تتسابق الأحزاب السياسية في تركيا مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية إلى إعلان مرشحيها في البلديات الكبرى والفرعية، في حين تعيد وتيرة اللقاءات المكثفة بين رجالات السياسة الفاعلين تشكيل خارطة التحالفات السياسية التي رسمتها الانتخابات الرئاسية والنيابية منتصف العام الجاري، والتي انتهت بفوز تحالف الجمهور بقيادة الحزب الحاكم والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمقعد الرئاسة والأغلبية البرلمانية.



وأعلن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، عن أسماء 226 مرشحا لرئاسة البلدية في الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في 31 آذار /مارس المقبل، بينهم أربعة مرشحين لبلديات المدن الكبرى وهي إسطنبول وأنقرة وبورصا وبلق أسير.

وفي مدينتي إسطنبول وأنقرة، استقر قرار "الشعب الجمهوري" على إعادة ترشيح رئيسي البلدية الحاليين أكرم إمام أوغلو ومنصور يواش، اللذين اضطلعا بدور كبير في الحملة الانتخابية خلال الانتخابات الرئاسية، وهو ما تسبب بموجة انتقادات حادة لهما بحجة انشغالهما عن أداء مهامهما الرسمية التي انتخبا لأجلها، في سبيل الخوض في غمار معركة الرئاسة على أمل الفوز بمنصب نائب الرئيس.

في المقابل، لم يعلن حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يقود تحالف "الجمهور" المتكون من مجموعة من الأحزاب المحافظة، عن أسماء مرشحيه بعد، فيما تتصاعد الأنباء عن عزم الرئيس رجب طيب أردوغان الكشف عن المرشحين قبل نهاية العام الجاري.

والأحد، عقد اجتماع في مديرية إسطنبول التابعة لحزب العدالة والتنمية من أجل إجراء استطلاع رأي بمشاركة رؤساء المناطق الفرعية بالمدن والأذرع الشبابية والنسائية للحزب، بحضور أردوغان، لكنه لم يسفر عن بيان حاسم بشأن أسماء المرشحين للانتخابات المحلية،

وقال المتحدث باسم العدالة والتنمية عمر جيليك، فيما يتعلق بقائمة المرشحين الذين سيحددهم الحزب: "آمل أن تكتمل بحلول نهاية كانون الأول /ديسمبر الجاري".

وأضاف في حديثه للصحفيين حول الاجتماع الذي دام 3 ساعات بشأن تحديد أسماء المرشحين: "سنقوم بعمل دقيق للكشف عن المرشحين. الشيء الرئيسي هو إظهار الإرادة من خلال هذه الدراسات. لكن أبعد من ذلك، ليس لدينا أي نية لتأخير ذلك بأي شكل من الأشكال".

يأتي ذلك في ظل جهود حثيثة يبذلها الحزب الحاكم على كافة الأصعدة لاستعادة بلديتي إسطنبول وأنقرة اللتين فقدهما لصالح حزب الشعب الجمهوري في انتخابات عام 2019، حيث يسعى الرئيس التركي إلى تكليل فوزه في الانتخابات الرئاسية والنيابية التي انتهت بنصر تحالف الجمهور وإحداث شروخ كبيرة في تحالف الطاولة السداسية المعارض، بفوز جديد على مستوى البلديات لا سيما في مدينة إسطنبول التي تشكل قلب السياسة التركية.

تحولات إستراتيجية في صفوف المعارضة
فيما يسابق حزب العدالة والتنمية الزمن من أجل التوصل إلى قائمة مرشحيه وسط لقاءات متتالية مع قادة الأحزاب المنضوية تحت راية تحالف الجمهور، يواصل "الشعب الجمهوري، جهوده الرامية إلى صنع تحالفات جديدة تدعم مرشحيه للفوز بأكبر قدر ممكن من البلديات الرئيسية والفرعية خلال الانتخابات المحلية، التي تأخذ في تركيا حيزا كبيرا من الخارطة السياسية حيث تعد المحليات التركية أولى درجات السلم الذي يفضي إلى القصر الرئاسي، بحسب العديد من المراقبين والسياسيين الأتراك.

