سودانايل:
2024-12-24@14:07:23 GMT

الجدب الفكري هو المعضلة الكبرى لشعوب السودان

تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT

sanous@yahoo.com

15 ديسمبر 2023م

كتب العلوم الإنسانية كلها تقول والتجربة البشرية تثبت ان ما من مجموعة بشرية ، سواء ان كانت مقاطعة او دولة او امبراطورية ، تقدمت وصعدت و قويت او حتي حافظت على وجودها ، دون ان يسبق ذلك تقدما و صعودا فكريا شاملا ، يشمل العلوم الإنسانية و التقنية و ما بينهما. الصعود الأول يكون للعلوم الإنسانية و من ثم يلي ذلك العلوم التقنية.

أبحث في كل كتب الناريخ و سوف تجد ان هذه هي الحقيقة. لذلك قد تجد ان هنالك مناطق في العالم صعدت عسكريا او اقتصاديا و لكن لم تعمر كثيرا و تلاشت او تبددت لان انجازها لا يستند على فكر. فالمغول الذين غزو العالم الإسلامي لم يذهبوا بعيدا وانفسهم تحولوا الى الإسلام ، اما المغول الذين غزو الصين ، فذابوا في بحر تلك الامة ونفس الامر حدث للمغول الذين غزو شرق أوروبا . كل ما قام به جنكيز خان وقبلاي خان وهولاكو ، ذهب الى كتب التاريخ ولم تقم لمغوليا قائمة حتى اليوم. فالإمبراطورية التي اقاموها بلا فكر وغزت الدنيا، حقيقة لم تدم حتى قرنا واحدا . اليوم في القارة الافريقية هنالك مناطق طل راسها من تحت الماء وبدأت شعوبها تستبشر خيرا و بانها في الاتجاه الصحيح والمؤدي الى الطريق الذى سوف يخرجهم من حالة التخلف الذى لازم القارة من الفترة التي سبقت تجارة العبيد عبر الأطلسي و الى يومنا هذا. الامر الملاحظ في هذه المناطق يطابق ما نقوله هنا. فالمناطق المعنية هي مناطق غرب القارة مثل كوديفوار وغانا ونيجيريا و الكاميرون وجوارها. وللتأكد من زعمنا ، على القارئ محاولة استحضار قائمة الادباء و الفلاسفة و المفكرين ، بالمقاييس الدولية ، الذين ظهروا في تلك البقعة منذ الستينات والى يومنا هذا. سوف يجد القارئ ان القائمة تطول. كذلك منطقة البحيرات وشرق القارة في دول منذ تنزانيا وكينيا وغيرها. سوف تجد قائمة من المرجعيات الفكرية والسياسية وذات مواصفات عالمية.
كل هذه الدول، التى بغرب القارة و شرقها ، كانت في مرحلة متخلفة كثيرا عن السودان ، يوم استقلاله في اول يناير 1956. ليس ذلك وحسب ، وانما عدد منها لم يكن أصلا مستقلا ومشاكله تفوق مشاكل السودان بأضعاف ولكن مع ذلك كلها حافظت على حدودها القومية ووحدتها وتماسكها وتقدمت على السودان بعدة سنوات. مشكلتنا في السودان هي مشكلة عقل ليس الا. فاذا نظرنا لتاريخنا منذ خروج الاستعمار و الى الان ، وحتى ما قبله ، لن نرى الا مجتمع اجرد ، يلد الملايين و يخرج منهم الوف المجعجعين ويخلوا تماما من المفكرين ، اذا استثنينا عدد قليل لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. فاذا ما استثنيا محمود محمد طه ومنصور خالد وفرانسيس دينج ، فيمكننا ان نقول ان السودان هو صحراء فكرية ، لها شجيرات هنا وهنالك ، لا تعطي ثمرا ولا ظلا . فأمارات الفكر اثنتان. الاولي هي فهم المجتمع وفق ذلك الفكر و من ثم الاجتهاد وتقديم ما يفيد في تقدم ذاك المجتمع ـ وفق ذلك الفكر و الثانية هي ان تفهم المجتمع الإنساني ، بما فيه مجتمع المفكر ، ومن ثم الاجتهاد وتقديم ما يفيد في تقدم الانسان او البشرية جميعا . فمحمود محمد طه درس الدين والتاريخ و الفلسفة وعلم المجتمع والاجتماع والقانون ، ونحوها ، وقدم لنا ما يراه حلولا تفيد في حل مشكلات و تقدم المجتمع السوداني وفق الإسلام ووفق تجارب إنسانية اخرى ، قد نختلف او نتفق معه. كذلك الدكتور منصور خالد. فمنصور خالد لا يمكن ان نلصق عليه لقبا واحدا مشتق من مهنة ما. فلا يمكننا ان نقول انه القانوني الضليع ، او الدبلوماسي او الكاتب او