المراحل العشر لـ الإبادة الجماعية
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
قد تكون على أعتاب أول إبادة جماعية في التاريخ يتم بث تفاصيلها ومجريتها مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، لذا نحن بحاجة ماسة لوقف هذا العدوان الغاشم على قطاع غزة منذ أكثر من أسبوعين.
اقرأ ايضاًالتطهير العرقي.. كيف نشأ المفهوم وتطور عبر التاريخ؟ومع تصاعد الأمور بشكلٍ دموي في قطاع غزة، وجب التنويه إلى مراحل "الإبادة الجماعية العشر" والتعرف على تفاصيلها أملًا في اتخاذ تدابير وقائية لإيقاف هذه العملية.
وقبل البدء بسرد مراحل الإبادة الجماعية العشر، نذكر لكم تعريف هذا المفهوم الدموي وفقًا الأمم المتحدة .
هي سياسة قتل جماعي منظمة، تقوم بها حكومة معينة ضد طائفة من الشعب على أساس ديني، أو عرقي، أو قومي أو سياسي.
صنفت الأمم المتحدة الإبادة الجماعية في اتفاقية خاصة عام 1984 بأنها جريمة دولية.
مراحل الإبادة الجماعية العشرالإبادة الجماعية عملية تتم على عشر مراحل، ويمكن التنبؤ بهذه المراحل إلا أنها ليست حتمية، إذ يمكن في كل مرحلة اتخاذ تدابير وقائية لإيقاف هذه العملية.
وقام جريجوري إتش ستانتون، رئيس منظمة مراقبة الإبادة الجماعية، بوضع المراحل العشر للإبادة الجماعية التي تشرح المراحل المختلفة التي تؤدي إلى الإبادة الجماعية.
في كل مرحلة من المراحل السابقة هناك فرصة لأفراد المجتمع أو المجتمع الدولي لوقف المراحل ووقف الإبادة الجماعية قبل حدوثها.
1- التصنيف:لا يتم احترام الاختلافات بين الناس، هناك تمييز ما بين "نحن" و"هم" والذي يمكن تنفيذه- باستخدام الصور النمطية، أو استبعاد الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم مختلفون على أساس العرق أو الإثنية أو الجنسية أو الدين.
احتمالات حدوث الإبادة الجماعية تبلغ أوجها في المجتمعات الثنائية التي تفتقر إلى الفئات المختلطة، لذلك فإن أهم تدبير احترازي يمكن اتخاذه في هذه المرحلة المبكرة هو تطوير مؤسسات تعمل على الترفع عن الانقسامات الإثنية أو العرقية وتشجع بفاعلية على التسامح والتفاهم.
2- الترميز:هذا مظهر مرئي للكراهية، من خلال إطلاق أسماء أو رموز على الفئات التي يتم تصنيفها، مثل تصنيف الناس بـ"الغجر" أو نميّزهم حسب لونهم أو لباسهم، ونطبّق الرموز كذلك على أفراد الجماعات.
التصنيف والترميز هما أمران يفعلهما البشر في كل العالم ولا يؤديان بالضرورة إلى الإبادة الجماعية إلا إذا نتج عنهما التجريد من الإنسانية.
ويمكن مكافحة الترميز من خلال وضع القوانين التي تحظر استخدام الرموز النامّة عن الكراهية وكذلك الخطابات المفعمة بالكراهية.
3- التمييز:
تنكر المجموعة المهيمنة الحقوق المدنية أو حتى المواطنة لمجموعات محددة، وتستخدم القانون والعادات والسلطة السياسية لحرمان مجموعات أخرى من حقوقها، ومن الممكن ألا تُمنح المجموعة الضعيفة كامل حقوقها المدنية أو حتى الجنسية.
المجموعة المسيطرة تقاد من قبل إيديولوجية إقصائية تحرم المجموعات أقل قوة من حقوقها، وتشجع الإيديولوجية الاحتكار أو توسيع القوة على يد المجموعة المسيطرة وتشرعن إيذاء الجماعات الأضعف.
تعني الوقاية من التمييز تمكين كافة الأفرقاء في المجتمع من المشاركة الكاملة في الحياة السياسية ومن التمتع بحقوق الجنسية.
