بوابة الوفد:
2024-11-27@11:04:53 GMT

فى مصر فقط.. أرض المواطنة والمحبة

تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT

مواقف إنسانية تكتب اسم البابا تواضروس بحروف من ذهب

آباء الكنائس وشيوخ القرى.. صور تاريخية تعيدها الأحداث

البابا شنودة والشيخ الشعراوى.. صداقة تحت مظلة الوطن

البابا كيرلس السادس مواقف وطنية خالدة

 

 

(فمن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له)، بهذه الكلمات حث الكتاب المقدس فى مزمور «يع 17: 4»، على أهمية العمل الصالح وهكذا تُلبى الكنيسة المصرية الوصية فى تقديم دور إيجابى وتنموى على مر العصور وفى مختلف الأحداث.

 

لعبت الكنيسة دوراً بارزاً فى المجتمع المصرى يزداد بفعل السنوات والمواقف، وهو ما بدا واضحاً خلال الانتخابات الرئاسية التى أجريت الأسبوع الماضى على مدار 3 أيام، وهو حدث يقتضى إظهار قوة هذا البلد، ووقوف جميع أقطاب المجتمع يداً بيد حتى تخرج مصر فى صورة حضارية تليق بتاريخها العريق وشعبها القوى.

 

وفى ظل تفشى الحروب ونبرات العداء فى كثير من زوايا العالم تخرج مصر بنورها الساطع لتنير بمحبتها ظلام النفوس وتُسكت نبرات القتال، ويقف الشعب المصرى مترابطاً كالبنيان المرصوص تترابط أيادى الآباء بالكنائس وشيوخ المساجد ورجل المجتمع كلّ فى سبيله تحت مظلة واحدة وهدف وطنى مشترك، وتثبت طبيعة هذا البلد فى كل موقف يتوجب الدور الوطنى مدى قوة النسيج الذى تكون بفعل السنوات وأسس فى وجدان الأجيال المتعاقبة مفهوم المواطنة.

 

وعلى مدار السنوات تعكس الأحداث مدى قوة هذا البلد أمام النبرات التى تدعو لضلال الطريق والسير نحو العنف والتطرف، ولكنها المواقف والتحديات التى زرعت فى نفوس المصريين العزيمة والمحبة المُطلقة للآخر.

 

وكغيرها من المجتمعات الكبيرة يوجد من يُلوث صفوها ونقاء نيتها من الحين للآخر ويطفو موقف فردى لا يعكس سوى صاحبه قد يدعو لأحداث ضجر ومشاحنات، ولكن من يبحث فى ذاكرة التاريخ المصرى يجد طبيعة هذا الشعب تتجلى فى مثل هذه المواقف لتُسكت من يسعى لتفتيت هذا الثبات وهى ما تتفرد به طبيعة هذا الشعب التى وجد على هذه الأرض بفطرة مُحبه وقوية.

 

 

فى مصر فقط.. أرض المواطنة والمحبة(1-4)

 

احتفال المصريين فى ميلاد السيد المسيح

أيام وتدق الكنائس أجراسها للاحتفال بعيد الميلاد المجيد الذى تنظمه الكنائس المتبعة للمذاهب الغربية فى 25 ديسمبر الجارى، مثل الكنيسة «الكاثوليكية، الروم الأرثوذكس، الأسقفية»، بينما تنظم الكنيسة القبطية احتفالها فى 7 يناير المقبل بالعاصمة الإدارية الجديدة حيث كاتدرائية ميلاد المسيح.

 

 

الكنيسة القبطية تؤكد دورها فى نسيج الوطن

وفى كل عام خلال احتفالات عيد الميلاد التى تقام تشهد توافد أعداد كبيرة من المسلمين الذين يحرصون على مشاركة الأقباط لحظاتهم المقدسة فى هذا العيد المبارك، ومن أبهى الصور التى تعكس مدى خصوصية هذا العيد لدى جميع المصريين حرص الرئيس عبدالفتاح السيسى، على الوقوف بجانب البابا تواضروس الثانى، ومشاركته فى رسالة العيد للعالم، ولا تزال بعض الكلمات فى خطابات العيد الموجهة للأجيال الحالية والقادمة، عالقة فى ذاكرة الكثير والتى تُجدد العهد والحفاظ على الوحدة وتماسك النسيج الوطنى لهذا الشعب باعتباره بمثابة الدرع الحامى والحصن المنيع لمستقبل مصر، وفقط فى مصر لا يمكن أن تميز بين الوجوه والبيوت التى تحتفل بالأعياد فالجميع يتشارك المناسبات والاحتفالات.