المؤرخ وهكذا. فهو كل هذه المهن مجتمعة. ففكر كنصور خالد الذى قدمه مدونا ، هو عبارة عن تلخيص لمشاكلنا المعاصرة والنصح في كيفية حلها وكذلك ارخ لنا مرحلة مهمة من تاريخ الحركة الوطنية ومرحلة ما بعد الاستقلال و حتى انفصال دولة جنوب السودان. برفسور منصور ، لخص لنا مشكلتنا الكبرى في احد أسماء كتبه وهو ( النخبة السودانية وادمان الفشل). نعم فشلنا هو فشل نخب. رايي الشخصي وكتاب منصور خالد قد يكونا متطابقان. فمنصور خالد يري ان فشل النخبة سببه غياب ( الرؤية) لحل المشاكل ، ولكن البروف لم يذكر لنا السبب الرئيسي وراء غياب الرؤية. فانا رايي ان السبب الرئيسي وراء غياب الرؤية هو ( الجهل). نعم الجهل بكل شيء بخلاف ما هو خارج كتب المقررات التي تمنح الشهادة للحصول على اللقب ومن ثم الوظيفة . قراءة كتب المقررات لوحدها ، لا تخرج انسانا فاشلا وحسب ، وانما تخرج مهنيا فاشلا. فالطبيب عليه الالمام بجغرافيا وطبوغرافيا وجيولوجيا أراض مرضاه معرفة مهنهم وعاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم ومعتقداتهم ليعرف امراضهم ومسبباتها وكذلك أسباب تخفيفها او استفحالها. فالذي درس كل كتب الطب وحفظها ولكن لا يعرف هذه الحقائق عن مرضاه ، بالتأكيد لن يخدم الطب كثيرا. كذلك القاضي والاقتصادي ورجل الدين ..الخ. فألذى درس القانون ، سوف يكون عنصر هدام ان لم يفهم المجتمع الذى يطبق عليه القانون ..وكذلك الذى يدرس اللغة و يدرس الاجتماع ويدرس الاقتصاد ويدرس إدارة الاعمال. فلا يوجد انسان يفهم في الاقتصاد وهو لا يفهم شيء عن الجغرافيا او الاجتماع او التاريخ مثلا ، ولا يمكنه ان يكون رجل دين دون ان يفهم كل العلوم الأخرى ومنها التاريخ والاقتصاد والمجتمع والفلسفة ..الخ. فلا يمكنك ان تكون اقتصادي في السودان ,انت لا تعرف اين القطينة من الجنينة ، او انك لم تدرس ، بتمعن ، جغرافيا الولايات الشرقية وجيلوجتها وشعوبها وتاريخ المنطقة الى ما قبل الميلاد ، كمثال . معرفة ما كتبه ادم اسميث وجون مينارد كينز ، لا تكفي ولا تنفع كثيرا في هذه الحالات. من هنا تبدا مشكلة النخبة السودانية ، انها نخبة قرات ولكن لم تتعلم. لان القراءة او الدراسة ، اختصارا ، هي أداة و توصيف لمنهجية تلقي العلم ولكن ليست مرحلة بلوغ العلم . فبلوغ العلم ينال عن طريق التعليم وليس عن طريق القراءة . والتعليم يحتاج الى الالمام بعدد من العلوم الاخرى وربطها معا لحل مشكلة محددة او عدة مشاكل. هذا ما ينقصنا. طبيب في علوم الحنجرة و البلعوم ، يترك مهنته ويصر على انه سياسي ويوظف كحاكم لأكبر إقليم في السودان. على أي حال ، مع العلم الواسع للدكتور منصور خالد ، الا انا نأخذ عليه ، في حصر ما كتبه لنا في سياسة شلة الخرطوم وتاريخ الصراعات الخرطومية وتاريخ نفس المجموعات وبعض من الاحداث السياسية المتعلقة بالجنوب عندما كان جزء من السودان . اما العلامة فرانسيس دينج ، فيصعب حصر انتاجه الفكري الذى اثري به المنطقة وخاصة ذلك الذى يتعلق بالدينكا وقبائل الجنوب و بالسودان وبالجنوب و القارة الافريقية . ربطه للمشكلة الافريقية ، على مستوى الاثنيات و المشاكل القومية و من ثم استعمال هذه المعرفة لتقديم الحلول لكثير من المشاكل الافريقية ، هي من رفعت الدكتور فرانسيس دينق لمرتبة المتعلم. قرأ و تعلم. الامر الأخير هو ان هذا المجتمع المتصحر فكريا لم يقبل بالثلاثة مفكرين حتى ، وحاربهم حرب ضروس . فالمعلم محمود محمد طه تم قتله ، والبروف منصور خالد عير بما فيه وبما ليس فيه ومن ثم نبذ ، اما فرانسيس دينق فتم فصله ليذهب هو ومن هم على شاكلته في دولة منفصلة بهم لبنى اهل الجدب الفكري دولة فاضلة يحتار في امرها افلاطون . فلا مكان لمفكر وسط صحراء فكرية.

