الشاعرة سماح البوسيفيّ لـ"الرؤية": شعر النثر خاض معارك قوية وخرج من ركام القصائد الموزونة
تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT
الرؤية- ناصر أبوعون
قالت الشاعرة والناقدة التونسية سماح البوسيفي، إن الشعر العربي استطاع تخطي إشكالات البناء والتشكيل بعد حركات الترجمة الواسعة لقصيدة النثر الغربية، وسط كساد معرفي وجمود لغوي كبير، سقطت فيهما القصيدة الكلاسيكية لفترات طويلة جدا.
وأشارت- في حوار مع "الرؤية"- إلى ظهور محاولات التقليد وتراكم التجارب وسط انبهار وانفلات، حتى تشكلت في ذلك الوقت القصيدة الجديدة من ركام القصائد الموزونة.
وإلى نص الحوار:
ما هي منهجيتك في الكتابة والتأليف؟ وما هو الجديد لديك؟
أعمل برويّة وأمرِّر النظر على منجزي الشعري، وأحاول أن أقرأ هذه المرة كل السكنات التى تركتها فارغة داخل الشعر إذ إن الشاعر لابد أن يأخذ استراحة محارب لأن الكتابة التى لا تحمل رؤية لا يمكنها أن تخطو خطوة واحدة نحو الشعر.
والكتاب الشعري الأول كان توأمة للشعر والنقد في الكتابة عن الكتابة المخطوطة، وسيكون الكتاب الثاني تتمة لهذه الرؤية الشعرية واللغة صورة فوتغرافية للحظة ما، وعلى الشعر أن يحاصرها.
إذا تحدثنا عن مدارس الكتابة والشعر.. فأين تقفين منها؟
أنا في الحقيقة لم أبدأ من أي مكان وقف فيه غيري، كنت أتحسس الكتابة وملامحها وأنا أكتب مرة بعد مرة ولأن الكتابة تشكلت معي وأنا أخطو سنواتي الأولى في القراءة، فأنا أتحسس العالم حولي وأعيد تركيبه باللغة، وبيئتي والطبيعة التى عشت فيها وجهت شغفي الذي كان يكبر.
ما هي ملامح التجديد المتعلقة بقصائد النثر على مستوى الشكل والمضمون؟
القصيدة لم تعد تحتاج الصوت العالي لكي تنتشر كما أن الوزن في القصيدة الحداثية أصبح خللا واضحا وأزمة هوية حقيقية، لذا كان التخلي عن التشكيل البصري والصوت في قصائد النثر إعلانا عن انتهاء زمن الشعر القديم وبداية زمن شعر ما بعد الحداثة، فالشعر العربي بدأ من قصيدة النثر وتجاوزها وحطم محدودية قياساتها وشكلها الذي حددته سوزان برنار، لذا تنموا القصائد متعانقة مع بيئات جديدة ونظم أخرى فلا يمكن للشعر أن يُكتب داخل إطار شفاف محبوس في سجن التنظير، وعلى النقد أن يتبع الشعر ويلاحقه ويتشكل من خلاله فالتاريخ الطويل للنقد الشعري أثبت أن السنن الشعرية زائلة ومتجددة؛ لأن الشعر الذي لا يلاصق بيئته هو مجرد تكرار لغوي :القصيدة تعلن عن نفسها بحساسيات جديدة، وشكلانية مختلفة وحقول دلالية أشد وضوحا وانفلاتا.
انحازت المنابر العربية الشهيرة لقصيدة النثر لكن لم يكن لها الصدى المطلوب، لماذا؟
كان على الشعر العربي أن يتخطى إشكالات البناء والتشكيل بعد حركات الترجمة الواسعة لقصيدة النثر الغربية وسط كساد معرفي وجمود لغوي كبير، سقطت فيهما القصيدة الكلاسيكية لفترات طويلة جدا، فجاءت محاولات التقليد وتراكمت التجارب وسط انبهار وانفلات فتشكلت عندئذ القصيدة الجديدة من ركام القصائد الموزونة.
