بدون كافيين.. أسماء مواليد الحروب دعوة للسلام
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
استطاع الإنسان أن يتكيف على الكثير من الأوضاع الحياتية. بعضها لم يكن يتخيل أن يعيش معه على الإطلاق. بعض هذه الأوضاع لم يكن وضعًا يحبه الإنسان أو يريد أن يحيا بصحبته على الإطلاق. وهو الحروب.
كنت بصحبة صديق من مواليد خمسينيات القرن الماضي. وأنا أقدر مواليد الخمسينيات لأن أبي رحمه الله ولد في الخمسينيات.
دارت في عقلي أنماط حياة الأفراد في أوقات الحرب. اكتشفت أن أسماء الأفراد يمكن من خلالها قراءة الحروب التي دارت أثناء ميلادهم. ففي ذات مرة وقعت في يدي دراسة إنجليزية حول الأسماء التي أطلقت على الأطفال في أوقات مختلفة من حياة المملكة المتحدة. ولم تذكر الدراسة صراحة أن هذه الأسماء اختلفت في أوقات الحروب. إذ أثبتت الدراسة أن الأهالي يميلون لتسمية أبنائهم تيمنًا بأسماء الملوك الذين يتمتعون ببركة الكنيسة في أوقات الأزمات حتى أن نصف المواليد الذكور في كثير من تلك الأوقات كانت إما جورج وإما وليام. كان الأهالي يحاولون بذلك أن يطلقوا على أبنائهم أسماء أشخاص يتمتعون بالشجاعة وببركة دينية كبيرة، ليحفظهم الله من كل شر، لاسيما أوقات الحروب التي يعانون من ولياتها. ومع الوقت صارت بعض الأسماء تشرف أصحابها حتى دون حرب أو أزمة.
حين ننتقل للشرق الأوسط نجد الأمر مماثلًا أيضًا. إذ تجد أسماء انتشرت في مصر مثلًا أثناء الحروب وبعدها لها طابع مميز يصعب معه أن تنتشر في غير هذه الأوقات مثل "نصرة" و"سيناء". هي أسماء جميلة لكنها لم تكن دارجة قبل الانتصارات العسكرية. الشعوب كانت تحتفل بالبطولات بطريقتها. عملت على أن تحتفظ بعلامات النصر الشجاعة، وبالفرح الذي صاحبهما في أسماء أولادهم. كانوا يرغبون بالتيمن بالمعاني الجميلة والفرح ليكونا علامات مميزة في شخصية ومسيرة حياة أولادهم. لاسيما وأن العرب لديهم مثل سائر يقول "لكل إمريء من اسمه نصيب" ولن أنسى أن أمي كانت تقول دائمًا أنني متعجلة لأن اسمي يأخذ الكثير بسرعة، فكيف أتروى مع هذا الاسم؟!.. كانت تحب الاسم طوال حياتها وكانت تريد أن آخذ منه الكثير. أستطيع أن أرى كل أم وهي تحب أن ترى أولادها بخير النصر وقوة الشجاعة على طريقة أمي في التيمن بالأسماء.
انتشرت من هنا أسماء القديسين أو من باركوهم لدى مواليد الحرب الأهلية في لبنان في محاولة لحماية أبنائهم من ويلات الحرب، إذ أن هذه البركة هي أكثر ما يحتاج الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة، من وجهة نظر ذويهم. لا يجد الأهالي غير البركة ليهبوها لأبنائهم عن طريق التشابه في الأسماء بينهم وبين من كانوا يهبون البركة على الأرض بكرم الله. على الجانب الآخر من الصعيد العربي نجد أن اسم "سلام" ينتشر بين مواليد الحروب في العراق. لفت نظري انتشار هذا الاسم بشكل كبير بين عدد غير قليل من طلابي العراقيين. ووجدت أن تاريخ ميلادهم يقص أنهم كانوا دعوة أهلهم للسلام بطريقتهم، وأمنياتهم الطيبة لأبنائهم بطريقتهم أيضًا.