وكان حزب "الشعب الجمهوري"، قد فقد أحد أكبر حلفائه، بعد قرار حزب "الجيد" التركي بقيادة ميرال أكشينار خوض غمار الانتخابات المحلية بمفرده دون الانضواء تحت راية أي تحالف، رغم الجهود الذي بذلها الزعيم الجديد لحزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، في سبيل إقناع أكشينار بالإبقاء على التحالف بين الحزبين اللذين يشكلا أكبر قاعدة للمعارضة التركية.


لكن أكشينار التي تعرضت لهجمات وانتقادات واسعة عقب استمرارها في تحالف الطاولة السداسية رغم انسحابه منه عقب إعلانه مطلع العام الجاري، الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري كمال كلتشجدار أوغلو، مرشحا في الانتخابات الرئاسية، بالرغم من عدم تمتعه بالشعبية الكافية للفوز وفقا لاستطلاعات الرأي آنذاك، الأمر الذي تسبب في تصدع تحالف المعارضة وتراشق للاتهامات بين مكوناتها.

وجاء قرار أكشينار، خوض غمار الانتخابات المحلية دون التحالف مع الشعب الجمهوري، بدعم من أغلبية الهيئة الإدارية لحزبها، في خطوة أشار مراقبون إلى أنها تهدف إلى استعراض سياسات الحزب الذي ينتمي إلى اليمين المحافظ وفرض هويته الحقيقية التي ذابت على مدى سنوات من الالتحاق بمنظومة التحالفات، خصوصا بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أدت إلى انفضاض تحالف المعارضة على وقع هزيمة غير متوقعة من قبل "تحالف الجمهور".

على صعيد متصل، يبرز اسم المرشح السابق للرئاسة التركية وزعيم حزب البلد، محرم إنجه، ضمن الكيانات السياسية التي من الممكن أن تدعم مرشح حزب الشعب الجمهوري ورئيس بلدية إسطنبول الحالي، أكرم إمام أوغلو، لولاية جديدة، رغم الخلافات الكبيرة بين الحزبين التي أدت إلى انسحاب إنجه من سباق الانتخابات الرئاسية السابقة، وما تبع ذلك من دخوله إلى المستشفى وغيابه عن المشهد السياسي بشكل شبه كامل.

وفي آخر تصريحاته، كشف إنجه أنه التقى بإمام أوغلو مرتين في الآونة الاخيرة، حيث عرض على هذا الأخير دعمه بشكل كامل في الانتخابات القادمة دون الحصول على جواب من رئيس بلدية إسطنبول الحالي.

وقال إنجه "التقيت بإمام أوغلو مرتين، وقلت له دعنا نساعدك في إسطنبول. لا نريد شيئا منك، لقد فزب بها بعد 25 عاما، دعنا لا نسخرها مجددا".

لكن أكرم إمام أوغلو، الذي أعلن عن ترشحه لولاية جديدة، لم يجب إنجه سواء بالقبول أو بالرفض، بحسب المصدر ذاته.

ولا يقتصر الدعم المتوقع لأكرم إمام أوغلو على محرم إنجه، إذ أشار الصحفي والكاتب التركي عبد القادر سيلفي إلى إمكانية عقد تحالف جديد مع حزب المساواة والديمقراطية بين الشعوب (DEM)، الذي يعتبر أحد الامتدادات السياسية لحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب التركية.

والأحد، أعلن حزب المساواة والديمقراطية فتح أبوابه للتعاون الانتخابي مع الأحزاب السياسية الأخرى في الانتخابات المحلية، مشيرا إلى أن الخلافات لا يمكن حلها إلا من خلال التفاوض.

وأضاف: "مستعدون للتفاوض مع كل من يقوم على التوافق الديمقراطي".