وكان حينها المناخ مهيئا لاستقبال قصيدة النثر بعد تأسيس أهم المنابر الشعرية الحاضنة لشعر النثر الذي خاض معاركه العنيفة وقوبل بالرفض، إنه الصراع الديناميكي والأزلي لتشكل اللغة بين الصمت والضوضاء وقد شكل أزمة تلقي وانفتاح، ومازال القارئ العربي يتحسس ذائقته الجمالية وموروثه الشعري، ومازال النقد يصمت أمام السلطة اللغوية للشعر العربي القديم رغم أن آخر مسمار قد دق في نعشه، ولذلك فإن أزمة المشهد العربي ليست أزمة كتابة بل أزمة تلقي.
متى يمكننا القول بأن قصيدة النثر العربية تسند ظهرها لمرجعيات أصيلة؟
لا يمكن للغة أن تتآكل داخل الشعر فكل نظام كتابي هو توالد لشعر جديد من شعر قديم؛ فرغم كل محاولات الانفلات فإن الشعر العربي لا يزال قائما في بناء القصائد الجديدة إنها الوفرة المجازية للشعر ولاننسى التفوق المجازي للقرآن الكريم الذي ظل معجما قائما بذاته في الشعر العربي وفتح الاحتمالات الدلالية اللامتناهية للغة في وعائها الضيق مشرعة على تنوع دلالي فائق؛ لهذا ظل الشعر لصيق بيئته رغم كل محاولات الانفلات؛ فنجد القصيدة أكثر حرية وتجريبا.
هل ابتدعت قصيدة النثر أنماطا موسيقية جديدة؟
الإيقاع طابع مميز لقصيدة النثر العربية ولا أقصد هنا الوزن لأنه غصن من شجرة الإيقاع؛ إذ تعلن قصيدة النثر دخولها مرحلة فنية جديدة مرحلة؛ أكثر حرية وانعتاقا متخلية عن تضاريس الشكل وصرامة البناء استجابة لحركة الواقع وتدفقه.
ويعتمد الشاعر على إيقاع الدلالة وتوالد المعاني ومن هنا اكتسبت قصيدة النثر كثافتها الدلالية فلم يعد الشاعر معنيا بتتبع الوزن والقافية لينسج قصيدته وفق صوت معين أصبحت القصيدة أكثر توافقا مع واقعها وأكثر اشتغالا على رؤية الشاعر الفنية والدلالية.
والإيقاع النصي يرتكز على التشكيل الدلالي إذ تحكم النص بنية دائرية ونظام لغوي وصرفي يشتغل بخفوت وهدوء على التوجيه الحسي للقارىء، إذ يصطدم المتلقي بشكل النص وكيفية إخراجه وطريقة توزيعه على الصفحة.. إنها التوافقات الشعرية الجديدة بين الشعر العربي القديم وشعر الحداثة، والنص الشعري الذي بوسعه أن ينفلت مرة بعد مرة من قيد التقليد والمحاكات غير بعيد عن ثقافته وأدواته.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الكتابة بين الملكية الفكرية والقسم الطبي
لم يهنأ الروائي الفرنسي من أصل جزائري كمال داوُد بجائزة الجونكور الفرنسية التي أُعلِنَ عن فوزه بها في الخامس من نوفمبر الجاري أكثر من عشرة أيام، ففي الخامس عشر من نوفمبر ظهرت في قناة "وان تي في" الجزائرية سيدة من مدينة وهران تُدعى سعادة عربان، تقول إن قصة بطلة روايته "حوريات" هي قصتها، وإنها سبق أن رَوَتْها للطبيبة النفسية عائشة دحدوح؛ زوجة كمال داوُد، خلال جلسات العلاج التي كانت تخضع لها في عيادتها منذ عام 2015. نُذكِّر هنا أن بعض أحداث الرواية تقع في وهران فعلًا، وتسرد قصة شابة فقدت القدرة على الكلام بعد تعرّضها لمحاولة قتل ذبحًا في 31 ديسمبر 1999، خلال الحرب الأهلية في الجزائر. تقول سعادة التي تعاني من إصابة على مستوى الرقبة أثّرت على حبالها الصوتية إن تفاصيل حكاية "فجر"؛ بطلةِ الرواية، وأوصافَها الشخصية متطابقة مع حكايتها التي روتها للطبيبة، كالندوب في وجهها، وأنبوب التنفس الذي لا يفارق رقبتها، والوشوم على جسمها، واضطرارها لإجراء محاولة إجهاض، وصالون التجميل الذي ترتاده، ودراستها في ثانوية لطفي؛ المدرسة الثانوية العُليا في وهران، وطبيعة علاقتها بأمها، والعملية الجراحية التي كانت ستجريها في فرنسا والمعاش الذي تتقاضاه، كل هذه التفاصيل التي تخص سعادة وظّفها داود في قصة الفتاة فجر.
