لجريدة عمان:
2024-10-03@18:09:25 GMT

الشباب.. والبحث عن اليقين

تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT

16 سبتمبر 2023م.. بدعوة كريمة من لجنة كُتّاب وأدباء محافظة الداخلية بالجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء، شاركت في جلسة حوارية بعنوان «الفكر الصوفي.. مقاربات بين التراثيات والأدبيات الحديثة» في متحف عمان عبر الزمان بولاية منح؛ الذي يُعنى بالتثقيف الحضاري والتنوير الفكري.

وهذه الأنشطة ينبغي تشجيعها وشكر القائمين عليها، لأنها تلامس نفس الإنسان -خاصةً جيل الشباب- الذي يعيش حالة خطرة من حياته؛ وهي «حالة التشظي» التي أحدثها العصر الرقمي.

إنه تشظٍ حادّ نتاج مدنية مادية جافة، أصاب الإنسان في كل مفاصل حياته: قلبه وعقله وأسرته ومجتمعه ودولته وفلسفته وأنظمته، وقد اتضح هذا مع الربيع العربي. بل الربيع نفسه من أهم أسبابه التشظي الذي دخلت فيه البشرية، والذي نرى آثاره في الاحتجاجات ببقاع مختلفة من الأرض. إن إقامة هذه المناشط مهمة للوقوف على وضع الإنسان النفسي والاجتماعي، ومحاولة تقديم رؤى تسهم في لملمة النفس البشرية من تشظيها، بالصلة بالله مدبّر أمر الإنسان وناظم فلك الكون.

خلال السنوات العشر الأخيرة.. تواصل معي العديد من الشباب، وهم محمّلون بأطباق من الاستفسارات بحثا عن «الطريق إلى الله»، ومن الشكوك حول الأساليب التقليدية للتدين، وقد اعتنيت بهذه الظاهرة لكي أفهمها، ولعلي أستطيع أن أفيد الشباب في وعيهم بواقعهم. لقد أحدث الربيع العربي شروخا عميقة في النفس العربية، ونحن في سلطنة عمان؛ لم نكن بمنأى عنه، فكما وصلت إلينا بعض هزاته الارتدادية؛ أصاب كثيرا من شبابنا بشظايا من اللا يقين، خاصةً الفتيان الذين وعوا على الدنيا بحالة من الصدمة، ولم يجدوا مَن يخفف عنهم أثرها، لعدم عناية المجتمعات والحكومات العربية بذلك، بل إنها هي نفسها تعيش الصدمة. بالإضافة؛ أن التفكير الإسلامي الذي تشكّل بأجندة وبرامج «الإسلام السياسي»، الذي كان مهتما بالتربية النفسية والاجتماعية للشباب -بغض النظر عن صحة مساره وخطئه- كان يجيبهم على تساؤلاتهم، ويجدون فيه ملاذا عن شكوكهم المتولدة من سعيهم في الحياة، هذا التفكير هو الآخر دخل مرحلة المراجعة والانحسار منذ هجمات 11 سبتمبر 2001م على واشنطن ونيويورك، وازداد تشظيا مع الربيع العربي، فلم يعد قادرا على إمداد جيل الألفية الجديدة باليقين الروحي والسكينة النفسية، بل إن أعمال «جماعات العنف» التي تجتاح العالم الإسلامي بعمى منذ بداية التسعينيات شكلت لدى الناس قلقا وخوفا من مآلات الطرح التقليدي للفكر الإسلامي، وإن لم يعترف بفشله في التخفيف من أثر ظاهرة التشظي لدى الشباب، والتي دفعت ببعضهم إلى الانتحار، بل إنه هاجم محاولات فهم الظاهرة ونقد العلاج التقليدي لها، وأطلق تجاهها خطاباته الإقصائية، ووزع على الناس ألقاب النسوية والعقلانية والإلحاد.

من هنا.. نفهم أن البحث عن «مخرج صوفي» لظاهرة التشظي النفسي الذي نلحظ تزايده هذه الآونة ليس مقلقا، بل هو أمر إيجابي، فعلينا أن نساعد أبناءنا للوصول إلى حال اليقين، وكما أدركنا أن التيار التقليدي للتفكير الديني آخذ في التصدع؛ علينا أن ندرك أيضا أنه غير قادر على إيجاد الحلول، فهو يبحث عن عوامل لبقائه من خلال المعارك الوهمية في المجتمع، وهذا متوقع منه؛ لأن النظرية المعرفية لتفكيرنا الإسلامي بالأساس نشأت تحت أسنة الصراع.

أدرك لماذا يبحث الشباب في التصوف عن حل لأزمتهم الروحية، ولماذا هم منصرفون عن الأطروحات الفقهية والفكرية التقليدية، ولكن أخشى أن التوجه نحو التصوف الطرقي والفلسفي ليس هو الحل الناجع، لأنه ليس مبرأ من «الشطح» الذي لم يعد له في عصرنا محل من المنطقية: العقلية والواقعية والاجتماعية، كما أنه ذو حمولة تأريخية سلبية، فقد وُجِّهت إليه «ضربات قاصمة» فيما «يخالف الشريعة»، وفي تجربته الشخصية، ولغته المنغلقة، وممارسات سالكيه، وطرقية أتباعه، وإخفاقاته السياسية والاجتماعية، وهذا لا يعني أنه كله سلبي، بل له جوانب مهمة فيما يرسمه لعلاقة الإنسان بربه، وهو ما أراهن عليه وأرى تمثّله. إن الولوج في التصوف بحمولته التاريخية لا يمكن أن يكون مخرجا، بل قد يكون أزمة أخرى تضاف إلى أزمات الشباب، لاسيما إن جرى استغلاله سياسيا من قِبَل بعض الحكومات.

التصوف.. الذي يحتاج إليه الإنسان؛ هو الكشف عن الروح المستقرة في النفس؛ تلك النفخة الإلهية التي وهبنا الله إياها لمّا استوينا في الخِلقة: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29]، وهي المعبَّر عنها بالفطرة: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [الروم:30]؛ والتي انبثق منها: الإيمان والأخلاق والوعي. فالفطرة.. هي أن يكون الإنسان مع الله بالمحبة واليقين، ومع أخيه الإنسان بالكرامة والإحسان، ومع الكائنات بالاعتبار وعدم الإفساد.

والتصوف.. سلوك الإنسان متصلا بالله كالصبر والزهد والتخلص من علائق البشر وأوضار الدنيا، وهو المعبّر عنه بالمقامات، و(المقام ثابت).. لابد للساعي إلى الله من إطناب خيمته في عرصاته، ومَن سلك مقاما عليه أن يطمح إلى آخر. والنفس تكلّ أثناء كدحها، فعلى الإنسان أن يذكي جذوتها بمقام المجاهدة كلما فترت، وإن رأى منها تفلتا عن مراعي الخير عَقَلَها بمقام الورع. وهذا لا يعني البُعد عن الناس، ولا التخلي عن العمل وكسب الرزق، ولا النفرة عن الثراء، بل كل هذا مطلوب، وبه يتقرب إلى الله، فهو من إعمار الكون الذي خُلِق لأجله الإنسان، فالسعي إلى الله.. ينبغي أن يصحبه الغنى والرضا، لا الفقر والشقاء: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) [طه:1]. فالمحرّم.. هو الظلم والغش ونقض العقود ومجانبة الأخلاق. وفي المقابل.. ينبغي للإنسان ألا يبذّر ثروته، وإنما يصرف على نفسه بما يجعله عزيزا مكرما، وعلى مَن يعول بقدر ما يصونهم عن الذِّلة والمسكنة، وما فاض أنفقه في وجوه الخير ومصالح الناس، وألا يدع سبيلا يرى فيه خيرا إلا أنفق فيه، بحيث يصبح المال معراجا إلى الله، والنعمة تذكيرا به، والإحسان كمالا للصلة به.

