عربي21:
2024-10-03@10:52:19 GMT

المتفرجون العرب سيدفعون الثمن

تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT

بعد مرور سبعين يوما على المذابح اليومية في غزة لم يعد هناك أدنى شك في أن الحكام العرب شركاء لأمريكا وإسرائيل والدول الغربية في الحصار على غزة، وإتاحة المجال الزمنى لتنفيذ مخططاتها، وأن مسألة إرسال بعض المساعدات التي يعلمون أن معظمها لن تصل لمستحقيها، هي مجرد لعبة لخداع الشعوب.

ونفس ما ينطبق على حكام الدول الإسلامية، بغض النظر عن البيانات الكلامية ذات النبرة العالية لبعضهم، والتي لا تأثير لها على ماجريات الأحداث وتحقيق الهدف الآني بوقف إطلاق النار، للحد من نزيف الدم الفلسطيني غير المسبوق في بشاعته.



ورغم أنهم يعرفون أن العدوان الإسرائيلي الغربي الحالي لا يستهدف فلسطين وحدها، وإنما يستهدف العالم العربي والإسلامي، من خلال الشواهد التاريخية وتهديدات القيادات الإسرائيلية لهم بشكل علني، إلا أنهم لا يهمهم سوى الحفاظ على كراسيهم، والتي يعتقدون أن السبيل لاستمرارهم عليها يرتبط بالرضا الأمريكي والإسرائيلي والغربي عنهم.

إنهم يطلبون من إسرائيل سرعة القضاء على المقاومة الفلسطينية، بعد أن طال الوقت والذي استنفدت خلاله ألاعيبهم بادعاء السعي لوقف إطلاق النار ومساندة الفلسطينيين، ومن ثم فلا أمل في هؤلاء مطلقا للسعي لوقف العدوان الإسرائيلي المستمر أو توقف مساندتهم العملية له. ونفس الأمر من شعوبهم التي اكتفت بمشاهدة لقطات ضحايا القصف المستمر وعمليات الإبادة الجماعية
ولهذا فإنهم يطلبون من إسرائيل سرعة القضاء على المقاومة الفلسطينية، بعد أن طال الوقت والذي استنفدت خلاله ألاعيبهم بادعاء السعي لوقف إطلاق النار ومساندة الفلسطينيين، ومن ثم فلا أمل في هؤلاء مطلقا للسعي لوقف العدوان الإسرائيلي المستمر أو توقف مساندتهم العملية له.

ونفس الأمر من شعوبهم التي اكتفت بمشاهدة لقطات ضحايا القصف المستمر وعمليات الإبادة الجماعية، ليكتفي بعضهم بالدعاء والبعض الآخر بمقاطعة منتجات بعض الشركات المساندة لإسرائيل، وبعضهم بالانخراط في مشاغلهم الحياتية بعد أن طال أمد الحرب، وبعضهم بالتقليل من شأن عمليات المقاومة بل والسخرية من رموزها، متماهين مع المواقف الحقيقية لحكام بلادهم.

الإضرار بالمصالح الأمريكية لتعيد حساباتها

لكن ما زالت الفرصة أمام الشعوب للإضرار بالمصالح الأمريكية في المنطقة بمختلف الصور، حتى تسعى لوقف العدوان الإسرائيلي، حيث لم تتضرر مصالحها بعد رغم ما تقدمه من دعم سخي للآلة العسكرية وترويج لخطابها الدعائي وتبرير لمجازرها، وكذلك التواصل مع الرأي العام الغربي لدحض السردية الإسرائيلية للأحداث وإنشاء حركة تضامن دولية مع فلسطين، استنادا إلى الهمجية البربرية والمذابح غير المسبوقة.

وهكذا كان الهدف المشترك بين كافة الأطراف إسرائيليا وعربيا وغربيا هو سرعة القضاء على المقاومة الفلسطينية، والذي عجزوا عن تحقيقه طوال سبعين يوما، فالدول الغربية لا تريد أن يظهر نموذجا رافضا للهيمنة الغربية في المنطقة، حتى لا يشجع ذلك آخرين في مناطق أخرى على تقليده، ومن ثم وجوب القضاء على أي أمل لدى تلك الشعوب بالخروج عن الهيمنة الغربية، والنظم الحاكمة في الدول العربية والإسلامية تريد أيضا شعوبا خانعة ترضى بالفتات الذي تلقيه لها، ولو مجرد بعض السلع الغذائية بأسعار أقل، أو كيانات سياسية صورية غالبيتها بالتعيين.

ولهذا كان سعى هؤلاء لإفراغ المشهد السياسى بالبلدان العربية من مضمونه، حيث البرلمانات الصورية، واستغراق العمل النقابي في أمور هامشية كعلاج الأعضاء وصرف المساعدات، والإعلام السلطوي الذي يبرر قرارات الحكام ويبشر بجنى ثمار الإصلاح خلال السنوات المقبلة مع إعادة تكرار نفس الوعود دوريا، والقضاء المُسيس الذي يمثل أداة السلطة لقمع المعارضين ولو لمجرد تغريده على وسائل الاجتماعي، والجامعات المعزولة عن قضايا المجتمع والمحاصرة لأية صحوة طلابية، بحيث يتم إفراغ طاقة الطلاب في الرحلات والحفلات والمسابقات الرياضية.

تدفع الشعوب العربية والإسلامية ثمن تقاعسها منذ سنوات طويلة عندما انخدعت بشعارات الانقلابات العسكرية، وعندما رضيت بنظم الحكم الوراثية، وعندما سكتت عن نصرة ضحايا النظم القمعية في مصر وسوريا والخليج وكذلك في ميانمار والصين وروسيا، وعندما انخدعت بدعاوى الإصلاح الاقتصادي من قبل المؤسسات الاقتصادية الدولية، لتزيد معدلات الفقر والتضخم والبطالة فيها، والفجوات التنموية الجغرافية وسوء توزيع الدخل وغياب العدالة الاجتماعية
صمت غربي عن الانتخابات الصورية

ولم تعد ظاهرة المتفرجين العرب على مذابح غزة قاصرة عليهم بل امتدت إلى شعوب العالم الإسلامي، وبينما يتحرك الآلاف في بعض العواصم والمدن الغربية للمطالبة بوقف إطلاق النار، تخلو العواصم العربية من مثل تلك المواقف الشعبية، فيما عدا العاصمة الأردنية ورام الله وصنعاء وطرابلس اللبنانية ونواكشوط. والأسباب معروفة للجميع، حيث الطبيعة الدكتاتورية لنظم الحكم التي تمنع التظاهر، بينما تسمح به فقط للتهليل للحكام وللقضايا التي يحددونها.

وبالطبع لن يسمع أحد عن أي موقف غربي تجاه تلك النظم السلطوية والتي تعج سجونها بعشرات الآلاف من المعتقلين، طالما أنها مُنصاعة للمواقف الغربية وتستورد المنتجات والأسلحة الغربية التي لا تُستخدم، كما تسكت القوى الغربية عن انتخابات هذه الأنظمة الصورية وما يحدث فيها من تجاوزات صارخة، بينما تتحرك سريعا لإبعاد من لا يسيرون في فلكها كما حدث مع رئيس وزراء باكستان الذي كان مصيره ليس الإبعاد فقط بل ودخول السجن وتشويه السمعة.

وهكذا تدفع الشعوب العربية والإسلامية ثمن تقاعسها منذ سنوات طويلة عندما انخدعت بشعارات الانقلابات العسكرية، وعندما رضيت بنظم الحكم الوراثية، وعندما سكتت عن نصرة ضحايا النظم القمعية في مصر وسوريا والخليج وكذلك في ميانمار والصين وروسيا، وعندما انخدعت بدعاوى الإصلاح الاقتصادي من قبل المؤسسات الاقتصادية الدولية، لتزيد معدلات الفقر والتضخم والبطالة فيها، والفجوات التنموية الجغرافية وسوء توزيع الدخل وغياب العدالة الاجتماعية.

