لجريدة عمان:
2025-11-21@18:29:25 GMT

منطقُ عالَم في حالة خراب

تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT

منطقُ عالَم في حالة خراب

هل أصبح الأمر سمة من سمات حياتنا المعاصرة؟ لا أحد يتقبل اليوم الدروس الأخلاقية. وبرغم ذلك، لم يعرف التاريخ البشري حقبة مليئة بهذا القدر من «علم الأخلاق» وتعاليمه كما عصرنا. تبدو رؤية العالم «الإتيقية»، تلك التي أطلق عليها هيغل اسم «الروح الجميلة»، سخيفة بالنسبة إلى كثيرين منّا. غالبا ما تُوجه إلينا، وباستمرار، ملاحظات بأننا لا نعتمد «الممارسات الجيدة» في حياتنا المهنية أو العامة، أو أننا نحتاج اكتساب «المهارات المناسبة» من أجل منع «الاعتداءات الصغيرة» (وهي مجازر في واقع الأمر) التي شعرت بها الأقليات المتعددة أو التي يمكن أن تشعر بها مجددا؛ وأن علينا أن نصحح ونعالج جميع أنواع الظلم، بما في ذلك تلك التي ارتكبها أسلافنا أو التي ارتكبتها البشرية جمعاء أو حتى تلك التي يمكن أن نرتكبها من خلال عدم تبني هذا الموقف أو ذاك.

ليس ذلك كل شيء. في الماضي، مثلا، كان علينا أن نقرأ «الروض العاطر» أو كتابات المركيز دو ساد في الخفاء؛ واليوم، نجد أن علينا قراءة نصر حامد أبو زيد وربما نجيب محفوظ وأبي نواس (وغيرهم بالطبع) بعيدا عن أعين الرقيب الذي لا يستطيع أحد أن يتكهن بما يجول في خاطره. من كل حدب وصوب، تنهمر علينا «التحذيرات الودية» لتذكرنا بالعودة إلى الصواب، لكن بدلا من أن «نُصفَع» على أيدينا أو على مؤخراتنا، لنقف في الزاوية وأيدينا مرفوعة مثلما كان يحدث للأطفال، في الماضي، الذين لم يحترموا الكياسة الطفولية الصادقة، تتكفل اليوم الإمبراطورية الأمريكية العظمى، مثلا، بقصف بلدان وتهجير شعوبها وإخفائها.

وصلنا إلى مرحلة نشعر فيها بالخوف، فيما لو استخدمنا مثلا كلمة جيد؛ لدرجة أننا نتمنى لأنفسنا «يومًا جميلا» بدلا من يوم جيد، من دون أن ندرك أن تلبية متطلبات الجماليات في الحياة اليومية أصعب بكثير من تلبية متطلبات الأخلاق. باختصار، من ناحية، أصبحنا نيتشويين برفضنا الأخلاق، ومن ناحية أخرى، ما من مرة، انهمكت الشعوب في «ممارسة» الأخلاق بالقدر الذي تمارسه الآن. لقد أصبحت الفضائل، كما قال شسترتون، مجنونة.

***

في ثلاثيته الروائية المدهشة «السائرون نياما» (1930، والأصح «المُسرنمون») تُرجم مؤخرا إلى العربية الجزء الأول منها ــ الرومانسي ــ وصدر عن دار «أثر» (نقلته هبة شريف) وصف الكاتب النمساوي الكبير هرمان بروخ عالما خاليًا من القيم وبدايات ما يمكن أن يسميه جنون الجماهير. إذ يبدو تاريخ العصر الحديث، بالنسبة إليه، بمثابة عملية انحطاط للقيم. فأجزاء الرواية الثلاثة، هي في الواقع ثلاث خطوات على درج الانحدار: الأولى، الرومانسية؛ والثانية الفوضى؛ والثالثة، الواقعية؛ كشف بروخ عن هذه المفارقة العظيمة: كلما ازداد اعتزاز العالم الحديث بالعقل، زاد تلاعب اللاعقلاني به.

