????المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (47) لندن (10)
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
السفير عبد الله الأزرق يكتب:
????المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (47)
لندن (10)
ومن عجائب ما لاقيت من زمني، وأنا بلندن، أنني شهِدْتُ وقائع تثير السخرية، وربما الضحك والتهكم..
ومن بينها أن “جمعية الحمار” Donkey Society البريطانية راسلتني رسمياً بخطاب موقع باسم أحد قياداتها، وهو عضو بمجلس العموم؛ واحتجت على وضع الحمير في دارفور، وهي تلوم الحكومة السودانية لعدم توفير الحماية والرعاية لحمير دارفور!!
وطلب مني السيد عضو العموم المحترم أن أنقل احتجاجها ذاك لحكومتي، لتولي الحمير ما تستحقه من عناية ورعاية!!!
قد يظن البعض أن وجود “جمعية الحمار” البريطانية هذه مجرد مزحة!!
ولكنها ليست كذلك.
إذ توجد بالفعل منظمة كهذي.. بل إن لها نشاطاً، وتدعو البريطانيين في إعلاناتها إلى “تبني حمار” قائلة لهم: Adopt a Donkey؛ ولها ملاذات Sanctuary للحمير، وتقول: إن لها مستشفى للحمير وأطباء بيطريين، وتتولى علاج الحمير.
وبإرجاع النظر كرتين، نتذكر أن لدى الخواجات جمعيات شبيهة، تُعنى بالحيوانات أكثر من عنايتها بالإنسان.
فجمعيات حماية الحيتان أو الباندا أو الكلاب، تقيم الدنيا ولا تقعدها إن مات كلب مثلاً، لكنها لا تنزعج من تصريح مادلين أولبرايت حين قالت في برنامج “ستون دقيقة” الأميركي الشهير، عام 1996، عن موت نصف مليون طفل عراقي جراء العقوبات وحصار العراق:
إن ذلك ثمن مناسب ومستحق من أجل الديمقراطية في العراق:
“but the price, we think, the price is worth it.”
وهكذا فتحت قضية دارفور الأبواب لكل من يريد أن يسترزق من مآسيها.
وبالطبع حفظت المكاتبة وضربت عن الموضوع صفحاً، ولم أرسله للخارجية؛ فيكفي الخارجية ما هي مشغولة به.
ومن بين أبواب الشر التي فتحتها علينا مشكلة دارفور؛ هو تدفق الألوف من غرب أفريقيا، وتسلل بعضهم لأوروبا طلباً للجوء بحجة أنه من دارفور.
في مرة شكّت الشرطة البريطانية في سودانية أحد هؤلاء الأفارقة، وجاءت به للسفارة لتتأكد. وسقط في أول سؤال وذلك حين سأله القنصل عمر حامد عن بلده في دارفور فقال: إنه دارفوري من جوبا!!!
وذكرني هذا بواقعة مشابهة في جنيف؛ وذلك أن المشتبه بسودانيته قال لي: إنه يسكن في جوبا، لكنه يحضر كل بضعة أيام للخرطوم بواسطة دراجته!!!
ومما أذكره عن أيام لندن، أن البلدية فرضت ما سمته رسوم ازدحامCongestion Charges، على كل سيارة تدخل وسط لندن.
واحتجت أغلبية السفارات على هذا الإجراء كونه ضريبة، وهذا يناقض اتفاقية فييينا للعلاقات الدبلوماسية التي تعفي الدبلوماسيين والسفارات من الضرائب.
وكنوع من الضغط على السفارات لإخضاعها حتى تدفع تلك الضرائب كانت تنشر وتُعلن أسماء السفارات المتمردة على الضريبة.
وكانت السفارة السودانية من بين تلك السفارات المتمردة.
واستغلت المعارضة السودانية ذلك الإعلان، فروّجت أن السفارة السودانية لا تلتزم بقوانين المرور.
