الوقوف على الطلل في القصيدة العربية: مسألة فنيّة أم وجوديّة؟
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
الشعر هو عنوان الإنسان العربي القديم، والقصيدة هي سلاح غير مرئي يحمله معه إلى جانب سيفه ورمحه، يعبر فيها عن مكنونات نفسه، ويرسل عن طريقها رسائل بهيكل معروف يتضمن مقدمة طلليّة ورحلة وغرضا. وبمناسبة احتفال العالم باليوم العالمي للغة العربية في 18 من ديسمبر من كل عام، الذي يحمل هذا العام شعار (العربية: لغة الشعر والفنون)، سنتحدث في هذا المقال عن المقدمة الطلليّة في القصيدة العربيّة، من حيث كيفيّة نشأتها، وأول من ابتدعها، ثم الموضوعات التي تطرقت إليها مع إعطاء أمثلة عليها، وحالة الشاعر النفسية عند إلقاءه للقصيدة، ثم نتطرق إلى علاقة الشاعر والمتلقي بهذه المقدمة الطلليّة، ونناقش هل هي مسألة وجوديّة أم فنيّة.
نشأة الوقوف على الطلل في القصيدة:
الحب هو شعور مرهف من ناحية، وقوي من ناحية أخرى، وهو شعور إنساني فطري، يقع بين طرفين، وعند الحديث عن الحب العاطفي بين شخصين، فليس لزاما أن نتحدث عن حب عاطفي بين رجل وامرأة، ولكن في الغالب عندما تذكر كلمة (حب) يقصد بها حب شاعري بين رجل وامرأة.
وما إن يتشكل الحب بين الطرفين ويتبلور، حتى تتغير قيمة الأشياء التي يراها كل طرف في الآخر، وبقدر الحب الذي يكنه الطرفان لبعضيهما، تكون قيمة الأشياء المرتبطة بطرف عند الطرف الآخر، فنجد رجلا يحب فتاة اسمها ليلى يعجب بكل فتاة اسمها ليلى، وإذا كانت ليلى تلبس لباسا معينا، نجد محبوبها يحب ذاك اللباس، وقد كان لا يلقي له بالا من قبل. وإن كانت ليلى من بلاد معينة، نجد محبوبها تزيد نبضات قلبه عند ذكر البلاد التي تسكن فيها ليلى، بل وقد يحب كلّ من في تلك البلاد من أجل حب ليلى.
ومن هنا جاءت المقدمات الطلليّة التي اشتهرت بها القصائد العربية بشكل عام، والجاهلية على وجه الخصوص، فارتباط المحبوب بمكان معين خصوصا إن كان المكان سابقا مكان لقاء المحبوبين، يجعل الشاعر يعشق المكان، خاصة إذا كان الشاعر ينوي التغزل في محبوبه، أي ينوي أن يقول قصيدة غزليّة، عندئذ يبتدأ بذكر الأطلال التي كان يلتقي فيها بمحبوبه، أو تلك التي كانت يرتادها المحبوب أو حتى دياره التي يسكن فيها.
وهنا يثور تساؤل حول خصوصيّة المقدمات الطلليّة بالقصيدة العربية مع أنّ الحب والارتباط العاطفي شعور إنساني غير مختص بالعرب. والجواب قد يكمن في طبيعة الحياة العربية في البادية التي تتميز بالتنقل من مكان إلى آخر للبحث عن مقومات الحياة من ماء وكلأ باعتبار البادية مكانا جافا، فعندما يجد تجمعٌ عربي قبلي مصدرا للماء في الصحراء ينزل ذلك المكان. وكذلك تفعل التجمعات العربية الأخرى، إذ تنزل في المكان نفسه حول ذلك المصدر المائي في جهة أخرى من التجمعات الأخرى، ومن هنا تقوم علاقة بين أفراد من مختلف التجمعات القبلية التي يجمع بينها ذلك المصدر المائي.
عند رحيل القبائل عن تلك المنطقة بسبب نقصان الماء أو جفافه ورجوعهم إلى مناطقهم الأصلية، تبقى مشاعر الشوق بين الأفراد متوهجة رغم المسافات. وقد يحدث أن يمر أحد الشعراء بذلك المكان فيتذكر اللقاءات التي كانت تجمعه مع الغائبين، فتثور مشاعره، ويبدأ في قول قصيدة المقدمات الطلليّة، التي تتحدث عن الذكريات الجميلة واللقاءات العاطفية، ومن هنا نفسر ظهور المقدمات الطلليّة عند العرب دون غيرهم.