أعترف أنني وقفتُ حائرًا أمام تصرف الروائي وأنا أقول لنفسي: أليست الرواية في بعض تجلياتها توظيفًا لحكايات من الواقع؟ قررتُ أن أستعين بالذكاء الاصطناعي فطلبتُ منه أن يبحث في مصادر باللغة الإنجليزية عن مسألة توظيف الروائي لأحداث حقيقية وقعت لأشخاص واقعيين دون استئذانهم، مع تغيير أسمائهم وبعض الأماكن أو الإشارات التي تدل عليهم، هل يعتبر هذا تعديًا على الملكية الفكرية؟ أجابني على الفور: "بشكل عام، لا تُعتبر الأحداث الواقعية أو الحقائق التاريخية محمية بقوانين الملكية الفكرية، لأنها تُعد معلومات عامة. لذلك، استخدام هذه الأحداث في عمل روائي لا يُعد انتهاكًا لحقوق الملكية الفكرية". لكنه ما لبِث أن استدرك: "تغيير الأسماء وبعض التفاصيل قد يقلل من احتمالية التعرّف على الأشخاص الحقيقيين، مما يقلل من مخاطر الدعاوى القانونية. ومع ذلك، إذا كان من الممكن التعرّف على الأشخاص المعنيين من خلال السياق أو التفاصيل المتبقية، فقد يظل هناك خطر قانوني".
تذكرتُ أن كمال داود ما كان ليجد هذا الكنز الحكائي لولا زوجته الطبيبة، ورغم أني في قرارة نفسي مؤمن أن ما فعلتْه خاطئ إلا أنني قررتُ أن أستأنس برأي الذكاء الاصطناعي: "ابحث لي أيضا في مراجع باللغة الإنجليزية عن إفشاء الطبيب النفسي لأسرار أحد مرضاه إلى روائي من أقاربه دون إذن من المريض"، أجابني: "يلتزم الأطباء بقسم أبقراط، الذي يؤكد على الحفاظ على سرية معلومات المرضى. إفشاء أسرار المريض دون إذنه يُعد خرقًا لهذا القسم".
تروي سعادة عربان أنها عندما أخبرتها صديقة لها مقيمة في فرنسا بأن "أصدقاء يتحدثون عن كتاب يروي قصتك تماما" حاولت التأكد من الطبيبة التي نفت أن تكون رواية زوجها تتحدث عن سعادة، بل وأحضرتْ لها نسخة من الرواية تحمل توقيع كمال داود الذي كتب فيه: "بلدنا غالبًا ما أنقذته نساء شجاعات، وأنتِ واحدة منهن. مع إعجابي". المؤكد إذن أن عائشة دحدوح أفشت قصة مريضتها لكمال داود دون أن تستأذنها، ولكن ماذا لو أنها استأذنتْ وأذِنتْ لها سعادة؟ هل مجرد الاستئذان يُبيح للطبيب إفشاء سرّ مريضه؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بُدّ من التطرق إلى كتابٍ يروي سيرة شاعرة أمريكية منتحِرة، نُشِرَ بعد موتها.