4- التجريد من الإنسانية:أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم "مختلفون" لا يُعاملون بأي شكل من أشكال حقوق الإنسان أو الكرامة الشخصية، وتنفي المجموعة المهيمنة أي صفة إنسانية عن المجموعة المستضعفة، حيث يُسوّى أفراد هذه الأخيرة بالحيوانات أو الهوام أو الحشرات أو الأمراض، فخلال الإبادة الجماعية ضد التوتسي في رواندا، تمت الإشارة إلى التوتسي باسم "الصراصير".
في هذه المرحلة، تستخدم المنشورات الدعائية والإذاعية التي تحث على الكراهية من أجل الحط من قدر المجموعة المستضعفة، ويتم تدريس مجموعة الأغلبية ينظرون بأن المجموعة الأخرى أقل من الإنسان، فضلا عن تلقينهم باعتقاد بأن "نحن أفضل بدونهم."
لذا، يجدر كذلك بالقادة المحليين والدوليين أن يدينوا استخدام خطابات البغض والكره وأن يتم منع القادة من السفر الدولي وتجميد أموالهم المودعة في المصارف الأجنبية.
5- التنظيم:يتم التخطيط دائمًا للإبادة الجماعية، وغالبًا ما تقوم أنظمة الكراهية بتدريب أولئك الذين يقومون بتدمير شعب ما، وتستخدم الميليشيات لارتكابها من أجل نفي المستؤولية عنها، أو تسليح وحدات عسكرية خاصة من الجيش ووضع الخطط لارتكاب عمليات القتل والإبادة الجماعية.
يتم تستر أعمال الإبادة الجماعية كمكافحة التمرد إذا كان هناك صراع مستمر بالسلاح أو حرب أهلية. شهدت الحرب العالمية الثانية والحروب الأهلية بداية لعصر "الحرب الشاملة"، فالقنابل لم تفرق المدنيين من غير المقاتلين وتسببت بجرائم حرب واسعة النطاق، وأصبحت عمليات الاغتصاب الجماعي للنساء سمة من سمات كل جرائم الإبادة الجماعية الحديثة.
التصدي لهذه المرحلة يتطلب حظر العضوية في الميليشيات المماثلة بموجب القانون، وحرمان قياداتها من الحصول على تأشيرات الدخول إلى الدول الأجنبية وفرض حظر تسلّح على حكومات ومواطني الدول المتورطة في المجازر الجماعية وأن تشكّل لجانًا تعنى بالتحقيق في الانتهاكات كما حدث في المرحلة التي تلت الإبادة الجماعية في رواندا.
6- التبعاد:يبدأ الجناة بالتخطيط للإبادة الجماعية، ونشر الدعاية عن طريق جماعات الكراهية، وإبعاد الجماعات عن بعضها البعض، ويتم بث الدعايات التي تحث على التباعد في ما بينها، حتى أن القوانين قد تمنع الزواج أو التفاعل الاجتماعي بين الجماعات.
وفي هذه المرحلة، يستهدف الإرهاب المتطرف المعتدلين ويتعمّد ترهيب المتوسطين وإسكاتهم، كما يتم سن قوانين أو مراسيم الطوارئ تمنح المسيطرين السلطة الكاملة على الفئة المستهدفة وكذلك نزع سلاح الجماعات المستهدفة لجعلها غير قادرة على الدفاع عن النفس.
وهنا قد تتمثل الوقاية من هذه المرحلة بتأمين الحماية الأمنية للقادة المعتدلين أو توفير المساعدة لمنظمات حقوق الإنسان، ومصادرة أموال المتطرفين وحرمانهم من تأشيرات السفر إلى الخارج، وفرض عقوبات دولية من أجل التصدي للانقلابات التي ينفذها المتطرفون.
7. التحضير:يخطط الجناة للإبادة الجماعية، غالبًا ما يستخدمون عبارات ملطفة مثل عبارة "الحل النهائي" و"التطهير العرقي" أو "التطهير" أو "مكافحة الإرهاب لإخفاء نواياهم، إنهم يخلقون الخوف من المجموعة الضحية، ويبنون الجيوش والأسلحة.
وفي هذه المرحلة، تشكّل الجيوش وتشتري الأسلحة وتدرب جنودها وميليشياتها وتغرس في أذهان الشعب الخوف من الجماعة الضحية، ويتحجج القادة بالادعاء القائل "إذا لم نقتلهم قتلونا،" مموها الإبادة الجماعية بأنها دفاع عن النفس.
