أس الكوارث في عالم اليوم بل ومنذ سادت مفاهيم مدرسة تجريد السياسة من القيم والأخلاق والتي من رواد ها من يدعي أنه : (لا يوجد أخلاق في السياسة ) ومن يشبهها بأعمال ال…وثالث يواجه انتقادك لسياسة بعض الدول ذات التأثير السلبي على السياسة الدولية وأساليب تدخلها في شئون الدول الفقيرة وغير القادرة على الدفاع عن سيادتها بالقول أن: (السياسة مصالح)، وبذلك يحق للدول القادرة والمهيمنة عسكرياً أو مالياً القيام بكل ما تقوم به من مؤامرات واعتداءات وتدخلات في شئون أي دولة بحجة الدفاع عن مصالحها، ولا يهم ما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة من حق الدول المتساوي في الدفاع عن سيادتها وغالباً ما تتضارب مصالح الدول المهيمنة مع سيادة ومصالح الدول الواقعة تحت الهيمنة ورابع وخامس وإلى ما لا يحد من تنظيرات وتبريرات سوء استخدام الفعل السياسي وتجريده بالكامل من أي بعد أخلاقي بالمقولة المنسوبة إلى ميكافلي: (الغاية تبرر الوسيلة) وأقول المنسوبة اعتمادي على فهمي للمقولة من كتابه الشهير(الأمير) أي أن المقولة ما هي إلا توصيف لحال السلطة في وطنه إيطاليا ورجال الحكم والبلاط الإيطالي والمتعاملين مع السلطة المحكومة بسلوك مؤداه أن من يمارس السلطة يبرر أو تبرر له كل الجرائم التي يرتكبها من خلال هذه الممارسة مهما كانت الوسيلة تطبيقا لمبدأ: (الغاية تبرر الوسيلة)، وهذا المبدأ لا يفرق بين المصالح المشروعة وغير المشروعة بالمخالفة لكل المبادئ التي تحث الإنسان على التمسك بالقيم وتحمل كافة أنواع المشاق في سبيل تحقيقها بل وتخالف المبدأ الرياضي القائل: (البدايات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة ) والأساس الهش لا يمكن أن يبنى عليه بناء قوي!؛
من خلال هذه القواعد والمبادئ التي صارت شبه بديهية نصل إلى نتيجة منطقية وهي : أن محاولات القسم الأكبر من ممارسي فعل السياسة تجريد هذا الفعل من الأخلاق والقيم أحد أهم الأسباب لما تعانيه البشرية بل وكل شركاء الحياة والبيئة من ويلات ومآس ومظالم نتجت عن استباحة قتل الإنسان لأخيه الإنسان بدم بارد وبصورة يصعب تحديد مستوى وحشيتها والتفنن في أساليبها والأمثلة كثيرة لما عاناه العالم من حروب وويلات ناتجة عن نزعات شريرة ديكتاتورية عرضت البشرية للويلات وذاق الناس الكثير من المعاناة والعذاب ومن ذلك ما صنعه هتلر وستالين وموسوليني وكثير غيرهم وآخر النماذج البشعة ما يمارسه الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين منذ خمسة وسبعين عاما من إبادة جماعية وتنكيل وما يمارسه الحكام والشعوب العربية من خذلان بل وتآمر وبشتى الصور والأساليب الظاهرة والخفية!؛
إن نماذج المكر والوحشية الغربية لم تمنع الفيلسوف الفرنسي المسلم الراحل روجيه غارودي من الجهر برؤيته حول هذه الوحشية بل وقدم الإسلام في ثوب حضاري مستخلص من قراءة ثاقبة للتاريخ مقارناً موجات استعمال العنف لبسط النفوذ على العالم وانتقالها من استخدام الأسلحة البدائية إلى أحدث أنواعها الفتاكة، هذه المقارنة أوصلته إلى وصف الغرب المهيمن على سياسة عالم اليوم بأنه أكبر مجرم في التاريخ بقوله : (أي اسم يطلق اليوم على هذا الشكل من هيمنة الغرب العالمية الذي أنفق 450 أربعمائة وخمسين مليار دولار في التسلح عام 1980 والذي سبب موت 50 خمسين مليونا من الكائنات البشرية في العالم الثالث نتيجة للعبة المقايضات غير المتساوية، فإن الغرب في منظور آلاف السنين هو أكبر مجرم في التاريخ .