في عام 1991، نَشَرتْ الكاتبة ديان ميدلبروك السيرة الذاتية للشاعرة آن سيكستون بعنوان "Anne Sexton: A Biography". أثار هذا الكتاب جدلًا واسعًا، بسبب اعتماد ميدلبروك على تسجيلات جلسات العلاج النفسي التي أجرتها سيكستون مع طبيبها النفسي، الدكتور مارتن أورن؛ أستاذ الطب النفسي في جامعة بنسلفانيا. كان أورن الذي عالج سيكستون سنوات طويلة قد احتفظ بهذه التسجيلات بعد وفاتها عام 1974، وسلّمها لميدلبروك حين طلبتها أثناء إعدادها للكتاب، بحجة أن الشاعرة كانت قد أعربت له عن رغبتها في أن تُستخدَم هذه المواد بعد وفاتها. مربط الفرس هنا أن ميدلبروك حصلت على موافقة ليندا غراي سيكستون؛ ابنة الشاعرة الراحلة، التي كانت المنفذة الأدبية لوالدتها. الجدل الذي ثار بعد نشر الكتاب هو أن كثيرين رأوا أن إفشاء محتوى جلسات العلاج النفسي يُعَدُّ انتهاكًا لمبدأ السرية بين الطبيب والمريض، حتى وإن كانت المريضة قد توفيت، خاصة أن هذه التسجيلات كانت تتضمن تفاصيل حساسة عن حياة سيكستون، بما في ذلك مسائل تتعلق بصحتها العقلية وعلاقاتها الشخصية. في دفاعه عن نفسه كتب الطبيب أورن مقالًا قال فيه إنه جرى تسجيل تلك الأشرطة خلال أربع سنوات من الجلسات العلاجية، وأنه عرض في عام 1964 إعادة جميع تسجيلات العلاج إلى آن، لكنها طلبت منه الاحتفاظ بها واستخدامها بالطريقة التي يراها مناسبة لمساعدة الآخرين. يضيف الطبيب أن سيكستون "كانت تعرف تمامًا ما كانت توافق على الكشف عنه لأنها درست الأشرطة ودوّنت ملاحظات مكثفة عنها خارج الجلسات العلاجية"، وأن هذه التسجيلات سمحت لميدلبروك "بأن تعيش اللحظات التي كانت فيها آن، كأم شابة في أوائل الستينيات، تكافح لتحقيق دورها كشاعرة".
نحن إذن إزاء سِرٍّ مَرَضي استُخدِم في تأليف كتاب بموافقة المريضة في حياتها، وابنتِها بعد موتها. لكن ماذا لو كانت المريضة لم تأذن للطبيب ولم تَدْرِ بإفشائه سرها إلا بعد سنين! إننا نتحدث هنا عن كتاب "التحليل النفسي للهستيريا: حالة دورا" لعالم النفس الشهير سيجموند فرويد الذي صدر عام 1905، وصدرتْ طبعتُه إلى العربية عن دار الطليعة في بيروت عام 1981، بترجمة المفكر جورج طرابيشي. تناول فرويد في هذا الكتاب حالة مريضته إيدا باور، التي أطلق عليها الاسم المستعار "دورا". ولستُ بحاجة إلى التذكير هنا أن هذه الدراسة تُعَدُّ من أبرز أعمال فرويد، إذ وضح من خلالها نظرياته حول الهستيريا، والأحلام، واللاوعي. ومع ذلك، أثارت انتقادات واسعة تتعلق بأخلاقيات الممارسة في التحليل النفسي، فهي تمثل انتهاكًا لخصوصية مريضة لم يجر استئذانُها من طبيبها، وعلى الرغم من عدم ذكر اسمها الحقيقي، إلا أن تفاصيل حياتها الشخصية والعائلية كانت واضحة بما يكفي للتعرّف عليها من قبل محيطها الاجتماعي.
في مقدمة دراسته، يعترف فرويد أن المرضى "ما كانوا ليتكلموا قط لو خطر لهم ببال أن من المحتمل أن تستغل يومًا اعترافاتهم استغلالًا علميًّا"، ويقول إن طلب إذنهم بنشرها سيكون ضربًا من العبث، وأنه يرى "أن على الطبيب واجبات، لا تجاه المريض فحسب، بل تجاه العلم أيضًا. وإذ أقول تجاه العلم فهذا يعني، في واقع الأمر، تجاه مرضى آخرین كثيرين يعانون أو سوف يعانون من الداء نفسه. وعلى هذا فإن نشر الطبيب ما يعتقد أنه يعرفه عن علة الهستيريا وبنيتها يغدو واجبًا، وامتناعه عن ذلك [يصير] جبنًا مخزيًا".