على هذا الأساس قد تتضمن تدابير الوقاية من مرحلة التحضير فرض حظر تسلّح وتشكيل لجان لتطبيق هذا الحظر. ولكن من الضروري أن تشمل هذه التدابير المحاكمة على التحريض والتآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، وهما جريمتان تنص عليهما المادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
8. الاضطهاد:يتم تحديد الضحايا بسبب انتمائهم العرقي أو الديني ويتم إعداد قوائم الموت، ويتم في بعض الأحيان عزل الناس، أو ترحيلهم أو تجويعهم، وغالبًا ما تتم مصادرة الممتلكات، تبدأ مجازر الإبادة الجماعية.
في هذه المرحلة يتم تحديد الضحايا المستهدفين وفصلهم على أساس هويتهم الإثنية أو الدينية، ومن ثم سلب ملكياتهم، وترحيلهم إلى معسكرات اعتقال أو يحتجزون في مناطق ضربتها المجاعة حيث يتم تجويعهم، وحرمانهم من الموارد مثل المياه أو الطعام.
وهنا تبدأ المجازر الإبادية، وهي تعتبر أعمال إبادة جماعية لأنها تقضي عمدًا على قسم من المجموعة المستهدفة، ويراقب الجناة ما إذا كانت هذه المذابح تؤدي إلى أي رد فعل دولي.
في هذه المرحلة، يتعين إعلان حالة الطوارئ جراء الإبادة الجماعية، وتعبئة الإرادة السياسية للقوى العظمى أو الحلفاء الإقليميين أو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يجب التحضير لتدخل دولي مسلح أو تقديم مساعدة مكثفة للمجموعة المستهدفة حتى تستعد للدفاع عن نفسها.
وكذلك يجب على الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الخاصة أن تنظم المساعدات الإنسانية لموجة اللاجئين التي ستترتب حتمًا عن الوضع.
9. الإفناء:هنا تقوم جماعة الكراهية بقتل ضحاياها الذين تم التعرف عليهم في حملة عنف متعمدة ومنهجية.
بالنسبة للضحايا، تسمّى هذه العملية "إفناء" لأنهم لا يعتبرون ضحاياهم كائنات بشرية تمامًا، وحين يجري الإفناء بدعم من الدولة، غالبًا ما تتعاون القوات المسلحة مع الميليشيات لتنفيذ أعمال القتل.
في هذه المرحلة يتم تمزيق أشلاء الجثث؛ ويُستخدم الاغتصاب كأداة حرب من أجل التغيير الوراثي والقضاء على المجموعة الأخرى وكذلك تدمير الممتلكات الثقافية والدينية للقضاء على وجود مجموعة من التاريخ. ويتم قتل كل الرجال في سن القتال في بعض عمليات الإبادة الجماعية.
يتعرض جميع النساء والفتيات للاغتصاب. في عمليات الإبادة الجماعية الشاملة يتم إبادة جميع أعضاء المجموعة المستهدفة.
في هذه المرحلة، لا يمكن إيقاف الإبادة الجماعية إلا بتدخل مسلّح يكون سريعًا وطاغيًا وتأمين مناطق آمنة فعلية أو ممرات فرار للاجئين تحت غطاء مكثف من الحماية الدولية المسلحة.
كذلك يجب على مجلس الأمن تفويض لواء القوات الاحتياطية العالي الاستعداد التابع للأمم المتحدة أو قوة الرد السريع التابعة للاتحاد الأوروبي أو القوات الإقليمية بالتحرك واتخاذ التدابير اللازمة إذا كان نطاق الإبادة الجماعية صغيرًا.
هنا ينكر الجناة أو الأجيال اللاحقة وجود أي جريمة، ويعمدوا نبش القبور الجماعية وإحراق الجثث محاولين إخفاء الأدلة وترهيب الشهود.
اقرأ ايضاًالملكة رانيا في مقابلة حصرية مع كريستيان امانبور الليلة.. إليكم التفاصيلكما ينكر الجناة أنهم ارتكبوا أي جرائم ويلقون غالبًا اللوم في ما حصل على الضحايا، ويتصدون للتحقيقات التي يتم إجراؤها في الجرائم ويستمرون في الحكم إلى حين الإطاحة بهم بالقوة فيهربون حينذاك إلى المنفى.
وهناك يعيشون متمتعين بالحصانة، إلا أذا تم القبض عليهم وإنشاء محكمة لمحاكمتهم.
يكون الرد على الإنكار بالعقاب في محكمة دولية أو محاكم وطنية.