ورأى الكاتب التركي أن إعلان "المساواة والديمقراطية" إبقاء أبوابه مفتوحة أمام التحالفات ومنحه الضوء الأخضر للتعاون مع كافة الكيانات في الانتخابات المحلية، خطوة تريح أكرم إمام أوغلو، الذي عقد تحالفات سابقة مع الأحزاب السياسية المحسوبة على حزب العمال الكردستاني خلال فترة الانتخابات الرئاسية، وهو ما أخذته عليه أحزاب تحالف الجمهور وشكل رأس حربة حزب العدالة والتنمية في حملته المضادة للشعب الجمهوري حينها.

وذكر سيلفي أن الحركة الديمقراطية تريد بلديات فرعية مقابل الدعم الذي ستقدمه لحزب الشعب الجمهوري، وقال إنه "بحسب ما يقال في اللوبيات السياسية؛ فإن الحركة الديمقراطية تطالب برئاسة عدد من البلديات الفرعية ليس فقط في إسطنبول، ولكن أيضا في أنقرة وإزمير وأيدين وأنطاليا".

تحالف الجمهور.. "ملامح خلاف لا اختلاف"
في المقابل، لم يظهر عن تحالف "الجمهور" بقيادة الحزب الحاكم أي تصدعات إستراتيجية في بنيته المحافظة التي تضم حزب "الحركة القومية" بزعامة دولت بهتشلي، وحزب "الرفاه الجديد" برئاسة فاتح أربكان نجل السياسي الشهير ورئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان، بالإضافة إلى حزب "هدى بار".

لكن وسائل إعلام تركية تداولت أنباء عن وقوع خلاف بشأن الانتخابات المحلية بين الرئيس أردوغان وفاتح أربكان، على خلفية مطالبات الأخيرة خلال اجتماع مغلق بعدد من البلديات الفرعية مقابل دعمه مرشح حزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى الرئيسية، مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير.

أربكان الذي تمكن حزبه من حجز 5 مقاعد في البرلمان خلال الانتخابات النيابية نتيجة انضمامه إلى تحالف الجمهور، نفى خلال لقاء تلفزيوني يوم الجمعة الماضي، الأنباء المتداولة حول وجود خلافات أو "مساومات" مع الرئيس التركي بشأن الانتخابات المحلية.

وقال نجل السياسي التركي الشهير "تبادلنا وجهات النظر بشأن أنقرة وإسطنبول وإزمير، وذكر السيد الرئيس أنه سيكون من المفيد لنا أن نتعاون في بعض المدن الكبرى الحاسمة".

وأضاف في معرض رده على سؤال حول ما إذا كان حزبه سيعلن عن مرشحين في مدينتي أنقرة وإسطنبول، أنه أخبر الرئيس التركي بعزمه الإعلان عن القرار النهائي للرأي العام عقب اجتماع مسؤولي المجلس التنفيذي المركزي في الحزب.

مرشحو إسطنبول المحتملون
تتحول الانتخابات المحلية إلى انتخابات إسطنبول بطريقة مثيرة للاهتمام حيث يتم تشكيل تحالفات حول بلدية إسطنبول الكبرى، وفقا للكاتب عبد القادر سيلفي.

وبلا شك يدرك الرئيس التركي الذي بدأ تولى رئاسة بلدية إسطنبول عام 1994، أهمية المدنية الواقعة في قلب الحياة التركية على كافة صعدها السياسية والاقتصادية والثقافية، كما يحفظ الأتراك مقولة "من يحكم إسطنبول يحكم تركيا" التي تشيع في الأوساط التركية على نطاق واسع، في إشارة إلى أهمية المدينة في الخارطة السياسية.

وكنا الرئيس التركي عبر عن هذه الأهمية في أكثر من مناسبة، خصوصا في أول خطاب له عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية الماضية، حيث أكد على عزمه تكليل فوزه بالفترة الرئاسية الجديدة بانتصار يمحو أثر الضربة القاسية التي وجهها حزب الشعب الجمهوري المعارض، في انتخابات البلديات بعد انتزاعه إسطنبول من "العدالة والتنمية" بعد أكثر من عشرين عام من استقرارها بين يدي الحزب الحاكم.