أول من أنشأ شعر الأطلال:
أورد ابن سلاّم الجمحي في كتابه (طبقات الشعراء) مزاعم رواها بعض الرواة أنّ امرأ القيس كان له السبق في أشياء ابتدعها، فاستحسنها العرب واتبعته فيها الشعراء. ومن هذه الأشياء: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب. وهذه هي موضوعات المقدمة الطلليّة، إلا أنّ الجمحي نفسه شكك في هذا القول، وأتى ببيت شعر لامريء القيس نفسه يقول فيه:
عوجا على الطلل المحيل لعلّنا نبكي الديار كما بكى ابن خذامِ
وهنا يشير امرؤ القيس إلى شاعر سبقه في البكاء على الديار هو (ابن خذام)، وهو ما يضعف القول بأن امرأ القيس هو من اخترع المقدمة الطلليّة. إضافة إلى أنّ المقدمات الطلليّة التي كتبها امرؤ القيس هي مقدمات متطورة يظهر من الوهلة الأولى أنها مكتملة العناصر الفنيّة، وهو ما يوحي أنها ليست ناشئة حديثا بل مرت بمراحل وأطوار قبل أن تصل إلى ما هي عليه. وهذا قد يشكل دليلا آخر على ضعف قول من زعم أن امرأ القيس هو أول من اخترع المقدمة الطلليّة.
ومع ذلك يمكن تفسير نسبة ابتداع المقدمة الطلليّة لامرئ القيس بكثرة هوسه باستعمالها في مقدمات قصائده، وللتدوين الذي أوصل قصائده أكثر من غيره، ولشهرته التي فاقت غيره في ذلك الزمان، وربما لتطويره هذه المقدمات وإضافة الحس الشاعري الرقيق الذي اشتهر به.
موضوعات شعر الأطلال:
أوردت الدكتورة عزة حسن في كتابها (شعر الوقوف على الأطلال من الجاهلية إلى القرن الثالث) في دراستها التحليلية بعض المعاني التي تعد أساسية في شعر الوقوف على الأطلال، وكان الشعراء يهتمون بها في شعرهم اهتماماً أكبر من اهتمامهم بغيرها، ويرددونها كثيرا نستعرض هنا بعضا من هذه المعاني باختصار:
سؤال الديار وتكليمها واستعجامها على الجواب:اعتاد الشعراء في المقدمة الطللية سؤال الديار واستنطاقها، لكنها بطبيعتها لا ترد إلا بإيحاء يتخيله الشاعر، يقول عنترة:
أعياك رسم الدار لم يتكلمِ // حتى تكلّم كالأصمّ الأعجم
وصف الديار ووصف بقاياها:مثل قول الشاعر عبيد بن الأبرص:
يا دار هند عفاها كل هطّالِ *** بالجو مثل سحيق اليمنة البالي
واليمنة هنا بمعنى الثوب اليمني، الذي وصفه أنه بالٍ، أي مجرد بقايا.
تخريب الديار:وقد عزا الشعراء خراب الديار إلى عاملين اثنين، هما تقادم الزمن والكوارث الطبيعية. يقول الشاعر عبيد بن الأبرص:
جرّت عليها رياح الصيف فاطّردت ** والريح فيها تُعَفِّيها بأذيال
الحيوان الذي يألف الديار بعد خلائها:الحيوانات كانت ترافق العربي في مواضع الخصب، وعند رجوع الشعراء لهذه الأماكن يجدون بعض الحيوانات تسرح وتمرح، أو يرون آثار بعض الحيوانات فتثير فيهم القريحة.
قال الأخطل:
فما به غير موشي أكارعه **إذا أحس بشخص نابئ مثلا
والموشي هو الثور.
حالة الشاعر النفسية حين الوقوف على الديار:مع وجود العناصر السابقة وتخمرها في عقل الشاعر مع خليط الذكريات والشوق، قد ينتج شعور قوي بالحزن والكآبة يفضي في غالب الأحيان إلى عنصر نفسي مهم وهو ذرف الدموع. وقد تفنن الشعراء في وضع الصور الشعرية لذرف الدموع، فهذا امرؤ القيس يقول:
ففاضت دموع العين مني صبابة ** على النحر حتى بلّ دمعي محملي
ويقول ذو الرمّة:
لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ** من الوجد أو يشفي نجيّ البلابلِ
كما إن الشكوى هي أيضا من ضمن العناصر النفسية التي تتكرر في مقدمات الشعراء، إذ يقول ابن رمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه ... تُكَلِّمـــنِي أحْـــجَـــارُهُ وَمَلاَعِــبُـــه
وكذلك من ضمن العناصر النفسية، تشبيههم لأنفسهم بشارب الخمر المنتشي بسبب استغراقهم في الذكرى، يقول امرؤ القيس:
فَظَلِلتُ في دِمَنِ الدِيارِ كَأَنَّني *** نَشوانُ باكِرَةٌ صَبوحُ مُدامِ
هل علاقة المقدمة الطلليّة بقائلها فنيّة أم وجوديّة؟
من المرجح أن علاقة الشاعر بالطلل في المقام الأول هي علاقة بالمكان. وهي علاقة ليست منفصلة عن الشاعر، فالمكان هو جزء لا يتجزأ منه حين يقول القصيدة، ذلك أن المكان ليس فراغا خاليا من شيء، بل هو مساحة ممتلئة بأشياء، وهذه الأشياء هي التي يتفاعل معها الشاعر عند قول شعره.
