كيف تخوض أمريكا حربها الاقتصادية؟
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
لنفترضْ أن شركة في بيرو تريد أن تتعامل تجاريا مع شركة في ماليزيا. لا يجب أن يكون من الصعب عليهما تنفيذ معاملة تجارية. فإرسال الأموال عبر الحدود الوطنية عموما عملية واضحة، وكذلك التحويل العالمي لكميات كبيرة من البيانات.
لكنّ ثمة تعقيدا خفيا سواء كانت الشركتان تعلمان ذلك أم لا، من المؤكد تقريبا أن المعلومات المالية والبيانات المتعلقة بالمعاملة التجارية ستكون غير مباشرة.
في الحقيقة تستطيع الولايات المتحدة منع العديد من الشركات البيروفية والماليزية من التبادل السلعي بشكل عام وعزل البلدين إلى حد بعيد عن الاقتصاد العالمي.
الإمبراطورية الخفية
جزء من الأساس الذي يرتكز عليه هذا النفوذ معلوم جيدا، فتجارة العالم تدار في معظمها بالدولار والعملة الأمريكية إحدى العملات القليلة التي تقبلها كل البنوك تقريبا، بل من المؤكد أنها الأكثر استعمالا، نتيجة لذلك الدولار هو العملة التي يجب أن تستخدمها العديد من الشركات إذا أرادت إجراء معاملة تجارية دولية.
لا توجد سوق حقيقية يمكن فيها للشركة البيروفية استبدال السّول البيروفي بالرينجيت الماليزي؛ لذلك في العادة تستخدم البنوك المحلية التي تتولى تيسير تلك المعاملة عملةَ السول لشراء الدولارات الأمريكية ثم بعد ذلك تستخدم الدولارات لشراء عملة الرينجيت. لكن للقيام بهذه العملية يجب أن يتاح للبنوك التعامل مع النظام المالي للولايات المتحدة وعليها اتباع القواعد التي وضعتها واشنطن.
غير أن هناك سببًا آخر ليس معروفًا بالقدر نفسه يفسّر النفوذ الاقتصادي الطاغي الذي تتمتع به الولايات المتحدة، فمعظم كابلات الألياف البصرية في العالم التي تنقل البيانات والرسائل حول الكوكب تمر عبر الولايات المتحدة. وحيثما تدخل هذه الكابلات إلى أراضيها يمكن لواشنطن مراقبة حركتها وهي تراقبها فعلا.
يعني ذلك أساسا أنها تسجّل كل حزمة بيانات (تنقلها هذه الكوابل). يتيح ذلك لوكالة الأمن القومي الأمريكي الاطلاع عليها. لذلك يمكن للولايات المتحدة بسهولة التجسس على ما تفعله أية شركة أو بلد آخر تقريبا. ويمكنها تحديد متى يهدد منافسوها مصالحها وفرض عقوبات ذات مغزى ردا على ذلك.
تجسس أمريكا وعقوباتها موضوع كتاب «الإمبراطورية الخفية: كيف حولت واشنطن اقتصاد العالم إلى سلاح» من تأليف هنري فاريل وابراهام نيومان.
يوضح هذا الكتاب الكاشف كيف تمكنت واشنطن من امتلاك مثل هذا النفوذ المذهل والطرق العديدة التي توظف بها هذه السلطة.
يشرح فاريل ونيومان بالتفصيل كيف دفعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الولايات المتحدة للشروع في استخدام إمبراطوريتها وكيف تضافرت أجزاؤها العديدة التي تشكلها لفرض قيود على كل من الصين وروسيا. ربما لا تحب الدول الأخرى شبكات واشنطن لكن التخلص منها بالغ الصعوبة كما يوضح الكتاب.
يبين المؤلفان أيضا أن الولايات المتحدة أوجدت باسم الأمن نظاما كثيرا ما يُساء استخدامه. كتب فاريل ونيومان «لحماية أمريكا حولت واشنطن ببطء ولكن على نحو أكيد شبكاتٍ اقتصادية مزدهرة إلى أدوات هيمنة». وكما أوضح كتابهما بجلاء يمكن أن تُحدِث مساعي الولايات المتحدة للهيمنة أضرارا جسيمة.
