بقلم: ماهر المهدي- القاهرة (زمان التركية)_ لا شيء يسقط من دفتر الأيام والأحداث حول العالم، وعشرات السنين لم تمح ما ارتكب على أيدي ساسة دوليين ذوي مكانة رفيعة في بلاد أخرى، دفاعًا عن مصالحهم ودفعًا للضرر السياسي الذي قد يتعرضون له أو قد يتعرض له مستقبلهم السياسي. فكلما بعد الزمن عن تاريخ الحدث ازدادت الرؤية وضوحًا وظهرت تفاصيل الصورة وتفاصيل الحدث كما لم تظهر من قبل.
فما لم يعرفه أحد ولم تصوره الكاميرات تلفظه الذاكرة التي أرهقها الزمن وطول المشوار وألم المسؤولية وأسئلة الضمير وتقديرًا للحظة الغياب وحكم التاريخ وهم غائبون. وكلما ظهر جزء من التفاصيل الغامضة المكتسية باللون الرمادي ارتسمت علامات الدهشة على وجوه المطلعين، لترابط الظروف الدولية في مواقع تبعد كثيرًا عن بعضها في الواقع وعلى الخريطة وتفرق بينها مسافات عظيمة. وقد يحدث أن يفصح أو يعترف أحدنا عن مسؤوليته عن عمل جسيم أحدث دمارًا هائلًا في بلد ما قبل عقود قليلة أو كثيرة، وربما تسبب أيضًا في سلسلة طويلة من الخسائر البشرية والمادية لمجتمع إنساني آخر. بل ربما ما زال المعترف يتسبب في مزيد من الخسائر لأناس كثيرة، بما قدمت يداه هو من قبل. والآن، وبعد العقود الكثيرة التي مرت قد يحتاج الباحثون الى طرح أسئلة لا يمكن تجاهلها. من هذه الأسئلة: لماذا لم يفكر أحد في البلد المصاب -في حينه- في تلك العلاقة التي تجمع بلده ببلد خطير لا يمكن تجاهله وتجاوزه دون تدبر وتخطيط ويحتسب لرد فعل ذلك البلد وما قد يقدم عليه ساسته من تدابير خطيرة دفاعًا عن فكرهم وعن مستقبلهم؟ فالظاهر الآن أن القارئ المحترف للأحداث وللشخصيات لم يكن له أن يخطئ في استشراف الخطر والتهديد الكبيرين المحتملين في ذلك الوقت العصيب. ومن تلك الأسئلة أيضًا: هل ينجح البعض في الهروب من الحساب؟ أم أن الحساب يلاحق الجميع بالحق ويسترد ما له سليمًا غير منقوص ممن بسطوا إليهم أيديهم بالاعتداء من قبل؟
إن رؤية الحقيقة بعد العقود الطويلة الكثيرة قد لا يقل ألمًا عن ألم معاصرة الأحداث. فمن يعاصر الأحداث قد لا يرى من الحقيقة إلا قليلًا، لأنه جزء من الصورة، ولكن الألم يدهسه ويمزق جسده ومشاعره وعمره ويتركه ذكرى هنا أو هناك للأجيال التالية .
Tags: الذاكرةحساباتماهر المهدي
المصدر: جريدة زمان التركية
كلمات دلالية: الذاكرة حسابات ماهر المهدي
إقرأ أيضاً:
شمسُ الحق وشعاعُ الحقيقة في عصر الظلام
طلال محمد الحمامي
إن عالم اليوم يعيش في ظل عصرٍ تتزاحم فيه الأحداث، وتتضارَبُ فيه المواقف، ويغمرُه الضباب، والشكوك، والحذر. ويبرز الحق والحقيقة كمنارة مشعّة في ظلام الجهل والتضليل. إن السعي وراء الحقيقة رحلة ليست بالسهلة، لكنها ضرورية لبناء الأُمَّــة الحرة في وعيها، لتصبح قادرة على مواجهة التحديات والأخطار.
تعتبر القضية الفلسطينية شمس الحق المشعة على ظلمات قوى الاستكبار وثلاثي الشر: أمريكا، وبريطانيا، و”إسرائيل”. لقد فشلت تلك القوى في طمس القضية الفلسطينية، بالرغم من حجم الاستهداف الممنهج للإسلام في نهجه قبل أرضه من قبل دول استعمارية، نشأت على الظلم وسفك الدماء وسلب الحقوق. ومعروفٌ ما فعلته أمريكا بحق الهنود الحمر؛ إنه الشيء نفسُه الذي تمارسه “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، حَيثُ يقتلون الأطفال والنساء، وينتهكون الحرمات دون اعتبار لأيٍ من المبادئ والقيم.
ولا تتوقف أهدافهم عند ذلك، بل يسعون لما هو أكبر لإقامة ما يدعون أنه “دولة يهودية” تشمل بلدانًا عربية عدة من النيل إلى الفرات، وليس فلسطين وحسب، غير مكترثين بما سينتج عن ذلك من مصادرةٍ لحقوق شعوبٍ بأكملها، وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني.
يرى هؤلاء في الأرض العربية منطقةً استراتيجيةً للسيطرة على العالم، وهذا خطرٌ مستفزٌّ بالنسبة للعرب أولًا، وللبشرية جمعاء.
وفي المقابل، أصبحت الأُمَّــة الإسلامية بين خيارين: إما السلة وإما الذلة، ودينها يفرض عليها التحَرّك تحت عنوان الجهاد لدفع الشر عن البشرية كلها، فكيف بها وهي المستهدفة؟ وللأسف، ظهر من أبناء الأُمَّــة تيارٌ يعمل لصالح أمريكا و”إسرائيل”، وينخر في الأُمَّــة من داخلها من خلال نشر الفتن وتدجين الشعوب باسم الدين، حتى أصبحوا جنودًا يتحَرّكون وفق ما تريد أمريكا وترغب به “إسرائيل”، جاعلين من ثرواتهم ودمائهم وسيلةً تستغلها أمريكا للقمع ومواجهة كُـلّ من يسعى للتصدي لخطرها، تمامًا كما يعمل النظام السعوديّ استجابة لما تريد أمريكا، حَيثُ قاد تحالفًا على اليمن، وزج بقيادة من “حماس” في السجون دون أي مبرّر أَو ذنب سوى الرضوخ لأمريكا.
ومع كُـلّ ذلك، لم يستطيعوا الخروجَ من مربع الفشل والهزائم على طول تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وُصُـولًا إلى معركة (طُـوفَان الأقصى)، حَيثُ كانت الضربة القاصمة لظهر الكيان الصهيوني والفاصلة بين الحق والباطل. بعد عام وشهر من تلك العملية الخالدة، يجب أن نقف قليلًا ونسلط الضوء على أبرز المواقف والحقائق المهمة، حتى نعرف أين موقعنا من الصراع.
أليس الشعب الفلسطيني شعبًا مسلمًا؟ أليست غزة المحاصَرة جزءًا لا يتجزأ من أرض الإسلام، وأهلُها مسلمون؟ أليس المسجد الأقصى أولى القبلتين ومسرى خاتم الأنبياء والمرسلين؟ إذًا، لماذا لم يقف المسلمون لنصرتهم، ويستمعون لصراخهم وندائهم؟ لماذا لا يزعجهم حديث النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، حَيثُ قال: “من سمع مناديًا ينادي يا للمسلمين ولم يجب فليس من المسلمين”؟ كم صرخ أطفال غزة: “أين العرب؟ أين المسلمون؟” لكن اليأس كان دائمًا يجيبهم قائلًا: “عذرًا، لا حياة لمن تنادي”.
لقد غلب الصمت على أُمَّـة الإسلام، وخيّم عليها التخاذل. وبين هذا التفريط الفظيع والظلمة الموحشة، كان الله حاضرًا، لم يكن غافلًا عن تلك المظلومية الفظيعة والوحشية الرهيبة. ومن يؤمنون وحدهم يدركون معنى قوله تعالى: “وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ”.
وعوضًا عن التخاذل والصمت المخزي، اقتضت إرادَة الله أن تكون جبهات الجهاد والإسناد في اليمن وإيران والعراق ولبنان خير أُمَّـة أخرجت للناس، تنصر المظلومين في غزة ولبنان، وتستهدف قوى الاستكبار حيثما كانت، في البر والبحر والجو. لقد كسرت هذه الجبهات معادلة الصمت والاستضعاف، ودحضت حجج المطبعين والمتربصين، فما كانت لتكون لولا أنها آمنت بعدالة قضيتها وحتمية انتصارها، حَيثُ اتخذت من الجهاد عنوانًا للانطلاق، ومن الصبر ثباتًا على الموقف، ومن الإرادَة طوفانًا وعنفوانًا.
وهنا يتجلى لنا أن فلسطين كانت وما زالت وستبقى حصنًا منيعًا وقلعةً شامخة بأبطالها، تحميها جبهات الإسناد، جبهةً باطنها الرحمة وظاهرها من قبلها العذاب على اليهود الصهاينة والمطبعين المتصهينين. وإن طال زمن البطش والجبروت، فالنصر صبر ساعة أَو هو أقرب.