“بنات ألفة”.. عن الازدواجية والجوع العاطفي وفقر الروح
تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT
متابعة بتجـــرد: في لحظة بوح مفعمة بالألم المكتوم وحيرة التعري الداخلي، نشاهد أم البنات “ألفة” وصورتها تنعكس بين مرآة جانبية، تبدو من زاويتين مختلفتين كأنها امرأتان، ثم في المشهد التالي نرى الممثلة هند صبري، وهي تعيد تقديم شخصية “ألفة” في أزمتها مع بناتها وقت تكوينهن الأول، ومراحل نموه النفسي والعقلي، لندرك أن جوهر سردية الفيلم قائم على تفتيت أزمة الازدواجية لدى هذه المرأة، أو طرحها بالصورة التي تجعلها مفتاحاً لقراءة ما حدث.
في ليلة توزيع جوائز الأعمال الفائزة بالدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، الخميس، حصل فيلم “بنات ألفة” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، والمشارك في مسابقة “روائع عربية” على جائزة “قناة الشرق الوثائقية” كأفضل وثائقي عُرض في دورة هذا العام (30 نوفمبر – 9 ديسمبر) بمدينة جدة السعودية.
وكان الفيلم قد حقق مؤخراً جائزة جديدة، حيث فاز كأفضل وثائقي في حفل جوائز جوثام، وهي واحدة من ألمع الجوائز العالمية التي تكرم السينما المستقلة، بالإضافة لكونه ترشيح تونس الرسمي لجوائز الأوسكار، وقد شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان كان السينمائي ضمن المسابقة الرسمية، استقبالاً لافتاً.
الفيلم من إنتاج تونسي فرنسي ألماني سعودي مشترك، ومستوحى من قصة حقيقية لسيدة تونسية اسمها “ألفة”، لديها 4 بنات، عضها الفقر وقت حكم بن علي، وأكلت سباع الزواج الفاشل قلبها، ثم نهشها سوء اختيار بديل للأب المغادر، فتركت بناتها يعانين وطأة وضع أسري شاذ وغير مفهوم، وشُغلت بالعمل من أجل المال في غربة صريحة، مما أدى إلى انزلاق اثنتين من بناتها في وحل التطرف الديني، لينتهي بهما المطاف إلى السجن؛ بسبب هروبهما إلى ليبيا، وانضمامهما إلى تنظيم داعش.
وثائقي بطعم الدراما
يمكن أن نبدأ تفكيك الفيلم، بسؤال عن سبب وجود الممثلة هند صبري في تجربة وثائقية؟، بل وتقوم بدور السيدة التي يتمحور الفيلم حول أزمتها وبناتها، وفي نفس الحيز المكاني والزمني الذي تتواجد فيه “ألفة” نفسها!.
بالطبع لا توجد إجابة صريحة وواضحة، بل إن الإجابة تستدعي العودة إلى تجربة كوثر الأولى “شلاط تونس”، قبل 10 سنوات، والتي قدمت من خلاله هذا اللون الذي يمزج بين التسجيلي الصريح والدرامي المموه، فقد كان الفيلم يرصد ظاهرة التشليط، وهي ضرب الفتيات بآلة حادة من قبل مجهول يدّعي أنه يقيم شرع الله، وهي نفس جدلية فيلم “ألفة” التي يشتبك فيها الاجتماعي بالديني بالسياسي.
إذن فالشكل العابر للأنواع، الذي يحاول أن يصيغ تركيبته من رأسي كائنين مختلفين (وثائقي ودرامي) ليس بجديد على بن هنية، والتي تعتبر واحدة من أغزر المخرجات العربيات إنتاجاً في العقد الأخير، وتنوعاً في شكل التجارب التي تخوضها، بل وتفاوتاً في مستوى التجارب نفسها على كثرتها.
ما فعلته كوثر هنا، هو أنها استدعت هند صبري لتقديم دور ألفة! رغم أن الفيلم ليس درامياً! واستدعت ممثلتين شابتين هما نور فروي وإشراق مطر، في دور ابنتي ألفة الهاربتين إلى (جنة داعش)، وأخيراً استدعاء الممثل التونسي الشاب مجد مستورة، ليقدم كل الأدوار الرجالية التي يأتي ذكرها في حياة الأسرة الفائرة بالهرمونات الأنثوية، أم و4 بنات شابات.