خلاصة القول ان ما تبقى من البلاد ، ولو فتت ، فلن بيكون له مستقبل بدون فكر. الفكر بدايته هي محو الامية و من ثم تعلم القراءة و الكتابة و من ثم الدراسة و من ثم التعليم . هذا التعليم ضروري لخلق رؤية و من ثم تطوير ثوابت و من ثم دعائم واهداف ووسائل لنيل المبتغى وهو خلق مجتمع مستقر و عصري ومواكب و متطور مثل بقية الدول في العالم. خلاف ذلك ، لن يكون هنالك مجتمع يخلق دولة قابلة للحياة و الاستمرار . الأسوأ هو ان يتم تقسيم السودان . فكل ما تم تسويقه خلف الجدران عن مغريات انفصال الجنوب ، ثبت انها أوهام وتخيلات مخبولين لا اكثر. فالاستقرار المتوهم أوصل الدولة ان تقع حرب في عاصمتها.

ازمة الفكر السوداني كنا نراها في الطرقات ونراها في الاعلام ونراها في الملمات ونراها في المنابر السياسية و الاقتصاد وفى الدبلوماسية و العلاقات مع دول الجوار وفى كل شيء. فقبل أسبوع مضى توفى شخص وهو مصنف من الذين كانوا على مقربة من قمة الهرم التعليمي و الديني و الثقافي السوداني. ومع ذلك ترى فيه الصورة الكاملة لازمة الشخص السوداني وجدب فكره. فالمرحوم تخرج في جامعة الخرطوم في او الستينات و انتدب الى بريطانيا للدراسة في جامعة عريقة جدا وقالوا انه حاز على الدكتوراه في الفلسفة ، ولكن حقيقية انه حاز على الدكتوراه في تفسير الطبري. مع ذلك استمعوا لشهادة احد معجبيه وتلاميذه فيه ، وهو يقص للناس شاعرية وتمكن معلمه من اللغة العربية و شعره الفصيح ، الغزير ، المقفى، والموزون على كل بحور الشعر. فالشعر المعني ما هو الا اغتراب شخص عن العالم المعاصر وكذلك عن العالم قبل المعاصر وعاش اعوامه الثلاثة وثمانين ما بين حروب ناقة البسوس و حروب داحس والغبراء. فالدكتور ، العالم الجهبذ ، والمعلم والذى حاز على الدكتوراة من بيرطانيا ، وتحديدا من جامعة ادنبرة ، كتب شعرا وكأنه يعتبر نفسه شاعرا فحلا وانداده هم النابغة الذبياني ومجنون ليلي و اعشي قيس وامرؤ القيس وعنترة بن شداد . فشعر ذاك الرجل حوى عبارات مثل ( سعاد) و ( نجد) وهكذا عبارات تعاكس العصر الذين قضى اعوامه الثلاثة وثمانين حبيسا بداخله . فالأمر لا علاقة له بمعينات البلاغة مثل الاستعارة و الكناية و غيرها ، وانما ، وبكل وضوح ، هو اغتراب وجداني وعقلي و نفسى ومعرفي وثقافي وعصري و مجتمعي . فوق هذه العبارات المضحكة ان ( العالم) المعنى ذم الشخص الذى اتاه بنبأ موت طفلته الرضيعة ووصفه انه ( اسود). فالمرحوم كان جاهليا تام الاوصاف ، بالرغم من انه كان زعيما لحزب ديني . اما السواد الذى وصف به الرسول الذى اتاه بالخبر ، فلن تنجوا من ذلك الوصف في داخل منزل صاحبنا ، القارئ غير المتعلم و المغترب ، الا النار التي يطبخون عليها الطعام . اما الاغرب من كل ذلك ، فالعالم الجهبذ ، اتى يوما كان فيه رئيس لجنة ( التعليم) بالبرلمان السوداني ، ولله في خلقه شئون.