ومعروف أن جارودي جاء إلى الإسلام عبر المرور بمحطات فكرية وفلسفية عديدة، ولهذا كانت نظرته إليه على درجة عالية من النضج العقلي والعلمي والمعرفي تعكس تجربة مميزة تستحق التأمل وإعادة التفكير في النماذج التي بترت الإسلام من سياقه التاريخي والفلسفي وتدفع إلى التخلص من أسباب الجمود والسطحية في فهمه التي سببها بعض الفقهاء المنتسبين للإسلام فموجات العنف المنسوبة للإسلام والمعروفة بالفتوحات والغزوات دافعها سياسي سلطوي وليس ديني وتندرج ضمن الكوارث التي عانى منها البشر، ولا تستقيم حال الإنسان إلا باتباع منهج علمي صارم ومحايد لمعرفة الخطأ من الصواب في مسار التاريخ وتعزيز مكانة الحوار الحضاري الإنساني.
من المؤكد أن السياسة مصالح، ولكن كيف يسمح الإنسان لمن يمارس الحكم والسلطة باستباحة الجرائم والمحرمات بعناوين وشعارات وتبريرات غير مفهومة تضرب بمكارم الأخلاق ونقاء الضمير وفضيلة الأخوة الإنسانية عرض الحائط بدعوى أن هذا السلوك سياسة تبيح كل أساليب المكر السيئ، ومعلوم أن المكر السيئ إنما يحيط بأهله كما جاء في القرآن الكريم، أما المكر الحسن فيتجلى في حسن التدبير وبذل أقصى جهد لجعل السياسة قائمة على الحكمة وتصبح فعلاً (فن الممكن) لا فن الكذب والخداع القائم على استباحة كل المحرمات الدينية والأخلاقية..
كنت أحسب أني أضأت الطريق
بنار احتراقي
غير أن المسافة بيني وبيني.. تكذبني.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
عن اليأس من السياسة
أن أبدأ حديثًا في «السياسة» أو عنها بمحاولة تعريفها فهذا بحد ذاته استهلال محبط؛ فالمفهوم الذي نرومه في هذا السياق يظل مستعصيًا على الضبط، وميدانَ سجال تنظيري على مختلف المراحل. تتنازع هذا المفهوم فلسفات وتيارات وعقائد، وأهواء متباينة بلا شك، منذ أرسطو، رائد عِلم السياسةِ والقائل إنها علم السيادة و «سيدة العلوم»، إلى الميكافيلية التي تعرض السياسة كـ «فن للدولة»، وصولًا إلى التعريف الماركسي للسياسة على أنها «علم دراسة المصالح المتضاربة وانعكاسها على تكوين السلطة والحفاظ على امتيازات الطبقة الحاكمة»... فضلًا عن الكتابات المعاصرة حول هذا المفهوم. ولذا، من أجل تجاوز الجدل حول تعريف السياسة، أدعو القارئ للعودة إلى الجزء الثالث من موسوعة السياسة لعبد الوهاب الكيالي، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (ص362 إلى ص372).
مشكلتنا مع تعريف السياسة تبدو إلى حد ما شبيهة بالجدل الحائم حول مفهوم أساسي آخر؛ ألا وهو الثقافة. ومن الصعب أن يستوعب المرء كيف جرى تصوير السياسة والثقافة بوصفهما نشاطين متعارضين أو في حالة من التضاد الدائم؛ فبين ما هو «سياسي» من جهة وما هو «ثقافي» من جهة أخرى، ثمة حدود غير مرئية وزوايا عمياء ومساحات اشتباك متنازع عليها في الكتابة كما في الممارسة، ونستطيع أن نتأملها في الاحتكاك القائم بين المثقفين والسياسيين.