وقد كتبت كوثر سيناريو الفيلم، وتولت عملية المونتاج بنفسها، وبالتالي صار لها ذلك التحكم المطلق على المستويين التقني والفني في سردية العمل بالشكل الذي اختارته!.
طيب كيف يمكن أن نحسم موقفنا من هذا الشكل؟ خاصة أنه غير اعتيادي بالصورة التقليدية لنوعية الوثائقي التي تعتمد على إعادة بناء المشاهد والتفاصيل والأحداث التي لا يتوافر لها أرشيف مصور أو وثائق دقيقة، وتعتمد في كثير من الأحيان على المروي والمعاد تذكره وحتى المشكوك في حدوثه!.
وقد شهدت مسابقة البحر الأحمر هذا العام، وثائقي ينتمي إلى نوعية إعادة البناء، وهو النرويجي العراقي “إخفاء صدام حسين” للمخرج هلكوت مصطفى، ولكن “بنات ألفة” لا يعيد فقط بناء بعض الذكريات أو الأحداث عبر مجموعة ممثلين، ولكنه يستدعي الشخصيات الحقيقية نفسها لتمثل ما سبق لها وعاشته، بل وتتبادل كل من ألفة وهند القيام بدور قناع ألفة في الماضي.
وتقوم كوثر بتصعيد التركيبة إلى شكل أكثر تعقيداً، وهو ظهور كلا المرأتين الأصلية والقناع في المشهد نفسه، ليس فقط ليعيد بناء ما حدث انطلاقاً من رواية ألفة، ولكن لكسر الإيهام أيضاً، أي تصوير كواليس الحوار بين الممثلة والشخصية الأًصلية، لكي نصل إلى مكنونها ونواة أفكارها وأفعالها، ليس فقط من أجل أن تتعرف الممثلة على ملامح الشخصية التي ستؤديها، ولكن في الأساس، وفي مكر -ومهارة نسبية- لتفتيت حواجز شخصية ألفة التي تحيط بها كتل ذكرياتها المخفية ومواجهتها بحقيقة رهيبة، طالما راوغت في المجاهرة بها منذ بداية الفيلم، وربما منذ بداية الأزمة نفسها، وهي مسؤوليتها شبه الكاملة عن مصير الفتيات الأربعة، سواء من فررن إلى داعش، أو من بقين معها في ظل دكتاتوريتها الأمومية العنيفة أو ازدواجيتها المخفية تحت أسمال الجوع العاطفي، أو الجفاف المادي، أو عقد الطفولة والمراهقة والبلوغ الدموية.
هند والقناع
بعد الساعة الأولى من الفيلم، يمكن أن نبدأ في إدراك أن كوثر لم تستحضر هند صبري من أجل أن تجعلها تمثل دور ألفة، وأن ما تصورنا أنه دور هند في الفيلم –قناع شخصية ألفة- ليس تماماً هو مهمته الحقيقية، بل أن وجود هند هو ربما قناع لكوثر نفسها!.
صحيح أنها تقف خلف الكاميرا وأمام ألفة والبنات، وصحيح أنها حاضرة بصوتها ورؤيتها وتفاصيلها الفنية كمخرجة، ولكن على ما يبدو أنها كانت تريد أكثر من ذلك، كانت تريد من يقف مع ألفة داخل الكادر، أو داخل نفسها، لكي تضمن بشكل أو بآخر أن تنفتح مغاليق قلبها، أو يصبح البوح المطلوب أكثر عمقاً وإيلاماً، فكل بوح بلا ألم لا يعول عليه، خصوصاً لو كان هذا البوح مرتبطاً بشتى أنواع الأفعال التي تصل حد التطرف والهيستريا والشذوذ، وهي الأفعال التي أدت في النهاية للقاع الذي وصل إليه حجر هذه الأسرة.
إن ما فعله وجود هند ملتصقة بشخصية ألفة إلى حد التوحد والوجع الكامل ربما كان هو ما تطمح إليه كوثر في تجربتها مع حكاية هذه المرأة وبناتها، بل ومع حكاية البلد بأكملها، والتي لا يمكن فصل تاريخها الاجتماعي والسياسي والنفسي عن تاريخ ألفة والبنات، بل وبقليل من التبسيط، يسهل أن نعتبر أن ألفة هي المجاز الحي عن تونس بين حقبتي بن علي وما بعده، بكل أشكال التخبط والارتباك والعشوائية، وغياب بوصلة (أبوية) واضحة تسعى لجمع الشمل أو تلمس الطريق أو حتى حماية الشعب/ الأسرة من اندلاق الزمن على قارعة الهدر والتشتت.
