مسافـة صفر..بقلم: أ. د. بثينة شعبان
تاريخ النشر: 18th, December 2023 GMT
مسافة صفر مصطلح سياسي وعسكري جديد دخل إلى سردية اليوم بعد أن صاغته دماء مقاتلين أشاوس لا يخشون في اللـه لومةَ لائم، قهروا للمرة الأولى جيشاً كان يدّعي أنه لا يُقهر فأخذ بقتل أسراه تهرّباً من مفاوضات وصفقات تملك المقاومة بها اليد العليا، فمسافة صفر بهذا المعنى والمعاني الكثيرة التي يوحي بها ليست تعبيراً بسيطاً أو عابراً أبداً؛ فهو مسافة صفر بين من هو مُحاصَر لسنوات ولا يملك إلا سلاحاً شخصياً ليواجه به قصف الطائرات والدبّابات والمدرّعات، وآخر ما تمّ التوصّل إلى إنتاجه من الأسلحة المتطوّرة والقذرة.
هذه هي المرّة الأولى التي يتمكّن بها أي طرف أن يقاوم الجيش الصهيوني لسبعين يوماً ونيّف، وهذه هي المرّة الأولى التي يتكبّد فيها العدوّ الصهيوني هذا الحجم من الخسائر وتهتزّ أركان وجوده الاستعماري الاستيطاني الظالم نتيجة تصميم شعبٍ أبيّ أصيل على أن يفدي أرضه وشعبه وتاريخه وتراثه بروحه، وأن يزلزل الأرض تحت أقدامهم من دون أن يتمكّنوا من إزاحته أو تهجيره.
ولكنّ هذا البأس وهذا الشموخ وهذا الفداء قد قوبل من قبل عدو جبان مدعوم إعلامياً وعسكرياً من قبل طغاة الغرب بإبادة الأطفال والنساء وتطهير عرقيّ لشعب فلسطين الأصيل لم يشهد التاريخ لهما مثيلاً، وإيقاف هذه الإبادة ليس مسؤولية الفلسطينيين المنخرطين في مقاومة مشرّفة بكلّ ما أوتوا من قوّة، ولكنّها مسؤولية الآخرين، كلّ الآخرين من البشر وفي أي رقعة صدف أن يتواجدوا على هذه الأرض وبأيّ موقع كانوا. هي مسؤولية إنسانية؛ كلّ إنسان يرى أن قوّة غاشمة تحرم إخوته في الإنسانية الماء والغذاء والوقود والدواء، وتحرمهم السكن والسكينة، وتحرمهم من أدنى مقوّمات الحياة الكريمة، فكيف لأي إنسان عربي أو عجمي، ومن أي معتقد أو بلد كان أن تقبل إنسانيته بالصمت والعيش والنوم الهادئ وهو يرى ما يرى ويسمع ما يسمع ويعلم ما يعلم.
إنّ مسافة صفر تُملي على كلّ إنسان على هذه البسيطة ويحمل قدراً من الشعور الإنساني أن يعلم أن مسافة صفر هي بين إنسانيته وإنسانية كل طفل فلسطيني وكلّ امرأة وكلّ رجل قضى دفاعاً ليس عن أرض فلسطين وحدها وليس عن شعب فلسطين وحده، وإنما عن كرامة الإنسان في كلّ مكان وعن حقّه أن يعيش حرّاً عزيزاً على أرضه، وأن يدحر القوى الظالمة التي تعمل على سلبه أركان إنسانيته وعيشه الكريم.
في هذا التوقيت، وبعد كلّ ما شاهدناه من بسالة إنسانية فلسطينية ومقاومة في فلسطين والعراق ولبنان واليمن، أصبحت مسافة صفر فرضاً وواجباً على كلّ كُتّاب ومُفكري وممثلي وفناني العالم أن يكرّسوا إنتاجهم الأدبي والدرامي والفني والمسرحي والسينمائي لنُصرة الحقّ في معركة حوّلت المسافة بين الحقّ ودُعاته وأبطاله الحقيقيين إلى مسافة صفر، وأيّ تقاعس عن إشهار أكبر أساليب وآيات التبنّي لهذه المقاومة الرائدة التي تقاوم دفاعاً عن إنسانية كلّ إنسان في هذا الكوكب، أي تقاعس هو خذلان وانحياز مقصود أو غير مقصود للباطل والمستعمر والمستوطن والنازيين والعنصريين.
مسافة صفر فضحت كلّ أكاذيبهم التي درجوا على إقناع العالم بها لعقود خلت؛ فقد برهنت أن لا حرّية ولا ديمقراطية ولا حقوق إنسان لديهم على الإطلاق، وأنّ رؤساء الجامعات التي يُفاخرون بها أمام العالم يتمّ إخضاعهم لتحقيق واستجواب مُهين، ومن ثمّ يُرغمون على الاستقالة من مواقعهم الأكاديمية لأنهم لم يسيروا كالرّعاع وراء المقولات المُعدَّة مسبقاً من قبل حفنة من النازيين المعتدين على كرامة وإنسانية الإنسان.