لقد تصور المسرح المروع الذي تلعب شخصياته فوق خشبته بكوكبنا. فمن خلال مغامراتهم (تدور أحداث العمل بين عامي 1888 و1918)، نجح في الكشف عن «ما وراء كواليس اللاعقلاني» الذي «تحكم منه الحروب والثورات ونهاية العالم»، كما يجد كونديرا الذي كان يعد بروخ مع روبرت موزيل معلميّه في فن الرواية. من هنا، ثمة سؤال: ما هو العالم الخالي من القيم؟ هل القيم موجودة في العالم؟

***

كل عمل هيرمان بروخ عبارة عن تأمل في انحدار القيم وتدميرها في العالم الحديث. بالنسبة له، لا يتعلق الأمر بالقيم الأخلاقية فحسب، بل بالقيم الجمالية والمعرفية أيضا، على المستوى الفردي والجماعي. تُظهِر روايتاه العظيمتان «السائرون نياما» و«غير المسؤولين» أفرادًا نموذجيين فقدوا كل إحساس بالقيم واندفعوا بتهور إلى الحلول الخيالية، بينما تصور روايته «موت فيرجيل» فقدان القيم الجمالية. أحد الموضوعات الرئيسية عند بروخ هي العلاقة بين الفن والمعرفة.

هذا ما يشكل محور مجموعة مقالات كتابه «الخلق الأدبي والمعرفة» والذي يتضمن بشكل خاص مقالته الكبيرة عن «الكيتش» (الفن الهابط)، الذي يشكل بالنسبة له حالة من الارتباك بين القيم، ومن ضمنها حالة الفئات الأخلاقية والقيم الأخلاقية والفئات الجمالية.

موضوع تفكك القيم هذا يسري في كل الأدب النمساوي والأوروبي، من هوفمانستال إلى كراوس، وموزيل، وكونديرا في «السائرون نياما» هناك نوع من الأطروحة حول تدهور القيم، المدرجة في جزء الرواية عن هوجويناو، الذي يمثل الواقعية والحقائق. هذا هو الاتجاه الفلسفي الذي اتخذه بروخ في مقالاته (جمعها في عدة كتب)، إذ تتناول جميعها، بشكل أو بآخر: القيم في «منطق عالم في حالة خراب»، يكشف العلاقة بين كل مشروع للمعرفة وبين البحث عن الحقيقة وموقع القيم. يرى أن فعلَ التفكير وأسلوبَه يحملان قيمًا. فعلى المستوى التاريخي، أفسح عالم القيم الذي يعد الله تجسيده الأسمى الطريق أمام عالم تختزل فيه القيمة إلى الواجب المهني.

يقترح بروخ في «ملاحظات حول التحليل النفسي من وجهة نظر نظرية القيمة»، توفير «تكملة منهجية لبناء النموذج النفسي الفرويدي»، من خلال مراجعة التعارض بين دافع الموت ودافع الحياة في شكل مبدأ خلق القيم من الذات. أما «المعرفة من خلال الفكر والمعرفة من خلال الشعر»، فيدور حول أحد أهم موضوعات عمل بروخ -جوته بالتحديد- وهو الوحدة الأساسية للمعرفة الأدبية والمعرفة العلمية، وهما «فرعان لجذع واحد، جذع المعرفة الخالصة والبسيطة». أما «الوحدات النحوية والمعرفية»، فعبارة عن مناقشة حول طبيعة البداهة في المنطق والرياضيات.

يتمتع بروخ، مثل موزيل، بثقافة فلسفية وعلمية واسعة، لكن أسلوبه الفلسفي بدا غامضا يومها وتأمليا، ووُصِف بأنه جرماني (بالمعنى السيئ للكلمة)، وهذا ما أثر على «وضوح هذه الأفكار العادلة». قد يجد المرء عبثًا في هذا الكتاب تحليلًا لمفهوم القيمة نفسها: هل هي واجب وأعراف، أم خير وبديهية؟ من الواضح أن بروخ تأثر بنيتشه، ولكن أيضا بمدرسة بادن وفلاسفتها الذين ناقشوا مفهوم «الصلاحية» (Geltung) وطرحوا سؤال ما إذا كان المنطق، مثل الأخلاق، علمًا معياريًا.