بيت العائلة المصرية

يعتبر بيت العائلة المصرية من المظاهر الوطنية التى تجمع أطياف المجتمع وتعمل من أجل تحقيق التنمية المستدامة للمجتمع المصرى، ويأتى هذا الصرح الشعبى بصورة تلقائية تعكس محبة صادقة نابعة من تاريخ عريق شارك فيه المسيحى والمسلم على مر العصور، ومع تطور الأوضاع المجاورة خرج رجال الدين من الأزهر الشريف والكنائس لتأسيس «بيت العائلة المصرية» يقوم على تنفيذ القيم العليا والقواسم المشتركة بين الأديان والثقافات والحضارات ‏الإنسانية المتعددة، ويهدف للحفاظ على النسيج الوطنى الواحد لأبناء مصر، ويبرز هذا الدور فى المناسبات الروحية كالمشاركة فى الأعياد أو تنظيم موائد الإفطار خلال شهر رمضان، أو من خلال صكوك الأضاحى التى يتشارك فيها الآباء القساوسة كل عام لسد احتياج الفقير سواء مسلم أو مسيحى، ومن يطلع على تاريخ مشاركات الآباء الكهنة والأساقفة فى مشروع صك الأضحية يجد الكثير من النماذج كبادرة تعكس مدى ترابط النسيج الوطنى بالشعب المصرى ويتجلى ما حدث السنوات الماضية.

 

 

فى مصر فقط.. أرض المواطنة والمحبة(2-4)

 

البابا شنودة والشيخ الشعراوى.. صداقة للتاريخ

علاقة متفردة ورحلة متشابهة جمعت أقطاب المجتمع المصرى ووحّدت دربهم فى مصير مترابط تحت مظلة الوطن، فقد عاش مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، رحلة متشابكة وجمعته محبة صادقة بالشيخ محمد متولى الشعراوى، كانت قائمة على أسس الاحترام والإيمان وتقبل الآخر.

 

يدون التاريخ مواقف عديدة شهدتها هذه العلاقة ويتجلى موقف البابا شنودة حين أرسل وفدا من الكنيسة لزيارة الشيخ الشعراوى أثناء إجرائه عملية جراحية فى لندن، وقدم له هدية عبارة عن «علبة شوكولاتة» مع باقة من الورود، بعدها زاره بنفسه وكان متلهفاً لمتابعة وضعه الصحى.

 

وكانت محبة معلم الأجيال وبطريرك الأقباط صادقة فقد وضع مثلث الرحمات صورة الشيخ «الشعراوى» فى مكتبه الخاص لكى يصلى من أجل شفائه، وأن يعود إلى أرض الوطن بل كان يشعل الشموع تحت صورته فى لافتة إنسانية تعكس قدر مشاعر الحب والتقدير لهذا العالم الجليل والشيخ الوطنى.

 

ويذكر التاريخ حرص الشعراوى على زيارة البابا فى الكاتدرائية المرقسية حين عاد إلى مصر سالماً، وكان له استقبال حافل فوقف فى انتظاره عشرات الأساقفة والكهنة، وأعداد كبيرة من الأقباط أمام الباب الخارجى لتحيته أثناء دخوله، فكانت فرحة الجميع بالشيخ ظاهرة على الوجوه.

 

واستمر هذا اللقاء أكثر من ثلاث ساعات، واشتهرت الجمل الرنانة التى تبادلها كل منهم للآخر، فقد افتتح الشعراوى اللقاء قائلاً: «من منح الله لى فى محنتى أنه جعلنى أجلس مع قداسة البابا شنودة».

