لجريدة عمان:
2025-03-04@11:57:12 GMT

مسؤولية المثقفين في المساعدة على إنهاء حرب غزة

تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT

في إحدى أغنيات مسرحية الأم لبريخت، ثمة رجل يقوم بتنظيم الناس للقضاء على نظام حكم قمعي قاس، فيعدد ما لدى خصومه من موارد: من سجون وأشخاص مأجورين لضمان امتلاء السجون بالمعارضين، وذخائر قاتلة وأشخاص مأجورين لإطلاقها على الجموع، وصحف وأشخاص مأجورين للكتابة فيها فـ«يلوثون اسمنا ويختزلوننا في الصمت». يصوِّر بريخت نظاما يلعب فيه إنتاج الأفكار وتداولها دورا حاسما، وإن لم يكن رئيسيا، في تمكين العنف الغاشم.

لو أن العاملين في الإعلام والباحثين والكتّاب وغيرهم من العاملين في مجال الثقافة يحرّضون على الحرب، فنحن من ثم مسؤولون عن إيقافها، وبخاصة لو أنها ـ كما يقول راز سيجال في مجلة (التيارات اليهودية) عن حرب إسرائيل على غزة ـ «تمثل حالة إبادة جماعية كاملة». وخلافا لما قد يذهب إليه الحدس، لا يقتصر هذا الدور على محض الحديث بوضوح أخلاقي عن العنف المذهل في محافل رفيعة القدر. فنادرا ما يحقق التعبير الفردي عن نبل الضمير أي شيء بمفرده، مهما حسن صوغه. فلا بد أن يكون إسهامنا جزءا من هجوم جماعي منظم إسراتيجي على هيكل السلطة التي تضمن حاليا لإسرائيل القدرة على خوض الحرب ومواصلة الاحتلال والأبارتيد.

ويكمن التحدي الذي يعترض هذا المشروع التنظيمي، ويزداد إلى حد ما بيننا نحن المدربين على التفكير في أنفسنا في ضوء موهبتنا الفردية أكثر من قدرتنا الجماعية، في اجتناب المبالغة في تضخيم دورنا (بوصفنا، على سبيل المثال، أشخاصا موهوبين باستبصار خاص، قادرين بشكل فريد على تمثيل المعاناة الجماعية) أو الوقوع في شرك ما تسميه روث ويلسن جيلمور بالتواضع المعيق. وبهذا التعبير تشير جيلمور إلى زعم العمال رفيعي التدريب بعدم امتلاكهم مواهب الإسهام في حركات التحرير من المواقع التي نشغلها.

فالعاملون في مجال الثقافة، على سبيل المثال، يحظون بتدريب خاص ـ على البحث والتحقيق والفهم وتوصيل المعلومات الكثيفة والمربكة، وتوحيد الجمهور المتباين حول هدف ووجهة واضحين، وطرح أسئلة مفيدة واختبار فرضيات داخل فضاءات التنظيم بهدف تحديد ما يجب القيام به، وسوف يكون هذا حاسما في السعي إلى إنهاء الحرب في المدى القريب، وفي إنهاء الدعم الدولي في المدى البعيد لحصار غزة وبرامج الاستيطان في الضفة الغربية ونظام الأبارتيد داخل حدود عام 1948.

لماذا لا يكفي أن يدين العاملون في المجال الثقافي الحرب في المحافل رفيعة القدر؟ بقياس الرأي العام وحده، يتبين أن للحركة المناهضة للحرب على غزة شعبية كبيرة، لكنها عاجزة عجزا عميقا. فثمة أغلبية هائلة تصل إلى 70% من الأمريكيين يدعمون وقف إطلاق النار، وتتضمن أغلبية من الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين. لكن حكومة الولايات المتحد لم تزل تدفع فاتورة جرائم الحرب الإسرائيلية التي تقدر بمليارات الدولارات ـ وتشمل الاستهداف المتعمد للبنية الأساسية المدنية، وشن غارات جوية على المدارس، والإغارة على مستشفى الشفاء بزعم كاذب بأن فيه قاعدة عسكرية، والقصف المتكرر لمخيم جباليا للاجئين. وثمة أقلية صغيرة، وإن تكن متنامية، من الممثلين المنتخبين ديمقراطيا على المستوى الفيدرالي ـ وهم صناع القرار الفعليون الذين تؤمِّن أصواتهم المساعدات العسكرية لإسرائيل أو تحظرها ـ وقد دعت علنا إلى وقف دائم لإطلاق النار.

بعبارة أخرى، في حين أن معارضي الحرب والإبادة الجماعية بحاجة إلى التمسك بموقفهم، فلسنا بحاجة حقا إلى الفوز في معركة الرأي العام المناهض للحرب، فهي بالفعل في صفنا وبشكل حاسم. لكن ما نحتاج إليه بدلا من ذلك هو فهم هيكل السلطة الذي يجعل عددا صغيرا من صناع القرار يقررون تسهيل الحرب في غزة ولا يتحملون عواقب أفعالهم. ثم إننا بحاجة إلى استعمال المعرفة لخلق أزمة لهم أكبر من التي يخشونها من خصومنا.

