ضمن مجريات الحرب النفسية، يتحدث أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن "اصطياد البط"، في إشارة إلى سقوط عدد كبير من قتلى جنود الاحتلال، لكن المصطلح يبدو شديد الدلالة على الاستنزاف الكبير لإسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا. إذ لم تستطع تحقيق أهداف على الأرض للرد على الهزيمة الإستراتيجية التي منيت بها منذ يوم "طوفان الأقصى".

فبعد نحو شهرين ونصف الشهر، لا تزال إسرائيل تتخبط سياسيا وميدانيا في قطاع غزة بين جنوبه وشماله، وتتلقى خسائر فادحة، وفي المقابل تصب توابع "هزيمتها الإستراتيجية" على مدينة غزة وسكانها، حيث استشهد أكثر من 19 ألف مدني جراء وحشية غير مسبوقة، لكن الحروب وفق المفاهيم العسكرية لا تحسم فقط بالقتل والتدمير.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4رقم هاتف السنوار وحرب الصورة والدعاية الإسرائيلية الفاشلة.. الملثم يكسب المعركةlist 2 of 4هل تستطيع أميركا وإسرائيل استبدال حكم حماس في غزة؟list 3 of 4لوتان: مقتل المحتجزين الثلاثة يلقي ظلالا من الشك على العملية البرية بغزةlist 4 of 4200 شهيد على الأقل بغزة ومجزرة جديدة في الشفاءend of list

وتشير صحيفة "وول ستريت جورنال" في تقرير لها إلى أن "الخسائر الإسرائيلية الأخيرة في ساحة المعركة في غزة تظهر أن الهدف الشامل للجيش الإسرائيلي لا يزال بعيد المنال".

ورأت الصحيفة أن ارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين في النطاق الحضري والبري في قطاع غزة حتى في شمال القطاع "يشير إلى تحول في تكتيكات الحرب العسكرية"، ونقلت عن المسؤول السابق في الموساد شالوم بن حنان قوله "في الأوساط العسكرية والأمنية بدأ البعض يشكك في الإستراتيجية".

من جهتها، تشير صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية في تقرير لها إلى أن المعارك لا تنتهي في شمال غزة، كما أن مدينة رفح ودير البلح والتفاح والنصيرات والبريج لم يصلها الجيش الإسرائيلي بعد، "وكل ذلك يدفع الجيش للاستنتاج بأن نهاية الحرب بعيدة شهورا كثيرة، وأن كل إعلان عن قرب الحسم ضد حماس، وبالتأكيد تدميرها، هو إعلان منفصل عن الواقع ووهم".

مئات الجنود الإسرائيليين سقطوا قتلى في المعارك بقطاع غزة (الجزيرة) سقوف عالية وأهداف إستراتيجية خائبة

كان "الرد الإستراتيجي" لإسرائيل على مجريات يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مدفوعا بإعادة الاعتبار للكثير من الأساطير التي هدمت والتي بنت عليها تفوقها على مستوى قوة الجيش والسلاح والتطور العلمي والتكنولوجي، وبناء على ذلك تمثلت الأهداف السياسية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة في ما يلي:

تدمير المقاومة وسحق حركة حماس وقتل قادتها أو القبض عليهم. تحرير الأسرى بالقوة العسكرية أو بالشروط الإسرائيلية. وقف استهداف غلاف غزة والمدن الإسرائيلية بالصواريخ والمسيرات. تدمير الأنفاق وسلاح المقاومة وجعل غزة خالية من السلاح. إعادة احتلال غزة كليا أو جزئيا. تقرير مستقبل غزة بما يتناسب مع أمن إسرائيل. إنهاء فكرة المقاومة في غزة وتفكيك بنيتها. تهجير الغزيين.

