كنت طبيبًا في العراق وأرى الكابوس مرة أخرى
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
بدأتُ دراسة الطب في أعقاب حرب الخليج. كان وقتا كئيبا لأن يلتزم المرء فيه بمهنة الشفاء. فقد دمرت العقوبات الأمريكية والقصف المتواصل بنيتنا الأساسية الطبية وجعلت حصولنا على الإمدادات الطبية أمرا محفوفا بالخطر. وسط الدمار كافحنا من أجل العلاج والعمل، وغالبا ما كان ذلك يجري باستخدام أقل الموارد.
دفع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 نظام رعاية صحية مترنحًا إلى حافة الهاوية. وأغرقت التفجيرات وعمليات مكافحة التمرد المستشفيات بالمدنيين المصابين بلا توقف. ومع تزايد أعداد المرضى وضيق الوقت، اضطر الأطباء وغيرهم من العاملين في المجال الطبي في جميع أنحاء البلد إلى اتخاذ قرارات موجعة وواقعية، بشأن من يمكنهم إنقاذه. ولعل الهجمات المباشرة على المستشفيات هي التي وجهت الضربة القاضية لقدرات الرعاية الصحية المتداعية في العراق، التي كانت في يوم من الأيام مصدر فخر في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
والآن يشهد العالم حربا أخرى يجري فيها تدمير نظام رعاية صحية كان يعاني بالفعل. فأنا أرى تماثلات مثيرة للقلق بين ما شهدته في العراق وما يجري في غزة، من انتشار نقص الإمدادات الأساسية إلى ارتفاع معدلات الإصابة إلى الاستهداف العسكري للمستشفيات. عندما يجري تدمير خدمات الرعاية الصحية والبنية الأساسية والخبرة في وقت الحرب، فإنها غالبا ما تضيع إلى الأبد. وفي غيابها، تهدد أزمة صحية عامة دائمة حياة الناجين الذين لا يجدون مكانا آخر يذهبون إليه. وباعتباري شخصًا كرَّس شطرا كبيرا من حياته المهنية لتوثيق العواقب الوخيمة التي تترتب على مهاجمة الرعاية الصحية، أشعر إزاء غزة أنني عشت هذا كله من قبل.
برغم أن استهداف المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية أثناء الحرب غير قانوني بموجب اتفاقيات جنيف، فقد تزايدت هذه الهجمات -ما عدا استثناءات محدودة للغاية- ازديادا حادا خلال العقدين الماضيين، خاصة في ظل مكافحة الإرهاب. ففي عام 2021، أفادت منظمة الصحة العالمية أن ما لا يقل عن 930 عاملا في مجال الرعاية الصحية تعرضوا للقتل في 600 هجوم خلال الحرب الأهلية السورية. إذ يبدو أن القوات السورية والروسية هاجمت المستشفيات بدعوى ضرب أهداف إرهابية.
ووقعت حوادث مماثلة في العديد من مناطق صراع أخرى منها اليمن والسودان وإثيوبيا وليبيا. ومن الوقائع المؤلمة بصفة خاصة واقعة القصف الأمريكي لمستشفى الصدمات التابع لمنظمة «أطباء بلا حدود» في قندوز بأفغانستان عام 2015، بما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 42 شخصًا. وقد اعترفت الولايات المتحدة لاحقا بأن ذلك كان خطأ مأساويا، فالمستشفى الذي تم قصفه لم يكن في الواقع خاضعًا لسيطرة طالبان، كما قيل في أول الأمر. ونفذت روسيا أكثر من 1110 حملات هجومية على عمليات الرعاية الصحية في أوكرانيا منذ أن بدأت حربها -وهو أكبر عدد أحصته منظمة الصحة العالمية من الهجمات حتى الآن في أي أزمة إنسانية-، وقد شملت هذه الهجمات تفجير مستشفيات وتعذيب طواقم طبية واعتداءات على سيارات الإسعاف.
لقد بات مفهوم الأضرار الجانبية المدنية أمرا طبيعيا، وهذا أمر مثير للقلق؛ إذ يسفر عن استهداف المستشفيات، ويجعل قتل المرضى أو الجرحى أمرا عاديا، والنيل من الرعاية الصحية للمدنيين أثناء الحرب. أما في ما يتعلق بالصراع العالمي، فلم تعد المستشفيات ملاذا آمنا. ومع وجود مبررات ملائمة، تصبح المستشفيات بسهولة مواقع قتال.
وحينما تتحول المستشفيات إلى ساحات قتال، فإنها تتوقف عن تقديم الرعاية، بما يمهد الطريق أمام الأزمات الصحية التي تستمر لفترة طويلة بعد صمت الأسلحة. لقد رجعتُ، في فبراير الماضي، إلى العراق لمواصلة دراسة عن تأثير الحرب على الطفرة العالمية في البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. وكانت الأمم المتحدة على مدى العقد الماضي تقرع ناقوس الخطر بشأن مقاومة مضادات الميكروبات -أي مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية وأدوية أخرى- متوقعة أن تتسبب في 10 ملايين حالة وفاة سنويا بحلول عام 2050.