فإذا بالغت واشنطن في استخدام أدواتها قد تدفع البلدان الأخرى إلى تفكيك النظام العالمي الحالي. ويمكن أن تضطر الولاياتُ المتحدة الصينَ إلى فصل نفسها عن معظم اقتصاد العالم وبالتالي إبطاء النمو العالمي. كما تستخدم واشنطن سلطتها لمعاقبة دول وأشخاص لم يفعلوا شيئا خاطئا؛ لذلك على الخبراء أن يفكروا في أفضل السبل لتقييد إن لم يكن احتواء امبراطورية الولايات المتحدة.
البيانات والدولارات
مركزية الولايات المتحدة في نقل الأموال والبيانات ليست غير مسبوقة تماما، فالقوة المهيمنة على العالم لديها دائما سيطرة غير عادية على اقتصاد وشبكات اتصال العالم.
في بداية القرن العشرين على سبيل المثال أدىّ الجنيه البريطاني دورا رئيسيا في العديد من المعاملات الدولية وكان عدد وفير من كل كابلات الاتصالات البحرية العالمية يمر عبر لندن.
لكن عام 2023 ليس عام 1901. فالحقبة الحالية تتميز بما يطلق عليه بعض خبراء الاقتصاد «العولمة الفائقة».
العالم الآن أكثر تشابكا إلى حد بعيد مقارنة بحاله قبل قرن. ليست التجارة العالمية فقط هي التي تشكل حصة أكبر من النشاط الاقتصادي مقارنة بالماضي ولكن المعاملات الدولية أيضا أشد تعقيدا قياسا بأي وقت مضى. وحقيقة أن العديد من هذه المعاملات تمر عبر البنوك، والكابلات التي تسيطر عليها الولايات المتحدة تمنح واشنطن سلطات لم يسبق أن حصلت عليها أية حكومة على مر التاريخ.
يتصور المراقبون العاديون وقلة من المعلقين المعنيين بشؤون الاقتصاد أن هذه الهيمنة تمنح الولايات المتحدة ميزات اقتصادية عظيمة لكن الاقتصاديين الذين درسوا الموضوع جيدا يعتقدون عموما أن الوضع الخاص الذي يتمتع به الدولار لا يسهم إلا بقدر هامشي في الدخل الحقيقي للولايات المتحدة. (دخل الأمريكيين بعد حساب التضخم).
ولا يبدو أن هناك أية دراسات حول الفوائد الاقتصادية التي تتحقق من استضافة كابلات الألياف البصرية. لكن هذه الفوائد في الغالب أيضا ضئيلة خصوصا؛ لأن العديد من الأرباح التي تنشأ عن نقل البيانات ربما تسجل في إيرلندا أو ملاذات ضريبية أخرى.
لكن فاريل ونيومان يوضحان أن سيطرة الولايات المتحدة على «نقاط اختناق» اقتصاد العالم تمنح الولايات المتحدة حقا طرائق جديدة لممارسة نفوذها السياسي وأنها تتشبث بها.
بدأت الولايات المتحدة الاستفادة من هذه السلطات حسب المؤلفين بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. قبل ذلك منعت المخاوف من تجاوز الحد المسؤولين الأمريكيين من ممارسة السطوة الأمريكية. لكن هؤلاء المسؤولين سرعان ما أدركوا أنهم كان في مقدورهم تتبع المعاملات المالية لأسامة بن لادن بطريقة يمكنها كشف مخططات أتباعه وبالتالي استخدام نفوذهم المالي لعرقلة عمليات القاعدة، وهكذا بعد الضربة التي وجهتها القاعدة تخلت واشنطن عن مخاوفها وتوسعت في المراقبة المالية واستخدام العقوبات.