تشكل المؤسسات الثقافية ـ من إعلام وجامعات ومتاحف ومكتبات ـ عنصرا من عناصر هيكل السلطة الذي يحافظ للولايات المتحدة على رسوخ دعمها لمجازر إسرائيل. والتقارير المتحيزة من وسائل الإعلام الكبرى من قبيل «نيويورك تايمز» و«سي إن إن» تمنح إسرائيل الغطاء الذي تحتاج إليه بشدة لمواصلة إسقاط القنابل على أهداف مدنية، وقنص المرضى في المستشفيات، ومنع الغذاء والوقود عن واحدة من أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم.

والمنظمات الثقافية ـ من قبيل منظمة 92Y، التي استضافت رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتطرف بنيامين نتانياهو ـ هي التي منذ أمد بعيد تغسل صورة إسرائيل أمام قاعدة ناخبين ديمقراطيين ليبراليين يظنون في أنفسهم أنهم ممثلون أخلاقيون مناهضون للعنصرية يقفون في الموضع الصحيح من التاريخ. والأهم من ذلك هو أن العديد من الجامعات الأمريكية تتعاون مع الجامعات الإسرائيلية في أبحاث وبرامج أخرى، فتدير جامعة كورنيل ـ على سبيل المثال ـ برنامجا بحثيا مشتركا مع معهد (تخنيون) في حيفا، الذي يعتز بعلاقاته الوثيقة مع شركات تصنيع الأسلحة من قبيل شركة إلبيت التي تنتج التكنولوجيا التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في حروبه.

على مستويات مختلفة، تنسج هذه المؤسسات الثقافية شرعية للعنف الإسرائيلي، ويقدم بعضها دعما ماديا مباشرا للجهود الرامية إلى خنق المقاومة الفلسطينية. ويحمي أصحاب المؤسسات الإعلامية والمتاحف، الخاضعون لضغوط المعلنين والمانحين، هذه الشرعية بالانتقام من العاملين في مجال الثقافة الذين يجهرون برفض إراقة الدماء التي يساعد أصحاب عملهم في تيسيرها.

من المشاريع الكبرى التي يمكن أن ينفذها العاملون في مجال الثقافة تحديد الأجهزة المعينة التي توفر الغطاء الأيديولوجي لعنف الإبادة الجماعية الذي ترتكبه إسرائيل، ثم التدخل لمنعها من القيام بذلك. وقد يشمل ذلك بناء دعم أغلبية كبيرة من موظفين مؤسسة ما تتبنى المقاطعة الأكاديمية والثقافية الفلسطينية لإسرائيل، وتنظيم العمال المستقلين لرفض العمل في منظمة ثقافية معينة، وتوفير الحماية الجماعية للعمال الذين يتعرضون الانتقام ـ بالفصل من العمل، والإرغام على الاستقالة، وإلغاء الحجوزات ـ نتيجة لاتخاذهم مواقف عامة مبدئية. من المؤكد أن ذلك سوف يتسبب في أزمة عامة لعمالقة الإعلام الذين يتظاهرون بالبقاء على الحياد الصحفي في حين أنهم يقومون باستمرار بالتعتيم على الحقائق، وإظهار التحيز لإسرائيل، وتضخيم تحريفات الجيش الإسرائيلي للحرب.

وثمة مهمة ثانية للعاملين في مجال الثقافة وهي مهمة متصلة بما تقدم. فاليمين السياسي في الولايات المتحدة يشن حرب مواقف لإعادة تعريف معاداة السامية باعتبارها عدم دعم الدولة الإسرائيلية دون قيد أو شرط. والأدلة على حرب المواقف هذه محيطة بنا من كل جانب: فـ (HR 894) تعرِّف معاداة الصهيونية بأنها معاداة للسامية، والهجوم اليميني الناجح محكم التنسيق على رئيسة ولاية بنسلفانيا ليز ماجيل، والذعر الأخلاقي بسبب عبارات «الانتفاضة»، و«من النهر إلى البحر»، و«فلسطين الحرة»، التي تدعو جميعها إلى العدالة ولكن يتم تحريفها باعتبارها شعارات للإبادة الجماعية، وتحركات الحكومة الفيدرالية، وإدارة ديسانتيس في فلوريدا، والجامعات الفردية مثل كولومبيا وروتجرز لحظر فروع منظمة (طلاب من أجل العدالة في فلسطين).