وفي المقابل، كانت المقاومة وحركة حماس في غزة تدرك، بفعل إنجاز يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي الباهر وأسر 240 من الجنود والضباط والمستوطنين، حجم الورقة التي بين يديها وتضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار، وفك الحصار، وتحرير جميع المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال. كانت تدرك أيضا أن دخول إسرائيل إلى القطاع سيكون ورطة كبيرة للجيش الإسرائيلي ستعزز الهزيمة الإستراتيجية التي منيت بها.

وبذلك تعد مقولة "اصطياد البط"، التي تحدث عنها أبو عبيدة، تلخيصا للإستراتيجية العامة للمقاومة التي ترتكز على الصمود في الميدان، واستنزاف الجيش الإسرائيلي، وتكبيده خسائر فادحة في المعدات والأفراد، وفضح ممارساته الوحشية، والضغط على المجتمع الإسرائيلي نفسيا وسياسيا بورقة الأسرى والقتلى، والانفتاح بالمقابل على أي هدنة أو وقف لإطلاق النار وإطلاق الأسرى والمحتجزين بالشروط المناسبة.

تدرك المقاومة أيضا أن إسرائيل ليست مستعدة للحروب الطويلة والخسائر الكبيرة والتعبئة العامة المستمرة، وليست مستعدة أيضا لحروب الشوارع والمواجهات المباشرة، إذ تقوم نظريتها الأمنية بالأساس على الحروب الخاطفة والاستباقية، كما أن أساليبها الوحشية أصبحت أكثر رفضا وإدانة من المجتمع الدولي.

ويقول جون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز السياسات الدولية والإستراتيجية في واشنطن في مقال بمجلة "ذا نيشن":

"إن حماس تسعى إلى استخدام قوة إسرائيل الكبرى بكثير لهزيمة إسرائيل نفسها، إن قوة إسرائيل تسمح لها بقتل المدنيين الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية الفلسطينية وتحدي الدعوات العالمية لضبط النفس، وكل هذه الأمور تعزز أهداف حماس على المدى الطويل"

بواسطة جون ألترمان

إسرائيل خسرت مئات الآليات خلال توغلها في غزة (مواقع التواصل) الواقع الميداني استنزاف بلا نتائج

وفقا للمعطيات التي نشرها الجيش الإسرائيلي على موقعه حتى يوم الخميس 15 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بلغ عدد القتلى 445 عسكريا، بينهم 119 ضابطا من مختلف الرتب (5 برتبة عقيد و8 برتبة مقدم و43 برتبة رائد) وينتمي 60 من القتلى إلى فرق النخبة.

وتؤكد المقاومة على لسان المتحدث الرسمي لكتائب القسام أن عدد القتلى أكبر بكثير مما يعلنه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وترجح المقاطع المنشورة عن الحرب وما ينشره الإعلام الإسرائيلي ذلك، وكذلك ما يرصد من قتلى وجرحى في المستشفيات، حيث أفادت صحيفة "هآرتس" بأن عدد الجرحى في المستشفيات الإسرائيلية بلغ حتى 12 ديسمبر/كانون الأول الحالي 4591 جريحا.

ويرى خبراء عسكريون أن الخسائر الحقيقية للجيش الإسرائيلي قد تصل إلى عشرة أضعاف الأعداد المصرح بها رسميا بناء على متابعات ميدانية لأطوار الحرب ووقائعها اليومية.

كما تشير التقديرات إلى أن الجيش الإسرائيلي فقد مئات الآليات من مختلف الأنواع، من بينها أكثر 90 دبابة ميركافا التي تعد فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية، مما يمثل نحو 20% من ترسانة إسرائيل من هذه الدبابات. وقد أوقفت تل أبيب فعليا بيعها لبعض الدول، بينها قبرص، وفق موقع "آفيا برو".