يعارض بروخ المفهوم التجريبي المنطقي الذي يختزل القيم في التعبير عن العواطف، ويدافع عن المفهوم المعرفي. ويحمل العلم وكذلك الفن والأدب هذه القيم. إن تراجعها في العالم المعاصر هو تراجع العقلانية والمُثل الجمالية. تتمثل أصالة بروخ في أنه، مثل موزيل، الذي غالبًا ما يُقارن به، يجمع بين التعبير الرومانسي والفلسفة، كما أنه، مثل إلياس كانيتي الذي صاغ نظرية الجنون الجماعي.

***

هل فعلا أن منطق العالم في حالة خراب؟ قد تكون ثمة إجابة ممكنة. فكما أن الشر يشمل الكذب، فإن الصدق يشمل الخير بدوره. ومثلما تبدأ المعرفة بالتجربة، ولكنها لا تحكمها، فإن الفعل الأخلاقي -حتى أي تصرف بشكل عام- يبدأ بالقلق، ولكن لا يمكن أن يحكمه - فهو لا تحكمه سوى الحقيقة فقط: القيّم الفعلية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: یمکن أن من خلال

إقرأ أيضاً:

البحوث الإسلامية تعقد ندوة عن دور العلم في قيادة النهضة الحضارية وترسيخ الأخلاق

عقد مجمع البحوث الإسلامية، اليوم الثلاثاء، ندوة في جامعة أسيوط، تحت عنوان: “العِلم قاطرة الحراك الحضاري” وذلك ضِمن فعاليَّات الأسبوع الدعوي الرابع عشر، الذي تُنظِّمه اللجنة العُليا للدعوة بالمجمع تحت عنوان: (مفاهيم حضاريَّة)، برعاية الإمام الأكبر د. أحمد الطيِّب، شيخ الأزهر الشريف، وبإشراف د. محمد الضويني، وكيل الأزهر، ود. محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلاميَّة.

البحوث الإسلامية تعقد ندوة عن دور العلم في قيادة النهضة الحضارية

وشارك في  الندوة كلٌّ مِن د. صابر السيِّد، عميد كلية اللُّغة العربيَّة بجامعة الأزهر في أسيوط، ود. إمام الشافعي، عميد كلية البنات الأزهريَّة بالمنيا، والشيخ يوسف المنسي، عضو أمانة اللجنة العُليا لشئون الدعوة.

وفي كلمته، أكَّد الدكتور صابر السيِّد أنَّ طلب العِلم فريضةٌ لا تسقط عن المسلم ولا عن كلِّ عاقل، وأنَّ العِلم ارتقاءٌ بالنفْس، وتزكيةٌ للعقل، وسعيٌ دائمٌ للاستزادة، اقتداءً بالنبي ﷺ الذي أمره ربه قائلًا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، مبيِّنًا أنَّ العِلم يهذِّب الأخلاق، ويُنير البصائر، ويُورِث الخشية مِنَ الله، فهو أساس النهضة، ووسيلة بناء حياة أكثر وعيًا وكرامة.

ولفت الدكتور السيِّد إلى أنَّ أخلاقيَّات البحث العِلمي هي جوهر العمليَّة البحثيَّة وروحها، وأنَّ الأمانة والصدق والموضوعيَّة واحترام جهود الآخرين منهج يجب الالتزام به، موضِّحًا أنَّ الباحث الحقَّ لا ينحاز لهوًى؛  بل يقف في ميزان العدل الذي أمر به الله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

البحوث الإسلامية يعقد ندوة حول التكوين العقدي للوعي في ظل المنهج الأزهريالبحوث الإسلامية ينظم ندوة تثقيفية حول صحة العقيدة وصحة العملندوة البحوث الإسلامية تسلط الضوء على مفهوم الحرية المسئولة ودورها في بناء الحضارةالبحوث الإسلامية يطلق المسابقة الثقافية لوعاظ الأزهر وواعظاته حول القضايا الأسرية

من جانبه، قال الدكتور إمام الشافعي: إنَّ العِلم هو القوَّة التي غيَّرت مسارات الأمم عبر التاريخ، مؤكِّدًا أنَّ الإنسان خُلق مميَّزًا بالعقل، وبقدْر ما يستثمره يقدر على أن يصنع حضارته، وإنَّ البشرية لم تبلغ ما بلغته من تطوُّر إلا حين تجاوزت حاجات الحياة الماديَّة ووظَّفت عِلمها في تشييد حضارات كبرى؛ بَدءًا مِنَ المصريَّة القديمة، مرورًا بالرومانيَّة، وصولًا إلى الحضارة الإسلاميَّة التي وحَّدت بين الإيمان والعقل، فغيَّرت وجه التاريخ، ونقلت العالَم مِنْ ظلمة الجهل إلى نور المعرفة، ثم كانت أساس نهضة أوروبا بعد عصورها الحالكة.

