الجدب الفكري هو المعضلة الكبرى لشعوب السودان
تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT
sanous@yahoo.com
15 ديسمبر 2023م
كتب العلوم الإنسانية كلها تقول والتجربة البشرية تثبت ان ما من مجموعة بشرية ، سواء ان كانت مقاطعة او دولة او امبراطورية ، تقدمت وصعدت و قويت او حتي حافظت على وجودها ، دون ان يسبق ذلك تقدما و صعودا فكريا شاملا ، يشمل العلوم الإنسانية و التقنية و ما بينهما. الصعود الأول يكون للعلوم الإنسانية و من ثم يلي ذلك العلوم التقنية.
كل هذه الدول، التى بغرب القارة و شرقها ، كانت في مرحلة متخلفة كثيرا عن السودان ، يوم استقلاله في اول يناير 1956. ليس ذلك وحسب ، وانما عدد منها لم يكن أصلا مستقلا ومشاكله تفوق مشاكل السودان بأضعاف ولكن مع ذلك كلها حافظت على حدودها القومية ووحدتها وتماسكها وتقدمت على السودان بعدة سنوات. مشكلتنا في السودان هي مشكلة عقل ليس الا. فاذا نظرنا لتاريخنا منذ خروج الاستعمار و الى الان ، وحتى ما قبله ، لن نرى الا مجتمع اجرد ، يلد الملايين و يخرج منهم الوف المجعجعين ويخلوا تماما من المفكرين ، اذا استثنينا عدد قليل لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. فاذا ما استثنيا محمود محمد طه ومنصور خالد وفرانسيس دينج ، فيمكننا ان نقول ان السودان هو صحراء فكرية ، لها شجيرات هنا وهنالك ، لا تعطي ثمرا ولا ظلا . فأمارات الفكر اثنتان. الاولي هي فهم المجتمع وفق ذلك الفكر و من ثم الاجتهاد وتقديم ما يفيد في تقدم ذاك المجتمع ـ وفق ذلك الفكر و الثانية هي ان تفهم المجتمع الإنساني ، بما فيه مجتمع المفكر ، ومن ثم الاجتهاد وتقديم ما يفيد في تقدم الانسان او البشرية جميعا . فمحمود محمد طه درس الدين والتاريخ و الفلسفة وعلم المجتمع والاجتماع والقانون ، ونحوها ، وقدم لنا ما يراه حلولا تفيد في حل مشكلات و تقدم المجتمع السوداني وفق الإسلام ووفق تجارب إنسانية اخرى ، قد نختلف او نتفق معه. كذلك الدكتور منصور خالد. فمنصور خالد لا يمكن ان نلصق عليه لقبا واحدا مشتق من مهنة ما. فلا يمكننا ان نقول انه القانوني الضليع ، او الدبلوماسي او الكاتب او المؤرخ وهكذا. فهو كل هذه المهن مجتمعة. ففكر كنصور خالد الذى قدمه مدونا ، هو عبارة عن تلخيص لمشاكلنا المعاصرة والنصح في كيفية حلها وكذلك ارخ لنا مرحلة مهمة من تاريخ الحركة الوطنية ومرحلة ما بعد الاستقلال و حتى انفصال دولة جنوب السودان. برفسور منصور ، لخص لنا مشكلتنا الكبرى في احد أسماء كتبه وهو ( النخبة السودانية وادمان الفشل). نعم فشلنا هو فشل نخب. رايي الشخصي وكتاب منصور خالد قد يكونا متطابقان. فمنصور خالد يري ان فشل النخبة سببه غياب ( الرؤية) لحل المشاكل ، ولكن البروف لم يذكر لنا السبب الرئيسي وراء غياب الرؤية. فانا رايي ان السبب الرئيسي وراء غياب الرؤية هو ( الجهل). نعم الجهل بكل شيء بخلاف ما هو خارج كتب المقررات التي تمنح