«بلاغة آية».. تأملات فـي عاقبة الظالمين فـي يوم القيامة «3»
تاريخ النشر: 20th, December 2023 GMT
.. وقوله:(فيه) أي: في أحداثه، ومراحله، ومجرياته، فكأن كلَّ البشر يذوبون فيه، وينغمسون، وينظرفون، ويبتعدون إلى أبعدِ مكانٍ، كأنهم ظُرِفُوا في أزمنته، فلا يراهم الرائي، أو يغوصون في أحداثه، ويتوهون في مراحله، ويدخلون في درجاته، حتى كأنهم ينظرفون فيها بكلياتهم، فلا يراهم الرائي؛ تحقيقا لمعنى الظرفية في حرف الجر:(في) من قوله سبحانه: (تشخص فيه الأبصار).
و(يوم) كناية عن موصوف هو يوم القيامة، وهو اليوم الآخر، والهاء في (فيه) تعود على اليوم الآخر؛ لتؤكد خطورته، وتبيِّن مهابتَه، وتكشف عما ينطوي عليه الخلقُ فيه من تعب شديد، وهلع أكيد، وانشغال كلِّ إنسان بنفسه، وفراره من أقرب الناس إليه:(يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه..).
والأبصار صحيح أنه جمع قلة، لكنْ ليس للكلمة جمع كثرة، فوزن (أفعال) من أوزان القلة، لكنَّ جمع القلة يقوم مقامَ جمع الكثرة عند فقدان اللفظ لجمع الكثرة، فالأبصار هنا تعني أبصار مليارات الخلق، وملايين الناس الذين خلقهم الله من يوم أن خلق إلى يوم البعث، والنشور، والحساب، والجزاء، وشخوص الأبصار كناية عن خطورة اليوم، وتكاليفه، وشدة منازله، وصعوبة تبعاته، وسؤالاته. وفي الآية الكريمة ـ كما نرى ـ أسلوب نهي، وأسلوب توكيد للفعل المضارع بالنون، وأسلوبٌ إنشائي (نهي)، وأسلوبٌ خبري:(يعمل الظالمون)، وأسلوب حذف:(يعمل الظالمون)، وأسلوب قصر بـ(إنما)، وأسلوب وصف، وأسلوب كِنَائي، وكلمات بها تنكير، أدى عمله، ودوره في سياقه:(غافلًا ـ يوم)، وحروف جر تناوبتْ دلالة حروف أخرى كاللام التي قامت مقام (إلى)، واستعمال الأفعال المتعدية واللازمة التي تآزرتْ في رسم الدلالة القرآنية، والكشف عن مآل الظالمين يوم القيامة، وعاقبة ظلمهم، وتجبرهم على خلق الله، وسوء مصيرهم المحتوم.
وفي قوله تعالى في الآية الثانية ما يكشف عن عاقبة المتجبرين، وتتواصل معه صورة الظالمين في أحداث يوم القيامة، وخطورة ما فيه، يقول الله تعالى:(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، و(مهطعين): هي اسم فاعل من الفعل الرباعي:(أهط)، وهو فعل ثلاثي، مزيد بالهمزة، ومعناه النظر في ذل، وخشوع، وسرعة، فالمُهطِع من الناس هو من ينظر أمامه مسرعًا، وهو في ذل، وخشوع، وإذلال، وخضوع، ينطلق إلى مَنْ دعاه في ذل، وخوف، وهلعن ورجفة: كما في قوله تعالى:(مهطعين إلى الداع)، وأصل (الهطع) هو إقبال الإنسان مسرعًا في خوف، ومدٍّ للعنق، وتصويبٍ للرأس، والإقبال على الشيء ببصره، لم يرفعه عنه من الخوف، والخزي، والذل، وهو هنا كناية عن الهلع، والإسراع دون تفكير نحو الداعي، بعنق ممتدٍّ، ورقبة مشرئِبَّة إلى الأعلى، ناظرة أمامَها لا تلوي على شيء؛ من هول ما تراه، كما قال تعالى:(وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)، تظنهم سكارى يتخبطون، ولكنهم يفعلون ذلك من هول ما رأوه، وشاهدوه.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة – جمهورية مصر العربية
Drgamal2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: یوم القیامة
إقرأ أيضاً:
صفات الشخص الراضي.. وكيف نصل إلى الرضا في 5 خطوات عملية بسيطة؟
الرضا من أعظم القيم الإيمانية التي تبعث الطمأنينة في النفس، وتجعل الإنسان يعيش حياة مليئة بالسكينة والرضا عن قضاء الله وقدره، فالراضي هو من يقبل بما قسمه الله له دون تذمر أو شكوى، بل يرى في كل أمر خيرًا، سواء كان ظاهره نعمة أو ابتلاء.