ها هنا أيضا يحظى العاملون في مجال الثقافة بوضع فريد يسمح لهم بمعارضة هذا الاعتداء على التضامن، وحرية التعبير، والتنظيم السياسي. نحن بحاجة إلى التنظيم داخل منظماتنا الثقافية، وإصداراتنا، وأقسامنا الأكاديمية للضغط من أجل مجموعة مختلفة من المطالبات: أن جميع الناس بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط يستحقون حياة جديرة بأن تعاش، وبأن الفلسطينيين يستحقون العيش بدون القصف أو مذابح المستوطنين أو الاحتلال أو الأبارتيد، وأن التمسك بالمبادئ الأخلاقية لليهودية والدروس التاريخية للمحرقة يعني معارضة العنف والظلم الصهيونيين، بل ومعارضة الصهيونية، وبأن الجامعات والمجلات ينبغي على أقل تقدير أن تيسر التعبير السياسي بدلا من أن تقمعه.

ويجب علينا أن نتحرك بسرعة؛ لأن معارضتنا تتحرك بسرعة، ولأننا نستطيع في الواقع أن ننظم وقف الحرب، فقط إذا تحلينا بالذكاء الكافي لمعرفة ما ينجح وتكريس أنفسنا لهذا المشروع.

كاي جابرييل -كاتبة مقيمة في نيويورك

الترجمة عن «ذي نيشن»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی مجال الثقافة

إقرأ أيضاً:

ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟

تتسم المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا الجديدة بنهج عدائي شديد الوضوح، فقد نظرت القيادة الإسرائيلية إلى التحولات الجيوسياسية الناشئة كتهديد للأمن القومي الإسرائيلي، حيث شرعت منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد بشن سلسلة من الاعتداءات والغارات الجوية وقامت بتوغلات برية أسفرت عن ضم واحتلال مزيد من الأراضي السورية. وقد أعلنت إسرائيل دون لبس أو مواربة عن عدائها للقيادة السورية الجديدة، وكشفت عن رغبتها وعزمها على إبقاء سوريا دولة هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية. وعبّرت إسرائيل بجلاء عن قلقها وخوفها من تنامي النفوذ التركي المتصاعد، وأكدت على خوفها وخشيتها من عودة وإحياء الإسلام السياسي السني الذي بات يسيطر على دمشق، وأثره وتداعياته على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.

شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة غير سارة للكيان الإسرائيلي، لكنه كان خبرا سعيدا لتركيا، ففي الوقت الذي تريد تركيا أن تكون سوريا الجديدة دولة ناجحة، ترغب إسرائيل بوجود دولة سورية جديدة فاشلة، ولذلك سارعت إسرائيل بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، بشن سلسلة من الهجمات، ولم تكتف تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري.

انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت
ورغم أن تركيا وإسرائيل استفادتا بشكل كبير من تفكك المحور الذي تقوده إيران، وخاصة في سوريا، لكن تركيا كانت الرابح الأكبر، بينما تضاربت المشاعر الإسرائيلية وأفضت إلى نشوة مؤقتة أعقبها قلق دائم، فالعداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والتحديات التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد الأسد تشير إلى تشكل منعطف حاسم في الجغرافيا السياسية الإقليمية، الأمر الذي يغير بصورة جذرية الديناميكيات التي طبعت العلاقات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، والتي تأرجحت بين نسق من التحالفات البراغماتية والانقسامات الأيديولوجية، وقد أدى زوال عدوهما المشترك في سوريا إلى تحول في توازن القوى الإقليمي، وهو ما خلق تحديات جديدة وأخل بمرونة علاقاتهما الهشة.

إن انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت، فالدعم التركي العلني الذي يقدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأعداء إسرائيل وفي مقدمتهم حركة حماس، قد يتطور إلى آفاق بعيدة.

وبحسب تقرير لجنة "جاكوب ناجل" بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من كانون الثاني/ يناير 2025، فإن طموحات تركيا إلى "إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق" تشكل تحديا أمنيا ملحا، وقد أوصت اللجنة في تقريرها إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستعداد لحرب محتملة مع تركيا، في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد. ونبهت اللجنة في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي، الذي ربما "يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل"، وقد يتطور إلى شيء "أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، وفقا للجنة التي تم تشكيلها عام 2023، قبل بدء الحرب على غزة، لتقديم توصيات لوزارة الدفاع الإسرائيلية بشأن مواطن الصراع المحتملة التي تواجهها إسرائيل في السنوات المقبلة، ويترأس اللجنة يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي.