المصدر: البوابة
كلمات دلالية: الإبادة الجماعية الإرهاب غزة الجيش الإسرائيلي التاريخ التشابه الوصف للإبادة الجماعیة الإبادة الجماعیة فی هذه المرحلة الجماعیة ا من أجل
إقرأ أيضاً:
السودان: المراحل المبكرة لإطلاق الاسم ودلالاته (2-4)
السودان: المراحل المبكرة لإطلاق الاسم ودلالاته (2-4)
المرحلة الثانية: مرحلة إطلاق اسم اثيوبيا باللغة اليونانية
اثيوبيا
بدأت المرحلة الثانية من مراحل إطلاق اسم “السودان" عند اليونانيين الذين بدأت صلاتهم بافريقيا في النصف الأول من الألف الأخير قبل الميلاد. وكلمة اثيوبيين في اللغة اليونانية تعني السود واثيوبيا تعني بلاد السود. وقد استخدم اليونانيون كلمة اثيوبيين بنفس المعني المصري القديم أي سكان جنوب مصر. فقد ذكر هيرودوت أن "المصريين يسكنون شمال اسوان... والاثيوبيين يسكنون المناطق الواقعة جنوب اسوان." (Herodotus, p 52. 54)
وعندما توسعت معرفة اليونانيون بافريقيا توسعوا في إطلاق اسم اثيوبيا على سكان افريقيا السود الذين عرفوهم. يقول هيرودوت إن الاثيوبيين اكتسبوا هذا اللون الأسود بفعل حرارة الشمس. (Herodotus, p 54) ويقسم هيرودوت الاثيوبيون إلى نوعين: الاثيوبيون جنوب مصر، والاثيوبيون الشرقيون وهؤلاء - كما يقول - يشبهون الاثيوبيون الجنوبيون في كل شيء عدا لغتهم وشعرهم حيث أن شعرهم مرسل (هيرودوت، تاريخ ص 61) فبلاد اثيوبيا تعني بلاد السود أو بلاد السودان، وأثيوبيا تعني السود أو السودانيين.
وكانت معرفة اليونانيون بالسودان سابقة لعصر هيرودوت. فقد وردت بعض المعلومات في التراث اليوناني القديم الذي دونه هومروس في الالياذة نحو عشرة ألف سنة مضت. ونقل ديودورس الصقلي عن المؤرخ اليوناني أجارثرخيدس في القرن الثاني قبل الميلاد أن صاحب الالياذة وصف زيوس والمعبودات اليونانية الأخرى "بأنهم كانوا يذهبون لاثيوبيا [السودان] لتلقي القرابين التي كانت تقدم لهم كل سنة. ولحضور الوليمة العادية التي كان يقيمها الاثيوبيون أنفسهم ... وأن ولاءهم [السودانيون] الشديد للآلهة أكسبهم رضاءها" ديودوري، ص 87) وانظر الموضوع رقم 7 في هذا الكتاب.
والوليمة المذكرورة هنا مقصودٌ بها "مائدة الشمس" التي وصفها الجغرافي الروماني بومبونيوس قائلاً: "يوجد عندهم مكان يملأ في كل الأوقات بوجبات جاهزة يأكل منها كل شخص ما شاء، ولهذا يطلقون عليه مائدة الشمس وهم يعتقدون أن الأكل الذي يوضع فيه يتجدد باستمرار بقدرة ربانية" (بومبونيوس، ص 133)
وكانت تلك المائدة من أهم المعالم التي زارتها بعثة الملك الفارسي قمبيز التي أرسلها عندما غزا مصر وكان يخطط لغزو السودان. فقد ذكرهيرودوت أن أعضاء البعثة زاروا ينبوع الماء الذي تنبعث منه رائحة الفل، وزاروا مائدة الشمس وتوابيت جثث الموتى. ووقفت البعثة على طعام السودانيين الذي يؤدى إلى طول أعمارهم، فقد وصفوا بأنهم طويلو العمر، إذ يعمرون إلى ما بعد المائة وعشرون سنة. كما وصفوا بأنهم أطول الناس قامة وأجملهم. (هيرودوت، تاريخ، ص 54 - 55)
وكان اليونانيون ينظرون إلى السودانيين القدماء نظرة فيها الكثير من التجلة والاحترام، فقد كانوا يعتقدون - كما ذكر أجاثرخيدس -"أنهم من أقدم البشر" ويقول: "إن الدليل على ذلك واضح، ذلك أنهم لم يأتوا كمهاجرين لكنهم أهل البلد، إذاً القول بأنهم أصليون مقبول من كل الناس. إنه أمر بَدَهي أن يكون سكان الجنوب هم أول من تخرجهم الأرض، لأن حرارة الشمس عملت على تجفيف الأرض من الرطوبة عندما وُلِدت كل الأشياء ودبت فيها الحياة. ويقولون إن من المحتمل أن أول الكائنات الحية ظهرت في المناطق القريبة من الشمس." (ديودور ص 18)