فيما عدا ذلك، كُنّا نُحمّل السائق الذي تفرض على سيارته غرامة، لخرق صريح لقوانين المرور الأخرى، تكلفة ذلك الخرق.
ومن طرائف خروقات الدبلوماسيين لقوانين المرور؛ أن دبلوماسيي دولة أفريقية في لندن، كانوا يستغلون الحصانة التي تتمتع بها سياراتهم فكانوا يوقفونها حيث شاءوا.. ولما تكاثرت خروقاتهم اضطّرت الشرطة البريطانية لسحبها.
لكن الشرطة في بلد أولئك الدبلوماسيين انتقمت من الدبلوماسيين البريطانيين في عاصمتها؛ فأعدت شارة مرور متحركة مكتوب عليها “ممنوع الوقوف” No Parking؛ وما أن يغادر الدبلوماسي سيارته حتى تضع شرطة ذلك البلد شارة المرور المتحركة تلك أمام سيارته وتفرض عليه غرامة.. وأمام تكاثر غرامات الشارات المتحركة لم تملك الشرطة البريطانية إلا الخضوع، والكف عن مطاردة دبلوماسيي ذلك البلد الأفريقي في لندن!!!
ولخدمة أهلنا ما كنا نَقْصُر عملنا في السفارة على ساعات عمل رسمية، أو التقيّد بعطلة نهاية الأسبوع؛ فكان الدبلوماسيون يفتحون السفارة في العطل لقضاء معاملة قنصلية طارئة؛ مثل تأشيرة دخول لسوداني مجنس توفي أحد أقاربه بالسودان.
وكان (عم عثمان سفارة) مسؤولاً عن إجراءات الجنائز، وكان رحمه الله يفعل ذلك في أيام العطل، وكان يقول لي مازحاً:
“السودانيين ديل ما بعرفوا يموتوا إلاّ في الويك إند”
ورغم كل شيئ لم يسلم العاملون في السفارة من النقد “والنِقّة”.
وكثيراً ما كنت أردد:
“أقِلّوا عَلَيْهِم لا أبَا لأبِيكُمُو من اللّومِ
أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا”
من ناحية أخرى، فإن ببريطانيا نَفر من خِيرة السودانيين وصَفْوَتِهم، ولكن صوت المعارضين هو الأعلى، فبدا كأنهم الغالبية، واختطفوا الجالية.. وكأن هؤلاء الأفاضل يتحسرون على وجودهم بين أولئك المهرجين، متمثلين قول أبي الطيب:
“وما أنا مِنهُمُ بالعَيشِ فيهِم ولكن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ”
وتحضرني هنا دعوة وجهها لي بروفسر بقادي -وهو من بين أولئك الكرام – لحضور زواج ابنه.
وبروفسور بقادي عديل السيد الصادق المهدي.
وفي يوم الزواج أُجلست في الطاولة التي فيها السيد الصادق المهدي، ودكتور على الحاج وعدد من قيادات المعارضة.
ولما رأى على الحاج عدد وتنوع تمثيل المعارضين قال مازحاً: حقو نُعلِن حكومة منفى؛ فقال له السيد المهدي: لكن السفير!!! وعندها تدخلت قائلاً:
إنني لا أمانع، شريطة أن أكون رئيسها!!!
وعند نهاية الجلسة دعوت السيد المهدي لوجبة في منزل السفير فاستجاب على الفور. وعندما دعوت على الحاج قال لي بفظاظة: لا، ما ممكن!!!
وتذكرت الحاردلو حين قال:
“كان لي المهدي القِبيل ولداً قَدَل في عزة
حَتْ ود البَصِير سَوّانَا في …….. وِزّة”
وعجبت؛ لأنني أعرف علي الحاج معرفة وثيقة منذ 1992، حين كنت دبلوماسياً في نيروبي.. لكن يبدو أنه رأى أن معارضة نظام الحكم تعني قطع علاقاته مع ممثليه!!!