اتضح لواضعي السياسات سهولة ممارسة هذه السلطات. فالدولارات التي تستخدم في المعاملات الدولية ليست رزما من النقود، وتقريبا كل بنك يحتفظ بمثل هذه الودائع يلزم أن تكون له صلة بالنظام المالي الأمريكي لكي يتواصل مع بنك الاحتياط الفيدرالي عند الحاجة.
نتيجة لذلك تحاول البنوك حول العالم الحفاظ على علاقة جيدة مع المسؤولين الأمريكيين حتى لا تقرر واشنطن عزلها مصرفيا.
جمعية سويفت
حكاية كاري لام الرئيسة التنفيذية السابقة لهونج كونج والتي نصبتها الصين مثال على ذلك. فكما كتب فاريل ونيومان بعد معاقبتها من قِبل الولايات المتحدة بدعوى انتهاكات لحقوق الإنسان لم يعد بمقدورها الحصول على حساب مصرفي في أي مكان حتى في بنك صيني، وصار لزاما عليها بدلا من ذلك أن تقبض راتبها نقدا. وهذا ما جعلها تحتفظ بأكداس من النقود في مقرها الرسمي.
هناك مثال آخر أقل إثارة ولكن أكثر أهمية إلى حد بعيد للنفوذ الأمريكي وهو الطريقة التي وظفت بها واشنطن جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك «سويفت». إنها منظمة تُستخدم لتبادل الرسائل الذي تنجز عبرها المعاملات المالية العالمية الكبرى.
اللافت أن مقرها بلجيكا وليس الولايات المتحدة لكن لأن عددا كبيرا من المؤسسات التي تقف خلفها تعتمد على دعم الولايات المتحدة بدأت سويفت في مشاطرة الولايات المتحدة الكثير من بياناتها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وقدمت بذلك «حجر رشيد» الذي يمكن أن تستخدمه واشنطن لتتبع المعاملات المالية حول العالم.
في عام 2012 تمكنت حكومة الولايات المتحدة من استخدام سويفت ونفوذها المالي الخاص بها لعزل إيران عن النظام المالي العالمي وكان أثر ذلك قاسيا. بعد تلك العقوبات دخل اقتصاد إيران في ركود وبلغ معدل التضخم 40% تقريبا. وفي النهاية وافقت طهران على تقليص برامجها النووية في مقابل تخفيف العقوبات (في عام 2018 ألغى رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب الاتفاق. لكن تلك حكاية أخرى).
ذلك هو نوع النفوذ الذي تحصل عليه الولايات المتحدة من سيطرتها على نقاط الاختناق المالية. لكن كما يكشف فاريل ونيومان يمكن القول إن ما تفعله الولايات المتحدة بسيطرتها على نقاط اختناق البيانات لافت بقدر أكبر.
التجسس على الألياف البصرية
في العديد من الأماكن ويمكن القول في كل الأماكن التي تدخل عبرها كابلات الألياف البصرية إلى أراضي الولايات المتحدة نصبت الحكومة الأمريكية مقاسم. وهذه أجهزة تقسم أشعة الضوء التي تحمل المعلومات على مسارين، أحد المسارين يذهب إلى الجهات المستقبلة أو المقصودة لكن المسار الآخر يذهب إلى إدارة الأمن القومي الأمريكية التي تستخدم حوسبة فائقة الأداء لتحليل البيانات.
نتيجة لذلك يمكن للولايات المتحدة مراقبة كل الاتصالات العالمية تقريبا، قد لا يعلم سانتا كلوز (بابا نويل) إذا ما كنت طيبا أو شريرا لكن إدارة الأمن القومي ربما تعلم ذلك. بالطبع البلدان الأخرى يمكنها التجسس على الولايات المتحدة. وهي تفعل ذلك، فالصين خصوصا تجتهد كثيرا لاعتراض التقنية الأمريكية المتقدمة. لكن ليست هنالك عاصمة أفضل تجسسا من واشنطن، وعلى الرغم من أفضل الجهود التي بذلتها بكين لم تتمكن الصين من سرقة أسرار كافية تجعلها على قدم المساواة (في التجسس) مع أمريكا.
