أن تكون واعيا لذاتك.. فذلك يكفي
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
لا أحد يشك أن الوعي مكتسب نوعي، سواء أكان فطريا؛ أي ضمن البنيوية النفسية للإنسان منذ أن ولدته أمه، أو كان عبر مكتسبات ترقي الحياة وفق مراحل العمر التي يمر بها، وما يتصادم أو يتوافق معه، أو كان عبر جهد شخصي يبذله من خلال السعي إليه قاصدا، من خلال الترقي المعرفي الذي يسلكه، وما يكابده منه من معاناة غير منكورة، ولأنه نوعي فبذلك له القدرة على تحييد الشخص في الوقوع في كثير من المزالق التي يصادفها في حياته اليومية، والقدرة على النظر إلى الحياة بمقياس الدقة، والتبصر، والتنظيم، والنأي بعيدا عن المخاطر التي يقع فيها من لم يكتمل عنده هذا المكتسب من الوعي، فالوعي معناه القدرة، والقدرة هي التي تعطي الإنسان التحكم في وضع أقدامه، وأفكاره في المواضع المناسبة دون تهور، أو شطط، ويضاف إلى هذه القدرة؛ القراءة الاستشرافية لـ «ما وراء الأكمة؛ ما وراءها» كما هو المثل السائد، لكثير مما يتعلق بحياة الإنسان اليومية.
هناك من ينسب الوعي إلى المراحل المتقدمة من عمر الإنسان، بمعنى أنه كلما قطع الإنسان عمرا زمنيا تراكميا؛ كلما راكم ذلك عنده رصيد الوعي، بخلاف الآخرين من حوله ممن لا يزالون الأصغر سنا منه، ويربط ذلك بعدة معززات لنمو هذا الوعي، يأتي في مقدمتها مجموع الخبرات، والتجارب، والمواقف، والقناعات التي تمر على الإنسان طوال سنوات حياته، ومعنى هذا؛ ووفق هذا التقييم؛ أن الوعي يزداد كلما تراكم العمر، وكلما تحققت لهذا الإنسان كل هذه المعززات، وبصورتها المكثفة، وبدون توقف، وهذا التقييم يحتاج إلى كثير من التأني، في الأخذ به كقاعدة يمكن الاحتكام إلى مطلقيتها، لأن واقع حال كثير من الناس، لا يفي بهذا التقييم، فأفراد المجتمع؛ كبر هذا المجتمع؛ أو صغر؛ يظهر عندهم؛ ومن خلال ممارسات السلوكية الكثيرة؛ التفاوت الكبير بين أفراده في مسألة الوعي بالواقع، بل قد تجد هذا التفاوت حتى على مستوى الأسرة الواحدة بين أفرادها، مع أن أباهم واحد، وأمهم واحدة، إذن المسألة تخرج بصورة نسبية وليست مطلقة من هذا التقييم، على اعتبار أن هذه المعززات لا يمكن إسقاطها جملة من التأثير المباشر وغير المباشر في مسألة الوعي بالذات.