 

فى مصر فقط.. أرض المواطنة والمحبة(3-4)

 

وكان رد بطريرك الأقباط: «إن الذين ارتبطوا بالسماء يجب أن يضعوا أيديهم فى أيدى بعض دائماً من أجل ما اتفقوا عليه ويتركوا ما اختلفوا فيه، خاصة أن الملحدين يأخذون من الخلاف حجة لكى يبتعدوا عن الإيمان، ونشكر الله لأن المساحة المشتركة بيننا واسعة لكى نعمل فيها».

 

كان معلم الأجيال يفتخر بعلاقته بالشعراوى فى كثير من اللقاءات فقد أظهر للجميع محبته له فى حديثه عنه، قائلاً «كان صاحبى» وكان يروى العديد من المناسبات الدينية والسياسية والوطنية التى جمعتهما حتى أصبحا رمزاً يحتذى به فى التعايش بين مختلف الأديان.

 

ويروى البابا شنودة حسبما ذكرت الكتب سيرة معلم الأجيال، عن أهم لقاء بينه وبين فضيلة الشيخ والذى كان يوم جنازة إبراهيم باشا فرج، سكرتير عام حزب الوفد، وكان فؤاد سراج الدين طلب أن تكون الجنازة فى الكاتدرائية باعتبار إبراهيم باشا فرج شخصية عامة، وكان مفترضا أن أصلى عليه وألقى عظة، وجاء الشعراوى قبل الجنازة فجأة واستقبلته فى مكتبى، وذهبت معه إلى الكاتدرائية، وقتها كانت صحته ضعيفة لدرجة أننى كنت أسنده فى الطريق إلى الكاتدرائية، ودخل معى بعد أن صليت على الراحل، وألقيت العظات التى تضمنت بعض الأشعار.

 

وصفت المراجع المسيحية مدى تأثر وحزن البابا شنودة على رحيل الشيخ الشعراوى، وكانت كلماته التى ألقاها فى جنازة الشيخ التى حضرها تُظهر مدى التأثر حين قال: «تأثرنا كثيراً لوفاة صاحب الفضيلة، فهو رجل عالم متبحر فى علمه، ومحبوبا وموضع ثقة لكل من لهم رأى، وقد عاش واعظاً وكاتباً، وضعفت صحته فى الأيام الأخيرة، وأراد الله له أن يستريح من تعب الدنيا، وجمعتنى به أواصر من المودة والمحبة فى السنوات الأخيرة من عمره، وكنا نقضى وقتاً طيباً معاً وكنا أيضاً تجمعنا روابط محبة الأدب والشعر، ونطلب العزاء لكل محبيه»، وعلى الرغم من رحيل القطبين إلا أنهما ما زالا خير إرث للشعب المصرى.

 

فى مصر فقط.. أرض المواطنة والمحبة(4-4)

 

البابا كيرلس.. رجل الصلاة والمحبة

كان عهد مثلث الرحمات قداسة البابا كيرلس السادس، مفعماً بالأحداث الوجدانية والروحية إذ كان رجل الصلاة الذى يتمتع بمحبة كبيرة لدى الأقباط لعدة أسباب، فخلال عهده تأسست الكاتدرائية المرقسية وعادت الرفات المباركة لمؤسس الكرازة، وعلى الرغم من ثراء الجانب الروحى والإيمانى فى عهد «رجل الصلاة»، كانت تجمعه علاقة طيبة مع الرئيس جمال عبدالناصر، بدأت حين أمر بدق أجراس الكنائس احتفالاً بتوليه، وكان يحرص على تقديم دور معنوى وداعم أثناء الحروب، وبعد رحيل «عبدالناصر» كان على رأس المشاركين ونعاه فى كلمات مؤثرة عكست مدى احترامه وتقديره لدوره الوطنى.

 

البابا تواضروس ودوره فى شهر رمضان الكريم

خلال شهر رمضان يعاد نشر الكثير من الصور والمظاهر التى تحتفظ بها مصر لنفسها وتؤكد مدى طبيعة الشعب المحب للآخر على الرغم من تفشى نبرات من الحين للآخر تسعى لزعزعة هذا الأساس القوى، ولكنها تقف عاجزة أمام أصل وطبيعة هذا الشعب.