وكما يشير المؤلفان فاريل ونيومان، على الرغم من عدم هيمنة الولايات المتحدة على برمجيات رقائق أشباه الموصلات الحالية إلا أنها تسيطر على حقوق الملكية الفكرية الحيوية لتصميم أشباه الموصلات الجديدة والمتقدمة والتي لا تزال تشكل سوقا ضرورية. ويذكر المؤلفان أن الملكية الفكرية للولايات المتحدة تشكل حضورا استراتيجيا في كامل سلسلة إنتاج أشباه الموصلات.
استهداف هواوي
ثمة أمثلة عديدة تجسد الكيفية التي تستخدم بها واشنطن إمبراطوريتها الخفية كسلاح بما في ذلك فرض عقوبات على كاري لام (رئيسة السلطة التنفيذية في هونج كونج) وإيران. لكن ربما أفضل الأمثلة التي توضح الكيفية التي تقترن بها كل عناصر الإمبراطورية الثلاثة (السيطرة على الدولارات والسيطرة على المعلومات والسيطرة على الملكية الفكرية) النجاح المذهل في تفكيك شركة هواوي الصينية.
قبل سنوات قليلة فقط، شاع الذعر في أوساط المسؤولين ونخب السياسة الخارجية في الولايات المتحدة من هواوي. فقد بدا أن الشركة التي لديها روابط وثيقة مع الحكومة الصينية تستعد لإمداد معظم الكوكب بمعدات تقنية الجيل الخامس. وشعر المسؤولون الأمريكيون بالقلق من أن هذا الانتشار سيمنح الصين عمليا القدرة على «التصنت» بشكل فعال على باقي العالم، تماما كما فعلت وتفعل الولايات المتحدة؛ لذلك وظفت واشنطن امبراطوريتها المتشابكة لتركيع هواوي.
أولا، حسبما يذكر فاريل ونيومان، علمت الولايات المتحدة أن هواوي كانت تتعامل خفية مع إيران وبالتالي تنتهك العقوبات الأمريكية. حينها صار في إمكان واشنطن توظيف قدرتها على الحصول على معلومات حول البيانات المصرفية العالمية لتقديم أدلة على أن شركة هواوي ومديرتها المالية مينج وانتشو (والتي صدف أنها ابنة مؤسسها) مارست احتيالا مصرفيا بإخطارها شركة الخدمات المصرفية البريطانية «اتش اس بي سي» أن شركتها لا تتعامل تجاريا مع إيران. وبناء على طلب من الولايات المتحدة اعتقلتها السطات الكندية في ديسمبر 2018 أثناء عبورها فانكوفر.
اتهمت وزارة العدل الأمريكية كلا من هواوي ومينج بالاحتيال الإلكتروني وعدد من الجرائم الأخرى. ووظفت الولايات المتحدة القيود المفروضة على صادرات التقنية الأمريكية للضغط على شركة تايوان لتصنيع أشباه «تي إس إم سي» والتي تنتج العديد من أشباه الموصلات بالغة الأهمية لحرمان شركة هواوي من الحصول على الرقائق الأكثر تقدما. في الأثناء احتجزت بكين مواطنين كنديين في الصين واحتفظت بهم أساسا كرهائن.
بعدما قضت مينج ما يقرب من ثلاث سنوات في الحبس المنزلي عقدت اتفاقا أقرت فيه بصحة العديد من التهم الموجهة ضدها وسمح لها بالعودة إلى الصين التي أطلقت حينها سراح الكنديين.
لكن بحلول ذلك الوقت كانت قوة هواوي قد تضعضعت كثيرا ولم يعد هنالك احتمال بهيمنة الصين على تقنية الجيل الخامس على الأقل في الأجل القريب. لقد شنت الولايات المتحدة في هدوء حربا «ما بعد حداثية» على الصين وانتصرت.