ومن هنا فإن حالة الخذلان تجاه الإبادة الجماعية في غزة والضفة الغربية تعود أسبابها لعقود مضت، حيث تحصد الشعوب ثمار تقاعسها على المستوى الصحي والتعليمي والثقافي والأخلاقي والاقتصادي، وها هي معدلات الأمية المرتفعة، ونسب الصادرات الصناعية المتدنية من مجمل الصادرات، ولا نقول نسب الصادرات التكنولوجية من الصادرات الصناعية كما تجرى المقارنات حاليا بين دول العالم لأن النسبة بالغة التدني.

موجات عنف متوقعة داخليا ودوليا

فنسب صادرات المواد الخام تتفوق من مجمل الصادرات، والتي يتم استيرادها كسلع صناعية بعد ذلك بأثمان مرتفعة، بما يضمن استمرار رفاهية المواطن الغربي، وحتى الفوائض المتبقية فلا بد من إيداعها أو استثمارها في تلك البلدان الغربية، كما يصعب استردادها عند الحاجة، ليكون البديل حينذاك هو الاقتراض الخارجي.

الشعوب العربية والإسلامية تدفع ثمن تخاذلها منذ سنوات، فيما يخص قضايا الحريات والابتعاد عن أنماط التنمية المطلوبة والتقاعس عن مساندة أشقائها المستضعفين. ولا يقتصر الثمن على الإحساس بالإهانة وهي تشاهد على الشاشات مشاهد الإبادة الجماعية في فلسطين، وهي عاجزة عن مجرد إدخال بعض الطعام للجوعى في غزة، ولكنه يمتد إلى تدهور أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حين ينغمس شبابها في الملذات والشهوات والإدمان هروبا من مواجهة الواقع الأليم والإحساس بالعجز
وكما تحققت تلك النتائج السلبية خلال عقود فإن علاجها أيضا سيحتاج إلى سنوات طويلة، خاصة وأن الغرب لن يسمح بوجود نظام ديمقراطي أو تجربة تنموية رائدة في المنطقة العربية، وسيستخدم صنائعه لاستمرار حالة الفرقة والتمزق الداخلي، والاعتماد على الغرب سلعيا وخدميا وعسكريا، كي تستمر الهيمنة للنظام الصهيوني.

وهكذا فإن الشعوب العربية والإسلامية تدفع ثمن تخاذلها منذ سنوات، فيما يخص قضايا الحريات والابتعاد عن أنماط التنمية المطلوبة والتقاعس عن مساندة أشقائها المستضعفين. ولا يقتصر الثمن على الإحساس بالإهانة وهي تشاهد على الشاشات مشاهد الإبادة الجماعية في فلسطين، وهي عاجزة عن مجرد إدخال بعض الطعام للجوعى في غزة، ولكنه يمتد إلى تدهور أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حين ينغمس شبابها في الملذات والشهوات والإدمان هروبا من مواجهة الواقع الأليم والإحساس بالعجز.

لكن هذا أيضا سينجم عنه حالة من عدم الانتماء والاغتراب وهجرة الكفاءات، وموجات من العنف تجاه المجتمع الذي أُهدرت كرامته وكُبتت حرياته، وتمت الحيلولة بينه وبين تحقيق أحلامه في المعيشة الكريمة؟ وستدفع بلداننا العربية والإسلامية ثمن تلك الموجات من العنف والغضب المكبوت حكاما ومحكومين، كما ستضرر مصالح الدول الغربية التي دعمت الحكام المتسلطين والمخلب الصهيوني في المنطقة وتسببت في المجازر الوحشية لسكان غزة.