هكذا نرى كيف استطاع الإنسان أن يستخدم الأسماء من أجل الوصول للحياة التي ينتظرها لأطفاله. وفي كثير من الأحيان كان يستغل البركة كي يبارك أطفاله بأسماء المباركين وفقًا لثقافة كل مجموعة من الأفراد في مكان ما على الأرض. يظل الأطفال هم المستقبل، وطالما كانوا بخير نشعر أننا استطعنا أن نحفظ هذا المستقبل من الشرور التي ينتجها بعض البشر كلما امتدت بهم الحياة على الأرض، فنحن أيضًا ننتج الكثير من الخير نحاول به أن نجعل الحياة أجمل لمن نحب.
د. نهله الحوراني: أستاذة بقسم الإعلام – آداب المنصورة
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: سيناء نصرة فی أوقات
إقرأ أيضاً:
الخليل: الأدب لم يكن محايدًا في الحروب
قامة أدبية من روافد الفرات الذي لا ينضب إبداعه، تدفّق رقراقًا سلسبيلًا عذبًا سهل التناول إلى جانب باقي الروافد الإبداعية التي أنجبتها مدينة الرقة الضاربة في الحضارة، إنه الأديب إبراهيم الخليل الذي استطاع أن يهزم مرارة الحرب التي مرت على البلاد وبالأخص مدينته التي نالها الكثير من الخراب وتلونت فوق سمائها رايات المخربين الذين حاولوا محو بعض من حضارة عمرها مئات السنين.
الأديب إبراهيم الخليل كان شاهدا، وصمد بسنواته الثمانين بعد أن قدم للمكتبة العربية العديد من الروايات التي حملت النبض الراقي بكل تفاصيله الجميلة.
صحيفة “عمان” وفي بحثها عن المبدعين التقت الروائي إبراهيم الخليل الذي فتح قلبه لها رغم ما يعانيه من مرض.
بقاؤك في الرقة، وما نالها من خراب، هل بقيتَ لتكون شاهدًا على ما حلّ بها من خراب، أم أن الأمر لا يحتمل أن تكتب عنه؟
بقائي في الرقة اختياري لأكون شاهدا على ما يجري من عنف وقسوة، وممارسات غير إنسانية، وكأن في ذلك أشياء تعزز ما أكتبه، وخاصة في الجنس الجديد العابر للأشكال الذي يحتاج إلى أدوات جديدة وعالم جديد.
عانيتَ في المحنة السورية، وحزنتَ لما حلّ في مكتبتك، ما شعورك وقد رأيتَ كتبك تحترق، وكيف تصوّر مغول العصر، وهل ذكّركَ ذلك بأحداث مشابهة؟
شعرت بمعنى الخراب، ومعنى أن يكون الكتاب هدفًا، إن الكتاب هو الأصابع التي احترقت، وهي تحاول أن تكون شاهدة على ما جرى.
تحول الحبر لدينا إلى حريق كبير، وتحولت الكتب إلى مادة محترقة، في رمادها كمٌّ هائلٌ من الجهد والمعرفة.
لقد مر التتار من قبل بالرقة، وقرأت عن ذلك، لكن التتار اليوم أشد همجية وقسوة، وكان الكتاب من ضحاياهم، إضافة لما أملكه من كتب نادرة ولوحات ثمينة، إنها جنى العمر ذهبت هباءً على يد المتوحشين الجدد.
ذكرني هذا بما حلّ في بغداد وحبر كتبها الذي لوّن ماء دجلة باللون الأزرق.
هل يستطيع أن يكون الأدب شاهدا على التحولات التي عصفت بالبلاد؟
بالتأكيد، وإلا ما معنى ما جرى، الأدب كان شاهدا، ولكن عند قلة صادقة، وكان تابعا للسياسي وخاضعا للرقابة عند كثيرين، بحيث كتبوا ما يريده السياسي، وبما يناسب التاريخ الذي يصنعه الأفراد، ومع ذلك فالحرب سترفد التوجه الأدبي لفترة طويلة كما رأينا في آداب الأمم التي تعرضت لمثل هذه الحروب والنكبات، ولا مجال إلا للكتابة عن ذلك، والكتابة مرة أخرى تعني إعادة صياغة الإنسان من جديد ليكون أكثر إنسانية وإحساسا بما يجري في هذا العالم الذي أصبح قرية كبيرة، ونحن نصرُّ على ذلك.