ووصف أجاثرخيدس قدماء السودانيين قائلاً: "كما يذكرون في الكتب أنهم أول من علم الناس تقديس المعبودات وتقديم القرابين لها، وتنظيم المواكب والاحتفالات وأشياء أخرى" ويقول عن ملوك السودانيين القدماء: "يتبع الملك في حياته النهج الذي تحدده قوانينهم، وفي العادة كان يتبع سنة الأسلاف لا يحابي أحداً، ولا يعاقب أحداً خلاف العرف المتبع عندهم" (ديودور ص 18)
ووضح هيرودوت أن عاصمة الاثيوبيون [السودانيون] هي مدينة مروي. (Herodotus, p 55) ومن المعروف أن مدينة مروي التي تقع في منطقة البجراوية الحالية شمال مدينة شندي كانت العاصمة الثانية لمملكة كوش الثانية. وقد وردت كتابة اسم هذه المدينة بطرق مختلفة. فأول ذكر لها ورد في المصادر اليونانية، وقد تُرجم اسم المدينة من نص هيرودوت المكتوب باللغة اليونانية إلى Meroe. (Edie, et al, Vol, 1 p 308) ومن العقول جداً أن يكون هيرودوت قد أخذ الاسم من اللغة المصرية القديمة. ويقول أركل إن أقدم رسم معروف لكلمة مروي وصلنا من اللغة اليونانية هو بَروا Barua. بينما يقول محمد ابراهيم بكر إن اسم مروي في اللغة المصرية القديمة هو بِدوي Bedewi. (محمد ابراهيم بكر، ص 141 وArkell, p 146)
وقد ورد ذكر مدينة مروي في نقش الملك الكوشي اماني نتي يركي في الكوة في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، كما ورد في مسلة الملك الكوشي نستاسن في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد. وقد ترجم رتشارد هلتن بيرس النصين إلي اللغة الانجليزية، فجاءت ترجمة كلمة مروي في النص الأول Meroe وفي النص الثاني Barawe، وترجمها بدج في نص الملك حرسيوتف Birawe وفي مكان آخركتب اسم المدينة Baruat. (ُEdie. et al, Vol. 1 p 401, 475 ) وذكر عبد القادر محمود أن اسم مدينة مروي يكتب باللغة المروية بِدويْ وبِرِويْ، بينما ذكر محمد ابراهيم بكر أنه يكتب باللغة المروية مَزِوي Mazewi. (عبد القادر محمود، ج1 ص 266 و324 ومحمد إبراهيم بكر، ص 141)
ويلاحظ اهتمام قدماء اليونانيين بتراث الأمة السودانية في تلك العصور المبكرة، فهل من أجل ذلك أخذنا بنطقهم لاسم عاصمتنا مروي وتركنا نطق أجدادنا لها؟
وجرت عادة بعض المؤرخين على ترجمة كلمة اثيوبيا في المصادر اليونانية والرومانية والكتاب المقدس إلى الحبشة وبدولة اثيويا الحديثة. ففي الأحداث المتعلقة بوزير الملكة الكوشية الكنداكة. فقد جاء في الكتاب المقدس مايلي:
"26 ثم إن ملاك الرب كلم فيلبُّس قائلاً: قم وأذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي برِّية على ماء * 27 فقام وذهب. فإذا رجل حبشي خَصِيْ وزير لكنداكة ملكة الحبشة كان على جميع خزائها ... 36 وفيما هما سائران في الطريق أقبلا على ماء. فقال الخصي هو هذا ماء ماذا يمنع أن أعتَمِد* 37 فقال فيلبس إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز. فأجاب وقال: أنا أُومن أن يسوع المسيح هو ابن الله ..." (أعمال الرسل الاصحاح 8 الآيات 26 - 40)
في النسخة الانجليزية جاءت الآية رقم 27 أعلاه كالآتي:
"So he started out, and on his way he met an Ethiopian eunuch, an important official in charge of all the treasury of Candace, queen of Ethiopian". (Acts 8:27)