ربما لم تكن ألفة وبناتها ليتمكن من ممارسة هذا القدر من البوح والمصارحة الحرة لولا وجود هند بينهن في دور ألفة/الأم، أو لولا قيام مجد مستورة بكل الأدوار الرجالية في الفيلم بداية من الزوج/ الأب السكير القاسي رمز عمود الخيمة المكسور من البداية، مروراً بالعشيق أو الحبيب الذي حل على قلب الأم، وجسد البنات، بعد أن اطمأنت له جدران البيت، فلوثها بمسحوق روحه الملعونة، وصار الأمر أقرب لتحقق قصة بيت من لحم –أشهر قصص المصري يوسف إدريس- في أكثر صورها بشاعة ودونية.
ما شهدناه من بوح يصل إلى حد الصراخ، وحتى مع هبوط الإيقاع في النصف الثاني من الفيلم بصورة محبطة نتيجة التكرار وفقدان التماس مع الصورة العامة والخوض في تفاصيل باهتة شهدتها فترة التحول إلى سواد النقاب والقلب، ما شهدناه ربما هو نتاج لتلك المعادلة التي حاولت كوثر أن تحققها، وبالتالي يمكننا تصور الإجابة عن سؤال الشكل –الوثائقي بطعم الدراما- وعلاقته بسردية العمل الأساسية، فالمسألة لم تكن إذن مجرد مغامرة لافتة يراد بها استغلال هذا الخلط المقصود، بل أن وجود هند صنع ما يمكن أن نتصور أنه عامل محفز لكل عناصر الدراما التي توجد في قصة مكتوبة من قبل الحياة نفسها.
إن المصير الذي شهدته “ألفة” وبناتها، وبناءً على ما بحن به جميعهن، وما نجحت كوثر وهند في استخراجه من أبارهن الباطنية، هو محصلة التشوه النفسي والعاطفي والاجتماعي الذي عاشته ألفة نفسها، وهو التشوه الذي كان دافعها متعدد الأوجه لصياغة حياتها وحياة بناتها بهذا الشكل، حيث القسوة الشديدة في التعامل مع كونهن إناث معرضات للشهوة والأخذ بالقوة أو الانحراف وخمود الضمير، ثم الجوع العاطفي بسبب الحرمان من كائن الرجل في مختلف تجلياته كزوج وأب وراعٍ ومسؤول عن المال والأبناء، وما أدى به هذا من تورط في علاقة نجسة تركت آثارها على أجساد البنات، وأرواحهن التي تعرضت للاغتصاب على يد بديل الأب، وهو ما قادهن في النهاية -مع ردة المجتمع إلى كهوف السلفية- إلى أن يجدن في ارتداء أسود النقاب، حكمة تصف كل ما حدث لهن على اعتبار أنه ابتلاء يمهد الطريق للجنة!.
ولما كانت الأم تعمل بعيداً من أجل الحصول على ما يسد رمق البيت، شهدت غرف البنات كل ما لا يحتمل من تحولات عاصفة، لم يكن وعيهن الصغير بقادر على استيعابها ودحض مجازفاتها المميتة، فذهبن جميعاً إلى (طريق الله) رغبة في التوبة من خطايا غير مفهومة، ولم تعد سوى الصغيرتين ناجيتين من الهوة، بينما لم تتمكن أخواتهن الأكبر سناً سوى أن يهربن من جحيم الأم والبلد والبيت إلى رمضاء داعش الحارقة.
ربما لا يمكن اعتبار قصة “ألفة” وبناتها بالجديدة أو الغالية في طزاجتها، لكن ما قدمته بن هنية في محاولاتها إعادة تشكيل السردية، بما يتيح أكبر قدر من محاكمة الأم في مختلف صورها، وتعرية الأسباب التي أفرزت مثل هذا النموذج المعجون بالتشوه، هو أكثر ما يلفت النظر في التجربة، ويحررها من سياق الميلودراما العائلية الموجهة، إلى استكمال ما بدأته المخرجة قبل سنوات بسؤالها المشتبك مع الأرض (ماذا الذي يحدث في بلادنا؟ ولماذا؟!).
المصدر: بتجرد
كلمات دلالية: هند صبری یمکن أن من أجل
إقرأ أيضاً:
غزة… أهناك حياة قبل الموت؟ أنطولوجيا شعرية توثق صمود الروح
مراكش-
ما جدوى إعداد أنطولوجيا شعرية لشعراء غزة، بينما القطاع محاصر، وأهله يُقصَفون صباح مساء؟ ما معنى أن نطلب الشعر في زمن الحرب؟
هي كلمات الشاعر المغربي ياسين عدنان في مقدمة الكتاب الجديد الذي أعده رفقة الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي (غزة، أهناك حياة قبل الموت؟ أنطولوجيا شعرية)، تأتي لتهز شيئا من كيان من يحب الشعر ومن يعشق غزة في الوقت ذاته، أو لنقل من يتعاطف معها ويكره الحرب وهو جالس على أريكة يتابع شريط الأخبار العاجلة.
يقول الأديب والإعلامي ياسين عدنان للجزيرة نت: "تقدم هذه الأنطولوجيا شهادات حية صادقة ممزوجة بالكبرياء، تسجل موقفا من الحرب الهوجاء الغاشمة، من المتخاذلين، ومن العالم الذي كان حرا قبل أن تسلب منه الإرادة ويفقد الإحساس بكرامة الإنسان".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"تاريخ العيون المُطْفأة" لنبيل سليمان.. عميان في جغرافيا الاستبداد يبحثون عن أسرار البصر والبصيرةlist 2 of 2جماليات الوصف.. "حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة"end of listويضيف وهو يتذكر قول الشاعر الغزي ناصر رباح: "نأمل أن تكون مقدمة لزقزقة عامة، وإرهاصات لديوان غزة القادم، ديوان يفضح قبح العالم، ويعيد المجد للإنسان".
يكتب رباح في قصيدة مختارة: "العصافير شاهدت كل شيء: القتل والقصف والخراب. وحين انتهت الحرب، واصلت الزقزقة".
بينما يقول الشاعر عبد اللطيف اللعبي في المقدمة: "ولأني عايشت الشعر الفلسطيني وناصرته وشاطرته لأزيد من نصف قرن، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن هذا الشعر تبنى جيلا إثر جيل، فكرة مفادها أن شعبا لا يمكن أن ينتصر على مضطهده، إلا إذا كان متفوقا عليه أخلاقيا".
إعلانويضيف: "إن الأصوات التي تنبثق من هذا الكتاب ترقى إلى مستوى توقعات هذا النوع من المثل. عسى ألا تغمر إمبراطورية الموت جزيرة الشعر الخارقة".
تضم الأنطولوجيا الصادرة حديثا عن "دار الرافدين" ببيروت اللبنانية مقتطفات من قصائد 26 شاعرا وشاعرة من غزة، منهم المقيمون، ومنهم من يتوزعهم الشتات، يكتبون تاريخا مأساويا تجري أحداثه أمام أعين العالم، ويخطون آخر الدرر مما حفظوه في دواخلهم من هويتهم الإنسانية الراسخة.
نبحث في معاني العدد 26، فنجده رمزا للنعمة والرحمة، وللتوازن والانسجام، ولنقطة الفصل بين الكواكب والأحداث المهمة، كما يدل على الحديد وبأسه، وتفاعل الإبداع مع الرمزية.
نجد أيضا العدد في قصيدة مختارة، لكن يبدو أن ذلك جاء فقط صدفة، يقول مصدر الجزيرة نت، ولكي يبقى على المنوال نفسه العمل الأول المنجز للشاعرين نفسيهما سنة 2022 بعنوان "أن تكون فلسطينيا.. أنطولوجيا الشعر الفلسطيني المعاصر".
يشكل العمل الجديد حلقة ثانية في سلسلة ربما لن تتوقف، تأتي فيه كتابات الشعراء بالحبر والدم تعبيرا عن معاناتهم ومعاناة الأهالي. تأتي دون ترتيب في الحروف والأسماء والسن والجنس، سوى أنها بدأت بقصائد كتبها رفعت العرعير (1979-2003) ونور الدين حجاج (1996-2003)، الشاعران الغزيان الشهيدان في القصف المتواصل على غزة.
