مسؤولية المثقفين في المساعدة على إنهاء حرب غزة
تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT
في إحدى أغنيات مسرحية الأم لبريخت، ثمة رجل يقوم بتنظيم الناس للقضاء على نظام حكم قمعي قاس، فيعدد ما لدى خصومه من موارد: من سجون وأشخاص مأجورين لضمان امتلاء السجون بالمعارضين، وذخائر قاتلة وأشخاص مأجورين لإطلاقها على الجموع، وصحف وأشخاص مأجورين للكتابة فيها فـ«يلوثون اسمنا ويختزلوننا في الصمت». يصوِّر بريخت نظاما يلعب فيه إنتاج الأفكار وتداولها دورا حاسما، وإن لم يكن رئيسيا، في تمكين العنف الغاشم.
لو أن العاملين في الإعلام والباحثين والكتّاب وغيرهم من العاملين في مجال الثقافة يحرّضون على الحرب، فنحن من ثم مسؤولون عن إيقافها، وبخاصة لو أنها ـ كما يقول راز سيجال في مجلة (التيارات اليهودية) عن حرب إسرائيل على غزة ـ «تمثل حالة إبادة جماعية كاملة». وخلافا لما قد يذهب إليه الحدس، لا يقتصر هذا الدور على محض الحديث بوضوح أخلاقي عن العنف المذهل في محافل رفيعة القدر. فنادرا ما يحقق التعبير الفردي عن نبل الضمير أي شيء بمفرده، مهما حسن صوغه. فلا بد أن يكون إسهامنا جزءا من هجوم جماعي منظم إسراتيجي على هيكل السلطة التي تضمن حاليا لإسرائيل القدرة على خوض الحرب ومواصلة الاحتلال والأبارتيد.
ويكمن التحدي الذي يعترض هذا المشروع التنظيمي، ويزداد إلى حد ما بيننا نحن المدربين على التفكير في أنفسنا في ضوء موهبتنا الفردية أكثر من قدرتنا الجماعية، في اجتناب المبالغة في تضخيم دورنا (بوصفنا، على سبيل المثال، أشخاصا موهوبين باستبصار خاص، قادرين بشكل فريد على تمثيل المعاناة الجماعية) أو الوقوع في شرك ما تسميه روث ويلسن جيلمور بالتواضع المعيق. وبهذا التعبير تشير جيلمور إلى زعم العمال رفيعي التدريب بعدم امتلاكهم مواهب الإسهام في حركات التحرير من المواقع التي نشغلها.
فالعاملون في مجال الثقافة، على سبيل المثال، يحظون بتدريب خاص ـ على البحث والتحقيق والفهم وتوصيل المعلومات الكثيفة والمربكة، وتوحيد الجمهور المتباين حول هدف ووجهة واضحين، وطرح أسئلة مفيدة واختبار فرضيات داخل فضاءات التنظيم بهدف تحديد ما يجب القيام به، وسوف يكون هذا حاسما في السعي إلى إنهاء الحرب في المدى القريب، وفي إنهاء الدعم الدولي في المدى البعيد لحصار غزة وبرامج الاستيطان في الضفة الغربية ونظام الأبارتيد داخل حدود عام 1948.
لماذا لا يكفي أن يدين العاملون في المجال الثقافي الحرب في المحافل رفيعة القدر؟ بقياس الرأي العام وحده، يتبين أن للحركة المناهضة للحرب على غزة شعبية كبيرة، لكنها عاجزة عجزا عميقا. فثمة أغلبية هائلة تصل إلى 70% من الأمريكيين يدعمون وقف إطلاق النار، وتتضمن أغلبية من الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين. لكن حكومة الولايات المتحد لم تزل تدفع فاتورة جرائم الحرب الإسرائيلية التي تقدر بمليارات الدولارات ـ وتشمل الاستهداف المتعمد للبنية الأساسية المدنية، وشن غارات جوية على المدارس، والإغارة على مستشفى الشفاء بزعم كاذب بأن فيه قاعدة عسكرية، والقصف المتكرر لمخيم جباليا للاجئين. وثمة أقلية صغيرة، وإن تكن متنامية، من الممثلين المنتخبين ديمقراطيا على المستوى الفيدرالي ـ وهم صناع القرار الفعليون الذين تؤمِّن أصواتهم المساعدات العسكرية لإسرائيل أو تحظرها ـ وقد دعت علنا إلى وقف دائم لإطلاق النار.