هنا أسأل، هل واكب الأدب ما يدور في عالمنا العربي من أزمات وحروب؟
الأدب لم يكن محايدًا في نقل ذلك، وخاصة الأدب الذي عالج مشكلة السجون السياسية.
أتابع ما يجري خلال الأزمة، وأنا مع تصوير ما جرى، وما يجري، ومن لم يتعلم من الحرب فلن يتعلم أبدا، وأخزّن في الذاكرة لعل ذلك التخزين يجد فرصة للظهور يوما.
مقولتك: “يجب أن يفصل الكاتب بين أدبه وموقفه السياسي” أليس من حق الكاتب أن يعيش ما يمر به؟
هناك إحراج في السياسي والأدبي، هذا الإحراج يكون الكاتب معه أحيانا معبّرًا عن أيدلوجية يشارك فيها، وأحيانا يعبر عن جانب أبعد من ذلك هو الجانب الإنساني، فنحن مجموعة أقوامية مختلفة المشارب والأهواء والمعيشة، نتكامل بتوحدنا وتشكيل لوحة جميلة كقوس قزح متعدد الألوان يبشّر بمطر خصيب.
وأنت تتابع المشهد الثقافي السوري، هل كان ذلك المشهد فاعلا أو منفعلا خلال الأزمة السورية؟
تابعت هذا المشهد وعشته، ولم أغادر المكان، ورأيت كل شيء، الاضطهاد باسم الدين وباسم أشياء أخرى، وحتى الآن يحاول إعطاء بعض الإشارات، ومع ذلك لا يمكن الحكم عليه والكتابة عنه إلا بعد حين، الكتابة السريعة عنه انطباعات آنية لا تصوّر الحقيقة، نحتاج إلى أقلام صادقة ومحايدة حتى لا نقع في فخ الترويج لجهة أو فكرة معينة، يجب البعد عن الأيدلوجيات، ونختار الإنسانية، فهي ملجؤنا الأخير.
أجل، فالكتابة عن الحرب تحتاج إلى زمن على مرورها، ونرى في تجربة السوفييت مثالا على ذلك في الحرب العالمية، ونحن نريد لهذه الحرب ألّا تمر دون أن نتعلم منها، فالتعلم ضرورة واجبة خاصة في بلاد الشام والبلاد المشابهة لها.
هل لديك موانع من الكتابة عمّا جرى في الرقة، أم أن للعمر دلالاته؟
ليس لدي موانع للكتابة، وما جرى في الرقة من أمور تنافي الجانب الإنساني والواقع، وفي الحقيقة كان ما يجري لا اسم له في قاموس التاريخ البشري لشدة ما يحمله من سطوة وعنف، وتخريب للبشر والشجر والحجر.
أما العمر فهو وازع يدفعك إلى أن تكون صادقا فيما تكتب، وحكيما فيما تنقل.
المكان ثيمة أدبية، ماذا تعني لك المدن؟
الرقة هي المكان، وأحيانا يكون المكان هو الحامل الأساسي للنص بحيث يقوده إلى مصيره، والمكان واللغة والسرد أعمدة النص، وشرطه الأساسي لكي يحقق نصا أدبيا يحمل إرث المكان، وفي الرقة نحن بحاجة إلى هذا الإرث، بل والكشف عنه لأنه غنيّ ومعبّر بكل ما فيه من سطوة وحضور في حياة الناس وتطلعاتهم إلى حياة أجمل، وفي زمن يحاول الكاتب فيه القبض على الجمال للدفاع عن الجمال في مواجهة القبح، ومن هنا ليس المكان فقط ما نريده ككتاب بل نريد إعادة اكتشافه من جديد؛ لأنه هويتنا الأساسية خاصة، ونحن على الأطراف المهمشة التي تدخل حديثا المشهد الثقافي بكل ما فيه من زخم، وبكل ما في هذا المكان من إرث.
إضافة إلى ذلك فالمكان مفردة تعطي قوة وخصوصية للنص في منطقة عاشت مهملة ومهمشة في الشمال السوري، والمكان يكسبها شيئا من الهوية لتستطيع الدخول إلى المشهد الثقافي بقوة، وتنزع عن المكان صفة التغييب، وتعطيه حق المشاركة في صنع الأحداث والتاريخ، حتى لا نكون غائبين عنهما.
وكانت دمشق هي المدينة الثانية في حياتي، وظهرت في كتاباتي بجوار مدينة الرقة، ولا عجب في هذا فقد عشت فيها فترة، وتعلمت فيها وتعلمت منها سبل الحياة الجديدة، ثم عدت إلى الرقة حاضنتي التي لا أستغني عنها حتى في أيام الحرب.
ودائما للمدن عاشقوها، وأنا من عشاق الرقة وحضورها في كتاباتي يعطيني حالة متفردة بعيدا عن الفكر البري والنظر للأشياء بعين واحدة.
الكاتب ابن بيئته، ومن خلالها ينفذ الكاتب نحو التفرد ونيل الجوائز، وقد كتبتَ عن البيئة البدوية والصحراوية، هل يعد هذا من باب الوفاء للبيئة، وهل استطعت تقديم عالم البداوة المشوق للقارئ؟
ليس من باب الوفاء، بل من باب الإخلاص للمكان، ومحاولة الكشف عن الأقوامية التي يعيشها، وهو تصالح واندماج مع جانب كبير وواسع وإنساني، وقد كتبت هذا ضمن مشروع أنا اخترته، وهذا المشروع أقوامي، فكتبت عن العرب والأرمن والكرد والبدو، وأعتبر هذا التنوع خصيصة من خصائص أدبي تحمل رسالة أكثر من التعبير فقط، فنحن عبارة عن فسيفساء، لو سقط جزء منها لتشوهت.
وما قدمته يهم القارئ الذي يعيش الواقع، وليس من أجل الجوائز، أو التفرد، فالمكان يعنيني وتفاصيله أكثر مما تهمني الجائزة، وإذا كان هناك تفرد في الكتابة، فليس همه الجائزة بقدر ما يهتم بالواقع الذي أجده رابطا بيني وبينه جعلني أعشق المكان، ولا أغادره رغم الإغراءات الأخرى التي تتيحها الغربة علما بأن لدي فيزا دائمة إلى أمريكا التي زرتها في برنامج “فول برايت” ولكنني لم أغادر بيئتي.
هناك من استنكر عليك الواقعية، ومن التقط هنّات سردية في “حارة البدو”، أليس من حق الكاتب أن يكتب بما يليق بعوالمه، أم أن هذا النقد هو من “عداوة الكار”؟
مسألة النقد مسألة متشعبة وذات شجون، ويطول الحديث عنها، ولكنني أقول: تجربة النقد في بلادنا متواضعة رغم الإرث الباذخ في الكتابة على عكس المغرب العربي الذي جاور أوروبا، وأتقن النقد أكثر من بقية الأجناس الأدبية، وهذا حكم الواقع الذي يريد للكتابة هذا المسار رغم الأصوات الجديدة، وإن المصطلح النقدي عندنا لا زال بسيطا لم يواكب النص، ولم يعبر عنه بحرفة وشفافية، ومع ذلك لا نلوم من يعيش على قدر فهمه المحدود، والكتابة عن الواقع ليست سهلة، تحتاج إلى شجاعة، وأدوات فاعلة، لا إلى فهم بسيط مسطح، والمشكلة أن الواقع عند بعضهم ملكية خاصة، والكتابة عنه فضيحة، علينا ألا نعيش على الفضيحة، لكن نصورها إن وجدت.
قدمتَ في كتابك “سيناريوهات الجسد: نصوص عابرة للأشكال” على أنه أشكال مبتكرة قلت عنها إنها ما بعد الحداثة، ماذا أردتَ أن تقول من خلال هذه السيناريوهات، وماذا تقصد بعبارة ما بعد الحداثة؟
“سيناريوهات الجسد” هو استكمال لمشروع التجديد، والمقصود بالسيناريوهات هو لغة الجـسد، خاصة عند المتصوفة، ونحتاج إلى عالم جديد ووعي جديد ولغة أخرى، تخدم هذا المنحى التجريدي لكي يكون ذلك الأمر واقعيا، ومن عناصر ذلك: تجاور المتغايرات وتفجير اللغة والاعتماد على التناص، والإشارة الصوفية والتنوع وهو كل شيء لا ينحاز إلى شيء، إنما الأدب هو الهم الأكبر له، فنحن في الأساس هو من فجر اللغة على يد السيوطي وابن جني، وتوقف ذلك الجهد الرائع.