twitter.com/mamdouh_alwaly

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الإسرائيلي العالم العربي الإبادة الجماعية إسرائيل غزة العالم العربي الاستبداد الإبادة الجماعية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعوب العربیة والإسلامیة العدوان الإسرائیلی الإبادة الجماعیة إطلاق النار القضاء على فی المنطقة منذ سنوات فی غزة

إقرأ أيضاً:

هل الأفكار المهاجرة يتم توطينها أم تأتي اختيارًا ؟

لا شكّ أن الأفكار ومنها النظريات والفلسفات والقيم عمومًا، تظهر في بيئات ومواطن وبلدان في كل الشعوب، وممكن للأفكار أن تهاجر من موطنها الأصلي، إلى دول وحواضر أخرى لظروف ومتطلبات كثيرة، وهذه الأفكار قد يتم تهجيرها عنوة إلى ثقافات وحضارات أخرى، لها ثقافتها الخاصة، ورؤيتها الفكرية والثقافية، التي قد تكون مغايرة للأفكار التي هُجرت ويتم توطينها في البلدان الأخرى، وقد يتقبل البعض أفكارًا من خارج بيئتها الأصلية، إما انبهارًا واعتقادًا من البعض أن الآخر ربما تقدم بسبب أفكاره ورؤيته المجردة، وإما تتقبل الأفكار لسبب آخر -سنشير إليه لاحقًا- لكن هذا فهم مغلوط للتقدم أو التحضر من خلال هذه النظرة القاصرة للثقافة والوعي المحدود للنهضة، لذلك التقليد لا يفيد هذا المقلد في شيء، ولا يعطيه الإبداع الذي هو أساس منهج التقدم والنهوض -كما حصل لشعوب أخرى- فالأفكار التي انتجت نهضتهم وتقدمهم ونجاحهم في العلوم والإدارة وغيرها من أسباب النهوض الأخرى، فحتى يتحقق لنا ما نسعى إليه مثلما حصل لتلك الدول الأخرى، والفرق شاسع بين أن نأخذ منهج العلم وأسس التقدم، وبين أن نقلد ونستهلك ما انتجه الآخرون، وهذا لا يحقق نهضة للمقلدين. أما هجرة الأفكار التي يراها البعض أنها مثل هجر البشر الآخرين، الذين يهاجرون من بلدانهم إلى بلدان أخرى، فهي إما للتعليم أو العيش الكريم، أو لأسباب أخرى، لكن الأفكار عندما تهاجر، لا يمكن قياسها بهجرة البشر، فقد تكون هجرة الأفكار ليس اختيارًا من شعوب أخرى ورغبتها في أن تحل ثقافة الآخر بدل ثقافتهم وقيمهم، لكن هذه الهجرة المفروضة تهدف إلى إقصاء أفكار وثقافات وقيم تلك الشعوب التي جاء المستعمر من خارجها لكي يسيطر عليها، ومحاولة إحلال أفكاره لتحل محل هذه الثقافة الأصلية بالترغيب حينًا وبالجبروت تارة أخرى وبتخطيط وتدابير للسيطرة.