وهناك من ينظر في سياق هذا الحديث إلى القدرة الذهنية؛ ومدى تأثيرها في الأخذ بصاحبها إلى مدارج الكمال، ومن نتائجها ما يسمى بـ«الثقة» والتي كثيرا ما يشاد بقدرتها على الترقي بالإنسان إلى مدارج الكمال، أو النأي به عن الوقوع في المزالق، وفي تقييمي الخاص أن الثقة لن تأتي من فراغ، وإنما هي نتيجة طبيعية لمرحلة من مراحل الوعي بالذات، فهي ليست طائرا أسطوريا - بالمعنى التخيلي- وبما أن الثقة تلقى هذا القدر من التثمين من قبل المجتمع، وهي نتاج الوعي، فليتخيل أحدنا أهمية هذا الوعي في تنظيم الحياة اليومية لدى الإنسان على مستواه الفردي، وتنظيمها على المستوى الجمعي، ومحصلة ذلك كله لمستقبل أية أمة من الأمم عندما تتهيكل إلى مستوى الوعي العام الشامل؛ وإن كان ذلك صعب تحقيقه، ربما تكون الإشكالية هنا أن الوعي بالذات الاجتماعية، كما هو الحال الوعي بالذات الفردية ليس يسيرا تحققه بالصورة المتوقعة، فهي لا تخضع لموازين ميكانيكية، وهذه إشكالية معقدة، وتجاوزها ليس يسيرا، لأنها وإن أخضع بعض الأفراد لبرامج تدريبية أو محاكاة، فإن النتيجة لن تكون حسب التوقع، لأن هناك عمليات؛ شبيهة بعمليات الأيض؛ تختمر في النفس البشرية، ويكون أداؤها وفقا للطبيعة النفسية عند كل شخص على حدة، ومن هنا يأتي التفاوت النسبي، سواء في استيعاب البرامج والمغذيات التوعوية، أو سواء في توظيف الوعي على الواقع، ومعنى هذا أن لا عبرة للعمر (التراكم الزمني) ولا لخبرة الحياة (مجموعة التجارب والمواقف) ولا للمعرفة (ومغذياتها المختلفة) للتأكد من أي من هذه الأبعاد الثلاثة أو مجتمعة وقدرتها على تأصيل الوعي الذاتي للفرد، أو للجموع، أو للذات الوطنية؛ والتي هي الأخرى؛ تأخذ منحى آخر في التقييم، نظرا لتشابكها مع كل أنواع الوعي، ومن يخلص إلى هذه النتيجة يقيس ذلك على سلوكيات الأفراد على الواقع، ومدى التفاوت والتباين بين مجموع الأفراد في وسط معين، ومدى تفاعلهم لأمر ما، من أمور الحياة اليومية.
تثار بين الفينة والأخرى قضايا اجتماعية كثيرة، وإثارتها هنا في جانبها السلبي كنتيجة لسلوكيات الأفراد، ومجموعة التداعيات من أثر هذه السلوكيات السلبية الناتجة عن هذه القضايا، وفي كل مستويات النقاشات التي تدور يرجح جانب الوعي في المسألة، ويتهم الأفراد في وعيهم، وتتم المطالبات بتوفير وسائل يكون السعي من خلالها هو القيادة نحو تحقيق هذا الوعي، ولأن ثيمة الوعي غير مادية المبنى؛ بل هي معنوية المعنى، يبقى الوصول إليها ليس سهلا، فهي تحتاج إلى مساحة كبيرة لاستيعابها، وهضمها، وتطبيقها على الواقع، وهذا يؤكد من صحة من يرى أن الأكبر عمرا؛ أكثر وعيا، وهذا يستنزف الكثير من الجهد، ومن الزمن، ومن تولد القناعات، مع أن جل هؤلاء الناس الذين يرتكبون مخالفات تتصادم مع الوعي هم خريجو المراحل التعليمية، وهذه المراحل التعليمية؛ بها من معززات الوعي لا يمكن حصره، سواء عبر المناهج التعليمية، أو عبر البرامج التدريبية، أو عبر حالات التأثير والتأثر التي يعيشونها مع أقرانهم من الطلبة طوال مراحل الدراسة ، ويضاف إلى ذلك المساحة الممتدة عبر