مسافة صفر فضحتهم أخلاقياً وبرهنت أن لا أخلاق لديهم على الإطلاق، حين يُرغِمون معتقلين أن يسيروا شبه عُراة ويعرضونهم على وسائل الإعلام من دون أدنى تنديد من إعلام غربي منافق، فهذا سقوط أخلاقي مُزْرٍ لأي أحد أو قوّة في العالم تقوم بمثل هذه الممارسة الدنيئة والشنيعة، وهذا يُضاف إلى سجلّهم الزاخر بالمجازر الوحشية وبالتنكيل بالأسرى وتكسير عظامهم وحرمانهم من أبسط حقوق الأسرى المنصوص عليها في الأديان والشرائع والقوانين الدولية.
وبالمقارنة فإن وجوه الأسرى الإسرائيليين والآخرين من جنسيّات مختلفة ممن غادروا المقاومين، كانت تنبض بالمحبّة والمودّة وتقول أعينهم شكراً لكم، وهذا لا يمكن أن تراه إلا نتيجة معاملة أخلاقية لائقة تفرضها معتقدات وتراكم حضاري لا يمكن للمال شراؤه ولا للتكنولوجيا تصنيعه، وما التنكيل بالأسرى وتعذيبهم وقتلهم وإهانتهم إلا تراث غربي شائع منذ القرون الوسطى وإلى حد اليوم، وما تعذيب المستعمر الفرنسي والإيطالي والبريطاني والأميركي للأسرى وقتلهم، إلا أمثلة قريبة كما حدث في أبو غريب وغوانتانامو وسبرينتث، وكما يحدث منذ 75 عاماً في السجن الكبير الذي اسمه إسرائيل العنصرية.
في اليوم الـ 72 لاستحضار حاملات الطائرات والغوّاصات النووية، وفتح أبواب السلاح الأميركية والأوروبية على مصراعيها للكيان الغاصب، والدفاع المستميت في سردياتهم عن أكذوبة «الدفاع عن النفس»، ووسط التجويع والتدمير والإبادة المشينة والتطهير لعشرات الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين، يزحف مقاتلون على تراب عشقوه والتحموا به من مسافة صفر، تتيمّم أرجلهم وألبستهم بقداسة هذا التراب الجميل الذي يدافعون عنه بدمائهم، يزحفون ومن مسافة صفر يُجهزون على المغتصبين والمعتدين والمحتلين، ويُحرّرون البقعة المقدّسة التي هي أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم.
لا يمكن لمعتدٍ أجنبي لقيط ودخيل على هذه الأرض والثقافة والتاريخ، أن يفهم نفسيّة مَن تنطق أقدامهم بحنان التراب عليهم وعلى أجسادهم الغضّة، لا يمكن له أن يفهم كيف يفكّر هؤلاء، وما هو الدافع الذي يدفعهم للتضحية بأنفسهم ومحاربة كلّ أساليب القوّة والغدر والقسوة والسطوة، ذلك لأنهم لم يكونوا يوماً أصحاب قضية ولا يعلمون ماذا يعني أن تكون صاحب قضية!
أن تكون صاحب قضية أي أن تكون إنساناً حرّاً فخوراً بإنسانيتك وحريتك وكرامتك وانتمائك، أن تكون صاحب قضية ملتزما بها وعاملا على رفعتها، أي أن تكون في أعلى درجات السموّ الإنساني بعكس كلّ آلاف الكتب التي أنتجها الغرب عن خطورة ومساوئ الالتزام على الحريّة الفردية، وأنّ الأدب الملتزم لا يمكن أن يكون مبدعاً، والفنّ الملتزم لا يمكن أن يكون عالمياً.
لقد برهنت مسافة صفر واحتضان المقاومة الأصيل في كلّ البلدان المقاوِمة لقضاياها أن القضية هي التي تسمو بإنسانية الإنسان مهما دفع من أثمان، وأنّ الإنسان من دون قضية لا يمكن أن يكون حرّاً ولا إنساناً مكتمل الإنسانية.
إنّ المقاومة في فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن تُقدّم هدية ثمينة للبشرية أن يحتضنوا قضية تحرير الأرض من المحتلّين، وأن يقفوا إلى جانب الحقّ، وإلى جانب الارتقاء بإنسانيتهم وكرامتهم وحرّيتهم فعلاً لا قولاً، والتخلّص من كلّ المفاهيم الكاذبة والمزيّفة التي استخدمها الغرب لخداع البشرية، والتي أصبحت في مقبرة النفايات بعد صمود مسافة صفر، وتجلّي مفاهيمها النبيلة للعالم أجمع.
