#سواليف

ضمن مجريات الحرب النفسية، يتحدث أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن “اصطياد البط”، في إشارة إلى سقوط عدد كبير من قتلى جنود الاحتلال، لكن المصطلح يبدو شديد الدلالة على الاستنزاف الكبير لإسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا. إذ لم تستطع تحقيق أهداف على الأرض للرد على الهزيمة الإستراتيجية التي منيت بها منذ يوم “طوفان الأقصى”.

فبعد نحو شهرين ونصف الشهر، لا تزال إسرائيل تتخبط سياسيا وميدانيا في قطاع غزة بين جنوبه وشماله، وتتلقى خسائر فادحة، وفي المقابل تصب توابع “هزيمتها الإستراتيجية” على مدينة غزة وسكانها، حيث استشهد أكثر من 19 ألف مدني جراء وحشية غير مسبوقة، لكن الحروب وفق المفاهيم العسكرية لا تحسم فقط بالقتل والتدمير.

وتشير صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقرير لها إلى أن “الخسائر الإسرائيلية الأخيرة في ساحة المعركة في غزة تظهر أن الهدف الشامل للجيش الإسرائيلي لا يزال بعيد المنال”

مقالات ذات صلة إعلام الاحتلال .. 4 من قوات النخبة بين 9 عسكريين قتلوا خلال الـ24 ساعة الماضية 2023/12/19

ورأت الصحيفة أن ارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين في النطاق الحضري والبري في قطاع غزة حتى في شمال القطاع “يشير إلى تحول في تكتيكات الحرب العسكرية”، ونقلت عن المسؤول السابق في الموساد شالوم بن حنان قوله “في الأوساط العسكرية والأمنية بدأ البعض يشكك في الإستراتيجية”.

من جهتها، تشير صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية في تقرير لها إلى أن المعارك لا تنتهي في شمال غزة، كما أن مدينة رفح ودير البلح والتفاح والنصيرات والبريج لم يصلها الجيش الإسرائيلي بعد، “وكل ذلك يدفع الجيش للاستنتاج بأن نهاية الحرب بعيدة شهورا كثيرة، وأن كل إعلان عن قرب الحسم ضد حماس، وبالتأكيد تدميرها، هو إعلان منفصل عن الواقع ووهم”.

مئات الجنود الإسرائيليين سقطوا قتلى في المعارك بقطاع غزة (الجزيرة) سقوف عالية وأهداف إستراتيجية خائبة

كان “الرد الإستراتيجي” لإسرائيل على مجريات يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مدفوعا بإعادة الاعتبار للكثير من الأساطير التي هدمت والتي بنت عليها تفوقها على مستوى قوة #الجيش و #السلاح والتطور العلمي والتكنولوجي، وبناء على ذلك تمثلت الأهداف السياسية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة فيما يلي:

تدمير #المقاومة وسحق حركة حماس وقتل قادتها أو القبض عليهم. تحرير #الأسرى بالقوة العسكرية أو بالشروط الإسرائيلية. وقف استهداف غلاف #غزة والمدن الإسرائيلية بالصواريخ والمسيرات. تدمير #الأنفاق وسلاح المقاومة وجعل غزة خالية من السلاح. إعادة احتلال غزة كليا أو جزئيا. تقرير مستقبل غزة بما يتناسب مع أمن إسرائيل. إنهاء فكرة المقاومة في غزة وتفكيك بنيتها. تهجير الغزيين.

وفي المقابل، كانت المقاومة وعلى رأسها حركة #حماس في غزة تدرك، بفعل إنجاز يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي الباهر وأسر 240 من الجنود والضباط والمستوطنين، حجم الورقة التي بين يديها وتضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار، وفك الحصار، وتحرير جميع #الأسرى_الفلسطينيين من #سجون_الاحتلال. كانت تدرك أيضا أن دخول إسرائيل إلى القطاع سيكون ورطة كبيرة للجيش الإسرائيلي ستعزز الهزيمة الإستراتيجية التي منيت بها.