مخاطر الشطط
لأول وهلة يمكن أن يبدو هذا الانتصار وكأنه حدث سعيد تماما. فواشنطن حدَّت من سطوة الصين التقنية دون أن تضطر إلى استخدام القوة. أيضا قد تستحق التهنئة على تمكنها من عزل كوريا الشمالية عن معظم النظام المالي العالمي أو على عقوباتها الناجحة ضد البنك المركزي الروسي. ومن الصعب أن يثير السخط استخدام الولايات المتحدة سلطاتها الخفية لمحاصرة الإرهاب العالمي وتفكيك كارتيلات المخدرات أو الحيلولة دون انهيار أوكرانيا.
مع ذلك هنالك مخاطر واضحة في ممارسة هذه السلطات. ومن جانبهما يشعر المؤلفان فاريل ونيومان بالقلق من احتمال تجاوز الولايات المتحدة حدود المعقول. ففي اعتقادهما إذا استخدمت واشنطن نفوذها دون قيد يمكن أن تقوض الأساس الذي يرتكز عليه هذا النفوذ.
على سبيل المثال إذا حولت الولايات المتحدة الدولار إلى سلاح ضد عدد كبير من البلدان قد تنجح هذه البلدان في توحيد جهودها وتبنّي طرق بديلة للمدفوعات الدولية. وإذا استبدّ بها القلق من تجسس الولايات المتحدة يمكنها تركيب كابلات ألياف بصرية تلتف حول الولايات المتحدة. وإذا بالغت واشنطن في وضع القيود على الصادرات الأمريكية قد تتخلى الشركات الأجنبية عن تقنية الولايات المتحدة. مثلا قد لا تضاهي البرمجيات الصينية نظيرتها الأمريكية لكن ليس من الصعب تصور قبول بعض البرمجيات الأقل جودة كثمن للتخلص من قبضة واشنطن.
حتى الآن لم يحدث أي شيء من ذلك. وعلى الرغم من التعليقات المهتاجة التي لا نهاية لها عن السقوط المحتمل للدولار لا تزال العملة الأمريكية تبسط سيادتها. في الحقيقة كما يكتب فاريل ونيومان صمد الدولار على الرغم من «الغباء الشرير» الذي أبداه ترامب.
قد يكون تركيب كابلات ألياف بصرية تتخطى الولايات المتحدة أكثر سهولة وغير المختصين لا يعلمون حقا مدى سهولة إحلال البرمجيات الأمريكية. بالرغم من هذه الحقيقة يبدو النفوذ الخفي للولايات المتحدة لافتا في ديمومته.
لكن ذلك لا يعني أنه ليست هنالك حدود لما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة. يشعر المؤلفان فاريل ونيومان بالقلق من أن الصين وهي قوة اقتصادية عظمى في حد ذاتها قد تقرر الدفاع عن نفسها «بتفضيل العزلة» وقطع روابطها المالية والمعلوماتية الدولية مع العالم الخارجي (وهو ما تفعله فعلا إلى حد ما). مثل هذا الخيار ستكون له تكاليف اقتصادية كبيرة لكل أحد. فهو سينتقص من دور الصين بوصفها ورشة العالم والذي من الصعب إحلاله كما هي الحال مع الدور العالمي للدولار الأمريكي.
هنالك أيضا مخاطر أخرى واضحة. فالبلدان التي تخسر الحروب الاقتصادية قد ترد بشن حروب عسكرية فعلية. ويكتب المؤلفان أن تحويل التجارة إلى سلاح أحد العوامل التي أسهمت في الحرب العالمية الثانية. فألمانيا واليابان كلتاهما خاضتا حروب غزو لأسباب من بينها تأمين المواد الخام التي كانت تخشى من قطعها عنها بعقوبات دولية.
السيناريو المرعب في الوقت الحالي هو أن تردّ الصين خوفا من تهميشها بغزو تايوان التي تلعب دورا مفتاحيا في صناعة أشباه الموصلات العالمية.