في مناطق النزاع، يؤدي انهيار البنية الأساسية للرعاية الصحية والاستعمال غير المحدود للمضادات الحيوية إلى انتشار البكتيريا المقاومة إلى ما هو أبعد من مناطق الأعمال العدائية المباشرة. وأحد أمثلة ذلك هو البكتيريا العراقية، أو الراكدة البومانية، وهي بكتيريا خارقة جلبها إلى المستشفيات الأمريكية الجنود المصابون الذين خدموا في العراق وأفغانستان. تصيب البكتيريا العراقية الجروح وتنتشر عبر مجرى الدم لتتسبب في مجموعة من المشاكل الطبية، ومنها تعفن الدم والتهاب السحايا وفقدان الأطراف والوفاة. وقد أدرجت دراسة نشرت عام 2022 في مجلة ذي لانسيت البكتيريا العراقية باعتبارها واحدة من أكثر 6 أسباب الأمراض فتكًا بين أسباب الأمراض المقاومة للأدوية. وهذه العوامل المسببة كلها مسؤولة عن ملايين الوفيات.
خلال الشهر الذي أمضيته في العراق، قضيت بعض الوقت بين أنقاض الموصل، معيدا الاتصال بمدينة ذكريات طفولتي ومولد أبي. يقال: إن معركة الموصل في 2016-2017 واحدة من أكثر العمليات العسكرية الحضرية دموية منذ الحرب العالمية الثانية -وهي مقارنة تنطبق بشكل مخيف أيضا على الهجوم الإسرائيلي على غزة. فعلى مدى 9 أشهر طويلة، قاتلت قوات الأمن العراقية بدعم من الولايات المتحدة لاستعادة المدينة من مقاتلي داعش. وشهدت المعركة، التي تميزت بقصف جوي مكثف، تحوّل مرافق الرعاية الصحية إلى ساحات قتال مركزية ومتعمدة. فتعرضت 9 من المراكز الطبية العامة الـ13 التي تخدم الموصل والمجتمع المحيط بها لأضرار بالغة.
سقتُ سيارتي ذات أصيل بجوار أنقاض مجمع مستشفى الشفاء، الذي كان في السابق هو الأكبر في المدينة. فحيثما كان يوجد مستشفى رئيسي هائل، لم أر غير قشرة. فقد كان الهيكل المقبور، الذي يكشف عن ألواح خرسانية وقضبان ملتوية، يقف على الضفة الغربية لنهر دجلة شاهدا كئيبا على الخسارة التي منيت بها المدينة. بعد مرور 6 سنوات على المعركة، لم تزل ندوب الحرب بادية في كل مكان. الأحياء التي محيت خلال الحرب لم تزل خربة. مستشفيات المدينة العامة كلها خراب، برغم جهود إعادة الإعمار، والعديد من العائلات النازحة لم تعد إلى ديارها بعد. والعيادات المحلية لا تزال تعاني من ضغوط شديدة، كما أن المعدلات مقاومة المضادات الحيوية من بين الأعلى في المنطقة. وتشكل مياه الصرف الصحي في الموصل ـ وهي مزيج خطير من النفايات السامة والحطام ـ تهديدا لمن يعانون بالفعل من مشاكل صحية.
لا يسلط تدمير الموصل الضوء على الأثر المادي المباشر للحرب فحسب، بل يسلط الضوء أيضا على مدى صعوبة إعادة بناء الخدمات الأساسية في أعقابها. فهو شاهد حي على أن أزمات الرعاية الصحية تنزع إلى مفاقمة بعضها بعضا، بما يُوجد بيئات خطيرة بشكل لا يصدق بعد فترة طويلة من توقف الأعمال العدائية.
وطغت محنة غزة على الدمار الذي شهدته في الموصل ومناطق الصراع الأخرى، بارتفاع معدلات الوفيات والإصابات إلى مستويات ما كان يمكن تصورها. وما بوسع سكان قطاع غزة، الذين تقطعت بهم السبل، في ما يرقى إلى ديستوبيا للصحة العامة، أن يهربوا، كما هو الحال في الصراعات الأخرى. في شمال غزة، أغلقت جميع المستشفيات تقريبا أبوابها بسبب نقص الكهرباء والصرف الصحي والمياه النظيفة والغذاء ومستلزمات الرعاية الصحية الأساسية. ويكافح الأطباء من أجل توفير الرعاية للشباب وسط عجوزات حادة. يواجهون إصابات غير عادية، مما قد يشير إلى تجربة أسلحة جديدة في الصراع، فضلا عن تعرضهم شخصيا للقتل. وحذر تقرير لمنظمة «أطباء بلا حدود» نشرته مجلة «ذس لانسيت» الطبية الشهر الماضي من أن مقاومة مضادات الميكروبات قد تكون كامنة باعتبارها «تهديدا صامتا» في القطاع. والأطفال الرضع يخضعون للرعاية بينما الدبابات والقناصة على أبواب المستشفى. والأدهى من ذلك كله أنه لا يبدو له من نهاية في الأفق.