 

لا يتعجب المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعى من صورة البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، أثناء تعبئة كراتين رمضان، التى تحمل شعارات «المحبة لا تسقط أبداً»، مثلها كمثل صورة الموائد التى تنظمها الكنائس الإنجيلية فى مختلف المحافظات، بل تنتشر أيضاً صور شيوخ الأزهر وهم يصلون فريضة المغرب فى فناء الكنائس وقت الإفطار السنوى الذى يجمع رئيس الطائفة ورموز المجتمع المصرى من جميع المذاهب.

 

الكشافة المسيحية لحماية الأطفال فى عيد الإفطار

جرت العادة توافد المُعيّدين فى عيدَى الفطر والأضحى إلى الحدائق العامة وتزداد الأعداد فى حديقة الحيوان بالجيزة، ورصدت العدسات الدور الوطنى الذى تخصصه الكنيسة فى هذه الأوقات إذ تحرص على توفير شباب من الكشافة القبطية بمختلف الكنائس لحماية الأطفال والبحث عن أى صغير يفقد أسرته نتيجة للتدافع الازدحام، وأعادت هذه الفرق العديد من الأطفال التائهين إلى ذويهم، وهى من المظاهر التى تنتشر خلال الأعياد إلى جانب الشباب القبطى الذى يقف أمام الكنائس لتوزيع الحلوى على المصلين بعد الانتهاء من تكبيرات العيد.

 

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: ا البلد البابا تواضروس البابا شنودة فى مصر فقط طبیعة هذا هذا الشعب

إقرأ أيضاً:

البابا شنودة الثالث.. بابا العرب

بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الـ117، من أشهر باباوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ظل في الكرسي البابوي مدة 40 سنة ما بين 1971 و2012. وشهدت الكنيسة في عهده تحولات مهمة وصدامات مع النظام السياسي، خاصة في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وقد اتسمت هذه الفترة بأحداث سياسية وفتن طائفية ومواجهات عنيفة بين الأقباط والمسلمين في مصر.

ويوصف البابا شنودة الثالث بأنه جعل الكنيسة تتحول من مؤسسة كهنوتية تهتم بالتربية الروحية لرعاياها إلى مؤسسة تمارس السياسة وتصطدم مع الدولة.

كان مولعا بالأدب والشعر والثقافة منذ شبابه، فنظم قصائد تحولت إلى ترانيم، كما ألف حوالي 141 كتابا في مجالات الكهنوت واللاهوت، وكان إلى جانب مسؤولياته الكنسية ينشر مقالات بصورة منتظمة في الجرائد المصرية.

توفي عام 2012، وأوصى بأن يدفن في دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون، وهو الدير الذي تلقى فيه نبأ اختياره بابا للأقباط عام 1971، وقضى فيه سنتين رهن الإقامة الجبرية بأمر من أنور السادات بعد معارضته اتفاقية كامب ديفيد والتطبيع مع إسرائيل ورفضه زيارة القدس وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي.

ميلاد ونشأة البابا شنودة

ولد نظير جيد روفائيل جاد (البابا شنودة) في الثالث من أغسطس/آب 1923، في قرية سلام مركز أبنوب بمحافظة أسيوط جنوب مصر، من أبوين مسيحيين أرثوذكسيين.

وكان له 7 أشقاء من بينهم 5 شقيقات، وشقيقاه هما روفائيل وشوقي الذي أصبح القس بطرس، إضافة إلى 3 أخوة غير أشقاء هم رؤوف وفاروق وبثينة.

وتوفيت والدته -وتدعى بلسم جاد- بحمى النفاس بعد أيام قليلة من مولده، فأرضعته نساء القرية، مسلمات ومسيحيات، وخاصة الحاجة صابرة التي ذكرها في بعض لقاءاته.

وعندما كان في سن السادسة، انتقل مع شقيقه روفائيل الذي كان يعمل موظفا بوزارة المالية إلى مدينة دمنهور في محافظة البحيرة، ثم انتقل معه بعدها إلى الإسكندرية وأسيوط وبنها وشبرا.

