علي جمعة: تطور الإنسان العقلي والحضاري مرتبط بحسن توافقه مع البيئة والكون
تاريخ النشر: 20th, December 2023 GMT
قال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء، إن العلاقة تقوم بين الإنسان والكون على التوافق والانسجام، ومنذ هبط الإنسان إلى الأرض، وقد ارتبط تطوره العقلي والحضاري بحسن توافقه وتكيفه مع البيئة والكون، وحسن استخدامه وانتفاعه بمفردات الحياة. فلا يحق له بأي حال الإساءة إليه، بل يجب عليه احترامه ورعايته.
والمسلم خاصة يتعامل مع مخلوقات الله من منطلق الشعور بالمساواة معها، والمشاركة في العبودية لإله واحد، وترتبط علاقاته بغيره بمدى تعلقه والتفاته إلى ربه، فهو يتوجه بالحب إلى الله ومن خلال ذلك الحب يتوجه بالحب إلى ما أبدع وصنع، ولذلك نراه يستوي عنده ضعف المخلوقات وقوتها، حقارتها وعظمتها، لأن نظره لا يتعلق بها، بل يتعلق بخالقها القوي الحكيم. فالمسلم يقدس من عالم الأشياء المصحف والكعبة وقبر النبي محمد ﷺ ونحوها، لمكانتها عند الله- عز وجل-، وتقديسه لها يجمع بين الاحترام والحب.
ولقد أعطى النبي ﷺ أصحابه درسا في حب الجماد والتفاعل معه ومجاوبته حينما حن إليه الجذع ومال، فَعَنْ جَابِرٍ: «كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ - ﷺ - إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ- وهو صوت يخرج من الصدر فيه رقة-، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ- ﷺ - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَسَكَنَتْ». [رواه البخاري].
وعندما مر النبي ﷺ على جبل أحد، وعلى الرغم من أنه كان موطنا أصاب المسلمين فيه قرحٌ وأصاب النبيَّ جرح، واستشهد عليه عمه حمزة بن عبد المطلب فحزن النبي لذلك، رغم ذلك فإنه أشار إليه وقال: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» [البخاري]، فالجبل أحب المسلمين، والمسلمون يحبون هذا الجبل، وإن كان ما حدث في موقعة أحد أدعى أن يتشاءم المسلمون منه.
ولم يكن هذا الأمر من التفاعل مع الجماد في البيئة الإنسانية مقصورا في حياة رسول الله ﷺ بعد بعثته، بل قبلها فقد قال ﷺ : «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ» [مسلم]، فالنبي يذكر أنه لم يتجاهل الحجر بعد البعثة، بل ظل يعرفه ويتعلق به، ولم يفعل ذلك إلا لكونه مخلوقا لله أحبه وعظمه، فقد كان يسلم عليه قبل بعثته مبشرا له ومعلما بما سَيُكَلَّفُ به النبي من تحمل الرسالة وأدائها. ولم يكن تفاعل عالم الجماد مع رسول الله ﷺ مقصورا على العالم الأرضي، بل السماوي أيضا، فنجد القمر ينشق نصفين معجزة له، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُم انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، قال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يعادلها شيء من آيات الأنبياء، لأنه ظهر في ملكوت السماء، والخطب فيه أعظم، والبرهان به أظهر ؛ لأنه خارج عن جملة طباع ما في هذا العالم من العناصر. [عمدة القاري شرح صحيح البخاري].
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
مستشارة شيخ الأزهر: موقف النبي مع الصحابي عبد الله بن أم مكتوم يعكس احترام ذوي الإعاقة
عقدت دار الإفتاء المصرية، ضمن فعاليات جناحها بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، ندوة علمية تحت عنوان "الفتوى ودعم حقوق ذوي الهمم: رؤية شرعية شاملة"، بمشاركة نخبة من العلماء والمتخصصين، حيث تحدَّث فيها فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد الدايم الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، والأستاذة الدكتورة نهلة الصعيدي، مستشار شيخ الأزهر لشؤون الوافدين، والمهندسة أمل مبدى، رئيس الاتحاد الرياضي المصري للإعاقات الذهنية.
افتتح الدكتور محمد عبد الدايم الجندي كلمته بتقديم الشكر لدار الإفتاء المصرية على تنظيم هذه الندوة المهمة، مشيدًا بحرصها على تعزيز الوعي بحقوق ذوي الهمم من منظور شرعي وإنساني. وأكَّد فضيلته أن الإسلام كرَّم الإنسان دون تمييز، مستشهدًا بقول الله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم"، موضحًا أن هذا التكريم يشمل جميع البشر دون استثناء.
وأشار إلى أن الأحكام الشرعية راعت خصوصية ذوي الهمم ووضعت التيسيرات التي تضمن لهم حياة كريمة، حيث قال: "عندما قال الله سبحانه وتعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)، كان ذلك تأكيدًا على رفع المشقة عن هؤلاء، وإثباتًا لمكانتهم المتكافئة مع بقية أفراد المجتمع".