وتظهر العمليات الميدانية أن شوارع غزة وبناياتها وركامها تحولت إلى متاهة معقدة وأفخاخ مميتة للجيش الإسرائيلي، في حين تطبق المقاومة تكتيكاتها القتالية التي توعدت بها جيش الاحتلال، وتستخدم مخزونها من الأسلحة ومعرفتها بالميدان وشبكة الأنفاق المعقدة لاستنزاف إسرائيل بشكل يومي، في وقت يزداد فيه التوتر والتخبط الإسرائيلي، ويرتفع معه عدد القتلى بالنيران الصديقة بمن فيهم الأسرى.

وفي  المقابل ما زالت المقاومة وحركة حماس محافظة على بنيتها العسكرية والتنظيمية كاملة، وقدرتها على الضبط والربط والسيطرة، والمباغتة والآداء القتالي بالوتيرة والتنويع نفسيهما في العمليات القتالية، وبقيت محتفظة بقوتها الصاروخية، وتواصل قصف العمق الإسرائيلي حتى من داخل المناطق التي أعلنت إسرائيل السيطرة عليها.

كما أن المقاومة ما زالت تحتفظ بالأسرى والمحتجزين، وخصوصا العسكريين والضباط منهم، كورقة أساسية للضغط العسكري والسياسي والنفسي على الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي. وتعززت أيضا بيئتها الحاضنة والمؤيدة في قطاع غزة والضفة الغربية على عكس ما كانت تخطط له إسرائيل، وفق آخر استطلاعات الرأي.

وفي المحصلة، تظهر خيبة "الرد الإستراتيجي" الإسرائيلي، إذ لم ينجز جيشها أي أهداف عسكرية أو سياسية حاسمة، فتوغل قوات الاحتلال في غزة كان منتظرا بحكم عدم توازن القوى، وقصفها الوحشي للمرافق كان منتظرا بحكم انفلاتها من كل قانون دولي إنساني، ولم تحقق إلا التدمير الوحشي وارتكاب الجرائم وقتل آلاف المدنيين، غالبيتهم أطفال ونساء، وبات البحث عن حل لإيقاف النزيف أقرب لاعتبارات عديدة من بينها:

الخسائر العسكرية الهائة غير المحسوبة، وسقوط نظرية الحسم الميداني. فقدان الهيبة العسكرية والآداء القتالي المتواضع على الأرض. تراكم الخسائر الاقتصادية التي بلغت أكثر من 51 مليار دولار. الشرخ العميق في المجتمع الإسرائيلي، وتزايد حركة النزوح والهجرة والفرار. تعمق الأزمة السياسية الداخلية بما ينذر بتوتر داخلي شديد. استمرار تآكل ثقة الإسرائيليين في الجيش والأجهزة الأمنية. انقلاب الرأي العام العالمي على السرديات الإسرائيلية. تغير المواقف الدولية من الحرب على قطاع غزة، والمطالبة بوقفها. فشل مخططات التهجير، ورفض المجتمع الدولي مختلف السيناريوهات الإسرائيلية المماثلة. التخوف من حرب متعددة الجبهات وفي ساحات مختلفة. الفشل في كسر إرادة المقاومة، والتأكد من قدرتها على الصمود واستعدادها للقتال لمدة طويلة بأسلوب الهجمات والغارات المفاجئة والفخاخ والتفجير والقنص.

وتشبه مجلة "ذا نيشن" في تقرير لها عن الحرب في قطاع غزة ونتائجها الراهنة بما حصل مع الولايات المتحدة في حرب فيتنام، مستحضرة مقولة وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر عام 1969 "لقد خضنا حربا عسكرية وخاض خصومنا معركة سياسية، سعينا للاستنزاف الجسدي، وسعوا إلى إنهاكنا النفسي، وتبعا لذلك فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر".

بنيامين نتنياهو  يواجه معارضة وانتقادات شديدة في إدارة ملف الحرب والأسرى (رويترز) مأزق الخروج وحل الهدنة

تجد إسرائيل نفسها في مأزق عسكري وسياسي واقتصادي وأخلاقي، مع صورة تزداد تشوها لدى المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، وضغوط دولية تشتد لوقف الحرب، وجبهات أخرى تتحفز، وقد ازدادت الورطة بعد رفض تمديد الهدنة الإنسانية والإصرار على توسيع المعركة البرية نحو وسط وجنوب قطاع غزة.