المجتمع الكبير؛ حيث الأسرة الأممية؛ إن يجوز التوصيف؛ ولأن الحال هكذا؛ فإن ذلك يؤكد أن منشأ الوعي ليس أمرا ميكانيكيا؛ إطلاقا؛ وإلا أصبح كما معياريا، كما هو الفهم الآن، عندما تقاس تصرفات الأفراد على مفهوم الوعي، وتأتي مجموعة السلوكيات خارجة عن هذا النطاق «المعيارية» بل هو معنوي بامتياز، وهو من الفطرة السليمة، ومقياس ذلك، العدد القليل ممن يعي مفهوم الوعي، ويطبقه بصورة فطرية في جميع تفاصيل حياته اليومية، حتى وإن تشابهت بيئة النشأة والتأثير، والواقع خير دليل على هذا التقييم، يحدث أن يكون هناك بؤر لتصدع الوعي، ويحدث هذا عندما تتصادم القناعات التي دامت سنين للذات الإنسانية، وأصبحت من المسلمات؛ فإذا بحدث ما، أو موقف، أو صدام ما، يقلب تلك القناعات، ويوسع من جديد مساحة الفراغ الذي قد ملأه الوعي منذ زمن بعيد، في هذه المرحلة من معاناة الوعي تحدث فجوة لا يكون الأمر سهلا لردمها، وهذا ما يؤكد من يذهب إلى أن بناء الوعي يمكن أن يكون تراكميا؛ عبر المعززات التي تكلمنا عنها ، وهذا النوع من الانشقاق النفسي يحدث؛ غالبا؛ في العلاقات العائلية، أو علاقات الصداقة، حيث الوعي المتأصل بالحميمية التراكمية، لا تقبل الكثير من النقاش، حيث أنها من المسلمات، فإذا بالمواقف الصادمة تنقض هذه المسلمات، وتعيد القناعات إلى مربعها الأول، وأتصور أن هذه؛ إن حدثت؛ فهي مشكلة وجودية، وقاتلة، ومؤلمة، وقد يحدث مثل ذلك للذات الوطنية، لظروف كثيرة، فيحدث الانشقاق نفسه، ولكن سرعان ما يلتئم؛ خاصة إذا تعرضت الأوطان لخطر جسيم؛ كحالات الاحتلال، فالأوطان لا تراهن إلا على أبنائها المخلصين بوعيهم للقضايا الوطنية، وإن تجاوزوا في حبهم لأوطانهم، وشعروا أنهم خارج دائرة الاهتمام، فالذوات الوطنية لا تموت، بل كلما حاول «الأفاكون» خربشة صفحاتها البيضاء، كلما مسحت الخربشات بجميل عطائها، وصدق انتمائها، وحقيقة إخلاصها، فالذوات الوطنية «ولاَّدَة» وتتناسخ أرواحها عبر الأجيال، ولذلك فالأوطان لا تموت، بل تزداد نموا، وإعمارا، كلمت قطعت زمنا تراكميا، وتظل الذات الوطنية خصبة مزدهرة، تشع النور بين جنبات حامليها؛ إلى أبد الآبدين.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا التقییم
إقرأ أيضاً:
غزوة بدرٌ تتجدد ونصرُ اليمن يتوهج .. وهنا حيث تكون فلسطين أقرب
في قلب اليمن المنتصر، حيث تتكرر مشاهد الانتصار، وتُكتب فصول العزة من جديد، يقف اليمن اليوم كما وقف أجدادهم الأنصار من الأوس والخزرج في صدر الإسلام، يجدد وعده وعهدة، ويثبت أن الإيمان الراسخ في القلوب، يصنع رجالًا لا تهزهم العواصف ولا ترعبهم قوى طواغيت الأرض.
اليمن.. الذي ظنّوه ضعيفًا فواجه، وحاصروه فصمد، وقاتلوه فتجلّد.. هو اليوم خرج في موعد مع التاريخ، يكتب في ساحاته أبلغ الردود، ويرسم في ميادينه ملحمةً لا يخطّها إلا الأحرار.
خرج اليمنيون، تلبيةً واستجابةً لله ورسوله وللسيد القائد انتصارًا لقضيةٍ فلسطين التي تخلّدت في وجدانهم إيماناً، وحباً، والتزاما بقول لله تعالى “وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر”.