وبذلك تعد مقولة ” #اصطياد_البط “، التي تحدث عنها #أبو_عبيدة، تلخيصا للإستراتيجية العامة للمقاومة التي ترتكز على الصمود في الميدان، واستنزاف الجيش الإسرائيلي، وتكبيده خسائر فادحة في المعدات والأفراد، وفضح ممارساته الوحشية، والضغط على المجتمع الإسرائيلي نفسيا وسياسيا بورقة الأسرى والقتلى، والانفتاح بالمقابل على أي هدنة أو وقف لإطلاق النار وإطلاق الأسرى والمحتجزين بالشروط المناسبة.

تدرك المقاومة أيضا أن إسرائيل ليست مستعدة للحروب الطويلة والخسائر الكبيرة والتعبئة العامة المستمرة، وليست مستعدة أيضا لحروب الشوارع والمواجهات المباشرة، إذ تقوم نظريتها الأمنية بالأساس على الحروب الخاطفة والاستباقية، كما أن أساليبها الوحشية أصبحت أكثر رفضا وإدانة من المجتمع الدولي.

ويقول جون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز السياسات الدولية والإستراتيجية في واشنطن في مقال بمجلة “ذا نيشن”:

“إن حماس تسعى إلى استخدام قوة إسرائيل الكبرى بكثير لهزيمة إسرائيل نفسها، إن قوة إسرائيل تسمح لها بقتل المدنيين الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية الفلسطينية وتحدي الدعوات العالمية لضبط النفس، وكل هذه الأمور تعزز أهداف حماس على المدى الطويل”

بواسطة جون ألترمان

إسرائيل خسرت مئات الآليات خلال توغلها في غزة (مواقع التواصل) الواقع الميداني.. استنزاف بلا نتائج

وفقا للمعطيات التي نشرها الجيش الإسرائيلي على موقعه حتى يوم الخميس 15 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بلغ عدد قتلاه 445 عسكريا، بينهم 119 ضابطا من مختلف الرتب (منهم 5 برتبة عقيد و8 برتبة مقدم و43 برتبة رائد)، وينتمي 60 من القتلى إلى فرق النخبة.

وتؤكد المقاومة على لسان المتحدث الرسمي لكتائب القسام أن عدد القتلى أكبر بكثير مما يعلنه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وترجح المقاطع المنشورة عن الحرب وما ينشره الإعلام الإسرائيلي ذلك، وكذلك ما يرصد من قتلى وجرحى في المستشفيات، حيث أفادت صحيفة “هآرتس” بأن عدد الجرحى في المستشفيات الإسرائيلية بلغ حتى 12 ديسمبر/كانون الأول الحالي 4591 جريحا.

ويرى خبراء عسكريون أن الخسائر الحقيقية للجيش الإسرائيلي قد تصل إلى عشرة أضعاف الأعداد المصرح بها رسميا بناءً على متابعات ميدانية لأطوار الحرب ووقائعها اليومية.

كما تشير التقديرات إلى أن الجيش الإسرائيلي فقد مئات الآليات من مختلف الأنواع، من بينها أكثر 90 دبابة ميركافا التي تعد فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية، مما يمثل نحو 20% من ترسانة إسرائيل من هذه الدبابات. وقد أوقفت تل أبيب فعليا بيعها لبعض الدول، بينها قبرص، وفق موقع “آفيا برو”.

وتظهر العمليات الميدانية أن شوارع غزة وبناياتها وركامها تحولت إلى متاهة معقدة وأفخاخ مميتة للجيش الإسرائيلي، في حين تطبق المقاومة تكتيكاتها القتالية التي توعدت بها جيش الاحتلال، وتستخدم مخزونها من الأسلحة ومعرفتها بالميدان وشبكة الأنفاق المعقدة لاستنزاف إسرائيل بشكل يومي، في وقت يزداد فيه التوتر والتخبط الإسرائيلي، ويرتفع معه عدد القتلى بالنيران الصديقة بمن فيهم الأسرى.