وانطلاقا من الأهمية التي تحوز عليها إسطنبول لدى الرئيس التركي التي خص حملة مرشحها الانتخابي بعنوان "إسطنبول من جديد"، لا يزال إلى الآن اسم المرشح الذي سيقدمه التحالف لرئاسة بلديتها محض تكهنات تتداولها الصحافة التركية ومراكز استطلاع الرأي رغم اقتراب موعد الانتخابات المقررة في نهاية الشهر الثالث من العام القادم.

تاليا نقدم استعراض لأهم الأسماء المطروحة على طاولة "العدالة والتنمية":

- فخر الدين قوجة
يتم تداول اسم وزير الصحة الحالي فخر الدين قوجة في الأوساط الإعلامية التركية على نطاق واسع، كونه شخصية تحظى بشعبية واسعة لدى كثير من مكونات الشعب التركي، وذلك يرجع إلى مجال اختصاصه الذي دفعه خلال فترة جائحة كوفيد-19 إلى الظهور على وسائل الإعلام أكثر من أي مسؤول تركي آخر، إذ كان الشعب التركي يترقب آخر إحصاءات الإصابة بكورونا وتطورات الوباء الذي تسبب في مقتل الملايين عبر العالم.



كما يأتي طرح اسم فخر الدين قوجة، في وقت يعود فيه الوزير إلى واجهة الأحداث على وقع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، إذ يضطلع بشؤون المرضى والمصابين الذين تم نقله إلى الأراضي التركية من أجل تلقي العلاج والخدمات الطبية اللازمة.

- توفيق غوكسو
ومن بين الأسماء المطروحة، يبرز توفيق غوكسو، رئيس بلدية أسنلر إحدى أكبر الأحياء في مدينة إسطنبول، كونه يتمتع بشعبية واسعة لدى ناخبي حزب العدالة والتنمية، عززتها مقاطعه المصورة التي تحظى بعدد مشاهدات عال خلال المناقشات الحادة في مجلس بلدية إسطنبول مع أعضاء أحزاب المعارضة وإمام أكرم أوغلو على وجه الخصوص.


في الوقت ذاته، يستبعد مراقبون طرح اسم غوكسو مرشحا لبلدية إسطنبول عن تحالف الجمهور، بسبب شعبيته الواسعة بسبب حدته في مناظرة المعارضة، ما من شأنه أن يجعل من شخصيته غير مستساغة لدى ناخبي الأحزاب الأخرى، التي يسعى أردوغان إلى استقطابهم عبر مرشح يحظى بأكبر شعبية ممكنة لدى مختلف المكونات والتوجهات السياسية.

- فاطمة شاهين
كما تشهد الأوساط الإعلامية في تركيا تداولا لاسم رئيسة بلدية غازي عنتاب فاطمة شاهين، بسبب نجاحه في إدارة شؤون المدينة التركية الواقعة جنوبي البلاد، والتي كانت إحدى المدن الـ11 التي تم إعلانها منكوبة جراء الزلزال المدمر الذي ضرب مدن جنوب تركيا وشمال سوريا، مخلفا عشرات آلاف القتلى في البلدين.



وكانت شاهين، تصدر في عام 2019 قائمة رؤساء البلديات التركية الأكثر نجاحا بمعدل بلغ 62.7 بالمئة، وفقا لاستطلاع رأي أعده مركز "أو آر سي" للبحوث والاستشارات.

ورغم بقاء اسم مرشح الرئيس التركي أردوغان لبلدية إسطنبول غير معلوم حتى الآن، يعمل حزب العدالة والتنمية على قدم وساق لإعداد كافة الاستعدادات للانتخابات المحلية، التي من شأنها وفقا لمراقبين أن تضع أولى ملامح الفائز في الانتخابات الرئاسية القادمة في عام 2028.












المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية تركيا أردوغان أنقرة تركيا أردوغان اسطنبول أنقرة الانتخابات التركية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حزب العدالة والتنمیة الانتخابات الرئاسیة الانتخابات المحلیة حزب الشعب الجمهوری أکرم إمام أوغلو إسطنبول وأنقرة الرئیس الترکی بلدیة إسطنبول فی الانتخابات تحالف الجمهور الحزب الحاکم

إقرأ أيضاً:

ملامح من الحياة في كندا (10)

ملامح من الحياة في كندا (10)

الي الصديقة لودميلا
في الحلقات السابقة تعرضتُ بشيئ من الأسهاب الي جزء من الحياة التي عشتها في كندا . تخللتها كثير من المشاق والمعاناة والفقر كغيرها من حالات المهاجرين الأوائل . مرتْ فيها العلاقات الأسرية بصعود وهبوط أوشك أن يؤدي الي الهزيمة وأنهيار التجربة . وبعودة الي الوراء قليلاً ، أري أن الألهام علي الصمود أمام هذه العقبات مرده الي عدة عوامل أولها التربية والمثل والأخلاق الشيوعية التي كانت منارة لي وجعلت مني سفيراً لوطني وثانياً الأرث العائلي الذي فرض علي عدم الرسوب في هذه التجربة علي المستوي الخاص والعام وثالثاً طفلّي العزيزين وفوق كل هذا صديقتي العزيزة ووالدة أطفالنا لودميلا التي كان لها الفضل في كل النجاحات المتواضعة التي تحققت .
التربية والنشأة في المجتمع الشرقي الذكوري ، لها عين ساهرة تقف بالمرصاد لكل من يخطر بباله مدح الزوجة أو ذكر محاسنها وفضائلها علي الملأ ، فما بالك من توثيقها الذي يُعد من المحرمات . علي الرغم من أن القرآن الكريم نزل بسورة كاملة أسماها سورة (النساء) ، علاوة علي الأحاديث النبوية عن الأم والوصية بها كما قال(ص) ، إضافة الي الشعر الجاهلي والمعاصر اللذين أسهما بقدر كبير في الغزل بدأً من المعلقات وأنتهاءً بالأغاني العاطفية ، برغم هذا الإرث الأ أننا لا زلنا في عالمنا العربي والأسلامي نعتبر الكتابة عن الزوجة ومدحها في الحياة قبل الممات نقيصة وللمفارقة نمجد ونعز الأم علي الرغم من علمنا أنه قبل أن تكون أماً ، كانت زوجه فاضله وهي التي أنجبتْ . وبناءً علي هذا الواقع الذي يتم تجاهله عمداً أو سهواً قررت أن يكون موضوع هذه الحلقة تكريماً وأعتزازاً وفخراً بزوجتي التي خاضت معي تجارب الحياة لفترة أوشكت أن تصل الي الأربعين عاماً .
تعرفت علي زميلتي في الدراسة بموسكو في أوائل عام 1985 حيث كانت الحياة سهلة ورخية في الدولة الأشتراكية قبل إنهيار المنظومة . كنا شهوداً علي أحداث تاريخية هزت العالم وشغلت الناس ، عاصرنا تجربة البرسترويكا والقلاسنست . " الحقيقة " و" أعادة البناء" التي قادها قرباشوف وكنا من مؤيديها. بعد أن أشترك والدها في الحرب العالمية الثانية أُرسل الي معسكرات الأعتقال تحت المادة 54 بتهمة "عدو الشعب" لفترة عشرة أعوام أعقبتها خمسة أعوام بدون حق العمل وكذلك والدتها التي زُج بها أيضاً لخمسة أعوام كحال الملايين الذين هزموا النازية كالقائد العسكري " جوكوف" و العالم النووي "سخاروف" الحائز علي جائزة نوبل للسلام . بعدها ظهرت "لودميلا" الي الوجود . قد يكون هذا التاريخ الستاليني الملئ بالأعدامات