هل أصبح الأمر سمة من سمات حياتنا المعاصرة؟ لا أحد يتقبل اليوم الدروس الأخلاقية. وبرغم ذلك، لم يعرف التاريخ البشري حقبة مليئة بهذا القدر من «علم الأخلاق» وتعاليمه كما عصرنا. تبدو رؤية العالم «الإتيقية»، تلك التي أطلق عليها هيغل اسم «الروح الجميلة»، سخيفة بالنسبة إلى كثيرين منّا. غالبا ما تُوجه إلينا، وباستمرار، ملاحظات بأننا لا نعتمد «الممارسات الجيدة» في حياتنا المهنية أو العامة، أو أننا نحتاج اكتساب «المهارات المناسبة» من أجل منع «الاعتداءات الصغيرة» (وهي مجازر في واقع الأمر) التي شعرت بها الأقليات المتعددة أو التي يمكن أن تشعر بها مجددا؛ وأن علينا أن نصحح ونعالج جميع أنواع الظلم، بما في ذلك تلك التي ارتكبها أسلافنا أو التي ارتكبتها البشرية جمعاء أو حتى تلك التي يمكن أن نرتكبها من خلال عدم تبني هذا الموقف أو ذاك.
وصلنا إلى مرحلة نشعر فيها بالخوف، فيما لو استخدمنا مثلا كلمة جيد؛ لدرجة أننا نتمنى لأنفسنا «يومًا جميلا» بدلا من يوم جيد، من دون أن ندرك أن تلبية متطلبات الجماليات في الحياة اليومية أصعب بكثير من تلبية متطلبات الأخلاق. باختصار، من ناحية، أصبحنا نيتشويين برفضنا الأخلاق، ومن ناحية أخرى، ما من مرة، انهمكت الشعوب في «ممارسة» الأخلاق بالقدر الذي تمارسه الآن. لقد أصبحت الفضائل، كما قال شسترتون، مجنونة.
***
في ثلاثيته الروائية المدهشة «السائرون نياما» (1930، والأصح «المُسرنمون») تُرجم مؤخرا إلى العربية الجزء الأول منها ــ الرومانسي ــ وصدر عن دار «أثر» (نقلته هبة شريف) وصف الكاتب النمساوي الكبير هرمان بروخ عالما خاليًا من القيم وبدايات ما يمكن أن يسميه جنون الجماهير. إذ يبدو تاريخ العصر الحديث، بالنسبة إليه، بمثابة عملية انحطاط للقيم. فأجزاء الرواية الثلاثة، هي في الواقع ثلاث خطوات على درج الانحدار: الأولى، الرومانسية؛ والثانية الفوضى؛ والثالثة، الواقعية؛ كشف بروخ عن هذه المفارقة العظيمة: كلما ازداد اعتزاز العالم الحديث بالعقل، زاد تلاعب اللاعقلاني به.
لقد تصور المسرح المروع الذي تلعب شخصياته فوق خشبته بكوكبنا. فمن خلال مغامراتهم (تدور أحداث العمل بين عامي 1888 و1918)، نجح في الكشف عن «ما وراء كواليس اللاعقلاني» الذي «تحكم منه الحروب والثورات ونهاية العالم»، كما يجد كونديرا الذي كان يعد بروخ مع روبرت موزيل معلميّه في فن الرواية. من هنا، ثمة سؤال: ما هو العالم الخالي من القيم؟ هل القيم موجودة في العالم؟
***
كل عمل هيرمان بروخ عبارة عن تأمل في انحدار القيم وتدميرها في العالم الحديث. بالنسبة له، لا يتعلق الأمر بالقيم الأخلاقية فحسب، بل بالقيم الجمالية والمعرفية أيضا، على المستوى الفردي والجماعي. تُظهِر روايتاه العظيمتان «السائرون نياما» و«غير المسؤولين» أفرادًا نموذجيين فقدوا كل إحساس بالقيم واندفعوا بتهور إلى الحلول الخيالية، بينما تصور روايته «موت فيرجيل» فقدان القيم الجمالية. أحد الموضوعات الرئيسية عند بروخ هي العلاقة بين الفن والمعرفة.