أما ما بعد الحداثة فهي محاولة لتطوير تجربة الجديد؛ لأن هذا الجديد ينبع من واقع عرف الابتكار، وخاصة في الأدب، والبحث عن عالم جديد، ونحن تعلمنا من إرثنا في ألف ليلة وليلة هذا النزوع الجميل الذي نريده جديدا، ففي ألف ليلة وليلة كل أجناس التجريب، واستخدام الغرائبية التي شاعت فيما بعد في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
لماذا توجهت إلى الكتابة الصوفية، وبمَ أفادك هذا التوجه؟
الصوفية في الإسلام وفي التراث الأدبي من أكثر الجوانب التي ظلمت؛ لأن فيها التجديد الذي نحتاجه، ومع ذلك لم تقف عنده، ولم تتعامل معه بما يليق به، بل العكس قدمت النص الجديد، والشهداء الجدد كالحلاج والسهروردي، وهي جانب يغذي نزعة التجديد عندي، وكان لها اهتمام كبير عند الأدباء الكبار مثل آني شيميل وسواها.
بدأتَ بالشعر ثم القصة وجددتَ فيها، ثم تخصصتَ بالرواية، لماذا هذا التنوع، وهل هجرتك القوافي لتتجه نحو السرد؟
التنوع يأتي من التجريب، وكان الشعر يليق بالمكان الريفي، وبعد أن عشت فترة في دمشق اتجهت إلى الرواية، فالمكان المركب يحتاج إلى أدب مركب، أي إلى الرواية، وهي قصيدة القرن الحادي والعشرين، وهي اختياري الأخير.
لك تجربة شعرية، وتشاركتَ مع أحد الشعراء بديوان شعري، حدثنا عن هذه التجربة؟
كان هذا في البداية الأولى، وتحقق في ديوان يعتمد على التجديد، وهو مشترك بين شاعرين، وهذا الاشتراك بين أديبين قديم، نجده عند محمود درويش ومعين بسيسو في قصيدة بيروت، وعند العجيلي مع أنور قصيباتي في رواية ألوان الحب الثلاثة، وعند جبرا إبراهيم جبرا مع عبد الرحمن منيف.
هذا يبشر بمنهج جديد في الأدب، والأدب حركة، والحركة ولود، والصمت عاقر.
تم تحويل روايتك “الضباع” إلى فيلم سينمائي، هل كان الفيلم مخلصا للرواية؟
حوّل الرواية إلى فيلم المخرج مصطفى الراشد، وحمل الفيلم عنوان “خط المطر”، وهو من الأعمال التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما، وقد كانت بحاجة إلى دعم مالي أكثر، لذلك تم اختصار بعض المشاهد خاصة (لعبة السكارات) التي تعبر عن التراث اللامادي في حياة منطقة البليخ، ومع ذلك تظل هذه التجربة مهمة، وتشير إلى الشمال المهمش في عالم يحكمه المركز.
وأنا مع الرواية حين تتحول إلى السينما، فهذا التحول يجعل الرواية مرئية، وتكسب جمهورا جديدا يضاف إلى جمهورها القارئ، وهي تخفف النبرة السياسية في الرواية المعبرة عن الخيبة بالوحدة بين مصر وسوريا، تحولت الرواية من النخبوية، إلى الشعبوية السينمائية، بعد أن تم إسقاط ماهو سياسي منها.
حضرتْ المرأة في كتاباتك، كيف تنظر لها؟
كتبت عن المرأة المقيمة والعابرة كالمرأة الغجرية في رواية “الهدس”، وفي مختلف حالاتها وأعمالها، فالعمل الخالي منها يكون نهرا بلا ماء، فكانت حاضرة في كتاباتي، وهذا الحضور أعطى العمل جمالية يحتاجها مع إثراء ضروري للنص، ومكمل لشروطه في الشخصيات.