يكتب العرعير:
إذا كان لا بد أن أموت
فليأت موتي بالأمل
فليصبح حكاية
ويكتب حجاج:
متعب من الركض في متاهات الحياة
بلا وجهة واحدة آمنة منذ 26 سنة
يتفق عدد من الشعراء الذين تواصلت معهم الجزيرة نت، وسألتهم على أن هذه الأنطولوجيا وسيلة الشعراء لنقل تفاصيل الحرب اليومية والحفاظ على الذاكرة، وللتعبير عن الهوية في محاولات الطمس والمحو، والتواصل مع العالم وإيصال أصوات المكلومين إلى كل مكان.
يقول الشاعر حامد عاشور في جوابه لنا: "هي الرواية الصادقة والحقيقية وسط هذا الكم الهائل من التزييف".
وتقول الشاعرة نعمة حسن: "هي توثيق هوية الحكاية الفلسطينية في غزة بحقيقتها من خلال الشعر، فما بين الموت والحياة هناك مساحة آمنة تتيحها الكتابة ليصل صوتك لمن هم خارج نطاق الحرب".
إعلانمن جهتها، تقول الشاعرة ضحى الكحلوت: "سنظل نبحث عن الحياة، لا لنحياها فقط، بل لنحلم ونحب ونفكر ونكتب حتى في أصعب اللحظات، وستظل الكلمة تعرف مداها للأمل والنور مهما اشتدت ظلمة العيش".
وتقول الشاعرة هند جودة: "لقد منحتنا الأنطولوجيا تأشيرة مرور إلى بلاد أخرى ولغة أخرى، وهذا جعلنا نبتسم تحت أطنان الألم".
حكاية غزةتحضر غزة عند الشعراء الغزيين مثل قصيدة لم تكتمل، عيونهم على الورق، لكن قلوبهم على أكفهم، لا يطيقون انتظار الموت القادم من كل مكان، لا ينتظرون مواساة من العالم، يرسمون السعادة، يخطون الأمل، يخربشون الخذلان، لكنهم لا ينتظرون.
في هذه الأنطولوجيا، يطل علينا بكلمات قاسية حجاج، الذي اغتيل في 3 ديسمبر 2023 في قصف قوات الاحتلال منزله في حي الشجاعية. يكتب:
لا تكترثوا للمشهد الأخير
إن كان حرقا أو غرقا أو قفزا من علو أو طعنا
في غزة نحن نموت عدة مرات قبل هذا.
يكتب ياسين، إنه كان يستعجل شعراء غزة لإرسال مساهماتهم، يصف كيف كانوا يموتون مرارا قبل الموت، كيف يتنقلون مع أهلهم من مكان إلى آخر داخل القطاع المحاصر، الأوامر المتكررة بإخلاء المناطق التي يسكنونها تخرب سكينتهم، والقصف الأعمى يطاردهم. بينما كان يطالبهم بمكان إقامتهم: **هنا والآن**، لأن نبذات تعريف الشعراء، كما ينوي نشرها في الأنطولوجيا، يجب أن تتضمن هذا التفصيل.
يصف الشاعر هشام أبو عساكر حال غزة وهي تقصف بلا هوادة. يقول:
إيييه غزة..
ليتك تأخذين قيلولة طويلة
من أجل ترميم أخير
لهذا الجسد المتهالك
ولتنامي بهدوء
كما الأوراق البيضاء
دون حكاية..
ويكتب الشاعر حامد عاشور: "بالرغم من كل الرعب من حولي، أشعر أن هناك سعادة حزينة، تجعلني مرتبكا، كوني لست زوجا ولا أبا لطفل سأعجز عن حمايته، طفل كان كل ذنبي وذنبه أننا ولدنا في غزة".
ويشرح في جوابه لنا: "هذا الموسم الذي عشناه طوال فترة الإبادة، ونحن نعيش مناسبات سعيدة تحت الصواريخ محاطين بكل آلات القتل، قد يبدو ذلك غريبا لكنه يحدث بدرجة أكبر من المرارة، لقد كان الحزن عظيما ومهولا، وكنا نحاول استخراج السعادة من التفاصيل، مثلما تفعل كل الشعوب المحبة للحياة".