كما استعرض نماذج من الشخصيات الإسلامية البارزة التي كانت من ذوي الهمم، لكنها بلغت أعلى مراتب العلم والقيادة، مثل الصحابي عمرو بن الجموح الذي أصر على الجهاد رغم عرجته، والصحابي عبد الله بن أم مكتوم الذي تولى ولاية المدينة في غياب النبي ﷺ، والإمام البخاري الذي فقد بصره في نهاية حياته، لكنه قدم للأمة أعظم كتب الحديث.
وأضاف الدكتور الجندي: "على قدر أهل الهمم تبلغ القمم، وما يظنه البعض إعاقة هو في الحقيقة باب لتميز وعطاء لا محدود"، مشددًا على ضرورة نشر الفتاوى والتوجيهات الدينية التي تدعم حقوق ذوي الهمم، ومنها تخصيص ممرات خاصة بهم داخل المساجد، وهو ما أجازه العلماء لضمان راحتهم وتمكينهم من أداء العبادات دون مشقة.
وأشاد الجندي بالكتاب الذي أصدرته دار الإفتاء المصرية عن فتاوى ذوي الهمم، وأوصى بأن تصنف دار الإفتاء موسوعة كبيرة تضم فتاوى لكل ما يتعلق بذوي الهمم.
من جانبها، أكدت الدكتورة نهلة الصعيدي أن دعم ذوي الهمم ليس مجرد مسؤولية قانونية، بل هو واجب شرعي وأخلاقي، يتطلب تعزيز الوعي المجتمعي بقدراتهم وحقوقهم.
وأشارت إلى أن الإسلام كان سبَّاقًا إلى دمج أصحاب الإعاقات داخل المجتمع، مستشهدة بموقف النبي ﷺ مع الصحابي عبد الله بن أم مكتوم، حيث كان يستقبله بوجه بشوش ويقول له: "أهلًا بمن عاتبني فيه ربي"، في إشارة إلى نزول سورة "عبس وتولى".
وأكدت الدكتورة نهلة الصعيدي أن الأزهر الشريف يولي اهتمامًا كبيرًا بهذه الفئة، من خلال برامج تعليمية وتوعوية تستهدف دمج ذوي الهمم في المجتمع، مع التركيز على دَور المؤسسات الدينية في ترسيخ ثقافة الاحترام والمساواة.
أما المهندسة أمل مبدى، أعربت عن فخرها بالمشاركة في ندوة علمية داخل جناح دار الإفتاء، مؤكدة أن قضية ذوي الإعاقة شهدت تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال تحتاج إلى مزيد من التوعية والتطبيق الفعلي للحقوق المنصوص عليها في القوانين.
وأوضحت أن هناك تحدياتٍ تواجه ذوي الهمم في سوق العمل، حيث قالت: "رغم وجود نسبة 5% المخصصة لتوظيف الأشخاص ذوي الإعاقة وَفْقًا للقانون، إلَّا أن بعض الجهات لا تزال غير مقتنعة بقدرتهم على العمل، رغم أنَّ الدراسات أثبتت أن إنتاجيتهم قد تفوق غيرهم في بعض المجالات".
وأضافت أنَّ التجربة العملية أثبتت نجاح الأشخاص ذوي الإعاقة في مختلف المهن، مستشهدة بتجربة أحد المصانع التي أثبتت أن العاملين من ذوي الإعاقة الذهنية كانوا أكثر إنتاجية بنسبة 35% مقارنة بغيرهم، نظرًا لالتزامهم وانضباطهم في أداء المهام الموكلة إليهم.
وفي ختام حديثها، دعت المهندسة أمل مبدى إلى ضرورة تغيير النظرة المجتمعية تجاه ذوي الهمم، والعمل على دمجهم بشكل حقيقي، مؤكدة أن "الأشخاص ذوي الإعاقة قادرون على تحقيق الإنجازات إذا ما أتيحت لهم الفرص المناسبة".
واختُتمت الندوة بعدد من التوصيات، كان أبرزها ضرورة تعزيز الوعي الديني بحقوق ذوي الهمم، من خلال الفتاوى والمبادرات الشرعية التي تضمن لهم حياة كريمة.
كما أوصى الحضور بضرورة تفعيل التشريعات التي تكفل لهم حقوقهم، خاصة في مجالات العمل والتعليم والرعاية الصحية، وإشراك المؤسسات الدينية لتقديم مزيد من الدعم لقضايا ذوي الهمم، وتعزيز جهود التوعية المجتمعية لمكافحة التمييز والتنمُّر ضدهم، وأيضًا تعزيز التعاون بين الجهات الحكومية والدينية والمجتمع المدني، لضمان تطبيق القوانين والإجراءات التي تكفل اندماجهم في المجتمع.