وعرف عنه ولعه باللغة العربية والشعر، فحفظ نحو 10 آلاف بيت من الشعر العربي وهو في الثانوية العامة. بدأ نظم الشعر وهو في سن 17، وحين كان في السنة الثانية من الثانوية العامة، طلب منه مدرس اللغة العربية -وكان رئيسا لإحدى نقابات العمال أيام السلطان عباس حلمي- أن ينظم نشيدا للعمال، فنظم له قصيدة تم تلحينها واعتمادها نشيدا للعمال عام 1940، وبعد رهبنته نظم قصائد روحية ودينية تم تلحين بعضها وأصبحت ترانيم.

الدراسة والتكوين

بدأ مساره الدراسي في مدينة دمنهور حتى الصف الرابع، وأكمل تعليمه الابتدائي والإعدادي في أسيوط، أما الثانوية العامة، فبدأها بالعاصمة القاهرة في مدرسة الإيمان الثانوية، وبدأ في الفرع العلمي، وفي السنة الأخيرة تحول إلى الفرع الأدبي والتحق بمدرسة راغب مرجان.

والتحق بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة لاحقا) في قسم التاريخ، وحصل على الليسانس (البكالوريوس) عام 1947 بتقدير ممتاز.

وفي العام نفسه، تخرج من مدرسة المشاة للضباط الاحتياطيين وكان الأول في دفعته، وشارك في حرب فلسطين عام 1948.

وفي السنة النهائية بكلية الآداب واظب على الدراسات المسائية في الكلية الإكليريكية، وحصل منها على دبلوم اللاهوت عام 1949. وحصل على 9 شهادات دكتوراه فخرية من الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا والمجر.

المسار العملي

عمل مدرسا للغة العربية ومدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة الرهبان في حلوان، وعمل سنوات محررا في مجلة "مدارس الأحد"، ثم تولى رئاسة التحرير فيها أثناء سفر مؤسسها إلى إثيوبيا في الفترة ما بين 1949 و1954، وحصل على عضوية نقابة الصحفيين عام 1966.

واختير رئيسا لمجلس إدارة بيت مدارس الأحد عام 1952 ثم استقال منها ليتفرغ للإكليريكية والخدمة.

الطريق إلى الرهبنة

سكنت فكرة الرهبنة ذهنه في فترة دراسته الجامعية، وفي عام 1954 -وكان عمره 31 سنة- غادر إلى دير السريان الواقع في وادي النطرون في منتصف المسافة بين القاهرة والإسكندرية، واتخذ لنفسه اسم الراهب أنطونيوس السرياني تيمنا باسم مؤسس الرهبنة المصرية الأنبا أنطونيوس، الذي عاش في القرن الرابع الميلادي.

قضى 10 سنوات في هذا الدير ما بين الصلاة والعبادة والخدمة داخل جماعة الرهبان، أو منعزلا في مغارة تبعد عن الدير حوالي 3 كيلومترات ونصف كيلومتر.

كان مسؤولا عن المكتبة والمطبعة، وكان ينسخ الأناجيل والكتب الأثرية التاريخية المهمة، كما أشرف على بيت الخلوة، وهو مكان يقضي فيه الساعون إلى الرهبنة أوقات خلوتهم، كما كان يستقبل السائحين الأجانب، وينظم لهم زيارات للدير نظرا لإجادته اللغة الإنجليزية.

وفي عام 1959، عينه البابا كيرلس السادس سكرتيرا خاصا له، إلا أن خلافا مع نائب رئيس الوزراء حينها بسبب كتاب تم توزيعه على المدارس جعله يتخلى عن منصبه، ويعود إلى الدير.

وفي عام 1962، عينه البابا أسقفا للمعاهد الدينية والتربية الكنسية باسم الأنبا شنودة، ليصبح أول أسقف للتعليم المسيحي، ونشبت خلافات بينه وبين البابا دفعت هذا الأخير إلى إعادته للدير مرة أخرى.

