ما دام جدل هذه المقالة غير مصمَّم لدحض أو لتشجيع أو لردِّ آراء سابقة، فإنَّه لا يعتمد كثيرًا على مواد نقديَّة شائعة؛ فكما أشرنا في الجزء الأوَّل، ينطوي هذا البحث على جهد تأملي ارتجاعي. تعتمد صِفته الارتجاعيَّة ذات الكاتب وأصداء التجربة الفعليَّة المباشرة، أكثر من استثمار جهود كتَّاب أو مؤرِّخين آخرين، لإطلاق «تيار الوعي» على سبيل التنقيب بحثًا عمَّا هو مُهمٌّ بحقٍّ، مع إشارة خاصَّة إلى الاحتفاظ بصدمات الوعي المتواترة الَّتي تساعد لبلوغ رسالة البحث النهائيَّة عَبْرَ قياس واختبار درجة تحمُّل القارئ الفَطِن.
وبسبب وقوع الإقليم في فخِّ رؤية تاريخيَّة رجوعيَّة مثابرة على بناء الأسيجة وإقامة العوائق لمنْعِ الجديد وحجب الشُّجاع، فإنَّ للمرء أن يلاحظَ، في هذا السِّياق، عوامل تعتمد ذات الحبس الخيالي والرجوعي المذكور أعلاه. هذه هي العوامل الَّتي تمَّ تحديثها وتلميعها لإعاقة تقدُّم شعوب الإقليم، وهي ترتدُّ إلى ماضٍ وسيط يكتنفه الغموض وتلفُّه الغيميَّة، ماضِ لَمْ يزَلْ منبعًا للجدل والخلاف برغم لا جدوى ولا معنى التحقُّق مِنْه. في هذه الحال، لا يبقى الماضي أساسًا للتيقن، كما يرنو الرجوعيون لتصويره.
ولأنَّ هذا الحبس الرجوعي، هو رؤيا قسريَّة موحَّدة تخترق الفرد بعُمق منذ نعومة أظفاره، فإنَّه ينمو على نَحْوٍ جماعي مع الجمهور منذ الوقت الَّذي ينشد فيه الأطفال في المدارس الابتدائية أمجاد ماضٍ متلاشٍ، على ذبذبة عصا مدير المدرسة وهو يقُودُ أوركسترا الحناجر الصغيرة الغضَّة الَّتي تهتف بأعلى الأصوات، «موطني.. موطني»، نَحْوَ السَّماوات، علَّها تسمع من المنادي هناك لِتحيلَ رؤيا الأجيال إلى حقيقة، ولكن عِندما نكبر. ينبغي أن لا ننسى أهمِّية الحكايات والخرافات المنزليَّة الَّتي يعدُّها الآباء والأُمَّهات، عناصر جوهريَّة للتربية والتنشئة «الصحيحة» للأبناء الواعدين. وسوية مع دروس «الدِّين» و»التاريخ» الَّتي تحفر عميقًا في هذه الأذهان الفتيَّة، تُشكِّل رسالة السّلالة الفقاعات الخانقة الأولى الَّتي تحيط بالصغار منذ بواكير وعيهم وتفكيرهم. بل إنَّ الأكثر إسهامًا في صناعة الرؤيا الخياليَّة، يتبلوَر في وسائل الإعلام الَّتي تحتكرها الدَّولة (في أغلب الأحيان) أو الفئات الاجتماعيَّة المتنفِّذة لِتُشكِّلَ وتقوِّيَ الأبعاد الخياليَّة للماضي الفردوسي، منتِجةً، كتائبَ من الحالِمين الَّذين يقطنون المُدُن والقُرى عَبْرَ وجود اجتماعي سائل وغير متيقن تتداخل فيه الحدود درجة الضياع.