وتابع الدكتور الشافعي أنَّ العِلم كان المحطَّة الفاصلة في انتقال العرب –من خلال الإسلام وتعاليمه السمحة- من حياة البداوة والانغلاق إلى صناعة حضارة امتدَّ سلطانها قرونًا، وبلغت بعلومها العالَم كلَّه، لافتًا إلى أنَّ أيَّة أمَّة تطمح إلى تغيير واقعها مطالبةٌ بفتح أبواب العِلم، وبناء دُور تعليم حقيقي يقوم على الكيف وليس الكم، وتشجيع البحث العِلمي بزيادة الإنفاق المادِّي على العمليَّة التعليميَّة، وإيفاد العلماء للاطِّلاع على ما وصل إليه الآخرون من تقدُّم، محذِّرًا مِنْ أنَّ التخلُّف عن ركْب العِلم لا يخلُّف إلا ميراث الجهل والفقر والمرض.

في السياق ذاته، أشار الشيخ يوسف المنسي إلى أنَّ العِلم يمثِّل القاطرة الحقيقيَّة للحراك الحضاري، موضِّحًا أنَّ التقدُّم يتحقَّق بمنهج علمي واعٍ يقوم على الفهم والكشف والتجريب، كما أكَّد أنَّ العَلاقة بين العِلم والحضارة علاقة أصل وثمرة؛ فالعِلم هو القوَّة الدافعة التي تنقل الأمم مِنَ الجمود إلى النُّمو.

وأوصى الشيخ  المنسي الطلَّابَ بترسيخ أخلاقيَّات البحث العِلمي؛ بوصفها الضابط الأخلاقي لمسار التقدُّم، مشيرًا إلى أنَّ العِلم بلا قِيَم قد يتحول إلى قوة مدمرة لا نافعة، داعيًا إلى استلهام النموذج الحضاري الإسلامي الذي جمع بين الاكتشاف والإبداع من جهة، والمسئوليَّة تجاه الإنسان والمجتمع من جهة أخرى.

وتستمر فعاليَّات الأسبوع الدَّعوي الرابع عشر في جامعة أسيوط حتى يوم الخميس المقبل، بمشاركة نخبة من علماء الأزهر الشريف، تتنوَّع خلالها الندوات الفِكريَّة التي تناقش قضايا: الحضارة، والعِلم، والقِيَم، والحُريَّة المسئولة، وحقوق الإنسان في ضوء الشريعة الإسلاميَّة.

طباعة شارك مجمع البحوث الإسلامية البحوث الإسلامية جامعة أسيوط ندوة العِلم قاطرة الحراك الحضاري الأسبوع الدعوي الرابع عشر وكيل الأزهر الأزهر

مقالات مشابهة

  • منطق..
  • ينخر في منظومة القيم .. عمر هريدي يثني على مطالب إلغاء تيك توك
  • الزيارة الناجحة التي شغلت العالم بنتائجها المبهرة : شراكة استراتيجية بملامح المستقبل... دلالات نتائج زيارة ولي العهد السعودي إلى واشنطن
  • القيم والأخلاق وأثرها في نمو الحضارات .. ندوة بـ آداب أسيوط | صور
  •  لا أريد أن أهوى إلى الحضيض في مجتمع بغيض ومريض
  • آخرها كوراساو.. الدول الأقل سكانا التي تأهلت إلى كأس العالم
  • ممرّات خفية تعيد رسم خريطة العالم.. السرّ الذي كشفته كازاخستان
  • أحمد موسى: الناس اللي كانت بلادها خراب جاءوا لمصر عشان الأمان والاستقرار
  • المِزاج العالمي الجديد
  • البحوث الإسلامية تعقد ندوة عن دور العلم في قيادة النهضة الحضارية وترسيخ الأخلاق