والمعسكرات الذي عاشت فيه زوجتي أحدي الأسباب التي جعلتها تبني حائطاً منيعاً بينها والسياسة . علي الرغم من كل هذا لم تحمل حقداً علي سلطة الدولة السوفيتيه ولا حتي علي الحقبة الستالينية . لا زالت تدافع في الصفوف الأمامية عن الأتحاد السوفيتي السابق وتفخر بأنها نتاج لتلك الحقبة التاريخية . عاشت وأسرتها في الجزء الشرقي من أوكراينا بمنطقة الدنباس التي تستعر فيها الحرب الأوكراينية الروسية الآن ، وأبتعثتْ للدراسة بموسكو حيث تعرفتُ عليها في الكلية . تم زواجنا في ديسمبر 1990 وأحيا الحفل صديقنا المرحوم مصطفي سيد أحمد عندما حضر للعلاج . وقد تكون هذه من الحفلات النادرة التي أقامها الفنان مصطفي تفضلاً منه لأصدقائه . ومن غرائب الصدف لا زلتُ أحتفظ بتسجيل هذا الحفل في قرصٍ اليكتروني يرافقني في حلي وترحالي .
بوصولنا الي كندا في خواتيم 1991 حيث هاجرنا اليها بعد أن أغلقت كل السبل والدروب في الحصول علي وطن . أستحالت العودة للسودان بعد إنقلاب الجبهة القومية الأسلامية ، بعدها طرقتُ أبواب الهجرة الي دول الخليج وبوصولي لدولة الكويت أندلعت حرب الخليج حينها كانت قوانين الأتحاد السوفيتي السابق لا تسمح ببقاء الأجانب حتي لو كانوا متزوجين من مواطنات سوفيتيات ، هذه هي الأسباب التي دعتني للهجرة الي كندا. العشرية الأولي بكندا كانت من أصعب المراحل وتم تدوين أجزاء منها في الحلقات السابقة . تفرغت "لودميلا" لتربية الأطفال وكان مطلبها الأساسي يتمثل في تقديم المساعدة المرجوة التي تتلخص في معاونتها في تجهيز الأطفال والخروج معهم من سكن الشقق الضيقة التي لا تسمح بالحركة الدؤوبة للأطفال الي براح الفضاء الواسع في الحدائق والشوارع العريضة تحت درجة حرارة تصل في بعض الأحيان الي عشرين تحت الصفر ومشاركة الأطفال في العابهم وأهتماماتهم ، أعباء النظافة وتوصيلهم الي المدارس مع عدم وجود سيارة . تشاركنا معاً مساعدتهم في مراجعة الدروس ، أهتمتْ بالحاقهم في المناشط الرياضة المختلفة وخضتُ معهم تجربة التزحلق علي الجليد في الجبال التي تعلمتها في سن متأخرة . كانت تدرك بحسها ، بأن توسيع مدارك الأطفال يتم بإخراجهم من المنزل حينما يتلمسون الأشياء علي الطبيعة ويشاهدون واقع الحياة اليومي . هذه الفترة أحتاجت الي تنازلات كبيرة من الطرفين تحملتْ كل هذا العبء إضافة الي محاولاتي اليومية في البحث عن عمل ومردودها السلبي الذي يفاقم الأحباط . هذا الظرف الذي يتطلب التنازلات ووضع الأولويات في المكان الصحيح ساعد في الحفاظ علي الوضع العائلي ، أطلقتُ عليه أسم (المساومة التاريخية) في تعبير شائع للزميل الشفيع خضر . في هذا المناخ يعصرك الألم وأنت تفكر وتجتهد في الكيفية التي تقدم فيها يد المساعدة لأفراد العائلة الممتدة الذين تركتهم خلفك في السودان . "لودميلا" كانت ولا زالت مدبرة للحد البعيد . ساعدها في ذلك الجو الأوكرايني حيث نشأت وترعرعت في منطقة زراعية ومناخ شتوي قاسي يجبر الجميع علي الزراعة وتخزين الحصاد لفصل الشتاء . هذه العقلية هي في مخزون ذاكرة المواطن السوفيتي الذي عاش في تلك الفترة قبل أن تأتي رأسمالية الدولة . أمرأة من طراز فريد ، قنوعة بما تيسر ، أهم الأشياء التي ورثتها من بيئتها هو تربية الأبناء وتعليمهم وغرس السلوك القويم فيهم . هذه هي أهدافها وقيمها في الحياة بعد الأنجاب ، إضافة الي قناعتها بأن هؤلاء الأبناء أتوا الي هذه الدنيا ليس بمحض إختيارهم وإنما برغبتنا لذا واجبنا كآباء وأمهات أن نلبي رغباتهم بقدر الأمكان .