هذا ما يشكل محور مجموعة مقالات كتابه «الخلق الأدبي والمعرفة» والذي يتضمن بشكل خاص مقالته الكبيرة عن «الكيتش» (الفن الهابط)، الذي يشكل بالنسبة له حالة من الارتباك بين القيم، ومن ضمنها حالة الفئات الأخلاقية والقيم الأخلاقية والفئات الجمالية.
موضوع تفكك القيم هذا يسري في كل الأدب النمساوي والأوروبي، من هوفمانستال إلى كراوس، وموزيل، وكونديرا في «السائرون نياما» هناك نوع من الأطروحة حول تدهور القيم، المدرجة في جزء الرواية عن هوجويناو، الذي يمثل الواقعية والحقائق. هذا هو الاتجاه الفلسفي الذي اتخذه بروخ في مقالاته (جمعها في عدة كتب)، إذ تتناول جميعها، بشكل أو بآخر: القيم في «منطق عالم في حالة خراب»، يكشف العلاقة بين كل مشروع للمعرفة وبين البحث عن الحقيقة وموقع القيم. يرى أن فعلَ التفكير وأسلوبَه يحملان قيمًا. فعلى المستوى التاريخي، أفسح عالم القيم الذي يعد الله تجسيده الأسمى الطريق أمام عالم تختزل فيه القيمة إلى الواجب المهني.
يقترح بروخ في «ملاحظات حول التحليل النفسي من وجهة نظر نظرية القيمة»، توفير «تكملة منهجية لبناء النموذج النفسي الفرويدي»، من خلال مراجعة التعارض بين دافع الموت ودافع الحياة في شكل مبدأ خلق القيم من الذات. أما «المعرفة من خلال الفكر والمعرفة من خلال الشعر»، فيدور حول أحد أهم موضوعات عمل بروخ -جوته بالتحديد- وهو الوحدة الأساسية للمعرفة الأدبية والمعرفة العلمية، وهما «فرعان لجذع واحد، جذع المعرفة الخالصة والبسيطة». أما «الوحدات النحوية والمعرفية»، فعبارة عن مناقشة حول طبيعة البداهة في المنطق والرياضيات.
يتمتع بروخ، مثل موزيل، بثقافة فلسفية وعلمية واسعة، لكن أسلوبه الفلسفي بدا غامضا يومها وتأمليا، ووُصِف بأنه جرماني (بالمعنى السيئ للكلمة)، وهذا ما أثر على «وضوح هذه الأفكار العادلة». قد يجد المرء عبثًا في هذا الكتاب تحليلًا لمفهوم القيمة نفسها: هل هي واجب وأعراف، أم خير وبديهية؟ من الواضح أن بروخ تأثر بنيتشه، ولكن أيضا بمدرسة بادن وفلاسفتها الذين ناقشوا مفهوم «الصلاحية» (Geltung) وطرحوا سؤال ما إذا كان المنطق، مثل الأخلاق، علمًا معياريًا.
يعارض بروخ المفهوم التجريبي المنطقي الذي يختزل القيم في التعبير عن العواطف، ويدافع عن المفهوم المعرفي. ويحمل العلم وكذلك الفن والأدب هذه القيم. إن تراجعها في العالم المعاصر هو تراجع العقلانية والمُثل الجمالية. تتمثل أصالة بروخ في أنه، مثل موزيل، الذي غالبًا ما يُقارن به، يجمع بين التعبير الرومانسي والفلسفة، كما أنه، مثل إلياس كانيتي الذي صاغ نظرية الجنون الجماعي.
***
هل فعلا أن منطق العالم في حالة خراب؟ قد تكون ثمة إجابة ممكنة. فكما أن الشر يشمل الكذب، فإن الصدق يشمل الخير بدوره. ومثلما تبدأ المعرفة بالتجربة، ولكنها لا تحكمها، فإن الفعل الأخلاقي -حتى أي تصرف بشكل عام- يبدأ بالقلق، ولكن لا يمكن أن يحكمه - فهو لا تحكمه سوى الحقيقة فقط: القيّم الفعلية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عولمة النجومية وفصام النخب العربية.. دور القيم الذوقية والوجودية (1)
نعالج في هذه المحاولة مسألتين تعللان ما سننسبه إلى القيم الذوقية (مجال الفنون) والقيم الوجودية (مجال ما بعد التاريخ أو الدين ومجال ما بعد الطبيعة أو الفلسفة) التي هي موضوع هذه المحاولة بالقصد الأول وما سننسبه إليهما من دور رئيسي في أنواع القيم الثلاثة الأخرى (الرزقية والعملية والنظرية وتفاعلاتها المتبادلة) التي هي موضوعها بالقصد الثاني.