الشهادة للحصول على اللقب ومن ثم الوظيفة . قراءة كتب المقررات لوحدها ، لا تخرج انسانا فاشلا وحسب ، وانما تخرج مهنيا فاشلا. فالطبيب عليه الالمام بجغرافيا وطبوغرافيا وجيولوجيا أراض مرضاه معرفة مهنهم وعاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم ومعتقداتهم ليعرف امراضهم ومسبباتها وكذلك أسباب تخفيفها او استفحالها. فالذي درس كل كتب الطب وحفظها ولكن لا يعرف هذه الحقائق عن مرضاه ، بالتأكيد لن يخدم الطب كثيرا. كذلك القاضي والاقتصادي ورجل الدين ..الخ. فألذى درس القانون ، سوف يكون عنصر هدام ان لم يفهم المجتمع الذى يطبق عليه القانون ..وكذلك الذى يدرس اللغة و يدرس الاجتماع ويدرس الاقتصاد ويدرس إدارة الاعمال. فلا يوجد انسان يفهم في الاقتصاد وهو لا يفهم شيء عن الجغرافيا او الاجتماع او التاريخ مثلا ، ولا يمكنه ان يكون رجل دين دون ان يفهم كل العلوم الأخرى ومنها التاريخ والاقتصاد والمجتمع والفلسفة ..الخ. فلا يمكنك ان تكون اقتصادي في السودان ,انت لا تعرف اين القطينة من الجنينة ، او انك لم تدرس ، بتمعن ، جغرافيا الولايات الشرقية وجيلوجتها وشعوبها وتاريخ المنطقة الى ما قبل الميلاد ، كمثال . معرفة ما كتبه ادم اسميث وجون مينارد كينز ، لا تكفي ولا تنفع كثيرا في هذه الحالات. من هنا تبدا مشكلة النخبة السودانية ، انها نخبة قرات ولكن لم تتعلم. لان القراءة او الدراسة ، اختصارا ، هي أداة و توصيف لمنهجية تلقي العلم ولكن ليست مرحلة بلوغ العلم . فبلوغ العلم ينال عن طريق التعليم وليس عن طريق القراءة . والتعليم يحتاج الى الالمام بعدد من العلوم الاخرى وربطها معا لحل مشكلة محددة او عدة مشاكل. هذا ما ينقصنا. طبيب في علوم الحنجرة و البلعوم ، يترك مهنته ويصر على انه سياسي ويوظف كحاكم لأكبر إقليم في السودان. على أي حال ، مع العلم الواسع للدكتور منصور خالد ، الا انا نأخذ عليه ، في حصر ما كتبه لنا في سياسة شلة الخرطوم وتاريخ الصراعات الخرطومية وتاريخ نفس المجموعات وبعض من الاحداث السياسية المتعلقة بالجنوب عندما كان جزء من السودان . اما العلامة فرانسيس دينج ، فيصعب حصر انتاجه الفكري الذى اثري به المنطقة وخاصة ذلك الذى يتعلق بالدينكا وقبائل الجنوب و بالسودان وبالجنوب و القارة الافريقية . ربطه للمشكلة الافريقية ، على مستوى الاثنيات و المشاكل القومية و من ثم استعمال هذه المعرفة لتقديم الحلول لكثير من المشاكل الافريقية ، هي من رفعت الدكتور فرانسيس دينق لمرتبة المتعلم. قرأ و تعلم. الامر الأخير هو ان هذا المجتمع المتصحر فكريا لم يقبل بالثلاثة مفكرين حتى ، وحاربهم حرب ضروس . فالمعلم محمود محمد طه تم قتله ، والبروف منصور خالد عير بما فيه وبما ليس فيه ومن ثم نبذ ، اما فرانسيس دينق فتم فصله ليذهب هو ومن هم على شاكلته في دولة منفصلة بهم لبنى اهل الجدب الفكري دولة فاضلة يحتار في امرها افلاطون . فلا مكان لمفكر وسط صحراء فكرية.