وأنشأ مجلة الكرازة عام 1965، وتولى رئاسة تحريرها، وكانت تنشر مقالات تنتقد البابا، فأمر بإيقاف طبعها بحجة أن الكنيسة لن تمول مطبوعا يهاجمها.

اختياره للبابوية

بعد وفاة البابا كيرلس السادس، أجريت انتخابات لاختيار بابا جديد للأقباط الأرثوذكس في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1971.

ورشحت لجنة كنسية 5 من الأساقفة والرهبان، من بينهم الأنبا شنودة، وبعدها تم انتخاب 3 من المرشحين بواسطة الناخبين الأقباط المقيدين في جدول خاص، وأسفرت القرعة الهيكلية عن اختيار الأنبا شنودة للجلوس على كرسي البابوية، فكان البطريرك الـ117 في الكرازة المرقسية.

والقرعة الهيكلية تتم داخل الكاتدرائية المرقسية، إذ توضع 3 ورقات متساوية الطول والعرض مكتوب على كل واحدة منها اسم المرشحين الثلاثة، تربط كل منها بشريط وتوضع داخل صندوق من الفضة على الهيكل المقدس، ويؤدي الجميع الصلاة المقدسة، ثم يختار طفل -بعد تناوله مما يسمى "الأسرار المقدسة"- ورقة بعد تعصيب عينيه بمنديل أحمر.

وجرى حفل تنصيب البابا وإجلاسه على الكرسي المرقسي وتسليمه مفتاح الكنيسة وعصا الرعاية والصليب من فوق الهيكل يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1971.

البابا شنودة الثالث بعد عودته إلى القاهرة من رحلة علاج في الولايات المتحدة الأميركية عام 2007 (رويترز) البابا والرئيس

تعود العلاقة بين الرئيس أنور السادات والبابا شنودة الثالث إلى مرحلة شبابهما عندما عملا معا في جريدة الجمهورية، وبعد تولي السادات رئاسة مصر عام 1970، بارك الأنبا شنودة ما سمي آنذاك "ثورة التصحيح" التي قادها السادات، وأثناء اختيار خليفة البابا كيرلس، كان السادات يتابع العملية، وأظهر دعما لاختيار الأنبا شنودة للظفر بهذا المنصب.

ومع اختياره بابا للأقباط، لم تكن العلاقة بينهما علاقة رئيس بزعيم طائفة دينية، بل اصطبغت بكثير من التوتر والصراع مع توالي الأحداث والصدامات السياسية والطائفية التي طبعت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الـ20.

وكان أول صدام بين الطرفين أثناء أحداث الفتنة الطائفية لعام 1972، أو ما أطلق عليه أحداث الخانكة، والتي بدأت شرارتها بإحراق أهالي المنطقة من المسلمين مباني تابعة لجمعية الكتاب المقدس بدعوى أنها تحولت إلى كنيسة بدون ترخيص من السلطات.

فدفع ذلك مئات الكهنة والقساوسة بدعم من البابا إلى تنظيم مسيرة إلى موقع الجمعية وإقامة قداس ديني فيها، فرد المسلمون بمسيرة مضادة انطلقت من مسجد السلطان الأشرف في اتجاه مركز الشرطة، وقالوا إنهم تعرضوا لطلقات نارية من مسدس مواطن قبطي.

واتخذ البابا موقفا احتجاجيا من تلك الأحداث، وقال "قررت ألا تراني الشمس آكلا أو شاربا حتى تحل المشكلة"، وكانت المرة الأولى التي يتخذ فيها رأس الكنيسة موقفا احتجاجيا بطقس ديني، وهو ما اعتبره الرئيس تحديا لسلطته ومواجهة مباشرة معه.

وزاد التوتر بين البابا والرئيس عام 1977 عندما عقدت الكنيسة مؤتمرا تنتقد فيه تردي أوضاع المسيحيين، وتناول حرية العقيدة وحماية الأسرة والزواج المسيحي والمساواة وتمثيل المسيحيين في الهيئات النيابية، وأوصى المؤتمر الأقباط بالصوم الانقطاعي 3 أيام للفت الانتباه إلى مطالبهم.