من أكثر الأشياء التي أزعجتها وأقلقتها طيلة هذه المدة ، السبهللية التي نتعامل بها مع المال ، ليس وحدي وإنما كل السودان ، وذلك مرده في رأيها للحياة السهلة التي كنا نعيشها . في علاقتها معي لم تستوعب أني أتيت من بيئة مختلفة ، مجتمع عشائري وشبه أقطاعي . قبل الوصول الي كندا لم تشغلني الحسابات البنكية وتعاملي مع البنوك كان محدوداً ولم تكن لي حتي محفظة . أتيت من حي في أمدرمان يسمي العباسية والمنزل الذي نشأت فيه كان عبارة عن داخلية و"مسيد" في آن واحد. الفرد الواحد يعول مجموعة أشخاص و العمل ليس حقاً وأنما فضلٌ للمحظوظين خاصة بعد وصول الأنقاذ . الفرد العامل مسؤول عن إعاشة الجماعة التي لم تتيسر لها سبل كسب العيش . بهذه الخلفية "الغير طبيعية" بالنسبة لها كان حسابنا البنكي في كندا مشترك تماشياً مع طبيعة البلد حيث كل أو معظم الأسر لها حساب واحد مشترك . كانت شاهدة عيان علي بعثرت الدخل المحدود من جانبي والديون التي صارت تنمو في الحساب من دون علمها وأستشارتها أو حتي أن تكون لها أدني معرفة بالأشخاص الذين تتم مساعدتهم والقيام بالواجب تجاههم . وبناءً علي هذا الوضع تقدمتْ بطلب رسمي لفصل الحساب المشترك حتي لا تتورط في دين لا شأن لها به . كنت أمني النفس بأن تزور السودان حتي تقف علي الحقيقة وتدرك معني " الله كريم " التي تقال صباح مساء مِن مَن لا يملك قوت يومه . قبل هذه الحرب اللعينة الجميع كانوا يعيشون في سلام وأمان الذي يعمل والذي بدون عمل . برغم هذه الظروف في عام 2005 شجعتني لأصطحاب الأطفال في زيارتي للسودان وأبتاعت لهم التذاكر لكي يرافقوني ويتعرفوا علي جذروهم . وقبل السفر وقفتْ علي تجهيز كل الحقائب حتي شنطة الأسعافات والمواد التمونية التي يحتاج لها الأطفال قبل أن يتعودوا علي الطعام السوداني . و حقيقةً كانت لها الرغبة بمرافقتنا الأ أن الظروف المالية لم تسمح بذلك حيث كانت تعمل بالمشاهرة . زيارة الأطفال الي موطن أجدادهم كانت مهمة ، تعرفوا فيها علي السودان ولا زالت الأنطباعات والمشاهد باقية في ذاكرتهم . ركبوا كل أنواع الدواب من حميرٍ وجمالٍ وزاروا البجراوية والمصورات وشاركوا في حولية الشيخ حمدالنيل وتشرفوا بزيارة قبة الجد الأمام المهدي . من المفارقات عن هذه الزيارة الي الآن يعتبرون (الأيسكريم ) الذي تناولوه في (عفراء مول) لا يوجد له مثيل . ووالدتهم تشهد بأن المانجو السوداني ليس له منافس من كل الأنواع التي تذوقتها .