وبالفعل جاءني السيد المهدي وكانت جلسة طيبة.
ومن أسفٍ أن المعارضين السودانيين أوقَعُوا أنفسهم في بَرَاثِن أخْبَث المنظمات.
وكانت منظمات تتّخِذُ لنفسها أسماء بريئة، تُوحِي بالإنسانية لتغليف روح الهيمنة والإخضاع للشعوب الحرة. وذلك مثل منظمة “صندوق الرعاية” Aegis Trust؛ ومنظمة “شَنْ السلام” Waging Peace.
كان المعارضون يتكسبون من تلك المنظمات عبر منظمات يقيمونها؛ وكانت المنظمات الراعية لهم تتخذهم وسيلة إخضاع وإضعاف للحكومة السودانية؛ ورضوا هم بذلك الدور.
السفير عبد الله الأزرق
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: من بین
إقرأ أيضاً:
شرق السودان – ميدان الحرب القادمة
عندما فشل فلول النظام البائد في القضاء على قوات الدعم السريع، هربوا إلى شرق السودان فأقاموا ملكهم غير المشروع هناك، ونسبة لعدم وجود كيانات سياسية شرقية قويّة، طاب المقام للخاطفين لقرار الجيش من الاخوان المسلمين – المؤتمر الوطني، وساهم قائد قوات الدعم السريع بقطاع الشرق في ذلك، فخان الأمانة وسلّم العدة والعتاد لجيش الفلول، فتنفس الهاربين من ضربات الأشاوس الصعداء، ولعبوا بمكونات الشرق الاجتماعية وابتزوها بتمكين مرتزقة الحركات المسلحة، فأصبح مجلس نظارات البجا يسبح بحمدهم، وتاه المهرّج الأكبر شيبة ضرار بين تطمينات الفلول واستفزازات مرتزقة دارفور، واستمسك الرشايدة بعروبتهم وكرامتهم، وصمتت المكونات الأخرى حتى ينجلي غبار المعركة، وتأهب أسياس أفورقي (ملك أرتريا) للدخول إلى الإقليم الذي لا بواكي عليه، واستفاد مرتزقة دارفور من الحالة الضبابية في التمدد والتنقيب عن المعدن الأصفر، وأصبح شرق السودان وولايتي نهر النيل والشمالية، الوجهة الأخيرة لفساد وإفساد فلول النظام البائد، الذين مزقوا الوطن بمشروعهم الحصاري الذي عزل السودان عن محيطيه الإقليمي والعالمي، فهنالك ثلاثة عوامل تجعل من أرض البجا منطلقاً لحرب ضروس، سوف تكون نهايتها نهاية حرب السودان الشاملة، المندلعة في أبريل من العام الماضي، أول هذه العوامل التدخل الارتري الذي اصبح واقعاً ملموساً، وثانيها الغبن المحلي تجاه الحركات المسلحة التي هربت من ميدان معركتها الحقيقي (دارفور)، وثالثها هو دخول الرشايدة والزبيدية في الحرب بجرهم غصباً عنهم بواسطة استخبارات الجيش المختطف، ففسيفساء الشرق لا تختلف كثيراً عن دارفور، والعامل الأكثر تأثيراً في التعجيل باندلاع الحرب هو الميناء والمنفذ البحري الذي تصطرع حوله إيران والصين وروسيا وأمريكا وإسرائيل وتركيا.