وقد حاول الكثير من الباحثين تفسير السبب في بدء القصيدة بالمقدمة الطلليّة، ومنهم الدكتور حسين عطوان في كتابه (مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي) حيث جمع بعضا من هذه الآراء. منها أن العرب كانوا قديما كثيري التنقل، ولذا يبتدؤون قصائدهم بذكر الأماكن التي يرتحلون إليها، وهذا الرأي أورده ابن قتيبة نقلا عن غيره. ويرى آخرون أن هذا مجرد تقليد دأب عليه الشعراء الذين أصبحوا يقلدون بعضهم بعضا، وبالنظر لهذا الرأي فإن الطلل يعد مسألة فنيّة بحتة، بل إنّ هؤلاء كانوا يرون أن القصيدة ليست جيدة بدون هذه المقدمات. ويذهب غيرهم، ومنهم المستشرق الألماني (فالتر براونة) إلى أن هذه المقدمات ليست وسيلة للوصول إلى غرض القصيدة بل هي غاية في حد ذاتها، فهي تعبير عن الخوف من مصير مجهول، والقلق من الفناء، والحديث عن الموت في صراع الشاعر مع صحراء ممتدة قاحلة، فهي محاولة من الشاعر عبر القصيدة للتغلب على تلك المخاوف، وإذا ما نظرنا إليها من هذا المنظور فهي مسألة وجوديّة.
أما المتلقي والسامع للقصيدة وللمقدمة الطلليّة فتأثيرها عليه يعتمد على ثقافته ومدى إلمامه بمعاني مفردات القصيدة والسيرة الذاتيّة للقائل والظروف التي قيلت فيها، ثم بالموسيقى الداخليّة التي ترقص على ألحانها كلمات القصيدة. فيتأثر المتلقي بها خصوصا إذا لاقت عنصرا مشابها لما باح به الشاعر لديه، كالاغتراب والكآبة والبكاء وفقدان المحبوب والشوق والعشق وغيرها من المشاعر الإنسانية المشتركة بين أصحاب القضية المشتركة.
إنّ الأطروحات التي تفسر ظهور المقدمات الطلليّة بهذا الشكل المعروف متعددة، ومع أنّ هذه المقدمة قد تطورت لاحقا عبر العصور في شكلها ومضمونها، واختفت في الكثير من القصائد العربية المعاصرة، إلا أنّه يمكن أن نجمع بين التفسيرات المطروحة برأي مفاده أنه في البداية كان الهدف من تلك المقدمات هو موقف نفسي أو اجتماعي اتخذه الرواد المؤسسون لشكل القصيدة العربية، أي أنها مسالة وجوديّة، ثم أمست بعد حين عرفا وتقليدا شعريا، فترسخ وجودها لتصبح معيارا لجمال القصيدة وجودتها في سوق الشعر العربي، وهذه مسألة فنيّة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إقالة مدرب البرازيل مسألة وقت
فتح الإعلام البرازيلي النار على مدرب منتخب البرازيل، دوريفال جونيور، عقب النتائج المخيبة في تصفيات كأس العالم 2026، والتي تسببت في تراجعه إلى المركز الخامس في جدول الترتيب برصيد 18 نقطة، وبفارق 7 نقاط عن المتصدر منتخب الأرجنتين.
نشرت شبكة غلوبو البرازيلية تقريراً بعنوان: "حان الوقت الآن لتغيير مدرب المنتخب الوطني"، عقب التعادل مع أوروغواى 1-1، في الجولة 12 من التصفيات.
وتسبب التعادل الأخير في تراجع منتخب البرازيل للمركز الخامس في الترتيب، بعدما أهدر حتى الآن 18 نقطة بنسبة 50% من النقاط المتاحة، ويمتلك 18 نقطة من أصل 36 نقطة ممكنة حتى الآن بعد الفوز في 5 مباريات، والتعادل في 3، وخسارة 4.
هدف غيرسون ينقذ البرازيل من السقوط أمام أوروغواي - موقع 24تعادلت البرازيل 1-1 مع ضيفتها أوروغواي في تصفيات أمريكا الجنوبية المؤهلة لكأس العالم 2026 اليوم الأربعاء، بعدما ألغت تسديدة غيرسون المذهلة تقدم فيدريكو فالفيردي للفريق الزائر.وأوضح التقرير أن دوريفال ليس السبب في تراجع مستوى الفريق، ولكن الوقت الحالي يحتاج إلى مدرب أجنبي، لضمان الوصول إلى كأس العالم، والمنافسة على اللقب الغائب منذ 2002 عن "السليساو".
وتابع: "إذا احتفظ الاتحاد البرازيلي بدوريفال سيتأهل "السيليساو" إلى كأس العالم دون شك، لكن أداء الفريق يثير الكثير من الشكوك حول إمكانية المنافسة على اللقب بعدما أظهر التعادل 1-1 مع أوروغواي أن الفريق بلا حلول ولا أفكار، وهو نفس الأمر الذى عاب الفريق في كوبا أمريكا الأخيرة.
وأصبح التغيير الآن ضرورياً قبل عودة منتخب البرازيل للظهور في التوقف الدولي القادم في مارس (آذار) 2025 لخوض مباراتين صعبتين للغاية ضد كولومبيا والأرجنتين.