من يلجأ إلى الشعر في زمن الحرب، يدرك تماما أنه يستخدم سلاح الروح ومرآة الواقع، يسجل بالكلمات الألم ويقاوم الظلم، يرفع صوت الإنسانية في وجه الدمار، ويحافظ على الأمل في قلوب اليائسين.
إعلانيكتب ياسين في المقدمة: "تلبستني حالة اكتئاب، لكن الشعر كان البلسم. كانت قصائد الشعراء الحارقة تسري عني وتواسيني، تعيد لي الثقة في الكلمة، في دورها، وفي قدرتها على المقاومة".
يكتب وليد الهليس:
حجر قديم
لم يبق لي غير بيت من الشعر
خبأته للمراثي
ولا عتب يوجعني مثل عتب الحجارة
وتكتب منى المصدر:
متى تكتبين الشعر؟
حينما يكون الحديث ترفا
أسكب روحي شعرا
وأهدهد على قلبي بالغيوم
وتكتب هند جودة في نهاية قصيدة:
يا إلهي، لا أريد أن أكون شاعرة في زمن الحرب!
وتكتب ضحى الكحلوت: "الحرف مقصلة راضية، والذكريات قاض يعرف، في النور، أبصر أمكنة، أخيلة، رجفات، وسكوتا، وفي العتم تسقط الرؤيا".
وتقول ضحى في جوابها للجزيرة نت: "إن الشعر يولد من المشاهد التي يصعب علينا تقبلها ويستحيل إنكارها، فهي ماثلة أمامنا ونعيشها وتضع بصمتها على شعورنا وأقوالنا وأفعالنا. يولد من ضرورة البوح، الذي يعد ترفا وسط معركة الموت، وضرورة أرشفة التاريخ بثباته ورجفاته".
وتكتب نعمة حسن:
شاعر
كل يوم يرسم قمحا على شجرته الميتة..
وتصدقه العصافير
تقول في جوابها للجزيرة نت: "لا شيء يداوي آلام الحرب، نحن نحاول إعادة تدوير الألم بالشعر".
يريد الشاعر من العالم أن يوقف الحرب، أن يستيقظ ضميره، ويسمع صرخة الإنسانية التي تئن تحت وطأة القصف والدمار، وأن يدرك أن الكلمات ليست مجرد حروف، بل هي صدى للروح الممزقة، وأمل يضيء عتمة اليأس.
في أبريل/نيسان المقبل، تصدر النسخة الفرنسية من الأنطولوجيا عن دار "لوبوان" الفرنسية، لتفتح آفاقا جديدة.
يكتب حجاج: "أنا لست رقما، وأرفض أن يكون خبر موتي عابرا، دون أن تقولوا إني أحب الحياة، السعادة، الحرية، ضحكات الأطفال، البحر، القهوة، الكتابة، فيروز، وكل ما هو مبهج.. قبل أن يختفي كل هذا بلحظة واحدة.."
ويضيف: "أحد أحلامي أن تجوب كتاباتي العالم، أن يصير لقلمي أجنحة لا توقفها جوازات سفر غير مختومة، ولا فيز مرفوضة".
وتكتب جودة:
صباح الخير أيها العالم
أنا هناك،
أقصد هنا،
نعم، بالضبط في غزة!
تقول للجزيرة نت: "رأينا أحرارا كانوا ولا يزالون يقفون من أجل غزة حول العالم، وما هذه الأنطولوجيا إلا واحدة منها، فقد ترجمت نصوص شعراء غزة إلى معظم لغات الدنيا شرقا وغربا".
وتضيف: "هكذا كان يصل الشعر مثل الصورة، ليقرأ في منابر ومظاهرات، ويطبع في نشرات ومجلات وكتب، إلى جانب صور الشهداء وعلم فلسطين، والمناداة بوجوب العدالة وحرية الشعب الفلسطيني وبلاده من الاحتلال. ما زال هذا يحدث حتى بعد إعلان الهدنة، وهذا مهم جدا، ويجعلنا نحلم بمستقبل يمنحنا العدالة ولو بعد حين".
إعلانبالرغم من كل الأهوال، يتسرب إلى نفوسنا نحن البعيدين عن مكان الحرب قليل من الأمل، ونحن نستذكر: "كيف تعرضت غزة لإبادة من الغرباء، لكنها سرعان ما نهضت من رمادها مثل طائر الفينيق"، كما يقول ياسين في ختام المقدمة.