واستمر الصراع بين الطرفين عند الإعلان عن تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، وتحول البابا إلى زعيم سياسي يدافع عن حقوق الأقباط في مصر.

وفي عام 1977، رفض البابا مرافقة أنور السادات في زيارته إلى القدس ضمن مساعيه لتحقيق السلام مع إسرائيل، كما أعلن رفضه اتفاقية كامب ديفيد للسلام، التي وقعتها مصر مع إسرائيل تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية في مارس/آذار 1978.

وأثناء زيارة السادات للولايات المتحدة، نظمت الهيئة القبطية الأميركية مظاهرة مناهضة له رفعت فيها لافتات تندد بـ"اضطهاد الأقباط".

وأدت هذه الأحداث والمواقف التي أعلنها البابا إلى قطيعة بينه وبين السادات، واعتبرها هذا الأخير تمردا على سلطته ونظامه، فأصدرت أجهزة الأمن قرارا للبابا بالتوقف عن إلقاء عظته الأسبوعية.

ورفض البابا تنفيذ القرار، بل أصدر قرارا بعدم الاحتفال بالعيد في الكنيسة وعدم استقبال المسؤولين الرسميين كما جرت العادة في هذه المناسبة، وعمم رسالة على الكنائس لوقف الاحتفالات احتجاجا على "اضطهاد الأقباط"، وكانت هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها البابا علانية عن "الاضطهاد الديني".

وردا على هذه التطورات، أصدر السادات في سبتمبر/أيلول 1981 قرارا جمهوريا بإلغاء الموافقة على انتخاب البابا شنودة الثالث بطريركا، وأمر بتحديد إقامته في دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون، وتشكيل لجنة خماسية للقيام بالمهام البابوية، وكان سيذهب به إلى المحاكمة لولا تدخل عدد من الشخصيات، ومن بينها الأب متى المسكين، الذي كان يرفض تدخل الكنيسة في الحياة السياسية، ويدعو إلى التركيز على التربية الروحية.

وفي الثالث من يناير/كانون الثاني 1985، صدر قرار رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك بإعادة تعيين الأنبا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، فعاد البابا إلى كرسي الخلافة المرقسية.

مواقف مساندة لفلسطين

لُقِّب بـ"بابا العرب" لما اعتبره كثيرون "مواقفه الوطنية الكبيرة"، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذ كسب شعبية كبيرة عندما رفض اتفاقية كامب ديفيد والتطبيع مع إسرائيل، ورفض مرافقة أنور السادات في زيارته للقدس، وقال "لن نذهب إلى القدس إلا مع إخواننا المسلمين بعد تحريرها"، ولم يكتف بذلك، بل أصدر قرارا مجمعيا يمنع الأقباط من زيارة القدس عام 1980.

وكان يرى أن إسرائيل الحالية ليست شعب الله المختار، وأن اليهود جاؤوا إلى فلسطين بوعد من بلفور وليس بوعد من الله.

وفي عام 2002، عقد مؤتمرا شعبيا في الكاتدرائية المرقسية لإعلان دعمه للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد فرض الإقامة الجبرية عليه في إقامته في رام الله.

بصمته في الكنيسة

شهدت الكنيسة القبطية في عهد البابا شنودة الثالث إصلاحات وتغييرات مهمة عكست توجهاته وتصوراته العقدية والفكرية، فقد زاد عدد الأبرشيات في مصر من 23 أبرشية سنة 1971 إلى 50 فيما بعد، كما أسس 27 أبرشية وأسقفية خارج مصر.

واهتم البابا بالتعليم الكنسي، إذ أصبح للكلية الإكليريكية 18 فرعا: 12 داخل مصر و6 في الخارج، وسمح في عهده للمرأة بالالتحاق بالكلية في القسم المسائي للدراسة والتدريس، كما سمح لها بالكتابة في مجلة الكنيسة.