ويرى محللون أن مضي جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب بوتيرة الخسائر الحالية، واستعداد المقاومة للقتال لأشهر، لن يمكنا إسرائيل من تحقيق الأهداف الإستراتيجية، كما أن القبول بوقفها سيتسبب في آثار كارثية عليها، سياسيا وعسكريا وأمنيا.

ويشير الكاتب يوسي ميلمان، في مقال بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، إلى أن الحرب في قطاع غزة تتحول إلى حرب استنزاف طويلة قائلا:

"إنّ خطر الغرق في وحل شتاء غزّة، بالمعنى الحرفي والمجازي، يصبح أكثر بروزا عندما لا يكون من الواضح على الإطلاق ما هي الأهداف الحقيقية والواقعية للحرب، وما إذا كان من الممكن تحقيقها بالفعل"

بواسطة الكاتب يوسي ميلمان

في حروبها السابقة، وضعت إسرائيل سقوفا عالية لحملتها العسكرية، لكنها تراجعت عنها تحت وطأة الخسائر العسكرية واستحالة تحقيقها. ففي حرب يوليو/تموز 2006 مع حزب الله، وضعت أهدافا تتمثل في تدمير التنظيم ونزع سلاحه، وتحرير جنديين أسيرين، وبناء منظومة أمنية جديدة في المنطقة، وشنت حملة تدمير واسعة على جنوب لبنان، في حين كانت مطالب حزب الله تتمثل في وقف إطلاق النار وإطلاق سراح جميع الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية.

واضطرت إسرائيل بعد 34 يوما تكبدت فيها خسائر كبيرة إلى وقف القتال، وشرعت في مفاوضات غير مباشرة أدت إلى إطلاق سراح كل الأسرى اللبنانيين في سجونها، ولم تحقق أيا من الأهداف الأخرى. وفي حروبها التالية على غزة (2008 و2014) فشلت أيضا في تحقيق أهدافها، واضطرت إلى وقف حملاتها أو الانسحاب بلا نتائج تذكر.

قضية الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة تشكل ضغطا كبيرا على نتنياهو وحكومته (غيتي)

تشير التقديرات والوقائع الميدانية إلى أنه بات من الواضح لبنيامين نتنياهو وحكومته أن المضي في الحرب لمدة أطول لن يتيح ظروفا عسكرية وسياسية أفضل لتحقيق أي أهداف، بل سيفاقم المأزق الإستراتيجي، وبالتالي فإن إطلاق ما بقي من الأسرى لدى حماس والمقاومة في غزة -وهم يمثلون الكتلة الأهم- لن يتم إلا عبر مفاوضات، تستوجب تقديم تنازلات "مؤلمة"، والقبول بشروط المقاومة للتبادل، وسيكون الهدف تحسين هذه الشروط بما يخفف من وقع الهزيمة الإستراتيجية.

وفي هذا السياق، يرى المحلل الخاص بالشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" عاموس هارئيل (يوم 14 ديسمبر/كانون الأول الحالي) أن الأهداف الإسرائيلية في حربها على قطاع غزة مرتبكة، قائلا إن "رغبة الجيش الإسرائيلي في إلحاق مزيد من الضرر بحركة حماس تتناقض مع جهود تأمين صفقة لإطلاق سراح الأسرى".

وتترافق الخسائر الكبيرة في الميدان مع ارتباك في الأهداف، وحيرة في سبل الخروج من المأزق، وضغوط داخلية وخارجية لوقف الحرب، وصورة تتلطخ بالمجازر يوميا، وإصرار من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على تحقيق حد أدنى من الإنجاز خوفا من مصير سلفه إيهود أولمرت بعد حرب 2006.

يدرك نتنياهو أن وقف الحرب أيضا ستكون له أيضا تداعيات كارثية على مستقبله السياسي، وقد تقوده إلى المحاكمة والسجن كما يطالب معارضوه، كما ستكون له آثار خطيرة على بنية المجتمع الإسرائيلي عسكريا وسياسيا وأمنيا، لكن التقاط فرصة للخروج من الورطة والقبول بمبادرة هدنة طويلة أو دائمة وإطلاق الأسرى في ظل التحركات الدولية الجارية سيمثل المسار الأقل تكلفة للنزول من أعلى الشجرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المجتمع الإسرائیلی للجیش الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی فی قطاع غزة عدد القتلى کما أن إلى أن فی غزة

إقرأ أيضاً:

مدير مجمع الشفاء: الاحتلال عاملني كقائد عسكري وليس كطبيب

غزة- قال مدير مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة الدكتور محمد أبو سلمية إنه بكى كما لم يبك عند وفاة والديه، عندما عاد إلى المجمع بعد شهور طويلة من الاعتقال في سجون الاحتلال وتحرره في منطقة جنوب قطاع غزة، ووجده خرابا وقد تعمد الاحتلال تدميره بشكل يعقّد عودته للحياة مجددا.

أبو سلمية الذي قضى 7 أشهر في سجون الاحتلال، أضاف -في حوار مع الجزيرة نت- أنه تعرض للكثير من الإهانات القاسية والتعذيب الشديد، وتعامل معه جيش الاحتلال كقائد عسكري وليس كطبيب ومدير مجمع طبي يقدم خدمة إنسانية، غير أن تحرره من السجن بدون لائحة اتهامات نسف الرواية الزائفة عن المجمع الذي كان يصوره الاحتلال كقاعدة عسكرية.

وفيما يلي نص الحوار:

أبو سلمية: تدمير المنظومة الصحية كان عنوان حرب إسرائيل على غزة (الجزيرة) كيف وجدت مجمع الشفاء الطبي وأنت العائد إليه بعد تجربة الاعتقال؟

لا يخفى على أحد أن جيش الاحتلال في حربه المجنونة على قطاع غزة، كان أحد عناوينها استهداف المنظومة الصحية، وبالفعل دمر جميع مستشفيات مدينة غزة وشمال القطاع، وقتل الأطباء والاستشاريين واعتقل الكثيرين منهم، وإثر عودتنا للمجمع بعد انقطاع أكثر من عام وشهرين تقريبا، عندما اعتقلنا الاحتلال ونحن نغادره مكرهين، كان المشهد لا يوصف.

أنا لا أبكي كثيرا وعندي من الصبر والجلد الكثير، ولكن عندما رأيت المجمع بهذا الدمار النابع من حقد كبير، بكيت بكاء شديدا لم أبكه عندما توفي أبي وأمي، وهما الأغلى على قلبي. ولكن مجمع الشفاء هو البيت الكبير، وهو المستشفى الأكبر الذي يضم بين جنباته كل التخصصات، ويخدم القطاع كله، وهو الكبير باسمه وأطبائه وتخصصاته.

إعلان

وكنا نجري فيه عمليات كبرى لا تُجرى في دول مجاورة، ومنها جراحة الكلى، والقلب المفتوح والقسطرة القلبية. وعندما دمر جيش الاحتلال كل ذلك ورأيته للمرة الأولى كانت لحظة مأساوية، ولم أتصور حجم هذا الحقد، وحتى الصور التي كانت تردني لم تعكس بدقة حجم الدمار الذي شاهدته في المجمع.

لقد كان حجم الدمار هائلا ومن أجل التخريب، وقد استخدم الجيش الإسرائيلي المتفجرات لنسف مبان مهمة داخل المجمع، وهذا يشي بأنه لا يريد له أن ينهض مرة أخرى، وأن يقتل أكبر عدد من الجرحى والمرضى. وبعد مرور أسبوعين من عودتي لعملي في المجمع، ما زلت تحت تأثير الصدمة من هول المشهد.