ومن الواضح أن الشخص المذكور في الآيات هنا مقصود به أحد رجال الكنداكة ملكة كوش الثانية في العصر المروي. وقد وردت الاشارة إليه في الآية بالحبشي. والحبشة تعبير لاحق لم يكن مستخدماً أيام الرومان بل اشتهر في المصادر العربية يقابله Abyssinia في اللغة الانجليزية. ولكلمة الحبشة في المصادر العربية مدلولان، أحدهما خاص أطلق على مناطق دولة اثيوبيا وارتريا الحاليتين، ومدلول عام يشمل أراضي دولة السودان الحالية وأحيانا يتعدى ذلك ليشمل مناطق واسعة نحو الغرب كما قال المسعودي:
"وأما غير هؤلاء من الحبشة الذين قدمنا ذكرهم من أمعن في المغرب - مثل الزغاوة والكوكو والقراقر ومديدة ومريس والمبرس والملانة والقوماطي وزويلة والقرمة - ولكل واحد من هؤلاء وغيرهم من أنواع الأحابش ملك، ودار مملكة" (المسعودي، مروج الذهب، موقع الوراق ج 1 ص 176)
وقد أتت الاشارة " بالاثيوبي " إلى وزير الكنداكة في النص الانجليزي للكتاب المقدس. وذكر الأب فانتيني أن "أول مسيحي دخل أرض النوبة خصي من حاشية قنداقة وهي الملكة الأم في المملكة المروية" (فانتيني، ص 54)
فالحبشة في النص العربي للكتاب المقدس مقصود بها مملكة كوش الثانية في العصر المروي. لكن المؤرخ الاثيوبي سيرجيو سلاسي ذكر إن المسيحية بدأت في اثيوبيا [يقصد دولة اثيوبيا الحالية] مبكرا كما ورد في أعمال الرسل [النص الانجليزي] فإن خَصِيْ الملكة كنداكة ذهب إلى بيت المقدس وعمده فيليب.، وذكرأن الملكة كنداكة معروفة لأنها حاربت الرومان، وذكرأن أغلب الكتاب يفترضون أنها حكمت كل اثيوبيا" (Sellassie. P 97 )
لم يقل سلاسي إن كنداكة هي ملكة مملكة كوش الثانية (مروي) بل اعتبرها ملكة اثيوبيا التي كانت تعرف في ذلك الوقت بمملكة أكسوم. ويضيف سلاسي أن الكتاب اليونانيين ذكروا: "بعض المدن الاثيوبية التي لا تزال موجودة حتى اليوم وأغلب تلك المدن موجودة في اثيوبيا العليا التي هي السودان اليوم مثل نبتة ومروي" (Sellassie. P 49)
وفي واقع الأمر فإن سلاسي أرجع كل المواضع التي ذكرت فيها اثيوبيا وكوش في الكتاب المقدس إلى دولة اثيوبيا الحالية،(Sellassie. P 43) حتى النصوص التي ارتبطت مباشرة بملوك كوش المشهورين مثل الملك ترهاقا، كما ورد سفر اشعيا 37:9 "وسمع عن ترهاقة ملك كوش قولاً قد خرج ليحاربك" فعند سلاسي كوش هنا هي اثيوبيا الحديثة.
المراجع
جيوفاني فانتيني، تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث، الخرطوم: 1978.
ديودور الصقلي، وصف اثيوبيا والاثيوبيون، في سامية، السودان في كتب اليونان والرومان.
سامية بشير دفع الله، السودان في كتب اليونان والرومان، الخرطوم: جامعة السودان المفتوحة 2008.
عبد القادر محمود عبد الله، اللغة المروية، الرياض: جامعة الملك سعود.
ابن فضل الله العمري، التعريف بالمصطلح الشريف.، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
محمد ابراهيم بكر، تاريخ السودان القديم، القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية 1971.
هيرودوت، تاريخ هيرودوت، في سامية بشير دفع الله، السودان في كتب اليونان والرومان. الخرطوم: جامعة السودان المفتوحة 2008
Arkell, A. J. A History of the Sudan from the Earliest times to 1821, London: University of London, 1955.
Herodotus, History of Herodotus. Encyclopedia Britannica, second edition, 1980
Richard Holton Piere, in Eide et al, Fonte Historiae Nubiorum. P 401, 475.
Sellassie, Sergew Hable, Ancient and Medieval Ethiopian History to 1270 Addis Ababa: 1972, p 97.
Tormod Eide, Tormod Eide et. al. Fonte Historiae Nubiorum.
ahmed.elyas@gmail.com