من بريطانيا إلى إسرائيل.. هكذا هدم المحتلون مباني غزة وآثارها
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
على مدار تاريخها، نالت غزة عدة ألقاب أبرزها "حمراء اليمن" و"غزة هاشم" كما يذكرها التعبير العربي القديم، و"سيدة البحور" كما يصفها التعبير اليوناني والروماني، وفي وصف الرحالة العرب هي أول الشام من جهة مصر، وهي بوابة آسيا ومدخل أفريقيا كما قال نابليون، كما وصفها جورج آدم سميث بأنها "ميدان تطاحن الأمم" (1).
كانت المدينة بوابة أفريقيا للغزاة القادمين من آسيا، وطريق المتنقلين بين العراق وسوريا، ووادي النيل وأهم المدن على ساحل البحر المتوسط، وبسبب هذا الموقع شهدت غزة حقبا من الازدهار والإعمار، كما تعرضت مرارا للنهب والدمار.
وبينما تجد ذكر مدينة غزة في أقدم المصادر التاريخية، فإن المباني التاريخية فيها لا تعكس ذلك القِدم بالقدر ذاته، فهي قليلة ومتناثرة، مثل الجامع العمري وقصر الباشا وسوق القيسارية وبعض المنازل والمساجد والكنائس التاريخية، ذلك أن مشاهد الهدم في المدينة تكررت عبر تاريخها عدة مرات وتغير معه طابع العمران (2).
الحرب العالمية الأولى.. التدمير الأكبر
عسكريا، كانت غزة محطة مهمة على طريق الجيوش القادمة من الشام إلى مصر والعكس، إذ استقرت في المدينة للتموين والتأهب للحرب. كان ذلك خلال عصر المماليك والحروب التي نشبت بين أمرائهم، وفي زمان العثمانيين حين شهدت معركة فاصلة بين السلطان المملوكي طومان باي والجيش العثماني سبقت معركة "الريدانية" الشهيرة.
حضرت غزة أيضا خلال سنوات الحملة الفرنسية، فحين اضطر نابليون للانسحاب من كل المدن الشامية دمر جيشه الكثير من التراث المعماري، ففقدت البلدة القديمة في غزة ما تبقى من أسوارها، وعددا من المساجد التاريخية مثل جامع البيمارستان ومدرسة قايتباي والمدرسة الكمالية.
وخلال القرن العشرين وحده، شهدت المدينة تغيرات جوهرية غيَّرت وجهها العمراني، إثر الدمار الواسع الذي تعرضت له على يد الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى، ففي عام 1917، كانت غزة ميدانا لمعركة حامية بين الجيش البريطاني والجيش العثماني. في البداية، كان النصر حليف العثمانيين، ثم تغيرت وقائع المعركة بوصول المزيد من الذخائر والمدافع والعتاد للإنجليز، فأصدر الجيش العثماني أوامره إلى أهل غزة بإخلاء المدينة، فرحلوا إلى القرى المجاورة، وانطلقت المدافع الإنجليزية تدمر المدينة الخالية من أهلها (3).
لدى عودتهم فوجئ أهل المدينة بتحوُّلها إلى خراب، إذ دُمر ما يقرب من نصف مبانيها، فضلا عن تأثُّر ما بقي منها بسبب محاولات الجيش العثماني استخدام الأبواب الخشبية والأثاث والسقوف لتشديد التحصينات، وهكذا اختفى عدد كبير من المباني التاريخية التقليدية فيها، كما تقلصت مساحة البلدة القديمة (4).
كان أبرز المباني الأثرية التي دمرتها الحرب مسجد الشيخ منصور ومسجد كاتب ولاية في حي الزيتون، كما دُمرت مئذنة المسجد العمري الكبير بالكامل وكذلك الرواق الشرقي من صحن الجامع، بالإضافة إلى أجزاء كبيرة من السقف وبعض الأعمدة (رُمِّمت كل تلك الأجزاء وأُعيد بناء الجامع العمري الكبير لاحقا) (5).