كنت من أوائل العائدين لمدينة غزة ولعملك. ألم تتردد في اتخاذ القرار بعد تجربة الاعتقال القاسية؟

تحررت من السجن بمزيد من التصميم والإصرار على العودة للمجمع لأنني وجدت حب الناس والتعاطف أكثر مما كنت أتوقعه، ولذلك لم أتردد في العودة وتقديم الخدمة للناس، ورفضت عرضا بمنصب أعلى من إدارتي للمجمع وفضلت العودة إليه لتعزيز صمود الناس.

ونجحنا بتشغيل المجمع حتى اللحظة بطاقة 25%، ولكنها مهمة في ظل حالة الانهيار في مستشفيات الشمال التي تعمل بقدرة تتراوح بين 30 و40%، والعمل جار لترميم مستشفيات حكومية أخرى صغيرة بمدينة غزة وشمال القطاع.

على ماذا ركز محققو الاحتلال في التحقيق معك خلال الاعتقال؟

كان التركيز على عملي في مجمع الشفاء الذي صورته إسرائيل على أنه قاعدة عسكرية، وكان المحقق يصر على هذه الادعاءات. وأنا من جانبي كنت متمسكا بأنه مؤسسة خدمية إنسانية طبية، وأتذكر أنه خلال لحظة اعتقالي كانت هناك فرحة كبيرة لدى جيش الاحتلال في محور نتساريم بذلك، وكأنني قائد عسكري.

وقد تعرضت لإهانات قاسية وتعذيب شديد، وعندما اقتحموا المجمع للمرة الثانية جاءني سجانون في الزنزانة عند منتصف الليل ليقولوا لي "دمرنا لك (مجمع) الشفاء" ولم نكن نعلم ما يدور بالخارج في غزة.

إعلان

ولكن بعد خروجي من السجن بدون أي لائحة اتهام، ورغم أنهم قدموني لـ4 محاكمات، فقد دحض تحرري كل مزاعم الاحتلال بخصوص المجمع، ونسف روايته الزائفة.

ما الخدمات التي فقدها زهاء مليونين و400 ألف فلسطيني بقطاع غزة جراء تدمير مجمع الشفاء؟

هذا المجمع أُنشئ عام 1946، أي أنه أكبر من دولة الاحتلال. وهو رمز عاصر محطات كثيرة مهمة مثل نكبة 1948، والعدوان الثلاثي سنة 1956، ونكسة 1967، وحرب 6 أكتوبر 1973، وكل الحروب والانتفاضتين الأولى والثانية وأحداث كثيرة مهمة، وكان يقدم خدماته المتنوعة.

ويضم التالي:

3 مستشفيات كبيرة: الولادة، الباطنة والجراحة، الجراحة التخصصي. أكبر حضانة في فلسطين بسعة 60 حضانة. أكبر مركز غسل كلى في فلسطين بسعة 60 سريرا، ويعمل به أكثر من 2300 عامل بين طبيب وممرض وفني وإداري. يتردد يوميا على قسم الطوارئ 1000 مراجع قبل اندلاع الحرب، وعلى العيادة الخارجية أكثر من 1500 مريض يوميا. كنا نجري أكثر من 30 ألف عملية جراحية في المجمع، ويصل عدد الولادات فيه إلى حوالي 14 ألف مولود جديد سنويا. كنا على وشك توطين خدمة زراعة الكلى، وزرعنا سنة 2023 نحو 25 عملية زراعة كلى. يضم 35 سرير عناية مركزة كبيرة ولعناية القلب. يضم 3 أجهزة تصوير طبقي، وجهاز رنين مغناطيسي، و10 أجهزة أشعة عادية، و10 أجهزة تصوير تلفزيوني، وجهاز قسطرة قلبية، وجهاز أشعة تداخلية حصلنا عليه قبل الحرب بشهرين بتكلفة مليون ونصف المليون دولار.