وقد حثّ الإسلام على التحلي بهذه الصفة، وجعلها من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، كما قال النبي ﷺ: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا" (رواه مسلم).
أولًا: مفهوم الرضا في الإسلامالرضا هو القناعة والقبول بحكم الله، سواء في النعم أو في الابتلاءات، وهو مرتبة عالية من الإيمان تدل على حسن الظن بالله. وقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: "من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" (رواه الترمذي). وهذا يبين أن الرضا يجلب الطمأنينة والراحة النفسية، بينما السخط والاعتراض يجلبان الهم والضيق.
ثانيًا: صفات الشخص الراضي
الشخص الراضي يتمتع بصفات مميزة تعكس قناعته وإيمانه العميق بالله، ومنها:1. القناعة واليقين
الشخص الراضي قنوع بما لديه، لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، بل يدرك أن الأرزاق بيد الله، كما قال النبي ﷺ: "ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" (رواه الترمذي).
2. الطمأنينة النفسية
لا يشكو ولا يجزع عند الابتلاء، بل يؤمن أن كل ما يحدث له هو خير، حتى لو لم يدرك الحكمة في الحال، لقوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216).
3. التسليم لقضاء الله
الشخص الراضي لا يعترض على أقدار الله، بل يسلم أمره كله لله، كما قال النبي ﷺ في دعائه: "اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء" (رواه أحمد).
4. الرضا في الرزق والمعيشة
لا يحسد الآخرين ولا يقارن نفسه بغيره، بل يعلم أن الله قسم الأرزاق بعدله، ويعيش حياته ببساطة وسعادة، كما قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف: 32).
5. حسن الظن بالله
يوقن بأن الله لا يقدر لعباده إلا الخير، فيعيش متفائلًا مهما واجه من مصاعب، كما قال النبي ﷺ: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" (رواه مسلم).
ثالثًا: كيف تكون شخصًا راضيًا؟
يمكن للإنسان أن يصل إلى الرضا من خلال اتباع بعض الخطوات الإيمانية، ومنها:
1. تقوية الإيمان بالله
كلما زاد إيمانك بقدرة الله وحكمته، زاد رضاك بقضائه، فالإيمان يولد الطمأنينة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} (الرعد: 28).
2. التفكر في نعم الله
عندما تدرك أن نعم الله عليك لا تُحصى، ستشعر بالرضا والشكر، فقد قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (إبراهيم: 34).
3. الابتعاد عن المقارنات
قارن نفسك بمن هو أقل منك في الدنيا، وليس بمن هو أعلى، كما قال النبي ﷺ: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم" (رواه مسلم).
4. الاستغفار والدعاء
الدعاء من أسباب تحقيق الرضا، فقد كان النبي ﷺ يدعو: "اللهم اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكراً، لك مطواعًا، إليك مخبتًا أواهًا منيبًا" (رواه أبو داود).
5. الصبر عند الابتلاء
الإنسان الراضي يصبر على البلاء، ويوقن بأن الفرج قريب، فقد قال تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 6).
الرضا من أعظم الصفات التي تجلب السعادة والراحة النفسية، وهو علامة على قوة الإيمان وحسن الظن بالله. فالشخص الراضي يعيش مطمئنًا، متقبلًا لكل ما يحدث له، ويدرك أن الله لا يقدر له إلا الخير. لذا، فلنسعَ جميعًا لنكون من الراضين، فبذلك تتحقق لنا السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، كما قال تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة: 119).