إن التهديد الذي تشكله تركيا لإسرائيل يشكل تحديا جديا كبيرا لأمن إسرائيل في ضوء التحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، وهو تحد بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، إذ يعد الجيش التركي أحد أكبر الجيوش وأكثرها قوة في الشرق الأوسط، ويتألف الجيش التركي من 425 ألف جندي نشط و380 ألف جندي احتياطي. ووفقا لمصادر أمنية، فإن النفوذ المتزايد لتركيا في سوريا كقوة مهيمنة يستلزم دراسة جدية لقدراتها العسكرية، وتشكل المليشيات العسكرية الموالية لتركيا في سوريا، مثل "الجيش الوطني السوري"، تهديدا محتملا لإسرائيل، وخاصة على طول الحدود السورية الإسرائيلية. ويمكن للرئيس أردوغان أيضا الاستفادة من مجموعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع ضد إسرائيل.

وقد أعلن الجولاني، في السابق ذات مرة أنه "بعون الله، لن نصل إلى دمشق فحسب؛ بل إن القدس تنتظرنا". وكان أردوغان قد أصدر تهديدات مباشرة لإسرائيل، ففي 28 تموز/ يوليو 2024، صرح في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية بالقول: "كما دخلنا قره باغ وليبيا، سنفعل الشيء نفسه مع إسرائيل".

إن السيناريو الإسرائيلي المفضل في سوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية، فأُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب.

وكانت وكالة رويترز كشفت نقلا عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تسعى للضغط على الولايات المتحدة من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وأضافت المصادر أن إسرائيل أبلغت واشنطن أن من سمتهم الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، المدعومين من أنقرة، يشكلون تهديدا لحدودها. ووفقا لرويترز، فقد ذكرت ثلاثة مصادر أميركية أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء الدور الذي تلعبه تركيا كحليف للإدارة السورية الجديدة.

في هذا السياق أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وأكد نتنياهو على أن إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية" في المنطقة. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود الإدارية بين المحافظتين.

وقال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس في بيان إن الهجمات "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".

وعقب حالة التوتر في الأول من آذار/ مارس 2025، جراء اشتباكات بين عناصر أمن تابعين للسلطة السورية الجديدة ومسلحين محليين دروز في ضاحية جرمانا قرب دمشق، أسفرت عن مقتل شخص وإصابة تسعة آخرين بجروح، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليمات للقوات الإسرائيلية "بالاستعداد للدفاع" عن مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وقال بيان صادر عن مكتب كاتس إن المدينة "تتعرض حاليا لهجوم من قبل قوات النظام السوري"، وقال كاتس: "لن نسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه". وأضاف: "نحن ملتزمون تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيذاء إخوانهم الدروز في سوريا، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامتهم".

تستند إسرائيل في سياساتها العدوانية في سوريا إلى دعم أمريكي عسكري وسياسي مطلق، فما تقرره القيادة الإسرائيلية كضرورة للحفاظ على أمنها القومي تصادق عليه الإدارة الأمريكية، وتعتبر واشنطن ممارسات إسرائيل العدوانية بداهة استراتيجية من باب حق الدفاع عن النفس، فالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية حجر الزاوية الأساس في مشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، والاشتراطات الأمريكية على القيادة السورية الجديدة هو الالتزام بأمن إسرائيل ومحاربة أي مجموعة أو كيانات تناهض إسرائيل، وهو ما عبرت عنه واشنطن بوضوح، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية هي جوهر البحث والمداولة. فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء:سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر إن أبو محمد الجولاني التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، فالولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني).

خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى تنامي النفوذ التركي المتصاعد، ويشير إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.

ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية. ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، ولذلك فإن أولوية سوريا الجديدة هي تعزيز روابط التحالف مع تركيا، والعمل بجد على تأسيس جيش موحد قوي، وإخضاع كافة النزعات الانفصالية. فالرد على الكيان الاستعماري الإسرائيلي يجب أن يكون داخليا أولا باتخاذ قرارات وإجراءات قانونية وعسكرية وسياسية حاسمة تجاه المكونات الانفصالية؛ بدءا بقوات سوريا الديمقراطية ثم الانعطاف إلى بقية الكيانات الموازية.

x.com/hasanabuhanya

مقالات مشابهة

  • مناطق ج قلب الضفة الغربية الذي تخنقه إسرائيل
  • وزير خارجية التشيك يبحث مع نظيره الأمريكي إنهاء الحرب الأوكرانية
  • زيلينسكي يعلن أنه يريد إنهاء الحرب في أسرع وقت
  • أمريكا: لا يمكن إنهاء الحرب في أوكرانيا دون مشاركة روسيا بالمفاوضات
  • زيلينسكي وميلوني يبحثان سبل إنهاء الحرب في أوكرانيا
  • مخالفًا ترامب .. رئيس النواب الأمريكي: علينا إنهاء الحرب فى أوكرانيا
  • لافروف: واشنطن ترغب في إنهاء الحرب لكن أوروبا تسعى لاستمرارها
  • ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟
  • حماس: إسرائيل "تتحمل مسؤولية" مصير رهائنها في غزة
  • حماس: إسرائيل "تتحمل مسؤولية" مصير رهائنها في غزة