في قلب صنعاء، وفي أرجاء المحافظات الحرّة، كان الشعب على موعد مع الوفاء، هادرًا كالبحر، متدفقًا كالسيل، يرفع راية الحقّ عاليًا، ويهتف لفلسطين وكأنها قطعةٌ من روحه، بل هي كذلك.. كيف لا، وهو الذي حملها قضيةً، واحتضنها وجعًا، وقدم لأجلها التضحيات دون حساب؟
في هذا اليوم التاريخي، لا يُسمع في صنعاء إلا صوت العهد، ولا يُرى إلا لواء العزّ مرفوعًا، من الحديدة إلى صعدة، ومن ذمار إلى تعز، ومن إب إلى البيضاء، خرجت الجموع عن بكرة أبيها، تقول لأمريكا ومن معها: “إن سلاحكم لن يرهبنا، وإن ضرباتكم لن تخيف فينا حتى أطفالنا، وإن مؤامراتكم لن تثنينا، وإن فلسطين، كل فلسطين، حقٌ لن يُساوَم عليه، وعهدٌ لن يُنقَض.
خرج اليمنيون وهم يستلهمون ما قاله أجدادهم من الأنصار “لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك”.. هكذا قال الأنصار لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، وهكذا يقول اليمنيون اليوم لقائدهم، ولسان حالهم: نحن على العهد، لم نتراجع رغم الحصار، ولم نضعف رغم الحرب، ولم تهن عزائمنا رغم المؤامرات، بل اشتد عودنا، وازددنا ثباتًا، لأننا آمنا أن النصر وعدٌ الله، وأن من يحمل راية الجهاد لا يعرف الانكسار.
هنا اليمن، حيث تُصنع المواقف كما تُصنع الملاحم، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت العزة، في هذا البلد الذي لم يسجد إلا لله، لم يعرف الشعب من هو الخوف، ولم يألف سوى درب الجهاد، كيف يخاف شعبٌ قدّم في وجه العدوان أسمى معاني الصبر والتضحية؟ كيف يتراجع وهو الذي جعل من الحصار فرصةً للاكتفاء، ومن الحرب مدرسةً للثبات؟
خرجت هذه الحشود المليونية في كل الميادين لتؤكد أن الموقف اليمني ثابت مع فلسطين لأنه موقف من جوهرٌ إيماني، ممتدٌ عبر التاريخ، ضاربٌ بجذوره في القلوب، فكما كان الأنصار أول من نصروا رسول الله في حروبه على الكفار واليهود، ها هو اليمن، بامتداده الإيماني، ينتصر لفلسطين في محنتها، ويعلن موقفًا عمليًا في زمنٍ خرسَت فيه الألسن، وضعفت فيه القلوب، وتخاذلت فيه الأمم.
وخرج ليوصلها رسالةً تُدوّي في كل أرجاء العالم: أن فلسطين ليست وحدها، وأن القدس لن تكون لقمةً سائغةً في فم المحتلّ الصهيوني، وأن اليمن، برغم الجراح، سيبقى السند الذي لا يتخلى، واليد التي تمتد بالعون، والقلب الذي يخفق حبًا لغزة، حتى النصر أو الشهادة.
اليوم، يرتفع الصوت عاليًا: “الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. النصر للإسلام”، ليس شعارًا يُردَّد، بل عقيدةٌ راسخةٌ في نفوس هذا الشعب، وحقيقةٌ تؤكدها مواقفه وتضحياته.
فعلى خطى غزوة بدر، وعلى درب العظماء الذين لم يبدّلوا تبديلا، يمضي اليمن في مساره الواضح: مواجهة الطغاة، مقارعة المستكبرين، ورفض كل مشاريع الاستسلام، فمن غزوة بدرٍ الأولى إلى غزوة بدر اليوم، ومن عظمة الجهاد إلى وعد الفتح، يقف اليمن ثابتًا، وأن النصر لن يكون إلا للمؤمنين الصادقين.
هنا اليمن.. حيث تكون فلسطين أقرب.. وحيث يُكتَب التاريخ لا بالحبر، بل بدماء الصادقين، وصمود الثابتين، وإيمان لا يتزعزع بأن الوعد قادم، والنصر قريب، بإذن الله.