بعبارة أخرى، في حين أن معارضي الحرب والإبادة الجماعية بحاجة إلى التمسك بموقفهم، فلسنا بحاجة حقا إلى الفوز في معركة الرأي العام المناهض للحرب، فهي بالفعل في صفنا وبشكل حاسم. لكن ما نحتاج إليه بدلا من ذلك هو فهم هيكل السلطة الذي يجعل عددا صغيرا من صناع القرار يقررون تسهيل الحرب في غزة ولا يتحملون عواقب أفعالهم. ثم إننا بحاجة إلى استعمال المعرفة لخلق أزمة لهم أكبر من التي يخشونها من خصومنا.
تشكل المؤسسات الثقافية ـ من إعلام وجامعات ومتاحف ومكتبات ـ عنصرا من عناصر هيكل السلطة الذي يحافظ للولايات المتحدة على رسوخ دعمها لمجازر إسرائيل. والتقارير المتحيزة من وسائل الإعلام الكبرى من قبيل «نيويورك تايمز» و«سي إن إن» تمنح إسرائيل الغطاء الذي تحتاج إليه بشدة لمواصلة إسقاط القنابل على أهداف مدنية، وقنص المرضى في المستشفيات، ومنع الغذاء والوقود عن واحدة من أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم.
والمنظمات الثقافية ـ من قبيل منظمة 92Y، التي استضافت رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتطرف بنيامين نتانياهو ـ هي التي منذ أمد بعيد تغسل صورة إسرائيل أمام قاعدة ناخبين ديمقراطيين ليبراليين يظنون في أنفسهم أنهم ممثلون أخلاقيون مناهضون للعنصرية يقفون في الموضع الصحيح من التاريخ. والأهم من ذلك هو أن العديد من الجامعات الأمريكية تتعاون مع الجامعات الإسرائيلية في أبحاث وبرامج أخرى، فتدير جامعة كورنيل ـ على سبيل المثال ـ برنامجا بحثيا مشتركا مع معهد (تخنيون) في حيفا، الذي يعتز بعلاقاته الوثيقة مع شركات تصنيع الأسلحة من قبيل شركة إلبيت التي تنتج التكنولوجيا التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في حروبه.
على مستويات مختلفة، تنسج هذه المؤسسات الثقافية شرعية للعنف الإسرائيلي، ويقدم بعضها دعما ماديا مباشرا للجهود الرامية إلى خنق المقاومة الفلسطينية. ويحمي أصحاب المؤسسات الإعلامية والمتاحف، الخاضعون لضغوط المعلنين والمانحين، هذه الشرعية بالانتقام من العاملين في مجال الثقافة الذين يجهرون برفض إراقة الدماء التي يساعد أصحاب عملهم في تيسيرها.
من المشاريع الكبرى التي يمكن أن ينفذها العاملون في مجال الثقافة تحديد الأجهزة المعينة التي توفر الغطاء الأيديولوجي لعنف الإبادة الجماعية الذي ترتكبه إسرائيل، ثم التدخل لمنعها من القيام بذلك. وقد يشمل ذلك بناء دعم أغلبية كبيرة من موظفين مؤسسة ما تتبنى المقاطعة الأكاديمية والثقافية الفلسطينية لإسرائيل، وتنظيم العمال المستقلين لرفض العمل في منظمة ثقافية معينة، وتوفير الحماية الجماعية للعمال الذين يتعرضون الانتقام ـ بالفصل من العمل، والإرغام على الاستقالة، وإلغاء الحجوزات ـ نتيجة لاتخاذهم مواقف عامة مبدئية. من المؤكد أن ذلك سوف يتسبب في أزمة عامة لعمالقة الإعلام الذين يتظاهرون بالبقاء على الحياد الصحفي في حين أنهم يقومون باستمرار بالتعتيم على الحقائق، وإظهار التحيز لإسرائيل، وتضخيم تحريفات الجيش الإسرائيلي للحرب.