منذ أن بدأت كتابة هذا المقال، وردت تقارير جديدة عن أمراض واسعة الانتشار تجتاح غزة. وكأن الدمار الجوي لم يكن كافيا، أدى الهجوم الإسرائيلي على غزة إلى تفجير قنبلة موقوتة على الصحة العامة. والأمر الحتمي واضح: لابد من إنهاء فوري للحرب، ولابد من ضخ مساعدات إنسانية كبيرة، ولابد من استعادة الخدمات الطبية والجراحية في غزة. ولا ينبغي للعالم أن يكتفي بالوقوف مشاهدا استهداف المرضى والمحتضرين، مهما تكن المبررات العسكرية.
عمر ديواتشي مؤلف كتاب «Ungovernable Life: Mandatory Medicine and Statecraft in Iraq». وهو عالم أنثروبولوجيا وطبيب في جامعة روتجرز.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرعایة الصحیة فی العراق
إقرأ أيضاً:
تعرف على المخاطر الصحية الجسيمة التي يتعرض لها من ينامون أقل من 8 ساعات يوميا
صورة تعبيرية (مواقع)
يشير العديد من الخبراء إلى أن النوم الكافي يعد من أسس الصحة الجيدة. ورغم ذلك، فإن العديد من الأشخاص يواجهون صعوبة في الحصول على قسط كافٍ من النوم يوميًا، ويكتفي البعض منهم بالنوم أقل من 8 ساعات.
في هذا السياق، أكدت دراسات عديدة أن قلة النوم قد تكون لها عواقب صحية خطيرة، قد تؤثر بشكل مباشر على وظائف الجسم والعقل على حد سواء.
اقرأ أيضاً كيف تعرف زيت الزيتون الأصلي من المغشوش بطرق بسيطة؟: لن تنخدع بعد الآن 15 مارس، 2025 الكشف عن أطعمة تحارب سرطان القولون والمستقيم: ستنقذ حياتك 14 مارس، 2025زيادة خطر الإصابة بالأمراض القلبية:
النوم لمدة أقل من 8 ساعات قد يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر في الجسم، ما يرفع من احتمالية الإصابة بالأمراض القلبية.
في دراسة حديثة، تبين أن الأشخاص الذين ينامون أقل من 6 ساعات يوميًا يكونون أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية مقارنة بمن يلتزمون بالنوم الكافي.
ضعف الجهاز المناعي:
يؤثر النوم غير الكافي بشكل مباشر على قدرة الجسم في مكافحة الأمراض. أثناء النوم، يقوم الجهاز المناعي بتعزيز قوته عن طريق إنتاج خلايا الدم البيضاء التي تحارب العدوى.
وعندما يقل النوم عن 8 ساعات، يقل إنتاج هذه الخلايا، مما يزيد من عرضة الجسم للإصابة بالأمراض المختلفة مثل الزكام والإنفلونزا.
زيادة خطر السمنة:
أظهرت دراسات أن نقص النوم يؤدي إلى تغييرات في هرمونات الشهية، مما يجعل الأشخاص الذين ينامون أقل من 8 ساعات أكثر عرضة للشعور بالجوع والإفراط في تناول الطعام.
كما أن قلة النوم تؤدي إلى اضطراب في التوازن الهرموني، مما يساهم في زيادة الوزن وزيادة خطر الإصابة بالسمنة.
تأثيرات سلبية على الصحة النفسية:
النوم غير الكافي له تأثير كبير على الصحة العقلية. فالأشخاص الذين ينامون أقل من 8 ساعات يوميًا يواجهون زيادة في مستويات القلق والاكتئاب.
كما أن قلة النوم تؤثر على القدرة على التركيز والتفكير السليم، مما يزيد من احتمالية الإصابة باضطرابات المزاج.
ضعف الذاكرة والتركيز:
إذا كنت لا تحصل على النوم الكافي، فإن ذلك قد يؤثر سلبًا على قدرتك على التركيز والتذكر.
خلال النوم العميق، يعالج الدماغ المعلومات التي تم تخزينها طوال اليوم ويساعد على تعزيز الذاكرة والتعلم. لذا، إذا كانت ساعات نومك أقل من 8 ساعات، فإن قدراتك المعرفية قد تتأثر.
التأثير على البشرة والشعر:
النوم هو الوقت الذي يتم فيه تجديد الخلايا وإصلاح الأنسجة. لذلك، فإن قلة النوم تؤدي إلى ظهور الهالات السوداء حول العينين و البشرة الباهتة، كما قد تتسبب في تساقط الشعر وزيادة الشيب المبكر.