عندما تذكر الرقة يذكر العجيلي، هل تشعر بالغبن أنت وباقي أدباء الرقة الذين تتوارى أسماؤهم خلف اسم العجيلي كونه أضحى عنوانًا للمدينة، أم أنه مدعاة للفخر، وأنتم امتداد له؟
لسنا امتدادا لأحد، وإنما نعبر عن مرحلة غير مرحلة العجيلي الذي امتازت كتابته بالغيبية والعشائرية والتخلف، وكل ما سبق لا يليق بالجيل الجديد.
لا أشعر بالغبن، فأنا عبرت عن الرقة في عالمها الجديد، وليس العالم البعيد المتخلف، ولا تجد أي أديب “رقاوي” تأثر بالعجيلي من بعيد أو قريب، أو توارى خلف اسمه، أو كتب على نمطه.
العجيلي أضحى قيمة أدبية لدارسي الأدب في بداياته، هناك أجيال تخطته في الناحية الفنية الأديبة والأشكال الثقافية. ومع ذلك لا ننكر وجوده، وإلا لكان هذا الرأي تعسفا.
كيف يمكن أن تنجح الكتابة الروائية في الأطراف وبعيدا عن المركز؟
حين تنفرد، وتقرأ بشكل جيد، فالقراءة جانب مهم للقراءة، وهي المعين المفيد عليها، وبعيدا عن التأثر الطاغي، والكاتب الحقيقي هو الذي يعطي صورة صادقة ومتوازنة عن واقعه، ولا يستعير أصابع الآخرين في كتاباته.
الرقة حاضرة ومدينة عامرة بالثقافة، وفيها من الأصوات الأدبية الكثير، لكن حضورها خافت، فلماذا؟
الرقة عاصمة القصة القصية باعتراف الجميع، وهي حاضرة ثقافية ومدينة ولود، وقدمت أسماء كبيرة أعادت الألق للمشهد الثقافي، لكن بعضهم رحل، وآخر هاجر خلال الأزمة، وثالث ترك الكتابة، ولم يبق فيها اليوم إلا العدد القليل.
وفي مخزونها الكثير مما يحتاجه الكاتب، ووظفه بعضهم في الرواية الجديدة، وفي النزوع إلى التجريب، وكشف الأعماق البشرية التي يعنى بها الأدب.
وغاب فيها الأدب النسوي، وهذه مسألة عامة في سوريا، وإن كان الخفوت من نصيب أكثر الأسماء الرقاوية فهذا يعود لبعد المكان “الرقاوي” عن المركز وتضييق الرقابة عيها، ومع ذلك تعد اليوم وسائل التواصل الحديثة وسيلة فعالة لإثبات حضورهم.
الأديب الأجنبي يكتب بصراحة وبدون مواربة، وأحيانا عن نفسه وبيئته متجاوزا المحرمات في الأدب، هل لامست هذا البوح. أم أن العربي محكوم بمجتمعه وأهله، ولا يكتب إلا في السياق العام؟
يختلف الأديب في الغرب عنا، فهو غير ملزم بالقيود الاجتماعية ولا تحكمه نظم معينة، ولا يخشى الرقابة على عكس ما نحن فيه، حيث تحيط بنا المدينة والعشيرة والأصدقاء والقيود الكثيرة، و في عدد من الأعمال حولت البوح الذي تقصده، ومن خلال الجمالية والكشف الجديد لأترك لتلك الأعمال القبول اللائق بها، وأن تكون خارج مرمى الرقابة في الطريق إليها. وكنت دائما أبحث عن الجديد في التراث والحياة لكي أكون مواكبا لما أحمله في داخلي من أعمال أخرى.