وثمة مهمة ثانية للعاملين في مجال الثقافة وهي مهمة متصلة بما تقدم. فاليمين السياسي في الولايات المتحدة يشن حرب مواقف لإعادة تعريف معاداة السامية باعتبارها عدم دعم الدولة الإسرائيلية دون قيد أو شرط. والأدلة على حرب المواقف هذه محيطة بنا من كل جانب: فـ (HR 894) تعرِّف معاداة الصهيونية بأنها معاداة للسامية، والهجوم اليميني الناجح محكم التنسيق على رئيسة ولاية بنسلفانيا ليز ماجيل، والذعر الأخلاقي بسبب عبارات «الانتفاضة»، و«من النهر إلى البحر»، و«فلسطين الحرة»، التي تدعو جميعها إلى العدالة ولكن يتم تحريفها باعتبارها شعارات للإبادة الجماعية، وتحركات الحكومة الفيدرالية، وإدارة ديسانتيس في فلوريدا، والجامعات الفردية مثل كولومبيا وروتجرز لحظر فروع منظمة (طلاب من أجل العدالة في فلسطين).
ها هنا أيضا يحظى العاملون في مجال الثقافة بوضع فريد يسمح لهم بمعارضة هذا الاعتداء على التضامن، وحرية التعبير، والتنظيم السياسي. نحن بحاجة إلى التنظيم داخل منظماتنا الثقافية، وإصداراتنا، وأقسامنا الأكاديمية للضغط من أجل مجموعة مختلفة من المطالبات: أن جميع الناس بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط يستحقون حياة جديرة بأن تعاش، وبأن الفلسطينيين يستحقون العيش بدون القصف أو مذابح المستوطنين أو الاحتلال أو الأبارتيد، وأن التمسك بالمبادئ الأخلاقية لليهودية والدروس التاريخية للمحرقة يعني معارضة العنف والظلم الصهيونيين، بل ومعارضة الصهيونية، وبأن الجامعات والمجلات ينبغي على أقل تقدير أن تيسر التعبير السياسي بدلا من أن تقمعه.
ويجب علينا أن نتحرك بسرعة؛ لأن معارضتنا تتحرك بسرعة، ولأننا نستطيع في الواقع أن ننظم وقف الحرب، فقط إذا تحلينا بالذكاء الكافي لمعرفة ما ينجح وتكريس أنفسنا لهذا المشروع.
كاي جابرييل -كاتبة مقيمة في نيويورك
الترجمة عن «ذي نيشن»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی مجال الثقافة
إقرأ أيضاً:
إعلام عبري: صلاحيات فريق التفاوض حول الرهائن تقلصت بتعيين كاتس وزيرًا للدفاع
كشفت تقارير عبرية أن ولاية مفاوضي الرهائن الإسرائيليين تقلصت منذ تعيين يسرائيل كاتس وزيرا للدفاع، في وقت سابق من هذا الشهر.
ووفقا لتقرير القناة 12 العبرية، تساءلت عائلات الرهائن حول تصريح كاتس للصحفيين بأن انفراجة قد حدثت في المحادثات بعد أن وافقت حماس على التخلي عن مطالبتها بالتزام إسرائيلي مسبق بإنهاء الحرب كجزء من صفقة رهائن.
رد مفاوض الرهائن بأن ادعاء كاتس غير دقيق وأن موقف حماس من إنهاء الحرب لم يتغير.
وقال المفاوض إنه لا يزال على استعداد للموافقة على اتفاق تدريجي لوقف إطلاق النار تمت مناقشته منذ مايو.
وقال رئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه يعارض إنهاء الحرب مقابل الرهائن.
كما ذكرت القناة 12 أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعتقد أن التوصل إلى اتفاق مع حماس لن يكون ممكنا إلا بعد توقيع وقف إطلاق النار مع حزب الله.
ويقول مسؤول للشبكة إن الأمل يكمن في أن تؤدي الصفقة الأخيرة إلى التقدم في الصفقة الأولى.