13 نوفمبر 2021
لا أعرف متى سمعت أول مرة أن السودان بلد آيل للشتات. وكانت صيغة الاشفاق عليه من التفرق شيعاً هي مخافة "اللبننة والصوملة". وهما حالتان حادتان من تبخر الدولة. فكانت اللبننة في ١٩٧٥ ببدء الحرب بينما وقعت الصوملة بعد سقوط سياد بري في ١٩٩١. وكنت أقول للمشفقين: "فأل لله ولا فألكم. فالسودان محروس".

لم أرد بذلك صب الماء البارد على إشفاق مشروع والحادثات تمتحن الوطن. بل سقط منا ثلث الوطن فصرنا على الخريطة، بعد وجاهة وامتلاء، مثل قميص مشرور على حبل الغسيل.
فما مصدر تفاؤلي إذاً والظن المدجج أننا بلد يُنتقص من أطرافه؟ وأسارع للقول بأنه ثقتي في الثورة السودانية لا الدولة القائمة فينا وحكوماتها.
قرأت في "الفورين أفيرز" قبل أيام مقالة حسنة عن الشتات المنتظر لأثيوبيا كما خلال حرب التقراي. وجاء الكاتبان بمصطلحات في صمامة الدولة رغبت في استثمارهما في قناعتي أن بلدنا محروس إن شاء الله من مثل المصير الذي ينتظر أثيوبيا. وأقول، عرضاً، إن كثيراً من المشفقين كانوا يضربون، متى نعوا علينا انفراطنا المؤدي للهلاك، بوسامة أثيوبيا ذلك الجبل الذي لا يهزه ريح.
قال الكاتبان تتوقف صمامة كل دولة على أنها إما مُسْتَجمعة (centripetal) أو مُشَعَثة (centrifugal). فالمستجمعة هي التي تغلب فيها عناصر الوحدة دون المشعثة التي تغلب فيها عناصر الشتات. وبجانب خدمات الحكومة للأمة، تجد الناس في الدولة المستجمعة قد تواثقوا على عقيدة أنهم أهل في دولة واحدة. أما الدولة المشعثة فتخلو من مثل هذه العقيدة. فتغلب فيها عناصر الفرقة من تمكن الإثنيات والتقسيم الاجتماعي. وقال الكاتبان إن تحدي أبي أحمد هو تكاثر زعازع الشعث.
من الغلو بالطبع أن أنكر "تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد" وهي عبارة منصور خالد في أيلولة السودان للتفرق أيدي سبأ. وقولته وبيانه يغريان أن نرى السودان بلداً مشعثة لا مستجمعة. وهي شعوثة في الحكم لم تهدأ لنا ثائرة عليها. فنقضنا غزلها في ١٩٦٤ و١٩٨٥ و٢٠١٨. وكانت ثورات بوجه نظم عسكرية لم تتورع من تشعيث الوطن لضمان استمرار حكمها. فحلت في بيانها الأول النقابات، والأحزاب، وضيقت على الطوائف الدينية التي هي قاعدة تلك الأحزاب. وجميع ما ذكرت من عرى السودان الحديث الواحد. فالولاء لها عابر للقبيلة المشدودة إلى جغرافيا غاية في المحدودية. بل بلغ التشعيث بهذه الحكومات حد حل الهلال والمريخ اللذين هما أكثر انتماءات السودانيين طرافة ورحابة.
وترافق مع ذلك تبنيها لخطة أو أخرى من الحكم الإقليمي بمجالسه النيابية. فاصطرع المرشحون لمقاعدها بتحشيد هذه القبائل، بل وبطونها إن لم تكن فخاذها. وفاقمت الإنقاذ من هذه القبائلية فزعزعت الديكتاتوريات البلد زعزعة. فأصدرت مثل قانون الحكم المحلي لعام ١٩٩٨ في سياق حرب الجنوب لتعبئة الإدارة الأهلية لاستنفار المتطوعين للجهاد. واستدعت بتسميتهم "أمراء" تاريخ المهدية الذي جعل زعماء القبائل أمراء حرب عليها. وكان ذلك الترتيب في أكثر صوره ضراوة تجييشاً ل"العرب" ضد "الزرقة" الذي ردنا قرونا سحيقة في الماضي.
لو لم تكن فينا غير هذه الحكومات لرجح فينا التشعيث. فلم تترك حكومة مثل الإنقاذ طوبة فيه لم تقلبها لتطويل عمرها السدى في الحكم. بل بلغ السوء من خططها المشعثة أن ضاقت هي نفسها ذرعاً بالخصومات القبلية فقررت تعيين الولاة بدلاً عن انتخابهم بنص الدستور لفشو القبلية في انتخاباتهم فشواً مرضياً. وكان العزاء دائماً في الثورة منذ ١٩٦٤ التي هي طاقة استجماع الوطن حول رؤية مدنية ديمقراطية من فوق المنابر العابرة للولاءات القبلية الضيقة في النقابة والحزب وسائر المنظمات التي ينتمي الناس اليها مواطنين مستحقين بلا اشتراط مسبق في الدين والعرق والنوع والقبيلة. وظلت هذه الرؤية ميثاقاً بين أطراف شعبنا لدولة منتظرة في نهاية النفق. فهي العشم الذي عصمنا من الانزلاق في التشعيث على أن دولتنا تحت حكم الديكتاتوريين لم تترك فرضاً ناقصاً في ارتكابه ولا سنة ولا مندوباً. كانت هذه الرؤية الشجاعة هي التي تواثقت عندها أطراف الوطن بصور شتى وإن اختلفت مفرداتها وسبل تحقيقها.
قلت لنفسي "هذه عروة الوطن الوثقي" حين كنت أطالع مواكب ٢١ أكتوبر الأخيرة في ذكرى ثورة كنت من شبابها منذ نحو ستين عاماً. لم ينسوا شيئاً وتعلموا أشياء. لقد تكاثرت الزعازع، ولكن أوتاد الوطن موتدة في الثورة ما يزال. لم تقم الدولة بما يلم الشعث من تنمية وعمران فحسب، بل فتقتها فتقاً اتسع على الراقع. وبقيت الثورة هي فسحة الأمل: نالنا ما نالنا من الأذى وانكسرنا، ولكننا نستميت ( We are broken but not finished).


IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

تحيةٌ لمن ثبتوا في أوقات الشدة!

تحيةٌ لمن ثبتوا في أوقات الشدة!
ما أعظم حب أبناء السودان المخلصين في ولائهم لوطنهم، وما أعظم تضحياتهم من أجل شعبهم.
كل من حمل بندقيته متحديا الصعاب، صابرا محتسبا، حاملا هموم شعبه، وقاتل مع القوات المسلحة السودانية، يستحق منا جميعا الثناء والتقدير.
في لحظات الغدر والخيانة الأولى، فرَّ أصحاب القلوب الضعيفة من الساسة ليتكسبوا خارج السودان باسم الوطن والشعب الذي أذوه، بينما برزت الإرادة الصلبة للرجال والنساء الأوفياء الذين بذلوا الغالي والنفيس، وقاتلوا مع جيشهم، واقتسموا معه لقمة عيشهم من أجل حماية وطنهم وشعبهم.
هؤلاء هم نماذج فخر للأجيال، ويستحقون الثناء والتقدير والاحترام. وهم من منحوا الوطن الحماية والعزة، وأعطوا معنى أن يعيش وينتصر، ولهذا هم فخرٌ لنا جميعا.
ولا عزاء لمن يحاولون تشتيت جمعنا ووحدتنا من خلال انتقاد أيٍّ من المجموعات التي قاتلت مع الجيش في وقت هرب فيه العملاء والمأجورون إلى الخارج. والشعب السوداني لن يُؤتى من هذا الباب مرة أخرى.
هذا النوع من الانتقاد والتشكيك في ولاء من قاتلوا مع الجيش يُجسد أبرز علامة على اقتراب ساعة النصر الكامل.
هنيئا للوطن بكل أبنائه الأوفياء في الميدان أو من فرضت الظروف خروجهم أو تواجدهم خارج السودان، التحية لهم بمختلف مسمياتهم، وتشكيلاتهم، مناطقهم، وألوانهم، وأديانهم ولغاتهم.
عاش السودان حرا مستقلا.

خالد الإعيسر
الخميس 30 يناير 2025م

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • نهيان بن مبارك يكرم خريجي برنامج “مستقبلي” الذي نظمه صندوق الوطن
  • تحيةٌ لمن ثبتوا في أوقات الشدة!
  • الأوطان والأماكن كلها تشتاق لك
  • سامي الجميّل: نرفض المسيرات الغوغائية التي لا تجدي نفعاً
  • القوى المدنية ودورها في صنع طريق السلام في السودان
  • الثورة الرأسمالية التي تحتاجها إفريقيا
  • السلمية: قوة المستقبل.. ثورة ديسمبر السودانية نموذجاً
  • الحكم المحلي هو الأنسب للفترة الانتقالية
  • الألم والوجع الذي احسه السودانيون بسقوط مدني فاق اي احساس آخر طيلة فترة الحرب
  • الكسوف المستمر.. شمس يناير التي ما زالت تؤذي أعيّن السلطة في مصر