غالبا ما يعمد الأديب إلى تجسيد السيرة الذاتية عبر أعماله بشكل أو بآخر، هل فكرتَ بفعل ذلك، أم أن الأمر لا يستحق؟
يعد الكتاب صورة للكاتب في الفهم ومعاملة الواقع لأن الكاتب هو الذي يصنع الكتابة، فهي صناعة أحيانا، أما القارئ فهو شاهد آخر، أو مبدع بشكل ما، وقد يكون رأيه يغاير رأي الكاتب، وكتب السيرة خاصة تكون للسياسيين والقادة ومن شابههم، أو من الأدباء الذين لهم مخالطة بهم، ولا تعنيني كتابة السيرة بقدر ما يهمني تقديم أعمال قادرة على أن يستلهم منها القارئ ما يفيده ويمنحه صورة صادقة عن سيرتي وهو الذي يحكم عليها.
هل قلتَ ما تريد في ظل وجود الرقيب؟
قلت بعض ما أريد، فعالمنا ليس عالما مفتوحا بل تحكمه مسألة مهمة هي السياسي والأيدلوجي، هما يريدان تبعية الأدب لهما، وليس شريكا لهما في بناء العالم الجديد بكل أدواته التي تؤسس لرؤية أجمل، ومحاربة القبح في حياتنا. والرقابة تحد من الإبداع.
بقيتَ في الرقة بعيدا عن أضواء العاصمة وشهرتها، فهل ندمتَ على ذلك؟
سكني في الرقة اختياري، مع أن دمشق قدمت لي الكثير من أشكال الحياة العصرية، ولم أندم على اختياري لأن الرقة تظل المدينة والأنثى والنهر والنص، وهل يوجد أجمل من ذلك؟
ماذا جنيتَ من الكتابة؟
الإحساس بالواقع، وبكل ما فيه من أحزان وأفراح، فهو عالمنا، ولا يمكن إلغاؤه، والكتابة تشعرك بالوجود، وتحقيق الذات والاكتشاف حتى لا يضيع هذا الإرث الناجز في متاهات النسيان.
من هو ملهمك أو شجعك على الكتابة؟
تحمل الكتابة قيمتها في داخلها، وهذا أكبر تشجيع وأكبر انحياز للإنسانية؛ لأن أهم ميزات الكاتب الصدق، فالنفاق لا يليق به، ولا يليق بالكتابة.
ألهمني المكان والتراث لأن فيهما القيمة الحقيقية للإنسان، ومن لم يتسلح بذلك يعِشْ على الهامش.
المكان أوحى لي بالكثير، وهو مصدري الأساسي، وبيئتي غنية بالتراث اللامادي، ومن الطبيعي استلهامه أو استحضاره، أو الإشارة إليه لكشفه وإكمال نواقص المشهد الثقافي.
ما طقوس الكتابة لديكَ؟
حين أكتب الرواية أقرأ الشعر، وحين أكتب الشعر أقرأ الرواية، وحين لا أكتب شيئا أقرأ للقراءة، وأستحضر حياة الناس، فكل عجوز “رقاوية” هي صندوق للحكاية، فيه ذخائر جميلة، وفيه محفوظات مهمة.
ماذا تقول عن هؤلاء الأدباء الرقيين ؟
*عبد السلام العجيلي: كتب الكلاسيكية المبشرة بسكون الواقع وجموده.
*خليل جاسم الحميدي: كان وفيا للقصة القصيرة، ومجددا فيها.
*عمر الحمود: كاتب متابع موهوب، يكتب القصة والرواية والنقد، وأثبت حضوره بأسلوبه الخاص.
*إبراهيم الجرادي: شاعر الكلمة الجديدة، والريبورتاج الشعري.
*أحمد الحافظ: ينهج نهج الحداثة بدراية وخبرة.
*باسم القاسم: شاعر يقارب الحداثة، ولا زال.
*سعيد سراج: مجتهد في محاولاته، وهذا يحسب له كشاعر صورة، وليس مفردة.
*خليل إبراهيم الخليل: شاعر نهَجَ نهْجَ القدامى بروح عصرية.
*عبدالله أبو هيف: خلق جسرا للعبور بين النقد والقصة القصيرة.
*حمدي موصلي: كاتب مسرحي ومخرج، يمثّل هوية الرقة المسرحية.
جريدة عمان – حوار: بسام جميدة
إنضم لقناة النيلين على واتساب