وفي المقابل ما زالت المقاومة وحركة حماس محافظة على بنيتها العسكرية والتنظيمية كاملة، وقدرتها على الضبط والربط والسيطرة، والمباغتة والآداء القتالي بالوتيرة والتنويع نفسيهما في العمليات القتالية، وبقيت محتفظة بقوتها الصاروخية، وتواصل قصف العمق الإسرائيلي حتى من داخل المناطق التي أعلنت إسرائيل السيطرة عليها.

كما أن المقاومة ما زالت تحتفظ بالأسرى والمحتجزين، وخصوصا العسكريين والضباط منهم، كورقة أساسية للضغط العسكري والسياسي والنفسي على الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي. وتعززت أيضا بيئتها الحاضنة والمؤيدة في قطاع غزة والضفة الغربية على عكس ما كانت تخطط له إسرائيل، وفق آخر استطلاعات الرأي.

وفي المحصلة، تظهر خيبة “الرد الإستراتيجي” الإسرائيلي، إذ لم ينجز جيشها أي أهداف عسكرية أو سياسية حاسمة، فتوغل قوات الاحتلال في غزة كان منتظرا بحكم عدم توازن القوى، وقصفها الوحشي للمرافق كان منتظرا بحكم انفلاتها من كل قانون دولي إنساني، ولم تحقق إلا التدمير الوحشي وارتكاب الجرائم وقتل آلاف المدنيين، غالبيتهم أطفال ونساء، وبات البحث عن حل لإيقاف النزيف أقرب لاعتبارات عديدة من بينها:

الخسائر العسكرية الهائلة غير المحسوبة، وسقوط نظرية الحسم الميداني. فقدان الهيبة العسكرية والأداء القتالي المتواضع على الأرض. تراكم الخسائر الاقتصادية التي بلغت أكثر من 51 مليار دولار. الشرخ العميق في المجتمع الإسرائيلي، وتزايد حركة النزوح والهجرة والفرار. تعمق الأزمة السياسية الداخلية بما ينذر بتوتر داخلي شديد. استمرار تآكل ثقة الإسرائيليين في الجيش والأجهزة الأمنية. انقلاب الرأي العام العالمي على السرديات الإسرائيلية. تغير المواقف الدولية من الحرب على قطاع غزة، والمطالبة بوقفها. فشل مخططات التهجير، ورفض المجتمع الدولي مختلف السيناريوهات الإسرائيلية المماثلة. التخوف من حرب متعددة الجبهات وفي ساحات مختلفة. الفشل في كسر إرادة المقاومة، والتأكد من قدرتها على الصمود واستعدادها للقتال لمدة طويلة بأسلوب الهجمات والغارات المفاجئة والفخاخ والتفجير والقنص.

وتشبه مجلة “ذا نيشن” في تقرير لها الحرب في قطاع غزة ونتائجها الراهنة بما حصل مع الولايات المتحدة في حرب فيتنام، مستحضرة مقولة وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر عام 1969 “لقد خضنا حربا عسكرية وخاض خصومنا معركة سياسية، سعينا للاستنزاف الجسدي، وسعوا إلى إنهاكنا النفسي، وتبعا لذلك فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر”.

بنيامين نتنياهو  يواجه معارضة وانتقادات شديدة في إدارة ملف الحرب والأسرى (رويترز) مأزق الخروج وحل الهدنة

تجد إسرائيل نفسها في مأزق عسكري وسياسي واقتصادي وأخلاقي، مع صورة تزداد تشوها لدى المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، وضغوط دولية تشتد لوقف الحرب، وجبهات أخرى تتحفز، وقد ازدادت الورطة بعد رفض تمديد الهدنة الإنسانية والإصرار على توسيع المعركة البرية نحو وسط وجنوب قطاع غزة.

