مراعاة هذا المعيار بحيث لا يكون هناك إسرافٌ، وفي المقابل ألّا يكون هناك تقتير يمنع المسؤول من قيامه بمهامه فينشغل بالتّفكير بمصدرٍ آخر للرّزق يحقّق منه الكفاية فيقصّرُ في عمله.
جاء في "الرّياض النّضرة في مناقب العشرة" لمحبّ الدّين الطّبري:
"كان رزق أبي بكر الصديق حين استخلف خمسين ومائتي دينار في السّنة، وشاة في كلّ يوم يؤخذ منها بطنها ورأسها وأكارعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، قالوا: وقد كان ألقى ماله في مال الله حين استُخلف -أي وضعَ كلّ أمواله الخاصّة في بيت مال المسلمين- قال: فخرج إلى البقيع فتصافق -أي تبايع وعقد صفقة تجاريّة- قال: فجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس؛ فقال: ما شأنكن؟ قلن: نريد أمير المؤمنين، وقال بعضهن: نريد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بيننا؛ فانطلق يطلبه فوجده في السوق، قال: فأخذ بيده فقال: تعال ههنا، فقال: لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني ولا عيالي، قال: إنّا نزيدك؛ قال أبو بكر: ثلاثمائةِ دينار والشّاة كلّها، قال: أما هذا فلا، فجاء عليّ وهما على حالهما تلك، فلمّا سمع ما سألَه قال: أكملها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: فقد فعلنا، فقال أبو بكر: أنتما رجلان من المهاجرين لا أدري أيرضى بها بقيّة المهاجرين أم لا؟ فانطلق أبو بكر فصعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال: أيّها الناس؛ إنّ رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ منّي بطنها ورأسها وأكارعها، وإنّ عمر وعليّا كمّلا لي ثلاثمائة دينار والشّاة؛ أفرضيتم؟ فقال المهاجرون: اللَّهم نعم قد رضينا".
اهتمام الشريعة بالمال العام وصيانته من التعدّي عليه بأيّة صورة كانت، مع رعايتها مصالح القائمين عليه وتحقيق احتياجاتهم الحياتيّة ليكونوا قادرين على تحمل أعباء المسؤوليّة وأداء الأمانة
وهنا لا بدّ من بيان أنّ المسؤول في الجماعة أو الجمعيّة إذا أخذ من المال العام ما يعدّ فرقا فاحشا عن احتياج البيئة التي يعيش ويعمل فيها وعرفِها العام في الإنفاق يكون قد ارتكب الحرام، وهذا المال الفاحش الزّائد عن حدّ الاعتدال يدخل في مفهوم "الغلول" المحرّم.
أخرج أبو داود في سننه وأحمد في مسنده بسند صحيح عن المستورد بن شدّاد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "مَن وَلِيَ لنا عَمَلا وليس له مَنزِلٌ فلْيَتَّخِذْ مَنزِلا، أوْ ليستْ له زَوجةٌ فلْيَتزَوَّجْ، أوْ ليس له خادِمٌ فلْيَتَّخِذْ خادِما، أوْ ليس له دابَّةٌ فلْيَتَّخِذْ دابَّة، ومَن أصابَ شيئا سِوى ذلك فهو غالٌّ".
وهذه الأحكام تدلّ على اهتمام الشريعة بالمال العام وصيانته من التعدّي عليه بأيّة صورة كانت، مع رعايتها مصالح القائمين عليه وتحقيق احتياجاتهم الحياتيّة ليكونوا قادرين على تحمل أعباء المسؤوليّة وأداء الأمانة.
twitter.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه رواتب ادارة اموال جمعيات سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة رضی الله أن یأخذ ى الله
إقرأ أيضاً:
قصة هجرة إبراهيم عليه السلام ومعجزة ماء زمزم
استعرضت قناة المحور قصة هاجر ونبي الله إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة من العراق متجهين إلى فلسطين، بعد أن قابله قومه الوثنيون بالصد عن سبيل الله تعالى والتكذيب، وهددوه بحرقه بالنار. بعد أن استقر في مدينة الخليل، اضطر للهجرة إلى مصر بسبب الحاجة للطعام. وعندما وصل إلى مصر.
و كانت زوجته سارة من أجمل نساء الأرض، مما أثار طمع فرعون مصر، فحاول أن يظلمها دعَت سارة الله تعالى أن يصرف عنها كيد فرعون.
فكان كلما اقترب منها أصابه صرع شديد، فيطلب منها أن تدعو الله له ليذهب عنه ما هو فيه. تكررت هذه الحادثة عدة مرات، حتى علم فرعون أن سارة محفوظة بحفظ الله، فأطلقها وأعطاها جارية لها تُدعى هاجر.
عندما عادت سارة إلى إبراهيم عليه السلام، وهبت له هاجر. واستمر زواج إبراهيم من سارة لمدة عشرين عامًا دون أن يرزق منها بأولاد، فكانت سارة ترغب في أن يكون له ولد. فدخل إبراهيم عليه السلام على هاجر، فحملت بهاجر، وبعد فترة ولدت له إسماعيل عليه السلام.
معجزة ماء زمزمانتقل إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى مكة المكرمة، حيث كانت صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا شجر. ترك إبراهيم عليه السلام زوجته وطفله في تلك الأرض الجرداء ومضى في طريقه. سألت هاجر إبراهيم: "يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي لا أنيس فيه؟"، فلم يُجبها، ثم كررت السؤال عدة مرات، فكان يجيبها فقط: "نعم، هذا أمر الله". عندئذ قالت هاجر: "إذن لا يضيعنا الله"، وتركها إبراهيم عليه السلام تواصل حياتها مع طفلها.
نفد الماء واشتد الجوع والعطش على هاجر وابنها إسماعيل، فبدأت تبحث عن الماء بين جبال مكة. وعندما بلغت حافة اليأس، سمعت صوتًا، فاستبشرت خيرًا، وإذا بجبرائيل عليه السلام يظهر ويضرب الأرض برجله، فانفجرت منها عين ماء عظيمة. كان ذلك ماء زمزم، الذي أصبح معجزة من معجزات الله تعالى. شربت هاجر وابنها إسماعيل حتى ارتووا، وظلت عين زمزم مياهاً عذبة تتدفق.
حفر زمزممرت سنوات طويلة حتى جاء يوم كان فيه عبد المطلب، جدّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، نائمًا عند الكعبة، فسمع في منامه صوتًا يأمره بحفر زمزم. فأخبر قريشًا بذلك، فطلبوا منه أن يعود للنوم ليحلم مرة أخرى إن كان الأمر من الله. وعندما تكرر المنام، ذهب عبد المطلب مع ابنه الحارث، وبدأ في البحث عن مكان بئر زمزم وفق الأوصاف التي رآها في منامه.
اكتشف عبد المطلب الموقع بين وثنين من أوثان قريش، وعندما بدأ في الحفر تدفّق الماء بغزارة، وكان هذا الماء هو ماء زمزم. وعثر على أسياف ودروع ذهبية دفنتها قبيلة جُرهم قبل أن تُطرد من مكة. حاولت قريش أن تطالب بنصيب من هذا الكنز، لكن عبد المطلب رفض ذلك، وأشار إلى أنهم سيقترعون لتحديد نصيب كل منهم. ومن خلال الاقتراع، كان نصيب الكعبة المشرفة الذهبَ الذي اكتشفه عبد المطلب.