والتصوف.. هو أيضا العرفان أو العلم اللدني أو الإلهام، أي ما يتلقاه الإنسان من ربه، فليس للإنسان يد فيه، بل هو حال يهبه الله عبده بقدر علمه به، و(الحال متحوّل) بحسب لغة الصوفية. وقد حصل كثير من الادّعاء فيه، حتى زُعِم تلقي العلم الشرعي والعلم الدنيوي من عند الله، وأن الله ينقض سننه ونواميس كونه لأجل مَن يسمّونه «الولي»، وهذا لا علاقة له بالعرفان، ولذلك؛ قيّده الفقيه العماني أبو سعيد محمد بن سعيد الكدمي (حي:361هـ) بألا يخالف العقل والقرآن. وإلا كان وسوسة ووهما.

العرفان.. هو اللطف الإلهي الذي يمنحه الله عبده متساوقا مع سنن الكون، فيشعر أنه في معيّة الله، يسجد له مع الكون: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [الأنبياء:18]. والإنسان.. كلما كانت عروة عرفانه بالله أوثق انفتحت له أبواب ملكوت الله، فلا يرى شيئا غيره، فيأنس قلبه ببرد اليقين، ويشعر بألا تنافر بين الكائنات، ولا تضاد بين قوانينها وسنن الله. فيعيش مطمئنا في حياته بفيوض الله عليه من لطفه الخفي وعرفانه الجلي.

إن إعادة بناء مفهوم التصوف لدى الشباب ضروري لكي يزول عنهم الشك القاتل، فالحياة.. تميل للاتزان وتمقت الاضطراب، وإن كان الشاب ينفر من الطرح التقليدي النافر عن فطرة الله؛ فمن باب أولى سيجد نفورا من الممارسات الصوفية النشاز عن سنن الله ونواميس كونه.

إن ما يحتاجه الشاب اليوم هو ضبط بوصلته باتجاه الله وهو سالك إليه على مركبة الأخلاق، وليس إثقال كاهله بالطقوس والأوهام.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى الله الذی ی

إقرأ أيضاً:

حقائق خطيرة .. ما الذي يعنيه نتنياهو بتغيير الواقع الاستراتيجي في المنطقة؟

#سواليف

ما الذي يعنيه #نتنياهو بتغيير #الواقع_الاستراتيجي في المنطقة؟

كتب أ. د. أحمد القطامين * 

المنطقة العربية التي يسميها الغرب #الشرق_الأوسط تدخل في مسار جديد سيحدد مصيرها لعقود طويلة قادمة. #نتنياهو قال بوضوح يوم امس ان كيانه شرع في #تغيير #الواقع_الاستراتيجي في المنطقة وهذا يعني من وجهة نظره ان الكيان سيهيمن علنا وبلا رتوش على شرق اوسط جديد تم اعادت صياغته ليصبح جزء أساسيا من امبراطورية تلمودية تقودها وتتحكم بمفاصلها الأساسية امبراطورية اسرائيل المدججة بالسلاح والمدعومة بامكانيات وقدرات وموارد غربية غير محدودة.

مقالات ذات صلة الدويري: 4 أوراق قوة يملكها حزب الله أمام عملية الاحتلال البرية 2024/10/01

ان السؤال المهم هنا يتمحور حول السؤال التالي: لماذ يبدو نتنياهو واثقا من نفسه إلى هذا الحد في هذا التوقيت بالتحديد؟ والجواب انه يعتقد ان حزب الله في لبنان قد انتهى ولم يبقى من عوامل القوة في المنطقة سوى ايران التي ستتلقى المرحلة القادمة من الحرب بعد ازالة حزب الله القوة الإقليمية التي شكلت على مر الحقب الثلاثة الماضية شوكة تؤذي بشدة حنجرة الكيان وتخلق مصدات استراتيجية أمام تحويل المنطقة إلى مستعمرات صهيونية.