ويرى محللون أن مضي جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب بوتيرة الخسائر الحالية، واستعداد المقاومة للقتال لأشهر، لن يمكنا إسرائيل من تحقيق أهدافها الإستراتيجية، كما أن القبول بوقفها سيتسبب في آثار كارثية عليها، سياسيا وعسكريا وأمنيا.

ويشير الكاتب يوسي ميلمان، في مقال بصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، إلى أن الحرب في قطاع غزة تتحول إلى حرب استنزاف طويلة قائلا:

“إنّ خطر الغرق في وحل شتاء غزّة، بالمعنى الحرفي والمجازي، يصبح أكثر بروزا عندما لا يكون من الواضح على الإطلاق ما الأهداف الحقيقية والواقعية للحرب، وما إذا كان من الممكن تحقيقها بالفعل”

بواسطة الكاتب يوسي ميلمان

في حروبها السابقة، وضعت إسرائيل سقوفا عالية لحملتها العسكرية، لكنها تراجعت عنها تحت وطأة الخسائر العسكرية واستحالة تحقيقها. ففي حرب يوليو/تموز 2006 مع حزب الله، وضعت أهدافا تتمثل في تدمير التنظيم ونزع سلاحه، وتحرير جنديين أسيرين، وبناء منظومة أمنية جديدة في المنطقة، وشنت حملة تدمير واسعة على جنوبي لبنان، في حين كانت مطالب حزب الله تتمثل في وقف إطلاق النار وإطلاق سراح جميع الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية.

واضطرت إسرائيل بعد 34 يوما تكبدت فيها خسائر كبيرة إلى وقف القتال، وشرعت في مفاوضات غير مباشرة أدت إلى إطلاق سراح كل الأسرى اللبنانيين في سجونها، ولم تحقق أيا من الأهداف الأخرى. وفي حروبها التالية على غزة (2008 و2014) فشلت أيضا في تحقيق أهدافها، واضطرت إلى وقف حملاتها أو الانسحاب بلا نتائج تذكر.

قضية الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة تشكل ضغطا كبيرا على نتنياهو وحكومته (غيتي)

تشير التقديرات والوقائع الميدانية إلى أنه بات من الواضح لبنيامين نتنياهو وحكومته أن المضي في الحرب لمدة أطول لن يتيح ظروفا عسكرية وسياسية أفضل لتحقيق أي أهداف، بل سيفاقم المأزق الإستراتيجي، وبالتالي فإن إطلاق ما بقي من الأسرى لدى حماس والمقاومة في غزة -وهم يمثلون الكتلة الأهم- لن يتم إلا عبر مفاوضات، تستوجب تقديم تنازلات “مؤلمة” والقبول بشروط المقاومة للتبادل، وسيكون الهدف تحسين هذه الشروط بما يخفف من وقع الهزيمة الإستراتيجية.

وفي هذا السياق، يرى المحلل الخاص بالشؤون العسكرية في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل (يوم 14 ديسمبر/كانون الأول الحالي) أن الأهداف الإسرائيلية في حربها على قطاع غزة مرتبكة، قائلا إن “رغبة الجيش الإسرائيلي في إلحاق مزيد من الضرر بحركة حماس تتناقض مع جهود تأمين صفقة لإطلاق سراح الأسرى”.

وتترافق الخسائر الكبيرة في الميدان مع ارتباك في الأهداف، وحيرة في سبل الخروج من المأزق، وضغوط داخلية وخارجية لوقف الحرب، وصورة تتلطخ بالمجازر يوميا، وإصرار من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على تحقيق حد أدنى من الإنجاز خوفا من مصير سلفه إيهود أولمرت بعد حرب 2006.