نسال الله ان يفتح لنا و يعلمنا ويعلم ابناءنا وذريتنا جميعا . امين  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان منصور خالد

إقرأ أيضاً:

بشير عبد الفتاح: العالم سيتقبل سوريا «الجديدة» لا «الجهادية»

أكد الدكتور بشير عبدالفتاح، الكاتب والباحث السياسي، أنّ زيارة وزير الخارجية الأردني إلى سوريا، تأتي في سياق مساعي الدول المختلفة سواء كانت في الإقليم أو خارجه؛ بهدف تعظيم مكتسباتها ومصالحها داخل سوريا بعد انتهاء نظام بشار الأسد وفي ظل التطورات الجديدة، فضلاً عن إظهار الدعم والمساندة للسلطة الانتقالية الجديدة.

موعد نهائي كأس مصر لكرة اليد بين الأهلي والزمالكنائب محافظ بني سويف يتابع الموقف التنفيذي لمشروعات "حياة كريمة"

وتابع «الدكتور بشير عبدالفتاح، الكاتب والباحث السياسي»، خلال مداخلة هاتفية عبر قناة «القاهرة الإخبارية»، أنّ السلطة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة أحمد الشرع ما كان لها أن تتجاوز المرحلة الانتقالية الصعبة دون الدعم من قبل المجتمع الدولي ودول الجوار على كافة الأصعدة السياسي والاقتصادي والأمني.

وأوضح أن هناك رسائل مهمة يتم توصيلها للحكومة السورية الجديدة أن المجتمع الدولي متخوف من نوايا هذه الحكومة بسبب خلفياتها الأيدولوجية الإسلامية الجهادية.

وأشار الدكتور بشير عبد الفتاح، الكاتب والباحث السياسي، إلى أنه «فضلاً عن التأكيد على ضرورة أن تكون سوريا لجميع السوريين، وأن يكون هناك نظاما سياسيا تعدديا يتسع ليشمل كل ألوان الطيف السياسي والإثني، وأن المجتمع الدولي لن يقبل باستبدال نظام استبدادي عسكري بآخر ديمقراطي جهادي، ومن ثم، هذه الرسائل تعتبر مهمة؛ لأنها تأتي من أكثر من طرف بأن العالم سيتقبل سوريا الجديدة، لكن لم يتقبل سوريا جهادية أو حكم إسلامي راديكالي».

مقالات مشابهة

  • “نهاية العالم الكبرى”.. تحذير لسكان إسطنبول
  • تحذير “نهاية العالم الكبرى” لإسطنبول!
  • خالد الغندور يُلمح لصفقة جديدة في الأهلي
  • بشير عبد الفتاح: العالم سيتقبل سوريا «الجديدة» لا «الجهادية»
  • السودان واستغلال الفرص
  • الفريق خالد ثالث يطالب المجتمع الدولي بالضغط على الإمارات
  • النساء قادمات
  • أستاذ بجامعة الأزهر: التوافق الفكري بين الزوجين أهم مقومات بناء أسرة مستقرة
  • عماد البشتاوي: على العالم التدخل لإنقاذ غزة من حالة التجويع
  • أستاذ في العلوم السياسية يطالب المجتمع الدولي بالتدخل لإنقاذ غزة