وسنعتمد في علاجنا منهج التحليل التراجعي من العلة إلى المعلول أو من الشرط إلى المشروط لأن القصد هو تشخيص الداء ووصف الدواء علنا بذلك نسهم في التنبيه إلى بعض شروط الشفاء:
1 ـ المسألة الأولى نظرية خالصة: لماذا يعد تحرير القيم الذوقية والوجودية شرط استئناف الحضارة العربية الإسلامية دورها التاريخي الكوني الإيجابي وشرط تحرير الإبداعات الثلاثة الأخرى تقديما للإبداع الرمزي فيهما على الإبداع الفعلي للوجود الإنساني من حيث هو تحقيق شروط استخلاف الإنسان النظري المجرد والمطبق واستخلافه العملي المجرد والمطبق؟
"لماذا يعد تحرير القيم الذوقية والوجودية شرط استئناف الحضارة العربية الإسلامية دورها التاريخي الكوني الإيجابي؟ وشرط تحرير الإبداعات الثلاثة الأخرى...؟"2 ـ المسألة الثانية عملية خالصة: وإذا كان ذلك كذلك فكيف نحرر القيم الذوقية والوجودية من سلطان القيم الرزقية والعملية ومن الدورة الجهنمية التي فرضتها عليها عولمة النجومية التي سيطرت على النخب العربية إلى حد بات فيه جل النخب العلمانية لا يستحون من العودة إلى الوطن راكبين الدبابات الغازية بعقلية المستعمر الذي يخرب ويدمر سواء بمنطق اجتثاث الصحوة الإسلامية المزعومة ظلامية (الجنرالات وسعدي سعد في الجزائر) أو اقتلاع النهضة العربية المزعومة دكتاتورية (عملاء الاستعلامات وجلبي في العراق)؟
فالمعلوم أن الكلام على اعتبار التحرير بهذا المعنى شرطا في استئناف الدور التاريخي الكوني الإيجابي يفترض أن تحرير ضربي القيم التي هي موضوع المحاولة بالقصد الأول هدفه تحديد الغايات. أما تحرير الضروب الثلاثة التي هي الموضوع بالقصد الثاني فهدفه تحرير الأدوات. ويمكن للتحريرين الغائي والأداتي أن يمكنا الأمة من استئناف دورها الكوني لارتباطه بالرسالة التي أسست وجود الأمة ذاته وبقائها فضلا عن المحافظة على الدور الكوني حتى في أضعف مراحل تاريخها.
كما أنه من المعلوم أن الكلام على كيفية التحرير يفترض أن شروطه التاريخية قد أينعت وحان قطافها. فلم يبق إلا الجهد الفكري لتأويلها تأويلا يجعلها تحول كل التناقضات التي تعوقها حاليا إلى محفزات. ورغم أنها من حيث الطبيعة مجرد عوارض خارجية فإنها من حيث الوظيفة أصبحت أهم المكبلات التي تعوق محركات الوجود العربي الإسلامي. وهدفنا أن نحولها إلى محفزات. ذلك أن النخب يمكن أن تكون من المحركات إذا توفرت فيها شروط التحرر من الاستيلاب لتصبح مبدعة في مجالات القيم الخمسة فلا تكون النجومية النخبوية مستندة إلى آليات مغشوشة تعطي الريادة والقيادة لمن غلبت عليهم البلادة والقوادة.
وطبعا فهدف بحثنا هو تعيين الشروط التي نراها متحققة وتحديد كيفيات تأويلها وترتيبها بصورة تحقق التحرير عامة وتحرير النخب بصورة خاصة. إن تكبيل القيم الذوقية وتكبيل القيم الوجودية متواليان في الظهور التاريخي بعكس تواليهما في سلسلة العلل.