وكل هذه الخدمات التي كانت تقدم للناس فقدناها الآن، ونقول بكل مرارة إن هذا الوضع سيترك آثارا كارثية على السكان، لأن المجمع كان الجدار الحامي لأي مشكلة تحدث مع مريض في أي مستشفى بالقطاع، حكومية وخاصة وأهلية.

كما أنه مستشفى تعليمي، ويتم فيه تدريب طلبة كليات الطب، والكوادر الطبية في البورد الفلسطيني، ومنهم من تخرج وحمل شهادة البورد داخل المجمع. وهناك اعتراف من مجلس الطب العربي بمجمع الشفاء كونه مركزا تدريبيا للأطباء بقطاع غزة، وجميع الكوادر الطبية الذين يزورون غزة عندما يرون النهضة الكبيرة بالمجمع كانوا يشيدون به.

إعلان إزاء هذا الواقع المؤلم كيف تصف الخدمة الطبية في غزة وشمال القطاع؟

أصبح الوضع شمال القطاع كارثيا بعد عودة النازحين، لدينا في الشمال حاليا مليون و400 ألف فلسطيني ولا يوجد سوى محطة أكسجين واحدة، في حين كان لدينا في مجمع الشفاء -وحده قبل الحرب- 6 محطات أكسجين وفقدناها.

وفي كل الشمال توجد 3 غرف أسرّة عناية مركزة فقط، وكانت قبل الحرب 35 وبالكاد تلبي الحاجة، وكان لدينا 130 جهاز غسل كلى والآن 25 فقط. وكان لدينا 90 حضانة وتقلصت إلى 10 فقط في كل مستشفيات شمال القطاع، بمعنى أي مولود خديج يولد الآن فرصته بالحياة ضئيلة جدا لعدم توفر الحضانات والأكسجين.

وكان لدينا قسم القسطرة القلبية يعمل على مدار الساعة، ليلا ونهارا، أما الآن فالوفاة حتمية لأي مريض بالجلطة القلبية لعدم توفر أي جهاز قسطرة. وفي كل القطاع لا يوجد جهاز رنين مغناطيسي، فقط جهازا تصوير طبقي: واحد في المستشفى الأوروبي بمدينة خان يونس جنوبي القطاع، والثاني بالمستشفى الأهلي العربي (المعمداني) بمدينة غزة.

وقبل عودتنا إلى شمال القطاع كان عدد المراجعين في مجمع الشفاء 70 حالة يوميا، أما حاليا فقد وصلوا إلى 400 مريض رغم عدم وجود إمكانيات. وما زلنا في بداية طريق ترميم المجمع، فالناس تثق بالأطباء وبالخدمة فيه، وبالتالي متوقع زيادة أعداد المراجعين بشكل كبير، ونحن نسابق الزمن لترميم بعض الأقسام مثل مستشفى الولادة.

لقد حوّل الاحتلال مجمع الشفاء لخرابة فما فرص إعادة الحياة له في ظل القيود الإسرائيلية؟

جيش الاحتلال تعمد تدمير المستشفيات المركزية في المجمع لإيجاد حالة من التيه للناس، لأن لأي إنسان إن لم يجد الخدمة الطبية في منطقة سكنه سيهجر هذا المكان، والاحتلال خطط لذلك بشكل ممنهج، وبالتالي نحن نتحدث عن دمار بالمجمع لا يمكن إصلاحه، وعن إعدام الحياة فيه.

إعلان

ولكن ليس أمامنا من خيارات إلا النهوض من جديد، ونجحنا في افتتاح بعض الأقسام، وهي الطوارئ، وقسم للمبيت بقدرة 40 سريرا. وخلال أسبوعين سيكون لدينا قسم للعناية المركزة بسعة 15 سريرا، وقسم آخر للمبيت بقدرة 60 سريرا، ولكنها تبقى خطوات بسيطة على طريق إعادة الحياة للمجمع الذي يحتاج لنحو نصف مليار دولار من أجل إعادة إعمار المباني والأجهزة والمعدات الطبية بالكامل.