إنّ المناصرين لقوات الدعم السريع بشرق السودان لن يجدوا متنفساً إلّا بعد اشتعال النار، وبعد أن تدخل منصورتهم في حرب الشرق، فسوف تتولد ثلاث قوى مسلحة في هذه الحرب المرتقبة، هي قوات الغزو الارتري المتخذة من لباس جيس الفلول درعاً، والحركات المسلحة القادمة من دارفور، والدعم السريع، أما المكونات الاجتماعية الأخرى فسيكون ولاؤها موزع بين جيش الفلول المحتمي بالغزو الارتري، وقوات الدعم السريع، أما مليشيات دارفور المسلحة فهي الحلقة الأضعف، لأنها في زواج متعة قصير الأجل مع فلول النظام البائد ينتهي بأجل محتوم، وفي ذات الوقت منبوذة من المجتمع الشرقاوي الذي ينظر إليها كأمر واقع تم فرضه عليه فرضاً، فحرب الشرق المرتقبة لن تكون طويلة الأمد لسبب واحد، يتمثل في الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية للميناء – المنفذ البحري الرئيسي للسودان، وأهمية ضمان عدم انزلاق الأوضاع إلى الفوضى، لأنه مركز تحكم مصالح قوى الشرق الأوسط، ورغم اختلاف أجندات هذه القوى الإقليمية والدولية، إلّا أنها تتفق فيما بينها على حد أدنى حول المنفذ البحري السوداني، الذي يعتبر أحد المعابر المهمة في المنطقة، تلك الأهمية التي تفرض على القوى المتصارعة الاستعجال لوضع حد للحرب، وقد يسأل سائل ويقول كيف قلّلت من الدور الارتري، هنا أقول بأن الوساطة التركية بين الصومال واثيوبيا قد سبق سيف عذلها حراك المحور الارتري المصري، فأثيوبيا قد دخلت المعادلة منذ وقت مبكر ولكن بطريقة ناعمة، في الآخر سوف تصب في مصلحة دخول قوات الدعم السريع في حرب حدودية مع ارتريا، فدكتاتور أسمرا لن يطيب عيشه مع الغضب الاثيوبي.
حرب الشرق ستدفع باتجاه إنهاء حرب السودان الشاملة، ففلول النظام البائد لا يتمتعون بمورد بشري يدعم جيشهم المختطف هنالك، والطاغية الارتري لا يستمر في خوض حرب خاسرة خارج أرضه، وكمحارب قديم يعلم كيف اهتزت كراسي حكم الزعماء الذين تورطوا في حروب جيرانهم، هذا فضلاً عن ضمور الدور المصري في القرن الافريقي، بعد التدخل الواضح للسلطان العثماني أردوغان، فلو كانت هنالك حسنة واحدة تجنيها قوات الدعم السريع من حرب الشرق، فهي إنهاك فلول بورتسودان بانفجار جبهة قتال جديدة لا يملكون فيها قصب السبق، كما حدث في جبهتي دارفور وكردفان، فأرض الشرق لو اشتعل فيها الحريق لن يكون هنالك دور فاعل لفلول النظام البائد، فالجيوش الداخلة في الحرب ليس للفلول يد عليها، سواء كانت مليشيات دارفور أو جيش الغزو الارتري، وهذه الحرب المتوقعة بشرق السودان ستكشف ظهر فلول النظام البائد بولايتي نهر النيل والشمالية، وسيصدمون بمحدودية وقصور الدور المصري وعدم حيلة هذا الجار الشمالي، الذي لا يجازف بالوقوف مع منظومة حكم نازحة وآيلة للسقوط، ومهرولة بين بورتسودان وعطبرة، إنّ رهان فلول النظام البائد على الحرب تأكد أنه رهاناً خاسراً، بعد رهانهم على حرب الخرطوم غير محسوبة العواقب، التي أشعلوا فتيلها على أمل أن تضع وزرها بعد سويعات، فامتدت لأشهر قاربت السنتين، فلو أن المتطرفين من عضوية حزب المؤتمر الوطني آمنوا بقانون الناموس الكوني، وأيقنوا بأن ملكهم قد نزع، لجنبوا البلاد شر الحرب، لكنهم قوم يقرأون القرآن ليلا ونهارا ولا يتدبرون الآيات المفسرة لأسباب هلاك الأمم.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com