مطالبات بالتعويض
بعد انتهاء الحرب، وخلال الفترة التي سبقت النكبة عام 1948، نشرت الصحف الفلسطينية أخبارا عن مطالبات سكان غزة بالتعويض نظير الدمار الذي لحق بممتلكاتهم. على سبيل المثال، نشرت صحيفة اليرموك في أكتوبر/تشرين الأول عام 1925 عن مطالبة رئيس بلدية غزة عمر الصوراني المندوب السامي البريطاني خلال الفترة بين عامي 1925-1928 هربرت بلومر بإعمار غزة، ووصف له كيف يعاني أهلها لإعمار ما خربته الحرب من بيوت وأراضٍ زراعية، ونشرت أيضا عن وعد بلومر له بالمساعدة.
وفي مارس/آذار عام 1932، نشرت صحيفة "مرآة الشرق" خبرا عن مطالبة رئيس بلدية غزة فهمي الحسيني المندوب السامي حينها آرثر غرينفيل وايكهوب بإعمار المدينة أيضا التي صارت خلال الحرب العالمية الأولى "ساحة حربية للجيوش المتقاتلة"، وذكر الحسيني في مطالبته معاناة أهل غزة الذين أُجبروا على الهجرة من مدينتهم، وعادوا إليها ليجدوها "خرابا"، وأكد أن التعامل مع المدينة كان سيختلف لو كانت مدينة أوروبية دمرتها الحرب (6) (7).
تدمير متتابع
بعد الدمار الكبير الذي خلَّفته الحرب العالمية الأولى، استبدلت مبانٍ خرسانية الكثير من المباني الأثرية في غزة، وخلال فترة الانتداب البريطاني بين عامي 1918-1948 هُدم المزيد من المباني الأثرية بحيث لم يعد لها أثر، بحجة شق الطرق وتوسيعها، مثل جامع الشيخ الأندلسي الذي هُدم لشق شارع فهمي بيك، وتعرضت المرافق والمؤسسات الدينية من مساجد وزوايا وتكايا وأسبلة للإهمال الشديد، ما أدى إلى انهيار بعضها وتحوُّلها إلى أماكن مهجورة عُرفت بـ"الخرائب".
وفي أعقاب نكبة عام 1948، وما صحبها من هجرة إلى غزة، ومع الحاجة إلى إيواء أعداد كبيرة من السكان، ظهرت مخيمات بُنيت دون تخطيط كان بعضها فوق مواقع أثرية (8). في غضون ذلك، كان الهدم إحدى السياسات التي اتبعتها سلطات الاحتلال لقمع العمل الفدائي في غزة، وقد ظهر ذلك أوضح ما يكون في حملة عام 1971، حين أصدر أرييل شارون -وكان قائدا للجبهة الجنوبية لجيش الاحتلال حينها- أوامره بالقتل المباشر لكل المشتبه بهم، وهدم مباني المدينة ومرافقها لتمكين قوات الاحتلال من التحرك بعرباتها العسكرية داخل المخيمات بسرعة (9).
استمرت سياسات الهدم خلال حروب إسرائيل على غزة في العقدين الأخيرين. ففي حرب عام 2008، تعرضت مبانٍ أثرية للتدمير الكلي مثل مبنى قصر الضيافة (10). ووفق وزارة الأشغال العامة في قطاع غزّة، فهناك نحو ألفَيْ حالة هدم كلي لم يُعَد إعمارها منذ عدوان عام 2008 حتى اليوم، وما يزيد على 90 ألف حالة هدم جزئي لم يتم إصلاحها بعد (11). يمكن القول إن المظهر الحالي للهيكل العمراني لمدينة غزة كان يمكن أن يكون مختلفا تماما دون هذه التأثيرات من الحروب والدمار، أضِف إلى ذلك الانفصال العميق بين مَن يخططون للمدينة ومَن يعيشون فيها، منذ حقبة حكم العثمانيين، ثم الانتداب البريطاني، وأخيرا الاحتلال الإسرائيلي، ما ألقى بظلاله على الطابع العمراني للمدينة (12).
العمران المقاومتخلق سياسة الهدم واقعا جديدا، وهي إحدى أدوات الاستعمار في فرض هيمنة رمزية على التاريخ، بما يعنيه من تجسيد للهوية والذاكرة. لكن للمفارقة، فإن تلك البنايات المهدومة والمهجورة تلعب دورا في خدمة المقاومة، حيث يستغلها المقاومون لممارسة التكتيكات العسكرية في الهجوم والانسحاب والقنص والمراقبة، نظرا لمعرفتهم المتأصلة بالمكان التي يفتقر إليها خصومهم.
ليس ذلك فحسب، فالبناء المهدم يحمل قيما اجتماعية ونفسية وتاريخية، وهو يمتلئ بالمعاني تماما مثل البناء الأثري (13)، وينطبق ذلك حتى على البيوت بالنسبة إلى أصحابها. لذلك، غالبا ما يثير الحديث عن إعادة إعمار المناطق التاريخية جدلا حول الاختيار بين إعادة بنائها لتبقى شاهدة، أم تركها مدمرة باعتبار ذلك شهادة أيضا على ما حدث. وبغض النظر عن هذا الجدل، من المؤكد أن فكرة إعادة الإعمار تحمل في طياتها روح المقاومة لدمار الحرب، وتحويل مأساتها إلى عملية تنموية للنهوض بالمجتمع وتجاوز المحنة، أما المباني التي كانت هنا منذ زمن، فإنها تبقى حية دائما في الذاكرة، وفي هذا نوع آخر من المقاومة ضد الزمان والنسيان (15).
—————————————————————————————————-
المصادر غزة وقطاعها – سليم عرفات المبيض معارك مروعة مهدت الطريق لوعد بلفور.. الحرب العالمية الأولى وبداية التغريبة الفلسطينية من غزة تاريخ غزة سلسلة المدن الفلسطينية – قصة مدينة غزة "واقع التراث الميداني لمدينة غزة في ظل الحروب والكوارث الطبيعية" المؤتمر الدولي الثاني للحفاظ المعماري – ابريل 2010 معارك مروعة مهدت الطريق لوعد بلفور.. الحرب العالمية الأولى وبداية التغريبة الفلسطينية من غزة مقبرة الإنكليز في غزة لوحة جمالية ومزار تراثي شاهد على تاريخ فلسطين القديم "واقع التراث الميداني لمدينة غزة في ظل الحروب والكوارث الطبيعية" المؤتمر الدولي الثاني للحفاظ المعماري – ابريل 2010 التخطيط الحضري لقطاع غزة: عمران مغمور بالاحتلال والحصار "واقع التراث الميداني لمدينة غزة في ظل الحروب والكوارث الطبيعية" المؤتمر الدولي الثاني للحفاظ المعماري – ابريل 2010 غزة: 1980 حالة هدم كلي لمنازل السكّان منذ عدوان 2008 التراث المعماري في مدينة غزة إسرائيل والبيت الفلسطينيّ… كلّ هذا الهدم التراث العمراني وإعادة الإعمار عرض كتاب عمارة المقاومةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الحرب العالمیة الأولى مدینة غزة فی لمدینة غزة فی غزة
إقرأ أيضاً:
محافظ بنك إسرائيل: تبعات الحرب سترافقنا لسنوات طويلة
في تقرير سنوي هو الأشد لهجة منذ سنوات، حذر بنك إسرائيل من أن الخطوات التي تضمنتها ميزانية عام 2025 ليست كافية لمعالجة التحديات الاقتصادية الخطيرة التي تواجه البلاد بعد الحرب، داعيًا إلى إعادة ترتيب الأولويات الحكومية والتوقف عن تقليص الإنفاق في مجالات حيوية كالتعليم والنقل والبنية التحتية.
وجاء في مقدمة التقرير -الذي نقلته صحيفة كالكاليست-، والتي كتبها محافظ البنك أمير يارون، أن "الاقتصاد لم يعد بعد إلى وضعه السابق للحرب، وتبعات الحرب سترافقنا لسنوات طويلة". وأشار إلى أن تكاليف الحرب المتراكمة سترهق الموازنة العامة وتؤدي إلى عجز هيكلي متزايد، مما يتطلب تعديلات جذرية في السياسة المالية.
عجز متزايد وتكاليف الحربووفقًا للتقرير الذي نشره موقع "كالكاليست"، يتوقع بنك إسرائيل أن تصل التكاليف الإضافية للحرب إلى نحو 50 مليار شيكل (13.6 مليار دولار)، تشمل:
الإنفاق الأمني. تكاليف إعادة الإعمار. الدفع للفوائد.في المقابل، تبلغ التعديلات الدائمة التي أقرتها الحكومة في الميزانية حوالي 30 مليار شيكل (8.13 مليار دولار)، مما يخلق فجوة تمويلية تهدد برفع العجز إلى نحو 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي.