يدرك نتنياهو أن وقف الحرب أيضا ستكون له أيضا تداعيات كارثية على مستقبله السياسي، وقد تقوده إلى المحاكمة والسجن كما يطالب معارضوه، كما ستكون له آثار خطيرة على بنية المجتمع الإسرائيلي عسكريا وسياسيا وأمنيا، لكن التقاط فرصة للخروج من الورطة والقبول بمبادرة هدنة طويلة أو دائمة وإطلاق الأسرى في ظل التحركات الدولية الجارية سيمثل المسار الأقل تكلفة للنزول من أعلى الشجرة.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف الجيش السلاح المقاومة الأسرى غزة الأنفاق حماس الأسرى الفلسطينيين سجون الاحتلال أبو عبيدة المجتمع الإسرائیلی للجیش الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی فی قطاع غزة إلى أن کما أن فی غزة

إقرأ أيضاً:

عقدة “بيت العنكبوت” تطارد نتنياهو

 

 

أول سطر في كتاب التحرير “بيت عنكبوت”، خطه القائد المقاوم بأحرف من نور النصر، مفتتحًا زمن الانتصارات معلنًا وأد زمن الهزائم، بضع كلمات حفرت عميقًا في وجدان الأمة، أنهضتها من سباتها العميق فانبعثت آمالها من جديد باستعادة الحقوق التاريخية المسلوبة قسرًا، يوم شهدت وشهد العالم معها مصداق التحرير في جنوب لبنان من رجس الاحتلال وكيف فرّ جيش صوروه بأنه “لا يقهر” هاربًا تاركًا خلفه كل شيء.. شاهدوا يومها نثر الأرز والزغاريد والأناشيد وسمعوا الشكر والحمد على التحرير (“الحمد الله اللي تحررنا”) .. يومها فقط رأوا بأم أعينهم الفرحة العارمة التي لا توصف لشعب حقق عزته وكرامته بسواعد مجاهديه، ولم ينتظر قمم العرب ومبادراتهم ومؤتمراتهم، ولا مساعداتهم المرهونة بتوقيع اتفاقات الذل والاستسلام.
خمسة وعشرون عامًا تقريبًا وصدى عبارة “بيت العنكبوت” التي وصّف بها سماحة الشهيد القائد السيد حسن نصر الله “إسرائيل” تتردد على مسامعنا، مذ أطلقها سماحته من بنت جبيل في خطاب النصر والتحرير في 25 أيار 2000، دخلت التاريخ من بوابته الواسعة، كونها خطت بدماء وتضحيات المقاومين، وأسست لمرحلة مفصلية دخل فيها لبنان ومعه المنطقة كلها زمن الانتصارات، بعدما ولى زمن الهزائم.
أبدع بعض العرب ربما بابتداع مصطلحات هزيمتهم، فخط المفكر القومي قسطنطين زريق مصطلح “النكبة” بعد تأسيس الكيان على هياكل الشعب الفلسطيني عام 1948، كذا فعل “صحفي القرن” الراحل محمد حسنين هيكل يوم تلاعب بعبارة الهزيمة فاجترع مصطلح “النكسة” للتخفيف من وطأة انكسار العرب كي لا تتحول هزيمتهم نكبة ثانية لا تقوم لهم قائمة بعدها، لكن سيكتب التاريخ أن أول من كتب أسطر النصر بالخط العريض كان سماحة السيد حسن نصر الله بعبارته الشهيرة:”والله، إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت”.
وإذا كانت مصطلحات “النكبة” و”النكسة” أسست لمرحلة طويلة من الانهزام العربي، ودفعت أصحاب القضية من الدول المعنية للتنازل عن خيار المقاومة والاستسلام لخيار الخنوع بمسمى “السلام” في “كامب ديفيد” و”أوسلو” و”مدريد”، فإن لبنان ومعه سورية لم يدخلا قط في قطار الهزيمة، فكانت المقاومة وتعاظمت وكبرت لتحقق في العام 2000 أول نصر وتحرير لأراضٍ عربية بقوة المقاومة والسلاح، ولتكتب بعد ذلك صفحات من العز والكرامة كانت الأمة بأمس الحاجة إليها لتستنهض من جديد وتحيي شعلة آمالها بأن تحرير فلسطين لم يعد خيالاً أو بدعة، بل صار قابلاً للتحقق كما حصل في جنوب لبنان.
ولأن عقدة “بيت العنكبوت” كانت بحجم الأمة وأخرجتها من حالة “كي الوعي” إلى حالة “قمة الوعي” بحتمية النصر بحال سلوك خيار المقاومة، فإن وقعها كان أقسى وأشد وطأة على كيان العدو، وليس غريبًا أن نرى رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو مهجوسًا بها، كأنها تتلبسه إلى حد الهوس، فتكاد لا تغيب عن لسانه من بوابة السعي لمحو تلك الصورة الهشة التي رسمها سيد المقاومة عن كيانه، لعل نتنياهو يدرك عميقًا في صميم ذاته أنها استحالت واقعًا لا مفر منه، فيحاول جاهدًا بين الحين والآخر تصوير كيانه على أنه “ليس بيت عنكبوت إنما بيت من فولاذ”، كما ردد منذ أسابيع قليلة، مكرراً ما قاله منذ تسعة أشهر أيضًا..، ليعيدنا بالذاكرة إلى حرب تموز عام 2006 يوم سعى جيش العدو إلى رد اعتباره بعد هزيمة عام 2000، فأطلق عملية “إسرائيل خيوط من فولاذ” التي هدف من خلالها للوصول إلى مدينة بنت جبيل ورفع العلم داخل الملعب الذي أطلقت منه عبارة “بيت العنكبوت”، وحينما فشل بالوصول، طلب من جنوده الوصول إلى أقرب نقطة من الملعب على بعد كيلومتر واحد. وبمجرد رفع العلم فوق منزل هناك، استُهدفوا بقذيفة مباشرة.