لكن حتى إذا لم تشتط الولايات المتحدة في استخدام امبراطوريتها الخفية أو أثارت صراعا ساخنا يظل هنالك سبب رئيسي للقلق من النفوذ الاقتصادي والمعلوماتي المثير لواشنطن. فالولايات المتحدة لا تكون دائما على حق. لقد اتخذت واشنطن الكثير من القرارات غير الأخلاقية في مجال السياسة الخارجية ومن الممكن أن توظف سيطرتها على نقاط الاختناق الدولية لإيذاء الناس والشركات والدول التي لا يجب ألا تتعرض للأذى.
ترامب على سبيل المثال فرض رسوما جمركية على كندا وأوروبا. وليس من الصعب تخيّل أنه إذا فاز بفترة رئاسية ثانية سيحاول وضع العراقيل أمام اقتصادات الدول الأوروبية التي تنتقد سياساته الخارجية أو حتى الداخلية. ولا يحتاج المرء إلى أن ينظر إلى أي شيء عبر عدسة حرب العراق أو يصر على أن الولايات المتحدة فرضت بطريقة ما على روسيا حرب أوكرانيا لكي يشعر بالقلق من عدم خضوع امبراطورية واشنطن الخفية إلى المحاسبة.
قواعد الطريق
فاريل ونيومان لا يقترحان سياسات يمكن أن تخفف من هذه المخاطر بخلاف الإشارة إلى أن الإمبراطورية الخفية تستحق نفس ذلك النوع من التفكير الاستراتيجي العميق الذي تم تكريسه في الماضي للتنافس النووي. مع ذلك يقدم الكتاب بتسليطه الضوء على الكيفية التي تغيرت بها طبيعة النفوذ العالمي مساهمة عظيمة للطريقة التي يفكر بها المحللون في النفوذ. ويجب أن يشرع واضعو السياسات والباحثون في صياغة خطط لإصلاح هذه المشكلات. من الحلول الممكنة إرساء قواعد دولية لاستغلال نقاط الاختناق الاقتصادية وذلك على نحو مماثل للقواعد التي قيدت الرسوم الجمركية والإجراءات الحمائية الأخرى منذ إيجاد الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) في عام 1947. وكما يعلم كل اقتصادي مختص بالتجارة لا تقتصر الجات (ومنظمة التجارة العالمية التي نشأت عنها) على حماية البلدان من بعضها البعض. بل تحميها أيضا من تصرفاتها السيئة. سيكون من الصعب عمل شيء يماثل (قواعد الجات) لأشكال جديدة للنفوذ الاقتصادي. لكن من أجل الحفاظ على أمان العالم على الخبراء السعي لإعداد إجراءات تنظيمية يكون لديها نفس التأثير الملطِّف لاستغلال نقاط الاختناق الاقتصادي. فالرهانات أعلى من أن تُترك هذه التحديات دون حلول.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة من للولایات المتحدة الألیاف البصریة أشباه الموصلات اقتصاد العالم النظام المالی على الرغم من العدید من بالقلق من یمکن أن ت من الصعب یجب أن إلى حد من هذه
إقرأ أيضاً:
معهد أمريكي: تقاعس أمريكا في اليمن جعل من الحوثي تهديد استراتيجي له علاقات بخصوم واشنطن المتعددين (ترجمة خاصة)
قال معهد أمريكي إن جماعة الحوثي في اليمن تشكل الآن تهديدًا استراتيجيًا له تداعيات عالمية على الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة.
وأضاف معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة (AEI) في تحليل للباحث "بريان كارتر"، ترجم أبرز مضمونه إلى العربية "الموقع بوست" أن الولايات المتحدة وحلفاؤها فشلوا في منع إيران من تعزيز القدرات العسكرية للحوثيين منذ عام 2015.
وذكر كارتر في تحليله المعنون "تكلفة التقاعس في اليمن" أن الحوثيين تحولوا من ميليشيا صغيرة في الجبال الشمالية في اليمن إلى تهديد استراتيجي كبير له علاقات بخصوم الولايات المتحدة المتعددين.