تدير ملف الإخلاء الطبي للجرحى والمرضى بجانب إدارتك للمجمع. فماذا عن الخروق الإسرائيلية بهذا الملف؟

هذا من الملفات الشائكة والمعقدة، ومنذ اندلاع الحرب، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى إغلاق معبر رفح إثر إعادة احتلاله ضمن عملية اجتياح مدينة رفح في مايو/أيار الماضي، سافر للعلاج بالخارج نحو 5 آلاف مريض. ومنذ مايو/أيار الماضي وحتى قبيل الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، سافر 450 مريضا من خلال معبر كرم أبو سالم التجاري.

وبموجب الاتفاق يُسمح بسفر 150 مريضا وجريحا يوميا عبر معبر رفح البري، ولكن جيش الاحتلال لم يلتزم ويطلب يوميا قائمة تضم 50 مريضا فقط، فنرسلها للجانب المصري ومنه للجانب الإسرائيلي الذي يرفض سفر بعض الأسماء، وهذه عملية عقيمة مع وجود حوالي 16 ألف جريح ومريض بحاجة ماسة للسفر بغية العلاج.

وإن استمرت هذه الوتيرة نحتاج سنين من أجل سفرهم. وجراء ذلك نفاجأ يوميا بوفاة من 5 إلى 10 حالات وهي تنتظر على قائمات انتظار السفر، وهذا قتل غير مباشر يرتكبه الاحتلال، ويجب مراجعة هذه الآلية العقيمة من الوسطاء مع الاحتلال.

ما تعليقك على وفاة 40% من مرضى الفشل الكلوي؟

قبل اندلاع الحرب كان في قطاع غزة 1150 مريضا بالفشل الكلوي، وتناقص العدد إلى أقل من 700 جراء وفاة حوالي 40% من إجماليهم بسبب عدم توفر الخدمة الطبية. وهؤلاء كانوا يخضعون قبل الحرب لـ3 جلسات غسل أسبوعيا بمعدل 4 ساعات في الجلسة الواحدة، ليمارسوا حياتهم الطبيعية.

إعلان

وجراء عدم توفر الأجهزة بسبب الحرب والنزوح الكبير، تم تقليصها لجلستين أسبوعيا بمعدل ساعتين بالمرة الواحدة، وهذا غير كافٍ. وعلى سبيل المثال لدينا في مجمع الشفاء 250 مريضا يتلقون الخدمة على 25 سريرا، وهذا ينعكس على المريض بمضاعفات كبيرة، وإذا لم يتم تدارك الأمر بسرعة فسنفقد الكثير منهم.

مقالات مشابهة

  • معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي: حماس أذلت “إسرائيل” عسكريا وأفشلت قطار التطبيع 
  • خبير عسكري: تسليم الأسرى يعكس سيطرة المقاومة على غزة وحرصها على خداع الاحتلال
  • جنين - الجيش الإسرائيلي يواصل عمليته العسكرية
  • معهد إسرائيلي: فشلنا في تحقيق الأهداف بغزة وعلينا التركيز على أمرين
  • الجيش الإسرائيلي: إحدى الجثث التي تسلمتها إسرائيل من حماس ليست للرهينة شيري بيباس
  • هل تخوض مصر حربًا مع إسرائيل في المنظور القريب؟.. خبير عسكري يوضح
  • مدير مجمع الشفاء: الاحتلال عاملني كقائد عسكري وليس كطبيب
  • شاهد| تسليم توابيت جثامين الأسرى الإسرائيليين بمشاركة ممثلي فصائل المقاومة العسكرية
  • إسرائيل تواصل عملياتها العسكرية في مخيمات شمالي الضفة الغربية
  • الهزيمة العسكرية هي التي أدت إلى أن يتواضع آل دقلو للجلوس مع عبد العزيز الحلو