خلاصة القول ان ما تبقى من البلاد ، ولو فتت ، فلن بيكون له مستقبل بدون فكر. الفكر بدايته هي محو الامية و من ثم تعلم القراءة و الكتابة و من ثم الدراسة و من ثم التعليم . هذا التعليم ضروري لخلق رؤية و من ثم تطوير ثوابت و من ثم دعائم واهداف ووسائل لنيل المبتغى وهو خلق مجتمع مستقر و عصري ومواكب و متطور مثل بقية الدول في العالم. خلاف ذلك ، لن يكون هنالك مجتمع يخلق دولة قابلة للحياة و الاستمرار . الأسوأ هو ان يتم تقسيم السودان . فكل ما تم تسويقه خلف الجدران عن مغريات انفصال الجنوب ، ثبت انها أوهام وتخيلات مخبولين لا اكثر. فالاستقرار المتوهم أوصل الدولة ان تقع حرب في عاصمتها.
ازمة الفكر السوداني كنا نراها في الطرقات ونراها في الاعلام ونراها في الملمات ونراها في المنابر السياسية و الاقتصاد وفى الدبلوماسية و العلاقات مع دول الجوار وفى كل شيء. فقبل أسبوع مضى توفى شخص وهو مصنف من الذين كانوا على مقربة من قمة الهرم التعليمي و الديني و الثقافي السوداني. ومع ذلك ترى فيه الصورة الكاملة لازمة الشخص السوداني وجدب فكره. فالمرحوم تخرج في جامعة الخرطوم في او الستينات و انتدب الى بريطانيا للدراسة في جامعة عريقة جدا وقالوا انه حاز على الدكتوراه في الفلسفة ، ولكن حقيقية انه حاز على الدكتوراه في تفسير الطبري. مع ذلك استمعوا لشهادة احد معجبيه وتلاميذه فيه ، وهو يقص للناس شاعرية وتمكن معلمه من اللغة العربية و شعره الفصيح ، الغزير ، المقفى، والموزون على كل بحور الشعر. فالشعر المعني ما هو الا اغتراب شخص عن العالم المعاصر وكذلك عن العالم قبل المعاصر وعاش اعوامه الثلاثة وثمانين ما بين حروب ناقة البسوس و حروب داحس والغبراء. فالدكتور ، العالم الجهبذ ، والمعلم والذى حاز على الدكتوراة من بيرطانيا ، وتحديدا من جامعة ادنبرة ، كتب شعرا وكأنه يعتبر نفسه شاعرا فحلا وانداده هم النابغة الذبياني ومجنون ليلي و اعشي قيس وامرؤ القيس وعنترة بن شداد . فشعر ذاك الرجل حوى عبارات مثل ( سعاد) و ( نجد) وهكذا عبارات تعاكس العصر الذين قضى اعوامه الثلاثة وثمانين حبيسا بداخله . فالأمر لا علاقة له بمعينات البلاغة مثل الاستعارة و الكناية و غيرها ، وانما ، وبكل وضوح ، هو اغتراب وجداني وعقلي و نفسى ومعرفي وثقافي وعصري و مجتمعي . فوق هذه العبارات المضحكة ان ( العالم) المعنى ذم الشخص الذى اتاه بنبأ موت طفلته الرضيعة ووصفه انه ( اسود). فالمرحوم كان جاهليا تام الاوصاف ، بالرغم من انه كان زعيما لحزب ديني . اما السواد الذى وصف به الرسول الذى اتاه بالخبر ، فلن تنجوا من ذلك الوصف في داخل منزل صاحبنا ، القارئ غير المتعلم و المغترب ، الا النار التي يطبخون عليها الطعام . اما الاغرب من كل ذلك ، فالعالم الجهبذ ، اتى يوما كان فيه رئيس لجنة ( التعليم) بالبرلمان السوداني ، ولله في خلقه شئون.
نسال الله ان يفتح لنا و يعلمنا ويعلم ابناءنا وذريتنا جميعا . امين
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان منصور خالد
إقرأ أيضاً:
وزير الشئون النيابية: معرض الكتاب منارة للتواصل الفكري والحضاري بين الأمم
افتتح الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، صباح اليوم الخميس الموافق 23 يناير 2025، فعاليات الدورة الـ 56 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي تنظمه الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، وتحمل نسخة هذا العام شعار "اقرأ... في البدء كان الكلمة"، وتقام بمركز مصر للمعارض الدولية، بالتجمع الخامس وسط حضور حكومي ودبلوماسي وثقافي رفيع المستوى.