وأفاد المعهد أن الولايات المتحدة سعت إلى "تجنب التصعيد" ردًا على التصعيدات الحوثية الدرامية منذ أكتوبر 2023 من خلال اتخاذ سلسلة من التدابير نصفية التفاعلية التي فشلت في تحقيق تأثيرات حاسمة أو تدهور القدرات العسكرية للحوثيين بشكل ملموس.
وقال "لم يردع الحوثيون وقد جمعوا رؤى مهمة حول تشغيل الدفاعات الأمريكية ضد أنظمة الهجوم الخاصة بهم من جميع الأنواع. ومن المؤكد تقريبًا أن الحوثيين سيستغلون هذه الرؤية لتحسين فعالية هجماتهم الخاصة وتقديمها لخصوم الولايات المتحدة الآخرين. وفي الوقت نفسه، ستواصل العمليات الحوثية المتواصلة في الشرق الأوسط صرف الانتباه عن الجهود الأميركية لإعطاء الأولوية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما فعلت بالفعل منذ أكثر من عام".
وتطرق التحليل إلى فشل السعودية والإمارات في الحرب على جماعة الحوثي منذ 2015 بفضل الدعم الإيراني وحزب الله اللبناني. مشيرا إلى أن إيران صممت دعمها للحوثيين لبناء منظمة قادرة على تحدي ليس فقط الجناح الجنوبي لدول الخليج ولكن أيضًا إسرائيل والقوات الأمريكية.
وأشار إلى أن إيران تزود الحوثيين بتهريب الطائرات بدون طيار والصواريخ، غالبًا على شكل قطع، سواء عن طريق البحر أو عبر البر. حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها اعتراض هذه الإمدادات منذ عام 2015، ومع ذلك، لم تحقق الجهود الأمريكية سوى نجاح محدود للغاية، وذلك بسبب المسافات المعنية والموارد الأمريكية المحدودة المخصصة لمهمة الاعتراض.
وحسب المعهد "بدأ الحوثيون حملتهم الهجومية الإقليمية الموسعة في أكتوبر 2023، مما دفع واشنطن إلى رد دفاعي محدود فقط. في 19 أكتوبر/تشرين الأول، أطلق الحوثيون طائرات بدون طيار وصواريخ استهدفت إسرائيل لأول مرة، ودخلوا رسميًا حرب 7 أكتوبر دعماً لحماس وبعد التنسيق مع الميليشيات العراقية المدعومة من إيران. ولم ترد الولايات المتحدة بمحاولة تعطيل قدرة الحوثيين على مواصلة الهجمات أو ردع الجماعة.
وقال "بدلاً من ذلك، تبنت الولايات المتحدة موقفًا رد الفعل والدفاع الذي لم يتسبب في أي تغيير ملحوظ في عملية صنع القرار لدى الحوثيين. ولم ترد الولايات المتحدة إلا بضربات على اليمن في 12 يناير 2024، بعد 26 هجومًا للحوثيين استهدفت الشحن الدولي وتسع هجمات شملت سفن حربية أمريكية وحليفة".
وأكد أن الاستجابة الأمريكية الأولية - والتي صُممت للدفاع عن الشحن فشلت دون تنفيذ ضربات "لتجنب التصعيد" - في منع التصعيد، حيث انتقل الحوثيون من الهجمات على إسرائيل في أكتوبر إلى هجمات متكررة بشكل متزايد على الشحن بدءًا من نوفمبر.
ويرى المعهد الأمريكي أن حملة الضربات التي تقودها الولايات المتحدة، والتي منعت الهجمات الحوثية الفردية ودمرت بعض البنية التحتية المستهدفة وعددًا محدودًا من الصواريخ على الأرض، فشلت في تغيير معدل هجمات الحوثيين.
وقال "كان من الممكن أن يؤدي رد فعل أمريكي أكثر قوة وجدية في أكتوبر ونوفمبر 2023 إلى تثبيط أو تعطيل هجمات الحوثيين على الشحن. لقد فشل الرد الدفاعي الأمريكي والحملة الجوية المحدودة اللاحقة، لأن هذه التهديدات لم تلحق أضرارًا كافية بقدرة الحوثيين ولم تضرب أهدافًا مهمة بما يكفي لردع إيران أو الحوثيين.
