16 سبتمبر 2023م.. بدعوة كريمة من لجنة كُتّاب وأدباء محافظة الداخلية بالجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء، شاركت في جلسة حوارية بعنوان «الفكر الصوفي.. مقاربات بين التراثيات والأدبيات الحديثة» في متحف عمان عبر الزمان بولاية منح؛ الذي يُعنى بالتثقيف الحضاري والتنوير الفكري.
وهذه الأنشطة ينبغي تشجيعها وشكر القائمين عليها، لأنها تلامس نفس الإنسان -خاصةً جيل الشباب- الذي يعيش حالة خطرة من حياته؛ وهي «حالة التشظي» التي أحدثها العصر الرقمي.
خلال السنوات العشر الأخيرة.. تواصل معي العديد من الشباب، وهم محمّلون بأطباق من الاستفسارات بحثا عن «الطريق إلى الله»، ومن الشكوك حول الأساليب التقليدية للتدين، وقد اعتنيت بهذه الظاهرة لكي أفهمها، ولعلي أستطيع أن أفيد الشباب في وعيهم بواقعهم. لقد أحدث الربيع العربي شروخا عميقة في النفس العربية، ونحن في سلطنة عمان؛ لم نكن بمنأى عنه، فكما وصلت إلينا بعض هزاته الارتدادية؛ أصاب كثيرا من شبابنا بشظايا من اللا يقين، خاصةً الفتيان الذين وعوا على الدنيا بحالة من الصدمة، ولم يجدوا مَن يخفف عنهم أثرها، لعدم عناية المجتمعات والحكومات العربية بذلك، بل إنها هي نفسها تعيش الصدمة. بالإضافة؛ أن التفكير الإسلامي الذي تشكّل بأجندة وبرامج «الإسلام السياسي»، الذي كان مهتما بالتربية النفسية والاجتماعية للشباب -بغض النظر عن صحة مساره وخطئه- كان يجيبهم على تساؤلاتهم، ويجدون فيه ملاذا عن شكوكهم المتولدة من سعيهم في الحياة، هذا التفكير هو الآخر دخل مرحلة المراجعة والانحسار منذ هجمات 11 سبتمبر 2001م على واشنطن ونيويورك، وازداد تشظيا مع الربيع العربي، فلم يعد قادرا على إمداد جيل الألفية الجديدة باليقين الروحي والسكينة النفسية، بل إن أعمال «جماعات العنف» التي تجتاح العالم الإسلامي بعمى منذ بداية التسعينيات شكلت لدى الناس قلقا وخوفا من مآلات الطرح التقليدي للفكر الإسلامي، وإن لم يعترف بفشله في التخفيف من أثر ظاهرة التشظي لدى الشباب، والتي دفعت ببعضهم إلى الانتحار، بل إنه هاجم محاولات فهم الظاهرة ونقد العلاج التقليدي لها، وأطلق تجاهها خطاباته الإقصائية، ووزع على الناس ألقاب النسوية والعقلانية والإلحاد.
من هنا.. نفهم أن البحث عن «مخرج صوفي» لظاهرة التشظي النفسي الذي نلحظ تزايده هذه الآونة ليس مقلقا، بل هو أمر إيجابي، فعلينا أن نساعد أبناءنا للوصول إلى حال اليقين، وكما أدركنا أن التيار التقليدي للتفكير الديني آخذ في التصدع؛ علينا أن ندرك أيضا أنه غير قادر على إيجاد الحلول، فهو يبحث عن عوامل لبقائه من خلال المعارك الوهمية في المجتمع، وهذا متوقع منه؛ لأن النظرية المعرفية لتفكيرنا الإسلامي بالأساس نشأت تحت أسنة الصراع.
أدرك لماذا يبحث الشباب في التصوف عن حل لأزمتهم الروحية، ولماذا هم منصرفون عن الأطروحات الفقهية والفكرية التقليدية، ولكن أخشى أن التوجه نحو التصوف الطرقي والفلسفي ليس هو الحل الناجع، لأنه ليس مبرأ من «الشطح» الذي لم يعد له في عصرنا محل من المنطقية: العقلية والواقعية والاجتماعية، كما أنه ذو حمولة تأريخية سلبية، فقد وُجِّهت إليه «ضربات قاصمة» فيما «يخالف الشريعة»، وفي تجربته الشخصية، ولغته المنغلقة، وممارسات سالكيه، وطرقية أتباعه، وإخفاقاته السياسية والاجتماعية، وهذا لا يعني أنه كله سلبي، بل له جوانب مهمة فيما يرسمه لعلاقة الإنسان بربه، وهو ما أراهن عليه وأرى تمثّله. إن الولوج في التصوف بحمولته التاريخية لا يمكن أن يكون مخرجا، بل قد يكون أزمة أخرى تضاف إلى أزمات الشباب، لاسيما إن جرى استغلاله سياسيا من قِبَل بعض الحكومات.
التصوف.. الذي يحتاج إليه الإنسان؛ هو الكشف عن الروح المستقرة في النفس؛ تلك النفخة الإلهية التي وهبنا الله إياها لمّا استوينا في الخِلقة: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29]، وهي المعبَّر عنها بالفطرة: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [الروم:30]؛ والتي انبثق منها: الإيمان والأخلاق والوعي. فالفطرة.. هي أن يكون الإنسان مع الله بالمحبة واليقين، ومع أخيه الإنسان بالكرامة والإحسان، ومع الكائنات بالاعتبار وعدم الإفساد.
والتصوف.. سلوك الإنسان متصلا بالله كالصبر والزهد والتخلص من علائق البشر وأوضار الدنيا، وهو المعبّر عنه بالمقامات، و(المقام ثابت).. لابد للساعي إلى الله من إطناب خيمته في عرصاته، ومَن سلك مقاما عليه أن يطمح إلى آخر. والنفس تكلّ أثناء كدحها، فعلى الإنسان أن يذكي جذوتها بمقام المجاهدة كلما فترت، وإن رأى منها تفلتا عن مراعي الخير عَقَلَها بمقام الورع. وهذا لا يعني البُعد عن الناس، ولا التخلي عن العمل وكسب الرزق، ولا النفرة عن الثراء، بل كل هذا مطلوب، وبه يتقرب إلى الله، فهو من إعمار الكون الذي خُلِق لأجله الإنسان، فالسعي إلى الله.. ينبغي أن يصحبه الغنى والرضا، لا الفقر والشقاء: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) [طه:1]. فالمحرّم.. هو الظلم والغش ونقض العقود ومجانبة الأخلاق. وفي المقابل.. ينبغي للإنسان ألا يبذّر ثروته، وإنما يصرف على نفسه بما يجعله عزيزا مكرما، وعلى مَن يعول بقدر ما يصونهم عن الذِّلة والمسكنة، وما فاض أنفقه في وجوه الخير ومصالح الناس، وألا يدع سبيلا يرى فيه خيرا إلا أنفق فيه، بحيث يصبح المال معراجا إلى الله، والنعمة تذكيرا به، والإحسان كمالا للصلة به.
والتصوف.. هو أيضا العرفان أو العلم اللدني أو الإلهام، أي ما يتلقاه الإنسان من ربه، فليس للإنسان يد فيه، بل هو حال يهبه الله عبده بقدر علمه به، و(الحال متحوّل) بحسب لغة الصوفية. وقد حصل كثير من الادّعاء فيه، حتى زُعِم تلقي العلم الشرعي والعلم الدنيوي من عند الله، وأن الله ينقض سننه ونواميس كونه لأجل مَن يسمّونه «الولي»، وهذا لا علاقة له بالعرفان، ولذلك؛ قيّده الفقيه العماني أبو سعيد محمد بن سعيد الكدمي (حي:361هـ) بألا يخالف العقل والقرآن. وإلا كان وسوسة ووهما.
العرفان.. هو اللطف الإلهي الذي يمنحه الله عبده متساوقا مع سنن الكون، فيشعر أنه في معيّة الله، يسجد له مع الكون: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [الأنبياء:18]. والإنسان.. كلما كانت عروة عرفانه بالله أوثق انفتحت له أبواب ملكوت الله، فلا يرى شيئا غيره، فيأنس قلبه ببرد اليقين، ويشعر بألا تنافر بين الكائنات، ولا تضاد بين قوانينها وسنن الله. فيعيش مطمئنا في حياته بفيوض الله عليه من لطفه الخفي وعرفانه الجلي.
إن إعادة بناء مفهوم التصوف لدى الشباب ضروري لكي يزول عنهم الشك القاتل، فالحياة.. تميل للاتزان وتمقت الاضطراب، وإن كان الشاب ينفر من الطرح التقليدي النافر عن فطرة الله؛ فمن باب أولى سيجد نفورا من الممارسات الصوفية النشاز عن سنن الله ونواميس كونه.
إن ما يحتاجه الشاب اليوم هو ضبط بوصلته باتجاه الله وهو سالك إليه على مركبة الأخلاق، وليس إثقال كاهله بالطقوس والأوهام.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المفتي: الأمم تنهض بالأخلاق والعلم النافع هو السبيل لقيادة ركب التطور وبناء الوعي الصحيح
أكد مفتي الديار المصرية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء بالعالم الدكتور نظير محمد عياد، أن الأمم تنهض بالأخلاق، وأن جميع الأنبياء دعوا إلى الخير وحذروا من الفساد، وأن الله تعالى أرسى قواعد الدين ليكون سترًا للإنسان وحافظًا له.
جاء ذلك خلال فعاليات الندوة التثقيفية التي نظمتها الإدارة العامة لرعاية الطلاب بجامعة مدينة السادات بالمنوفية اليوم الأحد بعنوان «الارتباط بين العقد والسلوك».
حضر الندوة كل من رئيس الجامعة الدكتورة شادن معاوية، الدكتور خالد جعفر نائب رئيس الجامعة لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة، الدكتور خميس محمد خميس، مشرف قطاع شئون التعليم والطلاب، الدكتور إبراهيم الكفراوي، منسق الأنشطة الطلابية وذلك في إطار مبادرة رئيس الجمهورية «بداية جديدة لبناء الإنسان».
وأوضح فضيلة المفتي أن الدين هو الضابط الذي يحفظ الأخلاق ويرشد الإنسان إلى الصواب، مشيرا إلى أن العلم النافع هو السبيل إلى قيادة ركب التطور والتقدم، وبناء الوعي الصحيح لدى الشباب، بما يستجد على مجتمعنا واسلامنا من فتن ومغالطات، والمساهمة في تطوير الذات وتقدم المجتمع مخاطبا الطلاب بالجامعة قائلًا: "المكان الذي أنتم فيه أمانة، فبالعلم تُبنى الأمم، وأنتم في ميدان عظيم، وأنتم مسؤولون أمام الله عن هذه الأمانة".
وأشاد مفتي الديار المصرية بدور جامعة مدينة السادات البحثي والتعليمي وخدمة المجتمع، متمنياً للجامعة وقيادتها كل التوفيق في تحقيق مراكز مرموقة محلياً وعالمياً، سائلًا الله - عز وجل - أن يديم الأمن والأمان على وطننا الحبيب مصر والأمتين الإسلامية والعربية.
من جانبها أشادت رئيس جامعة مدينة السادات بالدور الرائد الذي تقوم به دار الإفتاء المصرية، والتي تُعد من أعرق المؤسسات الدينية في مصر والعالم العربي، حيث يأتي دورها العظيم من خلال إبراز وتوضيح مفهوم الإسلام الوسطي، ونشر الفتاوى المستنيرة وفق منهج الأزهر الشريف لمواجهة الفكر المتطرف، والتحديات الفكرية والاجتماعية المختلفة والتي تطرأ على مجتمعنا من وقت لآخر، مما يعزز دور دار الإفتاء الريادي في ظل القيادة الحكيمة للرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية.
اقرأ أيضاً«المفتي» يرد على عدم الحاجة إلى الدين: الإنسان يحتاجه كالطعام والشراب
بعد رد المفتي.. الإعدام لربة منزل قتلت شقيق زوجها الطفل خنقًا بالقليوبية