فتكبيل القيم الوجودية هو الذي أفسد الثورة المحمدية بإفساد القيم الذوقية والقيم الرزقية والقيم النظرية والقيم العملية كما أثبتنا في غير موضع. وقد ركزنا هنا على القيم الذوقية والوجودية لأنهما موضوع المحاولة الرئيسي.
فهدفنا الأول فيها هو فهم علل إخراج الفنون الجميلة من حياة الأمة الروحية ومن فكرها. ما العلة التي جففت ذوق الوجود الحساني فلم يبق عند المسلمين من الأذواق المصاحبة للبعد الظاهر من الحياة إلا الذوق الغذائي والجنسي من غير ملطفاتهما الفنية؟ لِمَ ارتد العربي والمسلم إلى الغرائز الحيوانية الفجة التي لم يهذبها فن جميل ولا ذوق سليم عدى بذاءات المترفين؟ ولم بات المسلم عامة والعربي خاصة غاطسين في شبه حياة بهيمية لا تتجاوز الأكل والسفاح كما يتبين من حياة مترفيهم الذين ذبل منهم الذوق والعقل وانتفخ منهم البطن والكفل؟
وهدفنا الثاني هو اكتشاف العلة التي أخرجت كل التجارب الروحية من فكر الأمة النظري (الديني والفلسفي) ومن حياتها الروحية فجف ذوق الوجود الوجداني ولم يبق من الأذواق ما لا يرقى للبعد الباطن من الحياة إلا نفس الذوقين وإن بالسلب بزعم التعفف عن الحياة المادية من غير ملطفات الشهوة الحيوانية السلبية في الفكر الصوفي المنحط فارتد الإنسان العربي والمسلم إلى عدمية الفعل التاريخي والاستسلام للامبالاة الوجودية التي يزعمونها خلوة صوفية وهي هروب من المسؤولية في تعمير الإرض شرط أهلية الاستخلاف فيها؟
"كيف نحرر القيم الذوقية والوجودية من سلطان القيم الرزقية والعملية، ومن الدورة الجهنمية التي فرضتها عليها عولمة النجومية التي سيطرت على النخب العربية...؟"لذلك فلا يمكن أن نتصور المسلمين قادرين على استئناف دورهم من غير حياة هذين النوعين من القيم. ومن اليسير أن يلاحظ القارئ الفصامين اللذين تعاني منهما النخب في الوطن العربي سواء أخدناه مفتت الأقطار بوصفها محميات الاستعممار كما هو الشأن في علاج هذه النخب الأعرج قضايا العصر من المنظور القطري العاجز أو أخذناه من منظور المجال الثقافي الواحد الذي شرع في التوحيد السلبي بينها بحسب منطق اللحظة التاريخية منطقها الذي يفرضه ما يسعى إليه العدو الأمريكي من توحيد لمجال استعداده لعماليق القرن الجديد بالاستحواذ على منابع الطاقة وثروات الأرض زرعيها ومعدنيها فضلا عن احتلال أفضل قاعدة أرضية قريبة منهم جمعيا . لكن تفسير هذين الفصامين لم ينل حظه من العناية والعلاج النظري لأنه لم يربط بما أصاب أسلوبي عمل الفكر البشري المضاعفين من عطل نتج عن التنافي بينهما من منظور أشباه النخب التي لم تغص إلى أعماق وحدة العقل المبدع رغم اختلاف الأساليب: أسلوب الفلسفة أو العقل ببعديه النظري (علوم الطبيعة) والعملي (علوم الأخلاق) وأسلوب الدين ببعديه النظري ( العقيدة ) والعملي (الشريعة).
والعلة الأساسية في إهمال هذا العلاج هي وهم التنافي بين هذين الأسلوبين والبدائل الزائفة الساعية إلى التخلص من ثنائية أسلوب الإدراك البشري: بالرد المتبادل بينهما الذي هو الحد الأدنى من نفي المردود للإبقاء على وحدانية المردود إليه.