وهذا التوجه لفرض الأفكار من خارجها حصل في دول كثيرة من الوطن العربي، وفي أوطان أخرى، الهدف هو نفسه تخريف ثقافة وقيم الشعوب، وهذه الأفكار التي يتم فرضها تسمى عند البعض غزوًا، ويسميها البعض اختراقًا أو اجتياحًا، وهذه الأفكار التي تفرض، أو إحلالها محل الثقافة الأصلية، بدعوى أن الثقافة الغربية -مثلًا- نجحت وتقدمت، وحققت نهضةً ضخمةً فكريةً وعلميةً وفلسفيةً، بسبب هذه الأفكار التي أسهمت في هذه النجاحات، لكن هذه المقاربة ليست دقيقة؛ لأن النهضة العلمية التي حصلت في الغرب لها منطلقات أخرى وحركة دؤوبة للخروج من التخلف والجمود أشرنا إلى أسبابها في كتابات سابقة، فالثقافة واللغة وسبل العيش، وتملكها كل الشعوب، لكن الجانب الذي حقق النهضة العلمية والتكنولوجية، كان تراكمًا لمعارف وعلوم ورؤى، من كل الحضارات السابقة، وتم الإضافة عليها من المبدعين لدى كل ثقافة، وهذه قضية معروفة، وهو ما حققته الحضارة العربية / الإسلامية في العصور الأولى للإسلام، لكن ما قام به الاستعمار ليس هدفه نهضة الأمم المستعمرة، بل هدفه التخريب ثم التغريب، وبعد ذلك نهب ثروات لتلك الشعوب بعد ربط هذه الأوطان بالمركز الغربي، وقد سعى إلى ذلك بأدوار حثيثة، وأهم هذه الأدوار الحط من الأفكار الأصلية، والحل في تطبيق اللغة والثقافة الوافدة، لتحل محل الثقافة الوطنية اللصيقة بفكر الأمة وقيمها ورؤيتها العامة، كما توارثوها عبر قرون مضت، صحيح أن رجالًا من علماء ومفكرين ومناضلين، تصدوا لهذا المخطط التغريبي، وواجهوه مواجهة باسلة بقدر استطاعتهم، خاصة في المغرب العربي، الذي كان شرسًا وقاسيًا في تطبيق ما يراه حقًا لصهر وتخريب ثقافتهم وإقصائها، خاصة الاستعمار الفرنسي، الذي كان مهووسًا، وخطط قبل حتى أن يعمد إلى الاحتلال بصورة دائمة لتلك الشعوب، واعتبر بعض دول المغرب العربي -الجزائر مثلًا- جزءًا لا يتجزأ من فرنسا ومشروعها الاستعماري الاستيطاني، واستعمل كل الوسائل لإبقاء هذه الدول مع فرنسا تابعة له، لكن هذه الشعوب قدمت التضحيات الأليمة والكبيرة للحفاظ على استقلالها وثقافتها وهويتها الوطنية، وهذا ما تحقق في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في المشرق العربي، وكذلك بقية دول المغرب العربي.

وفي فكرة أن المغلوب كما قال البعض من المهتمين بالفكر والتاريخ، دائمًا ينصاع لثقافة الغالب وفكره وسبل حياته وطريقة تفكيره، ومن هؤلاء الذين أشاروا لهذه الرؤية العلامة والفيلسوف العربي ابن خلدون، وهو أن: (المغلوب مولع باقتداء الغالب)، وهذه لا شك أن فيها الكثير من الصحة، كما حصلت عند الكثير من شعوب العالم، لكنها لا تخلو من تعثرات فكرية وتاريخية في الواقع، عبر التاريخ كونها ليست نظرة ثابتة وعامة عند الجميع، فقد ظهر شيء نادر الوقوع في التاريخ الإنساني، وهو أن الغالب يسلّم بفكر المغلوب، وليس العكس وينصهر فيه، ويتخلى عن ثقافته وقيمه، فعندما هجم التتار على البلاد العربية والإسلامية، واحتلوا بغداد ومصر والشام وجزءًا من العالم الإسلامي آنذاك، فإنهم أسلموا بعد ذلك، وذابوا في المحيط العربي الإسلامي، وهذا يعدُّ هجرةً لأفكار جاذبة للآخر الغالب لفكر المغلوب، أو انتصارًا لفكر المغلوب، وهذه من الحالات النادرة في التاريخ الإنساني.