وشارك المستشار محمود فوزي، وزير الشئون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، في الافتتاح الذي، تحل فيه "سلطنة عمان" ضيف شرف هذه الدورة، واختيار اسم الدكتور أحمد مستجير، العالم والأديب المصري، شخصية المعرض، واسم الكاتبة فاطمة المعدول، شخصية معرض كتاب الطفل.
وبدأ وزير الثقافة، والوفد المرافق له جولتهم بزيارة جناح وزارة الثقافة المصرية، الذي يضم للمرة الأولى أجنحة متنوعة لقطاعات الوزارة المختلفة، كما زاروا جناح وزارة الدفاع، والذي سلط الضوء على الإسهامات الثقافية للقوات المسلحة في تعزيز الوعي الوطني، وجناح وزارة الداخلية، ووجه التهنئة للقيادات الأمنية بمناسبة أعياد الشرطة، وجناح هيئة الرقابة الإدارية، وكذلك تفقد جناح حلايب وشلاتين، وتفقد العروضات البيئية.
قال المستشار محمود فوزي، إن معرض القاهرة الدولي للكتاب أحد أبرز الفعاليات الثقافية التي تعكس مكانة مصر كمنارة للتواصل الفكري والحضاري بين الأمم، وانه ليس فقط مجرد معرض للكتب، بل هو منصة حيوية تعزز الحوار الثقافي وتحتفي بالإبداع كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة ونشر قيم التعايش والسلام، ومصر حريصة على تنظيم هذا الحدث العالمي الذي يعكس التزامها بدور الثقافة في تعزيز الروابط الإنسانية وبناء جسور التفاهم بين الحضارات المختلفة.
وأشار الوزير، إلى أن الدورة الجديدة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، تحمل في طياتها مسؤولية كبيرة لتقديم تجربة استثنائية تعبر عن روح الابتكار والتطور الذي يشهده العالم، وهذا المعرض يمثل فرصة فريدة تجمع بين المفكرين والمبدعين والجمهور للاحتفاء بالكتاب كركيزة أساسية للمعرفة والتقدم، ومصر بتاريخها العريق، تؤكد من خلال هذه الفعالية دورها الريادي في دعم الثقافة كأداة لبناء الإنسان وتطوير وعيه، واضعة نصب أعينها أهمية الإبداع في مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف التنموية.
وتم تفقد جناح سلطنة عمان ضيف شرف الدورة ال56، الذي يُقام على مساحة كبيرة ويقدم التراث والفنون العمانية، وذاك برفقة، الدكتور عبد الله بن ناصر الحراصي - وزير الإعلام العماني، والسيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، وكيل وزارة الثقافة والرياضة والشباب العمانية للثقافة، والسفير عبد الله بن ناصر الرحبي سفير سلطنة عمان بالقاهرة، وقام وفد دولة سلطنة عمان بأهداء وزير الثقافة مجسم لمسجد السلطان قابوس.
كما شملت الجولة أجنحة الأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء، إلى جانب أجنحة دولية مثل هيئة الشارقة للكتاب، وحكومة الفجيرة، وهيئة النشر السعودية التي تشارك لأول مرة، وتفقد عددًا من أجنحة الدول المشاركة منها المملكة العربية السعودية، والإمارات بأجنحتها المتعددة، وقطر، والبحرين، وغيرها.
شارك في الافتتاح عدد من كبار المسؤولين والشخصيات العامة، من بينهم: الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، الدكتور سامح الحنفي، وزير الطيران المدني، محمد عبد اللطيف، وزير التربية والتعليم، الدكتور شريف فاروق، وزير التموين والتجارة الداخلية، الدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة، الدكتور نظير عيَّاد، فضيلة مفتي الجمهورية، الدكتورة مرجريت صاروفيم، نائب وزير التضامن الاجتماعي، إلى جانب حضور عدد من سفراء الدول المشاركة، ومساعدين السادة الوزراء وممثلي الوزارات والهيئات الثقافية.