طبعا نتنياهو يبني موقفه الحالي على فرضية ان حزب الله تلاشى مع استشهاد قائده الكارزمي ونسبة كبيرة من قادته التاريخيين في الضربة المفجعة في الضاحية الجنوبية يوم الجمعة الماضية، متناسيا ان حزب الله ليس دولة تسقط مع احتلال عاصمتها او تدمير اركان الحكم فيها.. فحزب الله حركة مقاومة تتمتع بهيكل تنظيمي مرن جدا وهي الميزة التي تتميز بها حركات المقاومة والتي تمنحها قوة النهوض المباشر بعد تلقي الضربة حتى لو كانت ضربة موجعة جدا.

اما ايران فهي في موقف لا تحسد عليه، فالهجوم عليها اصبح امراً حتميا ولم يبق أمامها إلا واحدة من حالتين، اما ان تتهيأ لتلقي الضربة او ان تبادر إلى توجيه ضربة بالغة القوة والإبعاد للكيان، وفي الحالتين سوف يسعى الكيان إلى إلحاق دمار هائل في المدن الإيرانية ومواقع المفاعلات النووية وغيرها من المواقع ذات الصفة الاستراتيجية يقابلها بالطبع تدمير غير مسبوق لمواقع استراتيجية حيوية في الكيان.

لقد عملت #طوفان_الأقصى على خلخلة أسس قوة الردع الاسرائيلية مما استدعى كل هذه السلوكيات العدوانية للكيان في محاولة لاستعادة قوة الردع تلك، لكنها لم تنجح كما يجب لغاية الان مما استدعي زيادة جرعة العدوانية والقتل والتدمير فمن وجهة نظر الكيان ان استعادة حالة الردع والمحافظة عليها لعقود طويلة قادمة تتطلب خلق حالة استراتيجية جديدة في المنطقة لا يوجد من ضمن متغيراتها كحزب الله وايران.

ان فهم ذلك مهم جدا وضروري لمواجهة كل هذا الذي يجري الان في المنطقة بالرغم من قتامة المشهد وخطورة ما تقوم به اسرائيل من قتل وتدمير وفرض اجواء من الخوف والرعب وانعدام الحيلة تماما كتلك الاجواء التي سادت عندما اقتحم هولاكو وجيشة المغولي المتوحش المنطقة العربية ابتداء من بغداد وسيطرته السريعة على بلاد الشام وتوجهه الى مصر، ومع ذلك لم يتطلب الامر سوى عامين اثنين لوقف زحف هولاكو والحاق هزيمة كبرى بجيشه المتوحش وتخليص الامة من شروره..

عادة ما يعيد االتاريخ نفسه بانماط واشكال متجانسة..

* أكاديمي وكاتب أردني 

•qatamin6@hotmail.com

مقالات مشابهة

  • بعد مشاركتها في مسابقة ملكة جمال الكون.. تعرف على تشوي سون صاحبة الـ81 عاما
  • إنهاء مهام غلام الله رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
  • أحداث غزة ولبنان| الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط: الكون تحول لـ"شيطان أخرس".. ويشدد على ألا ينزلق اللبنانيون نحو الفتنة
  • من هو جعفر قصير الذي اغتالته إسرائيل؟.. صهر حسن نصر الله
  • بشير الديك.. أنا غرقان فى بحر التصوف وأقرأ حالياً لـ«ابن عربي والقشيري» (2)
  • وزير الرياضة يتابع مجموعة ملفات عمل تنمية الشباب
  • مَن هو النبي الذي سبحت معه الطير والجبال؟.. كان له صوت جميل
  • ثمانينية كورية تصل نهائيات ملكة جمال الكون.. والنتيجة مفاجأة
  • حقائق خطيرة .. ما الذي يعنيه نتنياهو بتغيير الواقع الاستراتيجي في المنطقة؟
  • تايمز: ما الإجراء الذي قد تتخذه إيران ضد إسرائيل؟