وفي عام 1980، أسس أسقفية للشباب لـ"حماية الشباب المسيحي"، خاصة من التيارات الإسلامية، التي كان لها حضور مؤثر في تلك الفترة في المجتمع المصري، واهتمت هذه الأسقفية بتنمية ورعاية الشباب القبطي في المجالات الروحية والرعوية والخدمية، واختير الأنبا موسى ليكون أول أسقف في الكنيسة يتولى مسؤولية هذه الأسقفية.

ومن التغييرات المهمة التي ارتبطت بالبابا شنودة الثالث، تلك التي طرأت على قانون الأحوال الشخصية عام 2008، والذي كان يستند قبل ذلك إلى لائحة 1938، وكان يعتمد 9 أسباب للطلاق بين الزوجين المسيحيين.

وألغى البابا 7 أسباب موجبة للطلاق، وهي حالات الرهبنة والجنون والسجن والاختفاء واستحالة المعاشرة والاعتداء البدني والعلة العضوية والنفسية، واكتفى بسببين فقط للطلاق هما علة الزنا ومفارقة أحد الزوجين للملة واعتناق دين أو مذهب آخر.

المؤلفات

أغنى البابا شنودة المكتبة المسيحية بحوالي 141 كتابا في مجالات العقائد واللاهوتيات والروحانيات والنسكيات وسير القديسين، وقد ترجمت مؤلفاته إلى العديد من اللغات.

من أشهرها "انطلاق الروح"، وكان أول كتاب ينشر له سنة 1957، ويضم مقالات وقصائد نشرها في مجلة "مدارس الأحد".

وكتاب "كلمة منفعة" الذي قدم فيه خلاصة حكمته، وكتب "خبرات الحياة" و"سلسلة اللاهوت المقارن" وكتاب "الكهنوت والله والإنسان" و"القرآن والمسيحية" وغيرها..

كما كتب مقالات في صحف عدة مثل جريدة الجمهورية وأخبار اليوم والأهرام، إضافة إلى مقالات في مجلة الكنيسة أو الكرازة.

الوفاة والدفن

توفي البابا شنودة يوم السبت 17 مارس/آذار 2012 عن عمر ناهز 89 عاما. وتمت صلاة الجنازة يوم الثلاثاء 20 مارس/آذار 2012، بحضور ممثلي الكنائس في العالم ومئات الآلاف من المسيحيين والمسلمين.

ودفن في مدفن خاص في دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون في محافظة المنوفية وفقا لوصيته، وهو الدير الذي علم فيه بخبر انتخابه بطريركا للكنيسة القبطية، وفيه أيضا قضى أكثر من سنتين رهن الإقامة الجبرية بأمر من السادات.

وأنشئ فيه مزار البابا شنودة على هيئة كنيسة صغيرة لها قباب مرسوم عليها بالفن القبطي صور المسيح والسيدة العذراء والقديسين، ويضم مقتنيات مكتبه ومجموعة من أوراقه ومؤلفاته ومتعلقاته الشخصية.

كما يحتوي على 21 صليبا كان يمسك بها البابا، إضافة إلى أيقونات كان يضعها على رقبته وتيجان بابوية وبعض ملابسه البابوية والكهنوتية.

مقالات مشابهة

  • صوم الميلاد المجيد.. استعداد روحي لـ43 يوما.. احتفالات وقداسات يومية بالكنائس وصلوات من أجل السلام العام والمحبة
  • رئيس «نقل النواب»: مصر تتغلب على الأزمة الاقتصادية بشهادات دولية ومواقفها راسخة في مواجهة العدوان على غزة
  • الحبيب: الشعب الليبي لا يتذكر من حقوق المواطنة إلا المرتب والبطن
  • البابا شنودة الثالث.. بابا العرب
  • مجلس الكنائس العالمي يطالب بتحقيق العدالة والسلام في فلسطين ولبنان
  • ملك ليفربول
  • «الاتحاد»: استبعاد 716 من قوائم الإرهاب قرار تاريخي يعزز فكرة المواطنة
  • ملتقى بشمال الباطنة لغرس قيم المواطنة
  • مسؤول في الحوار: قرار رفع أسماء 716 شخصا من قوائم الإرهاب خطوة لتعزيز المواطنة
  • تعرف على أشهر الكنائس التي تحمل اسم مارمينا