لذلك فنحن نشرع في هذا العلاج آخذين مأخذ الجد الأسلوب الديني لتحديد القيم وادوار النخب المتكلمة باسمها رغم انتساب محاولتنا إلى الأسلوب الفلسفي. وهدفنا في المحاولة هو تفسير الآليات التي تتحكم في نجومية النخب وربطها باطارين قاهرين لا يمكن من دونهما فهم دور النخب عامة والنخب العربية الحالية خاصة لفهم علاقة الفصام الذي أصابها بآليات النجومية في الرأيين العامين العربي الإسلامي والأوروبي الأمريكي:
1 ـ أولهما هو إطار الحرب النفسية التي تعينت في استراتيجية الإعلام والتدخل الأمريكيين لتوجيه مؤسسات إبداع القيم ورعايتها وتبادلها في كل مجتمعات العالم عامة وفي المجتمعات الإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص.
2 ـ والثاني هو ردود الفعل في مجالي الإعلام وإصلاح مؤسسات إبداع القيم ورعايتها وتبادلها في مجتمعات العالم عامة وفي المجتمعات الإسلامية والعربية على وجه الخصوص.
وسنركز على تفسير الفصامين مقتصرين على النخب العربية نموذجا منحطا من النخب الإسلامية أولا ولمعرفتنا بتفاصيلها ثانيا فضلا عن كونها ما تزال النواة الرئيسية في الثقافة الإسلامية بسبب لسان القرآن حسب تصورنا لما بقي لها من دور في تاريخ البشرية الكوني. وذلك لعلتين موجبة وسالبة. وكلتاهما ليس للنخب العربية الحالية فيها يد.
فأما العلة الموجبة فهي دور الثقافة الإسلامية الناطقة بالعربية عامة ودور اللسان العربي خاصة في تراث كل المسلمين. ومعنى ذلك أن العلة الموجبة لا يدين بها دور الثقافة العربية في الثقافة الإسلامية بشيء للنخب العربية الحالية بل العكس هو الصحيح أي أن النخب العربية التي قد يسمع لها أحيانا لا يسمع لها إلا بقدر مواصلتها للثقافة الإسلامية الأولى. وتلك هي العلة في كثرة الطحالب الطفيلية من النخب العربية عامة والعلماني منها على وجه الخصوص الطحالب التي تتاجر بهذه الثقافة (كباعة الآثار المسروقة من المتاحف والمؤلفات من المكبات) بخطاب قابل للنفاق في السوق الغربية تأييدا للموقف الغربي من الثراث العربي.
"لا يمكن أن نتصور المسلمين قادرين على استئناف دورهم من غير حياة هذين النوعين من القيم... الفصامين اللذين تعاني منهما النخب في الوطن العربي... تفسيرهما لم ينل حظه من العناية."والمعلوم أنه لا أحد من الغرب يمكن أن يسمع لما يقولونه عن الفكر الغربي من سخافات لا تتجاوز ما يلتقتونه من سوق "الثيات الملبوسة أي الفريب. وسواء كان من يسمع لهم يدري أو لا يدري فإن ما يقولونه عن الفكر العربي أكثر سخافة مما يقولونه عن الفكر الغربي لكن تأييد الأحكام المسبقة يحقق بعض القبول لغير المقبول بحسب المعقول.
وأما العلة السالبة لأهمية النخب العربية والتي ليس للنخب العربية فيها يد كذلك فأمرها بين حتى للغافلين والمغفلين: إنها علة سعي أمريكا للاستحواذ على الوطن العربي لما فيه ولموقعه فضلا عن وجود إسرائيل. فاسرائيل وأمريكا لا تحاربان الأمة الإسلامية لأنها تعتبر النخب العربية الحالية تحديا فكريا أو علميا أو تقينا كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى النخب الأوروبية والصينية واليابانية والهندية. إنما التحدي علته أن العرب لا يزالون قلب العالم الإسلامي رمزيا رغم كون ذلك يحصل رغما عن أنوفهم (عروبة القرآن والسنة والتراث الديني الإسلامي) وماديا (كون الوطن العربي يوجد في ملتقى القارات الثلاث التي أبدعت كل الحضارات وكون محرك الحضارة المادي أو الطاقة جلها والرمزي أو المشاعر كلها توجد فيه).