ورأى التقرير أن هذا العجز غير كافٍ لتثبيت نسبة الدين إلى الناتج المحلي، التي قفزت إلى 68% بعد الحرب، محذرًا من أنه في حال لم يتم تقليص العجز بشكل ملموس، فإن إسرائيل قد تواجه صعوبات في تمويل الدين العام وتهديدًا لتصنيفها الائتماني.
إعلان تصنيف ائتماني مهددوأشار البنك إلى أن خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل من قبل وكالات التصنيف العالمية لا يرتبط فقط بالحرب، بل أيضًا بسوء إدارة الحكومة للميزانية، وتأخرها في إقرار موازنة عام 2025، وامتناعها عن تقليص المصاريف التي لا تساهم في النمو أو تمويل الحرب.
وأضاف التقرير أن الأسواق بدأت تسعّر المخاطر على أساس تصنيف بين "بي بي بي" و"بي بي بي-"، وهي مستويات أدنى بكثير مما تمنحه حاليا وكالات مثل موديز أو فيتش. كما كشف أن بعثة من وكالة فيتش كانت في إسرائيل مؤخرًا لجمع معلومات حول الأزمة السياسية والمالية، وأن التصعيد الأخير قد يدفع الوكالات إلى اتخاذ خطوات سلبية.
تحذير من تخفيض الإنفاق في قطاعات حيويةأبرز ما ورد في التقرير هو التحذير الصريح من أن خفض الإنفاق على قطاعات مدنية مثل التعليم والنقل والبنية التحتية سيكون له أثر سلبي مباشر على النمو الاقتصادي. وأوضح البنك أن الاستثمار في هذه القطاعات في إسرائيل هو من بين الأدنى مقارنة بالدول المتقدمة، وأن أي تخفيض إضافي سيزيد من حدة النقص الموجود أصلًا.
وأكد التقرير أن محاولات الحكومات السابقة لتقليص الإنفاق المدني كانت أسهل لأنها بدأت من مستويات عالية، أما الآن، فالإنفاق المدني منخفض أصلًا، مما يصعب مهمة إجراء تخفيضات إضافية.
تحديات هيكلية طويلة الأجلوشدد بنك إسرائيل على أن الأزمة الحالية يجب أن تكون فرصة لإصلاح التحديات البنيوية العميقة في الاقتصاد الإسرائيلي، مشيرًا إلى:
مستويات فقر مرتفعة نسبيًا. إنتاجية منخفضة. استثمار عام ضعيف. معدلات توظيف متدنية في صفوف الحريديم والنساء العربيات. فجوات في المهارات الأساسية والتعليم.ودعا التقرير إلى تعزيز مشاركة كافة شرائح المجتمع في سوق العمل، لا سيما في قطاع التكنولوجيا، من خلال إصلاحات تعليمية وإزالة الحواجز البيروقراطية.
إصلاحات ضروريةوانتقد البنك بشكل غير مباشر السياسات الحالية للحكومة، موضحًا أن "الوضع القائم الذي يشهد تمويلًا عامًا ضخمًا ومتزايدًا لمؤسسات تعليمية لا تدرّس المنهاج الأساسي غير مقبول ويجب تصحيحه".
إعلانكما شدد على أن الشباب في إسرائيل يشكلون فرصة تنموية نادرة في ظل شيخوخة المجتمعات المتقدمة الأخرى، محذرًا من أن هذه الفرصة قد تضيع إذا لم يُستثمر في تدريب وتأهيل هؤلاء الشباب، خاصة مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى سوق العمل.
وختم بنك إسرائيل تقريره برسالة واضحة إلى صناع القرار: إن ميزانية 2025 (التي أقرها الكنيست أمس الثلاثاء) في شكلها الحالي غير كافية، وتتطلب إعادة تقييم شاملة لأولويات الدولة المالية والاقتصادية. وإذا لم يتم اتخاذ خطوات تصحيحية عاجلة، فقد تواجه إسرائيل مستقبلًا اقتصاديًا أكثر هشاشة وسط بيئة جيوسياسية ومالية متوترة.