العدو الذي هزته ولا تزال تهزه حتى يومنا هذا، كلمتان لسماحة السيد نصر الله، قد يكون وضع من صلب أهدافه في الحرب القائمة حاليًا أيضًا الدخول الى مدينة بنت جبيل والسعي لمحاولة زرع العلم “الإسرائيلي” من جديد في المكان الذي أطلق منه سيدنا العبارة الشهيرة، ولعل هذا جائز فعلاً باعتبار أنه لم يتمكن من تحقيق هذا الهدف في حرب تموز 2006، وفق ما وثّق كتاب صدر آنذاك للمراسل العسكري في “هآرتس” “عاموس هرئيل” وزميله “آفي يسخاروف” اللذين كشفا خلاله أن السبب الوحيد للحرب “الإسرائيلية” على لبنان كان رغبة المجتمع والجيش “الإسرائيلي” الجامحة والمكبوتة في “إسرائيل” بنفي نظرية الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إن “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”. إذ يقر الكتاب بأن “إسرائيل” خرجت للحرب من أجل هذه الغاية، لكن حصاد الحرب رسخ في وعي المجتمع والجيش في إسرائيل نظرية “بيت العنكبوت”.
ولعل عبارة “بيت العنكبوت” كانت موفقة إلى الحد الذي يجعلنا نتصور هشاشة ذلك البيت عند كل فعل مقاوم يهزأ بالعدو ويظهر ضعفه.. ظهر تجسيد العبارة جليًا في أحداث السابع من أوكتوبر 2023، حينما حطّم بضع مئات من المقاومين كل المنظومة الأمنية والعسكرية الصهيونية على تخوم غزة في ثلاث ساعات فقط، وتكرر المشهد على مدى عام ونيف في صليات صواريخ المقاومين اللبنانيين ومسيراتهم التي تصول وتجول في أرجاء الكيان وتدخل صالة طعام جنوده في “بنيامينا” وغرفة نوم نتنياهو في “قيسارية” ورأيناه بعدما عجزت “إسرائيل” عاماً كامل عن اغتيال قائد “حماس” يحيى السنوار الذي أذلها في حياته وفي استشهاده يوم استهزأ بتكنولوجياتها المتطورة وضربها بعصاه وواجه جيشها حتى آخر رصاصة .. رأيناه في الضربات الإيرانية الصاروخية التي شلت ولعثمت قادة العدو وجنرالاته.. وشاهدناها بالتصدي البطولي الذي يخوضه بضع مئات من المقاومين الذين صدوا أكثر من 5 فرق مؤلفة من 65 ألف جندي ومنعوها من دخول قرى أمامية تعرضت لمسح عن الخارطة لكنها ما زالت ثابتة تقاوم .. ولولا المظلة الأميركية لانهارت “إسرائيل” منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى، لكن ما أبقاها على قيد الحياة هو أوكسجين الدعم العسكري والمادي اللا محدود بأحدث أنواع الذخائر والأسلحة، وآخرها قاذفات “B2” ومنظومة “ثاد” الدفاعية، عقب فشل القبة الحديدية، وقبلها البوارج وحاملات الطائرات التي لم تغادر بحَارنا و”تحالف حارس الازدهار” الذي رافقها لمواجهة اليمن.
يكفي تكرار رأس هرم قادة العدو لعبارة سيد المقاومة التي أطلقت قبل حوالي 25 عامًا لنكتشف حجم ارتدادات هذه العبارة التي استحالت كابوساً لقادة العدو في يقظتهم ومنامهم، ودليلاً على أن العدو كان يعد العدة منذ ذلك الزمن للانتقام من المقاومة وقادتها.. قد يحاول العدو جاهدًا مسح صورة “بيت العنكبوت” عنه، لكن الميدان سيعاود تذكيره بها عند كل حي وبلدة وطريق ومفترق.. ولئن استشهد سيد المقاومة فقد غدت كلماته ثقافة جهادية عملية يصعب محوها من الكتب والسجلات بل يستحيل انتزاعها من قلوب وعقول ملايين المحبين في الأمة الذين باتوا يؤمنون بها وينتهجونها في مسارهم العملي المقاوم، بل بات يصعب ويستحيل انتزاعها من عقول المستوطنين الصهاينة الذين باتوا موقنين من مصير كيانهم المحتوم وبأن بيتهم “أوهن من بيت العنكبوت”.. وستظل تلك العبارة تلاحقهم وتطاردهم وتؤرقهم حتى يحزموا حقائبهم ويغادروا آخر شبر من فلسطين المحتلة.

مقالات مشابهة

  • “التعاون الإسلامي” تُدين استمرار المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة
  • المقاومة الفلسطينية تستهدف بعبوة “ثاقب” آلية عسكرية للاحتلال الإسرائيلي غرب بيت لاهيا شمال قطاع غزة
  • ضجة في “لاهاف 433” الإسرائيلية على خلفية قضية “مساعدة العدو في زمن الحرب”
  • إعلام عبري يكشف عن اتخاذ إسرائيل قرارا “حاسما” بشأن الحرب في لبنان
  • كتيبة جنين تستهدف التجهيزات العسكرية بمستوطنة “شاكيد” شمالي الضفة
  • الصمادي: المقاومة بغزة تتكيف مع الواقع وتخوض معركة استنزاف طويلة
  • “حزب الله” يبث مشاهد قصف مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية بصواريخ باليستية
  • عقدة “بيت العنكبوت” تطارد نتنياهو
  • «القاهرة الإخبارية»: إسرائيل تخشى من تحول العمليات العسكرية في لبنان إلى حرب استنزاف
  • وحدة الدفاع الجوي في المقاومة اللبنانية تسقط طائرة مسيّرة للعدو الإسرائيلي من نوع “هرمز 450” في أجواء القطاع الشرقي بصاروخ أرض جو