ولكن إذا ما فهمنا السياسة بوصفها نشاطًا متصلًا بكافة شؤون حياتنا، فهي بهذا المعنى الشامل تكفي لتبرير التعقيد والاضطراب الذي يشوب تعريفها النظري. بيد أن الأهم في هذا السياق ليس التعريف الأكاديمي الذي يدرسه طلاب العلوم السياسية في الجامعات، بل هو مفهوم الناس عن السياسة وتطلعاتهم وحقوقهم المرتبطة بها وحدود ممارستها الفردية، إضافة إلى الدلالة اللغوية التي تحملها الكلمة ووقعها عليهم.
مع أن حياة الناس وشؤونهم اليومية، بما فيها تلك الخاصة جدًا، هي رهن لتطورات الواقع السياسي وانعكاساته على مساحاتهم الشخصية، ومع أن حياتهم، بمعنى أعمّ، هي المادة الخام لصناعة السياسة والاشتغال السياسي، إلا أن نسبة مشاركتهم في مجالها الرسمي تتراجع يومًا عن يومٍ على نحو يستدعي القلق. والحديث هنا ليس عن بلدان العالم العربي البعيد عن بديهيات هذا النقاش، وإنما عن دول أوروبية ذات الديمقراطيات الراسخة، وعن الدول الناطقة بالإنجليزية مثل بريطانيا والولايات المتحدة وكندا، حيث يُلحظ انسحاب شرائح واسعة من الممارسة الرسمية للسياسة (التصويت) إلى الممارسات غير الرسمية؛ مثل الاحتجاج أو المقاطعة، تنفيسًا عن الكبْت السياسي، أو نتيجة لما يصفه كولن هاي بـ «خيبة الأمل السياسية» في هذه البلدان.
فك الارتباط هذا، عن السياسة بمعناها الرسمي، هو ما يدفع كولن هاي، الأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس والمدير المؤسس لمعهد بحوث الاقتصاد السياسي (SPERI) في جامعة شيفيلد، ليتساءل ببساطة: لماذا نكره السياسة؟ وهو عنوان ملفت كان قد صدر بالعربية عن منشورات جدل عام 2007 بترجمة خالد حافظي، وفيه يستقصي كولن هاي تراجع نسب المشاركة في الانتخابات إلى مستويات غير مسبوقة في البلدان التي يصفها بالديمقراطيات الليبرالية المتقدمة، خاصة لدى فئة الشباب الذين يتساءلون عن جدوى التعبير السياسي الرسمي في ظل الاحتكار القائم للفعل السياسي، وفي مجتمعات هي في الأصل تعاني من «مشكلات الفعل الجماعي» التي تستعصي على الحل خارج التفكير بالحل السياسي.
لا يرى كولن هاي في تراجع نسب المشاركة السياسية مؤشرًا على فقدان حماسة المشاركة في العملية الانتخابية فحسب، بل علامة على اليأس السياسي العام، حيث تفقد كلمة «السياسة» أو «سياسي» دلالاتها الإيجابية لتتحول بمرور الوقت إلى «كلمة بذيئة» على حد تعبيره: «لقد باتت «السياسة» مصطلحًا يكتسب مجموعة كاملة من الارتباطات والدلالات السلبية بالكامل في الخطاب المعاصر؛ وأصبحت السياسة مرادفًا للفساد والضلال والازدواجية والجشع والمصلحة الذاتية والصلف والتدخل وعدم الكفاءة والعناد. إنها في أحسن الأحوال شر لا بد منه، وفي أسوأ الأحوال قوة خبيثة بالكامل يجب السيطرة عليها».
لا ينطلق كولن هاي في رؤيته لتشوه معنى السياسة المعاصرة من نظرة حنين ماضوية إلى ما كانت تعنيه السياسة، فهو يؤكد أن ذلك العالم الأسطوري الذي تمتع فيه المجتمع بمشاركة سياسية شبه كاملة عالم لم يكن موجودًا في يوم من الأيام. مع ذلك؛ لا نجده يتردد في إعلان عصرنا عصرًا للسخط السياسي بامتياز، وعصر خيبة الأمل من كل ما هو مرتبط بالسياسة، حتى لو كانت خيبة الأمل من ممارسة السياسة كناشط تغييري ناتجة في الكثير من الأحيان عن سوء فهم لما تعنيه السياسة، حيث تصبح نصيحة كولن هاي ضرورية أكثر:
«إذا فهمنا السياسة بشكل أفضل فإننا سنتوقعُ منها أقل».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني