لغتنا العربية؛ هويتنا الحضارية وأمننا القومي
تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT
مسقط-أثير
إعداد: الدكتور صالح بن سليمان الكلباني
درج العالم عامة والعربي خاصة على الاحتفاء في الثامن عشر من ديسمبر باليوم العالمي للغة العربيّة، ومن الجدير ذكره بادئ ذي بدء سبب تخصيص هذا اليوم للاحتفاء باللغة العربية قبل الحديث عن أصالتها وتأثيرها وتأثّرها بالحضارات الإنسانية في العالم؛ فخلال الدورة الستين للأمم المتحدة، أُصدِر قرار باعتماد اللغة العربية واحدة من اللغات الرسمية في المنظمة ومؤسساتها، وفي الدورة الثامنة والعشرين للجمعية العمومية صدر قرار في ديسمبر (1973) باعتماد العربية لغة رسمية ضمن لغات المنظمة.
وبغض النظر عن تاريخية اللغة ونشأتها، تعدُّ اللغة العربية إحدى اللغات السامية التي تعود لقرونٍ قبل الميلاد، ولقد كانت العرب وقبائلها في شبه الجزيرة العربية تحافظ على لهجاتها وفصاحتها حتى اندمج عرب الجزيرة مع غيرهم من الأجناس بسبب دخول تلك الأجناس إلى الإسلام وتزايد الاحتكاك الاجتماعي بها عامة، والحواضر الثقافيّة المعروفة آن ذاك خاصة، وتبعا لذلك رأى العرب الحاجة ماسة إلى حفظ اللغة من اللحن واندراس مفرداتها؛ حفاظا على عربيتهم التي يغارون عليها ويستقبحون تحريفها، واحترازا عن اللحن في القرآن الكريم، فنشأت المدرسة البصرية التي قعدت النحو؛ من أبي الأسود الدؤلي وابن أبي إسحاق، والخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه ومن أتى بعدهم في هذه المدرسة اللغوية النحوية. وتدرج الاهتمام بالعربية فنشأت نتيجة سعتها وتعدد العلماء والآراء مدارس بها مثل: الكوفية، والبغدادية والأندلسية والمصرية ولغة الشام والحجاز واليمن.
ولعله من الجيد الإشارة إلى أن اللغة وهي في مرحلة التقعيد والمعيارية كان قد أسهم فيها من غير العرب كثير، فسيبويه وهو صاحب أشهر كتاب(كتاب سيبويه) كان فارسيا، وكان ما كان من ساهمة الحضارات الأخرى التي نقل عنها اللغويون ما استأنسوا به، فتأثروا وأثّروا في الآخرين؛ ومن الإشارات في المحافل اللغوية هو استفادة النحاة من نحو وكتابة كل من: اليونان والهند والفرس والمجال لا يتسع لذكر تفاصيل هذا الامتزاج الثقافي والحضاري.
وبعد مرحلة التأسيس وفي عصور: صدر الإسلام والعصور الراشدية كان للعرب والعربية انفتاح أكثر مع الأمم الأخرى؛ لأن رقعة أراضي الإسلام اتسعت وشملت متحدثي لغات مختلفة، وكان إذ ذاك أن استفاد العرب من العقل اليوناني بنقل الفلسفة وعلوم المنطق عند أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وغيرهم، واستفادوا من عقل الفرس بنقل العلوم وبالتأليف في علوم التفسير والحديث والفقه واللغة، ومن عقل الهند بالترجمة عن الأدبيات الأسطورية وقصصها؛ ولعل كتاب كليلة ودمنة الذي ترجمه ابن المقفع أقربه إل القارئ البسيط.
وكان أن اعترف علماء تلك الحضارات بتأثير العربية ونجابتها، ولا أدل من إطالة المقال إنشاء أقسام للدراسات العربية وكراسي علميّة لها في مختلف جامعات العالم وتعلمها؛ فشيوع اللغة العربية في المجتمعات الأوروبية ونتيجة كثرة الإقبال على تعلمها جعل أحد رجال الدين النصارى في مجمع فينا 1311م يدعو إلى إنشاء ست مدارس لتعليم اللغات الشرقية في أوروبا، حتى أتت موجة المستشرقين ودارسي اللغة العربية لسبر أغوارها وإثبات شرفها وعمقها مثل (ميركس) في كتابه تاريخ صناعة النحو عند السريان والفرنسي (فليش)، والهندي فيرستيج، الذي قال بتأثر النحو العربي بالنحو اليوناني، وكارتر الإنكليزي الذي رفض تلك الفكرة ،وبروكلمان وجوتولد فايل وليتمان، فضلا عن جيرار تروبو الذي قدم بحثا أثبت فيه أصالة النحو العربي.
أما عن التأثير في الجانب الثقافي والاجتماعي فإن اللغة العربية تناسلت بالترجمة وبالعلاقات التجارية، أو تسللت إلى لغات كثيرة وأقوام عديدين، ومؤلفاتهم ودراساتهم كثيرة في ذلك نذكر منها كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) لسيغريد هونكه. والدراسات العلمية والمؤلفات والبحوث لم تنه حتى يومنا هذا؛ فما زلنا نرى حركة التناسل الثقافي بالترجمة إلى اللغات الأخرى ومنها قائمة على أشدها، ولعل فوز الكُتَّاب العرب بجوائز عالمية لدليل على مشاركة العربية في الإنتاج الثقافي والحضاري.
وعلاوة على التناسل الثقافي والحضاري بالترجمة، فهو قائم بالتواصل البشري عن طريق البعثات العلمية وتعلم اللغات وتعليمها؛ وحدث في البلاد العربية أن أُنشأت المجامع العربية التي أخذت على عاتقها حمل أمانة اللغة فسارت تنشر العربية للمسلمين في ربوع العالم ولغير المسلمين أيضا، وبدأت تستقطب غير الناطقين بالعربية لتعلّمها في كنفها، فأنشأت الكليات والمعاهد التي تستقطب العالم إلى لتعلم العربية ليعرفوا كيف يفكر العربي وكيف يعيش وكيف يتعامل وما احتياجاته؟ ومن أمثلتها كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها أنموذجا ومن نماذج المجامع أيضا: مجمع الملك عبدالله، ومجمع الملك سلمان، ومجمع الإمارات وقطر وغيرها كثير. وكان لهذا التناسل الثقافي والحضاري مردود وتبادل اقتصادي وعلمي على الجميع من مختلف الحضارات.
بقي أن أشير في نهاية المقال إلى أن شرف العربية ينطلق من عموديته وأفقيته؛ فأما عموديته فلكون العربية لغة القرآن الكريم، وأما أفقيته لرسوخ قدم العربية بين اللغات الحيّة القديمة، ولا أدل على ذلك ما يجمعه المرويّ في المأثور: “أحب العربية لثلاث: لأنها لغة العرب ولغة القرآن ولغة سكان الجنان”.
وحريٌ بنا ونحن نحتفي بالعربية أن نجعلها مسألة مستقبيلة وأمنا قوميا عربيا كباقي الأمم، تكشف قوتنا وعوارنا، وإذا كان غير العربي يهتم ويهش إلى العربية فلعمري أن العربي والمسلم أحرى بذاك وأولى، وإن أنس لا أنس ما يُذكر عن المسابقة التي أقمتها هيئة الإذاعة البريطانية لأفضل قصيدة تقال في مدح الرسول الكريم ففاز بها شاعر سنغالي إذ قال:
هجرت بقاع مكة والهضابا * وودعت المنازل والرحابا
تخذت من الدجى يا بدر سترا * ومن رهبوت حلكته ثيابا
ومن عجب تسيء إليك أرض * نشأت فما أسأت بها شبابا
والمرء ما زال مخبوء تحت لسانه ولغته هويته وفكره وأمنه.
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: اللغة العربیة
إقرأ أيضاً:
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون معضلة اللغة
شمال سوريا ـ يعتزم اللاجئ السوري المقيم جنوبي تركيا حسان الحلبي تسجيل ابنه البالغ من العمر 11 عاما في دورة لتعليم اللغة العربية لدى أحد المدرسين في مدينة غازي عنتاب، بهدف تحضيره لاستكمال تعليمه في سوريا، بعد أن قررت الأسرة العودة إلى ديارها عقب انتهاء العام الدراسي.
ويقول الحلبي إن ابنه بالكاد يستطيع معرفة أحرف اللغة العربية، مع عدم القدرة على القراءة والكتابة بها، كونه بدأ دراسته في تركيا ضمن المدارس الحكومية هناك، وبات يتقن اللغة التركية بعد وصوله إلى الصف الخامس.
ويؤكد الحلبي -في حديث للجزيرة نت- أن مشكلة متابعة ابنه تحصيله الدراسي في وطنه الأم سوريا تشكل له تحديًا كبيرًا، ولديه مخاوف من أن يفشل ابنه في التعليم بالمدارس السورية، وهو المتفوق في صفه والمحبوب من مدرسيه ورفاقه الأتراك.
ويشير الحلبي إلى ضرورة أن يتقن الطلاب العائدون العربية من خلال دورات مكثفة قد يقومون بها في بلد اللجوء أو سوريا لدى عودتهم، داعيًا وزارة التربية في حكومة تصريف الأعمال السورية للنظر إلى الأمر على محمل الجد ومحاولة تقديم المساعدة للطلاب العائدين.
اندماج أطفال اللاجئين السوريين في المدارس التركية أفقدهم لغتهم العربية (الجزيرة) معضلة كبيرةويواجه اللاجئون السوريون العائدون من تركيا وآخرون يعتزمون العودة معضلة كبيرة تتجلى في فقدان أولادهم اللغة العربية الأم، نتيجة دراستهم خلال سنوات باللغة التركية بالمدارس الحكومية في تركيا.
إعلانووفق إحصائيات رسمية لوزارة التعليم التركية، فإن هناك حوالي مليون و30 ألف طالب سوري في سن الدراسة منتظمون في المدارس التركية، مع توقعات بعودة العديد من الأسر السورية إلى ديارها مع انتهاء العام الدراسي وحلول فصل الصيف.
ويعزو أغلب السوريين عدم تعلم أبنائهم للغة العربية إلى فقدانهم الأمل بالعودة إلى سوريا بعد مرور أكثر من عقد على وجودهم في بلدان اللجوء، بالتزامن مع رغبتهم بأن يندمج أطفالهم في المجتمعات المضيفة.
غالية رحال لاجئة سورية تقيم جنوب تركيا تشير إلى أن ابنها يستطيع قراءة اللغة العربية بصعوبة شديدة، رغم أنها دأبت على إرساله إلى دورات تحفيظ القرآن الكريم في الجامع القريب من منزلهم خلال فصول الصيف السابقة.
وتعرب رحال للجزيرة نت عن مخاوفها بشأن مستقبل ابنها الدراسي، بعد عودتهم إلى مدينتهم في ريف إدلب، لافتة إلى أنها ستقوم بتحضيره عبر دورات باللغة العربية، كي يستطيع الدخول إلى المدارس السورية.
وتشير اللاجئة السورية إلى إمكانية أن يستكمل الطلاب العائدون من تركيا تعليمهم باللغة التركية عبر مدارس خاصة معترف بها من قبل وزارة التعليم السورية، كحل مقترح لهذه المشكلة التي سوف تواجه مئات الآلاف من الأسر العائدة في المستقبل.
لاجئون سوريون متخوفون من صعوبة استكمال أطفالهم التعليم لدى عودتهم إلى ديارهم (الفرنسية) صعوبة الاندماجأما اللاجئ السوري محمود ديبة العائد إلى مدينة حلب حديثًا فقد اشتكى من أن ابنته التي كانت تدرس في الصف الخامس بتركيا غير قادرة على الاندماج في صفها، مشيرًا إلى أنه يعتزم إلحاقها بدورة كي تتعلم العربية.
ويقول للجزيرة نت إن التحول في موضوع اللغة والتعليم شكّل صدمة لابنته وهي غير قادرة على استيعاب ما يحدث لها خصوصًا لدى الكتابة والقراءة، مرجحًا أن يقوم بإيقاف تعليمها الحكومي ريثما تتمكن من العربية بشكل مقبول يجعلها تستطيع الاستمرار.
إعلانويعرب ديبة عن ندمه لعدم تدريسه ابنته للعربية خلال السنوات العشر التي أقام بها في تركيا، لاعتقاده بأن العودة كانت شبه مستحيلة وليست في الحسبان مع وجود النظام السابق.
صفوف خاصة للعائدينويتحمل المسؤولية والحجم الأكبر لهذه المشكلة الأهل، وفق مدرس اللغة العربية عبد الرحيم محمد، موضحًا أن هناك بعض الأسر اللاجئة في تركيا رسخت لدى أطفالها الانتماء للوطن من خلال تعليم العربية ودفعهم إلى الاطلاع على تاريخ الوطن الأم سوريا وثقافته.
ويقول محمد- في حديث للجزيرة نت- إن مشكلة اللغة تحتاج إلى حلول حكومية ومن غير الممكن حلها من قبل الأهالي عبر جهود فردية، داعيا إلى إدماج الأطفال العائدين في تركيا في صفوف دراسية خاصة لا يجدون فيها تفاوتا ويكون الجميع في مستوى واحد.
ورأى محمد أن وضع الطلاب في هذه الصفوف هي خطوة أولى يمكن أن تستمر عاما أو أكثر، قبل نقلهم إلى الصفوف الدراسية مع الطلاب السوريين المتقنين للغة العربية منذ نعومة أظفارهم.
وعن فكرة استمرارية تعليم الأطفال السوريين القادمين من تركيا باللغة التركية، رأى محمد أنها فكرة "مصيبة" إذا كان الطلاب سوف يستكملون تعليمهم في الجامعات التركية، مؤكدًا أن أغلب العائدين يرغبون بتعلم أبنائهم العربية ومتابعة تحصيلهم العلمي العالي في سوريا.