لا يفوتني ذكر بعض المواقف المستعصية التي واجهتني في تعاملي مع زوجتي والتي لا زلت أجد صعوبة في أستيعابها . الآ وهي الأحتفال بأعياد الميلاد . أتضح أن جزءً مقدراً من هذه البشرية ملم بتاريخ ميلاده وبعضهم يعلم الساعة التي تم فيها أستقباله في هذه الدنيا . أما أنا فأتيت الي هذا العالم وليس لي معرفة بمكان ميلادي ، يقال أنها أحدي القري التي تقع علي النيل الأبيض ناهيك عن التاريخ والساعة . عيد الميلاد والأحتفال والتهنئة به يعتبر من الواجبات المقدسة في هذا الجزء من العالم . يفرحون بقدومهم الي هذا العالم العجيب رغم مصائب الدهر التي تأتيك من حيث لا تدري. زوجتي تتذكر تاريخ ميلاد جميع أفراد أسرتها وأصدقائها المقربين وأحياناً كثيرة تسألني عن تاريخ ميلاد أمي وابي وأخوتي فتجدني ليس لي معرفة حتي بالسنين التي ولدوا فيها . ليت المعضلة أنتهت بأستذكار هذا اليوم وأنما المطلوب مني أن أختار هدية لهذه المناسب وهنا تكمن الصعوبة . الهدية يحبذ أن لا تكون من مستلزمات المنزل وأنما تكون هدية شخصية تعبر عن معرفتك بأحتياجات الشخص المقدمَ له الهدية . يزيد الطين بلّه ، ليس لي معرفة بمقاسات زوجتي ولا بالألوان التي تفضلها ولا حتي بلون شعرها ، خاصة وأني من غمار الناس الذين لا يمشون في الأسواق . هي زوجتي والسلام ، أخترتها لمعايير تختلف عن كل هذا . أما بالنسبة للأبناء ، حينما عجزتُ عما يلزم تقديمه في أعياد ميلادهم تم أتفاق غير مكتوب أن تتولي هي مسألة الأختيار. رغم هذه العشرة والسنين ، لم يتاح لي حظي العاثر أن أشتري "للودميلا" أي من أنواع الثياب أو الحلي الذهبية بخلاف خاتم الزواج . أعاني من غصة في الحلق وذنبٌ يلاحقني بعدم الوفاء بالوعد الذي قطعته عليها بأن أزورها بيت المقدس وكل ما طلبته هو المرافقة . بعد أن تحسن وضعنا المالي نسبياً وشرعت في التفكير في الزيارة أندلعت الحرب في غزه وفلسطين ولبنان . أخاف أن يتبدد الوعد والحلم .
حرب السودان كان لها تأثير مادي كبير علي الميزانية التي يُدار بها أمر المنزل إضافةً للعامل النفسي . صديقتي وزوجتي "لودميلا" تفهمت الوضع المأساوي الذي يمر به السودان فأستقبلت الألتزامات المالية الجديدة التي فرضتها الحرب بروح أنسانية عالية بالرغم من أنها ليست من بنات عمومتي . لها الشكر والتقدير في جميل صنعها وفي تفهم بيئتي التي لم تنشأ فيها . التحية الي كل الزوجات اللاتي تفهمن هذا الظرف الأستثنائي واللأنساني الذي يمر به السودان .
وختاماً هذه هي الحلقة الأخيرة من سلسلة "ملامح من الحياة في كندا"
حامد بشري
12 نوفمبر 2024

 

hamedbushra6@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • تحقيق ضد بلدية إسطنبول الكبرى
  • إمام أوغلو يرد على حملة التفتيش في بلدية إسطنبول على خلفية الحفلات الموسيقية
  • ملامح من الحياة في كندا (10)
  • البيتكوين تقترب من 90,000 دولار.. ما الذي يجب معرفته عن ارتفاع العملة الرقمية بعد الانتخابات؟
  • تركيا.. اعتقال بارون مخدرات دنماركي في إسطنبول
  • ما الذي نعرفه عن المقاتلات الأمريكية التي تقصف الحوثيين لأول مرة؟
  • العرفي: الرئاسي أربك جميع جداول أعمال مجلس الدولة التي تفضي إلى تشكيل حكومة جديدة
  • إسطنبول تسجل موجة هجرة عكسية ضخمة
  • هل يصبح أردوغان مرشحًا للرئاسة التركية للمرة الثالثة؟
  • حالة الطقس في تركيا اليوم الثلاثاء وتحذيرات من فيضانات في إسطنبول