ومن المفكرين العرب الكبار البارزين في القرن العشرين الذين اهتموا بقضية الصراع الثقافي، المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي، في العديد من مؤلفاته، منها كتبه: (مشكلة الثقافة)، وكتاب (مشكلة الأفكار)، وكتاب (قضية الصراع الثقافي مع البلاد المستعمرة)، وغيرها من الكتابات والمؤلفات الفكرية والسياسة والاقتصادية، وقد ركز في بعض هذه المؤلفات، على قضية الصراع الثقافي داخل بلده الجزائر، وما نتج عن ذلك من غرس المفاهيم الفكرية للمستعمر الفرنسي، بهدف استتباع هذا البلد لفكر الآخر ونظرته ومنها اللغة التي تعدُّ رأس الأفكار وأجلها، وأعطى هذه المسألة مصطلحًا متميزًا لفهم الهدف الاستعماري، وهي فكرة (القابلية للاستعمار)، بما يستهدفه من تغيير في النظرة النفسية والسلوكية للشعوب التي استُهدِفت من الدول التي قامت باحتلالها قسرًا، وإرغامًا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهذه الأهداف كما يرى ابن نبي، هي الأخطر من الاستعمار نفسه؛ لأن ذلك يتعلق بتقبل فكره ونموذجه ليسهل له ما يراه في نجاح خطوته الاستيطانية، لتصبح هذه الشعوب تابعًا له في كل توجهاته الفكرية والثقافية، وقابلة بذلك التوجه، ويقول ابن نبي لشرح فكرة الاستعمار لبلوغ أهدافه فيقول في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة): «الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار.. وهو نتيجة الصراع الفكري الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك في الظلام كل رؤية منهجية سليمة.. تفتح الطريق أمام حركة التاريخ». كما أكد مالك بن نبي على المفهوم نفسه في كتاب «شروط النهضة»، حيث تحدث عما يسمّيه «معاملين» فعلا فعلهما في الإنسان المستعمَر: «المعامل الاستعماري» و«معامل القابلية للاستعمار».

ولا شك أن النظرة الاستعمارية لها الكثير من الطرق والأساليب المتعددة التي تهدف إلى بسط سيطرته ونفوذه، وتقبل فكره وثقافته، وتخريبه للأفكار الأصلية لهذه الشعوب، وهناك تمايز جوهري بين الدول الاستعمارية في كيفية اتخاذ المواقف وتحويل الفكرة الناجحة والمؤثرة في التطبيق بوسائل ناعمة حينًا، وأحيانًا فرضها بالقوة في أحايين أخرى، وما يراه حقًا لصهر وتخريب ثقافتهم وإقصائها، وهذا كان قديمًا منذ ما يقرب من قرن.. لكن هل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي طرق متاحة لنقل الأفكار السلبية والمضادة للقيم الأساسية للشعوب الأخرى؟ وهذا ما يجب أن نأخذه في الحسبان راهنًا ومستقبلًا.

مقالات مشابهة

  • سياحة داخل نفس سودانية
  • «الكتاب العرب» يدعو الاتحادات العربية لاجتماع بشان الأحداث فى المنطقة
  • ”استحلفكم بالله هذا شكل صاروخ”؟.. الإعلامي الحربي ”محمد العرب” يعلق على صواريخ إيران التي ضربت اسرائيل!
  • المؤتمر العربي” يدعو الى فتح الأجواء والجبهات العربية والإسلامية أمام قوى المقاومة
  • كتاب الرياض يقيم محاضرة عن الإبل بعنوان “الإبل ودورها في التاريخ والثقافة العربية”
  • هل الأفكار المهاجرة يتم توطينها أم تأتي اختيارًا ؟
  • الأكاديمية العربية تشارك في اجتماع الأمانة الفنية لمجلس وزراء النقل العرب
  • قائد الجيش الإسرائيلي: إيران ستدفع الثمن
  • جورجينا توضح أكثر الكلمات العربية التي تستخدمها
  • أحمد الطيبي: يمكن اغتيال شخص أو فرد ولكن لا يمكن اغتيال الشعوب