ولعل ما قوى أثر هذين الإطارين الخاصين بالنخب العربية في حدود دورها في الثقافة الإسلامية فضلا عن هاتين العلتين ظاهرتان كونيتان لا مرد لهما ظاهرتان تمثلان في الوقت نفسه علامة منزلة الوطن العربي السلبية والايجابية في التاريخ الكوني:
1 ـ فأما المنزلة السلبية فيمكن استنتاجها من الحقيقة التاريخية التي بدأت بعد تكون الدولة الإسلامية. فكل القوى التي سعت إلى تأسيس نظام طغياني عالمي حاربت المسلمين عامة والعرب خاصة لأنها اعتبرتهم عائقا أمام مشروعها. ذلك أن تمكين الإسلام العرب والمسلمين من تحقيق دار الإسلام حيث هي الآن جعلهم رقما ضروريا في المعادلة التاريخية الكونية بحكم كونهم رقما ضروريا في ما يستمد من المكان وثرواته المادية والزمان وثرواته الروحية أي من معين مقومات الوجود البشري فضلا عن تعريف القرآن المسلمين بكونهم الشاهدين على العالمين وعدم اعترافه بالتفاضل بين الشعوب إلا بالتقوى (الحجرات 13) واعتبارهم أخوة (النساء 1) تحريرا للبشرية من العرقيات والطائفيات والطبقات وحتى الجنسيات لأنها من الآيات وليست من السلبيات.
2 ـ وأما المنزلة الإيجابية فيمكن استنتاجها من حقيقة تاريخية مناظرة للحقيقة التاريخية الأولى. فكل محاولات التحرر العالمية من الطغيان العالمي القادم من الغرب بدأت باستئناف العرب دورهم في تكوين قاعدة الصحوة الإسلامية المادية والروحية ( بدءا بالقضاء على بقايا الاستعمار البيزنطي المسيحي في ملتقى القارات الثلاث منطلقا لتكوين دار الإسلام الحالية وختما بالحرب مع أمريكا وتوسطا بكل ما حصل بين الحروب الصليبية وحروب التحرر من الاستعمار ). ذلك أن تحقيق رسالة الإسلام التحريرية يشترط أمرين يتألف منهما معنى الشهادة على العالمين بالجهاد من أجل:
1 ـ التصدي لإفساد الطبيعة (استغلال الطبيعة استغلالا فاحشا) وإفساد الثقافة (استغلال الثقافية استغلالا فاحشا).
"إن العرب لا يزالون قلب العالم الإسلامي رمزيا... رغم كون ذلك يحصل رغما عن أنوفهم... والعلة السالبة لذلك هي سعي أمريكا للاستحواذ على الوطن العربي لما فيه ولموقعه."2 ـ والتصدي للظلم والعدوان (حماية المستضعفين اقتصاديا) وللعنصرية والمفاضلة بين الشعوب في الأرض (حماية التعدد السلالي والثقافي).
وبذلك فإن بحثنا سيتألف من ثلاثة فصول متعددة الفقرات:
1 ـ أولها يمهد لمسألتي البحث فيعالج مقدمات التأسيس النظري لدراسة آليات تكون النخب عامة والنجومية خاصة تخصيصا بالنخب العربية في اللحظة الراهنة مع التركيز على دواعيها وأزوفها.
2 ـ والثاني يعالج آليات النجومية في أولى النخبتين المقصودتين بالذات في المحاولة أعني النخبة الوجودية (معاني الحياة وقيمتها) مع التركيز على توضيح نظرية مجالات القيم الخمس: مجال القيم الذوقية (الفنون الجميلة) ومجال القيم الرزقية (الاقتصاد) ومجال القيم النظرية (العلوم وتطبيقاتها) ومجال القيم العملية (السياسة والقانون وتطبيقاهما) ومجال القيم الوجودية (الفلسفة والدين).
3 ـ والثالث يعالج آليات النجومية في ثانية النخبتين المقصودتين بالذات في المحاولة أعني النخبة الذوقية مع التركيز على استخراج بذرات نظرية الفن الإسلامية من حيث إن الفن هو البعد الرمزي من الفعل التاريخي الشامل بأبعاده القيمية الخمسة التي سنشير إليها في الفصل الثاني من هذا البحث.