جريدة الوطن السورية
أ. د. بثينة شعبان 2023-12-18ruaaسابق الشؤون الاجتماعية تبحث مع اليونيسف سبل الاستفادة من الخبرات وتطوير العمل بملف الطفولةالتالي وزارة الصحة الفلسطينية: استشهاد شاب برصاص الاحتلال الإسرائيلي في مخيم الفارعة جنوب مدينة طوباس بالضفة الغربية انظر ايضاً مؤشرات اليوم التالي.. بقلم: أ. د. بثينة شعبانالألم يعتصر قلوب كل من ما زال بعض الإنسانية يخالج نفوسهم على جرائم الإبادة للأطفال …
آخر الأخبار 2023-12-18الشؤون الاجتماعية تبحث مع اليونيسف سبل الاستفادة من الخبرات وتطوير العمل بملف الطفولة 2023-12-18مراكز الاقتراع العام للانتخابات المحلية بالعراق تفتح أبوابها أمام الناخبين 2023-12-18ارتفاع أسعار النفط 2023-12-18الحرارة إلى انخفاض وأجواء باردة جداً خلال الليل 2023-12-18سميرة شاويش.. صناعة السيراميك والقطع الفنية اليدوية من الهواية إلى الحرفة 2023-12-18طوفان الأقصى.. أبرز التطورات 2023-12-18إصابة ثلاثة فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال في قلقيلية ونابلس 2023-12-17استشهاد فلسطينية جراء قصف الاحتلال مستشفى ناصر في خان يونس 2023-12-17الصحة الفلسطينية تحذر من إقدام الاحتلال على ارتكاب مجزرة جديدة في مستشفى العودة 2023-12-17الخارجية الروسية: بعض الدول الغربية تسعى لتحويل ليبيا إلى ساحة جديدة للمواجهة
مراسيم وقوانين الرئيس الأسد يصدر قانوناً بتعديل المادة (50) من قانون العقوبات العسكرية 2023-12-17 الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتعديل وزاري يشمل وزيرين 2023-12-13 الرئيس الأسد يصدر مرسوماً يقضي بإحداث الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية 2023-12-13الأحداث على حقيقتها استشهاد طفلين بانفجار لغم من مخلفات إرهابيي (داعش) في البوكمال 2023-12-17 إصابة عسكريين اثنين جراء عدوان إسرائيلي بالصواريخ على نقاط بريف دمشق-فيديو 2023-12-17صور من سورية منوعات روسيا تطلق بنجاح قمراً صناعياً لرصد الأحوال الجوية 2023-12-16 الصين تطلق مركبة فضائية تجريبية قابلة لإعادة الاستخدام 2023-12-15فرص عمل الخارجية تعلن أسماء الناجحين في مسابقة تعيين عدد من العاملين الدبلوماسيين 2023-12-17 تحديد موعد المقابلة مع مجلس القضاء الأعلى في مسابقة الدورة الرابعة للمعهد العالي للقضاء 2023-11-27الصحافة مسافـة صفر..بقلم: أ. د. بثينة شعبان 2023-12-18 أمريكا و”إسرائيل”.. الإرهاب المزمن والفشل المستمر _ بقلم: جمال ظريفة 2023-12-17حدث في مثل هذا اليوم 2023-12-1818 كانون أول- اليوم العالمي للغة العربية 2023-12-1717 كانون أول 1913- أمين الرافعي يصدر جريدة الأخبار في مصر 2023-12-1616 كانون الأول 2007 – قوات الأمن العراقية تتسلم أمن مدينة البصرة من القوات البريطانية 2023-12-1515 كانون الأول 2011 – إنزال العلم الأمريكي في العراق إيذاناً بانتهاء الاحتلال الأمريكي له 2023-12-1414 كانون الأول 1950- الجمعية العامة للأمم المتحدة توافق على إنشاء المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 2023-12-1313 كانون الأول 2011- رفع علم فلسطين على مقر منظمة اليونسكو في باريس
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |
المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء
كلمات دلالية: کانون الأول لا یمکن أن مسافة صفر أن تکون التی ی
إقرأ أيضاً:
"مقاومة الجدار الفلسطينية": 1490 اعتداء نفذها الاحتلال الإسرائيلي خلال أكتوبر الماضي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الوزير الفلسطيني مؤيد شعبان رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، إن قوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين نفذوا 1490 اعتداء خلال أكتوبر الماضي، وذلك استمرارا لمسلسل الإرهاب المتواصل من قبل دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني وأراضيه وممتلكاته.
وأوضح مؤيد شعبان - في تقرير الهيئة الشهري بعنوان "انتهاكات الاحتلال وإجراءات التوسع الاستعماري" - أن قوات الاحتلال نفذت 1130 اعتداء، فيما نفذ المستوطنون 360 اعتداء، تركزت مجمل الاعتداءات في محافظات نابلس بـ 307 اعتداءات، والخليل بـ 280 اعتداء، ومحافظة القدس بـ 179 اعتداء.
وأشار الوزير الفلسطيني - وفقا لما أوردته وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" اليوم /الأحد/ - إلى أن الاعتداءات تراوحت بين هجمات مسلحة على قرى فلسطينية وبين فرض وقائع على الأرض وإعدامات ميدانية وتخريب وتجريف أراضٍ، واقتلاع أشجار، والاستيلاء على ممتلكات، وإغلاقات، وحواجز تقطع أواصر الجغرافيا الفلسطينية.