هكذا إذن لم يكتفِ فرويد بتبرير إفشائه سر مريضته، بل جعل عدم الإفشاء "جبنًا مخزيًا"! ورغم أن الطبيب النمساوي قدم للطب النفسي بالفعل خدمة جليلة بهذا الإفشاء، إلا أن ذلك لا يعني براءته من انتهاك القسم الطبي، هذا القسم الذي يلتزم به الأطباء في العادة، ويقدمونه على كل ما سواه، حتى وإن كانوا أدباء وتمثّل لهم قصص المرضى مَعينًا لكتاباتهم. وأتذكّر في هذا السياق ما قاله لي صديقي الطبيب والروائي الراحل عبدالعزيز الفارسي حين سألتُه: "مهنتك كطبيب هل لها تأثير من أي نوع على كتابتك القصصية والروائية؟" فكان جوابه: "لا أستطيع إنكار ذلك التأثير. لكن هذا التأثير غير مباشر ويكون دائمًا على شكل التراكمات الإنسانية المكتسبة من تعدد الأشخاص الذين ألتقي بهم وأتعرف إليهم، ومن الاحتكاك المباشر بالألم، والخوف، والحزن، والفرح، والنجاح، والفشل، والموت. كل هذه التجارب تضيف إلى وجودي كإنسان وتضيف إلى معرفتي بالحياة. وهذا يضيف إلى مخزوني ككاتب يسعى لتوثيق الحياة بأنامله، وبالتالي فإني أخرج من ذاكرتي بأبطال جدد غير الذين قابلتهم، وأوازن في ذلك بين حب الكتابة والحفاظ على خصوصية من أعرف. لكني أحيانًا لا أستطيع التعامل مع بعض التجارب التي أعيشها بهذه الطريقة، وأجدني عاجزًا تمامًا عن سرد أمثال تلك التجارب أو تحويرها دون المساس بخصوصيات الأبطال الحقيقيين، وفي هذه الحالة فإني أقدّم قسم أبقراط، وأفضّل ألا أكتب أي شيء".
وإذن فإن الفارسي الأديب حين كان يعجز عن تحوير قصص مرضى الفارسي الطبيب دون المساس بخصوصياتهم فإنه يتركها ولا يكتبها، على عكس ما فعله كمال داوُد الذي حاول بالفعل تحوير حكاية المريضة الجزائرية لكنه فشِل على ما يبدو أمام إغراء التفاصيل الصغيرة التي تشكِّل العمود الفقري لأي رواية. ومن هنا اتهمته سعادة في القضية التي رفعتْها ضده وزوجته بـ"سرقة حياتها الشخصية". السؤال الذي يبرز الآن بقوة: هل ما كتبه كمال داود في روايته اعتمادًا على ملفات زوجته الطبيبة يُعَدُّ انتهاكًا للخصوصية وللملكية الفكرية؟ في رأيي هذه قضية معقدة ولها أكثر من وجه. فمن ناحية أن الطبيبة انتهكت القسم الطبي واستحقت العقاب على ذلك فهذا لا جدال فيه، وأتمنى أن يُحكَم عليها بأشدّ عقوبة. أما كمال داوُد فقد انتهك خصوصية المريضة بالفعل، واستحق عقابًا على هذا الانتهاك. أما الملكية الفكرية فمن الصعب اتهامه بانتهاكها؛ ذلك أن الرواية ليست الحكاية فقط، وإنما كيف سُرِدتْ هذه الحكاية. كل الروائيين يستمدون حكاياتهم من الواقع بعد أن يعرّضوه لمصهر الكتابة ليخرج شيئًا آخر مختلفا. الواقع غريب الأطوار كما تخبرنا فرجينيا وولف، "شيء لا يمكن الاعتماد عليه مطلقًا، فهو يُوجَد أحيانًا في دربٍ مُتْرَب، وأحيانًا في قصاصة جريدة متروكة في الشارع، وأحيانًا في نرجسة برية في ضوء الشمس، والروائي الذي يفوق غيره من الناس في اقتناص فرصة العيش بين هذا الواقع المتنوع عليه أن يجمعه ويُوصِله للآخرين". وهذا بالضبط ما فعله كمال داوُد.