وتابع "كان من الممكن أن تؤدي الضربات المميتة وغير المميتة المتكررة على الأنظمة التي مكنت الحوثيين من استهداف وتتبع أهدافهم إلى تجريد الحوثيين من هذه القدرة. كان ينبغي أن يشمل هذا الجهد تعطيل أو تدمير سفينة التجسس الإيرانية بهشاد، والتي ساعدت الحوثيين بكل تأكيد في استهداف وتتبع الشحن من منطقة دوريتها في البحر الأحمر.
وأردف "كان من الممكن أيضًا أن تتسبب إجراءات أخرى، بما في ذلك دعم الجماعات المسلحة في اليمن أو التدابير الاقتصادية مثل إزالة البنوك في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون من نظام سويفت الدولي، في دفع الحوثيين إلى إعادة حساباتهم من خلال تحدي سيطرة الحوثيين على شمال اليمن".
يقول معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة "لا شك أن كل من هذه الخيارات تنطوي على مخاطر كبيرة، لكنها كانت لتكون أكثر عرضة لتعطيل هجمات الحوثيين وجعل الهجمات أقل فعالية أو أقل تواترا".
ودعا صناع السياسات في الولايات المتحدة لأن يدركوا، قبل كل شيء، أن النهج الأكثر تحفظًا الذي كان يهدف إلى تجنب التصعيد أدى بدلاً من ذلك إلى تسهيل التصعيد.
وأوضح أن السماح للحوثيين بإطالة أمد حملتهم التصعيدية التدريجية هو في الواقع خيار سياسي أكثر خطورة بالنسبة للولايات المتحدة في الأمد البعيد مقارنة بالجهود العسكرية الأكثر حسما.
وقال إن حملة الهجوم الحوثية التي استمرت عامًا ستوفر بيانات ودروسًا يمكن للحوثيين وخصوم الولايات المتحدة الآخرين استخدامها لتحسين فعالية هجماتهم على السفن البحرية الأمريكية والمنشآت البرية في المستقبل.
وزاد "توفر هذه الهجمات للحوثيين وربما داعميهم في طهران، على الأقل، قدرًا هائلاً من البيانات حول كيفية استجابة الدفاعات الجوية الأمريكية وحلفائها للصواريخ والطائرات بدون طيار. وبالمثل، يمكن للحوثيين مشاركة هذه البيانات مع الروس في مقابل بيانات الاستهداف الروسية للسفن في البحر الأحمر. ومن المؤكد أن الدروس المستفادة من هذه البيانات ستُستخدم ضد دفاعات البحرية الأمريكية في المستقبل ويمكن أن تفيد العمليات المعادية ضد الدفاعات البرية الأمريكية المضادة للطائرات بدون طيار والصواريخ أيضًا.
يضيف المعهد الأمريكي أن السياسة الأمريكية تجاه الحوثيين في 2023-2024 تظهر أن "إدارة التصعيد" ليست نهجًا فاشلاً وسياسة غير مستدامة. لقد "صعد" الحوثيون مرارًا وتكرارًا ولم يواجهوا سوى رد فعل أمريكي محدود لم يفعل شيئًا "لإدارة التصعيد".
وخلص معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة في تحليله بالقول "إن الدرس الذي يتعلمه الحوثيون في هذه الحرب هو أنهم قادرون على إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار على السفن الحربية الأميركية والشحن العالمي وشركاء الولايات المتحدة، ولا يعانون إلا من عواقب محدودة وغير كافية. ويتعين على الولايات المتحدة أن تتعلم أن "إدارة التصعيد" في واقع الأمر تشجع التصعيد وتطيل أمد الصراعات ــ وهي مشكلة خطيرة بشكل خاص عندما يتعين على الولايات المتحدة أن تكون قادرة على التركيز على مسارح حاسمة أخرى.