تشبه رجوعيَّة الشَّرق الأوسط الَّتي افترضها كثبان رمال صحاريه، في كونها دائمة الحركة، لا تُحسن عملًا، اللهُمَّ سوى «التصحُّر الثقافي» الَّذي يتبلوَر على نَحْوِ منظومات شائكة من المفارقات الَّتي تفاجئ الرَّائي الأجنبي فتقدِّم له صدمات وعي عنيفة من آنٍ لآخر ترغمه أن يتأملَ البون الشَّاسع بَيْنَ «روح العصر» والروح السَّائدة في بعض مُجتمعات ودوَل الشَّرق الأوسط. لذا تتَّسع الفجوة الثقافيَّة النَّاتجة على نَحْوٍ مُطَّرد حدَّ الإعاقة والوجع، خصوصًا في أزمنة الصدام أو مناسبات الاحتكاك مع الثقافات والحضارات التقدُّميَّة الأخرى.
إنَّ حلم الأسلاف الَّذي يلاعب مخيِّلات أطفال المدرسة أعلاه، كما هي حال جميع الأحلام والكوابيس، لا يُقدِّم نمطَ تطوُّر معيَّن؛ لأنَّه يتشعَّب ويتمدَّد أحيانًا، ثمَّ لا يلبث أن يلتويَ على نَحْوٍ غريب لِيتشكَّلَ من جديد فيطفوَ ثانيةً على نَحْوِ قوَّة مهيمنة تبقى تبني قلاعًا في الهواء حتَّى يكتمل بناء عالَم وهمي لا يلبث أن يغدوَ متاهةً قوامها مجموعة من المفارقات، الرئيسة والثانويَّة الَّتي تستحقُّ الرَّصد والبحث واحدة فواحدة، علمًا أنَّ الأولويَّة ينبغي أن تُعطى للمفارقات الأساسيَّة.
لا يُمكِن مناقشة منظومة المفارقات الهلاميَّة الَّتي نرصدها من آنٍ لآخر دفعة واحدة بسبب تعقيدها وتواصل استحالاتها وانشطاراتها رغم إمكانيَّة تصويرها وعكس أبعاد تعقيدها بالكامل. لذا، لا بُدَّ أن يبحثَ رصدها عن محكَّات قابلة للبحث والتحليل على نَحْوٍ منفرد بشيء من العُمق والتفصيل لِتمكينِ القارئ من تطوير فكرة حَوْلَ «منظومة المفارقات»، لتكوينِ انطباع عامٍّ عن تأثيرها المهيمن على الحياة والوجود الاجتماعي عَبْرَ دوَل الإقليم. واعتمادًا على المتاح من المواد وعلى قدرات المؤلِّف المحدودة، فردًا، إذ تغدو هذه المحكَّات الأُسس الوحيدة للتيقن المتاحة لتطوير جدل يستحقُّ المتابعة.
من بَيْنِ المفارقات المتنوِّعة الَّتي تستحقُّ المناقشة بقدر تعلُّق الأمْرِ ببعض أقطار الشَّرق الأوسط، تتجسَّد أمامنا تنافسات القوى العظمى للهيمنة على الإقليم، ومِنْها التنافس الَّذي خذل أقوام الإقليم بسبب عدم منحه شخصيَّة جغرافيَّة متماسكة أو هُوِيَّة ثقافيَّة استثنائيَّة عِندما اكتفت تلك القوى العظمى بدفع الإقليم إلى سلَّة واحدة، عنوانها «الشَّرق الأوسط»؛ بمعنى أنَّه «شرق» من بَيْنِ «شروق» لأخرى: الأدنى والأوسط والأقصى، الَّتي دفعت بعيدًا لِتشتركَ في «عقدة النَّقص» الَّتي تكوَّنت في عصر بناء الامبراطوريَّات الأوروبيَّة البائدة.
ولأنَّ ذلك العصر الكولونيالي (البريطاني والفرنسي، خصوصًا) لَمْ يكُنْ من نتاجات تفاعل سلمي أو تثاقف، فإنَّ أثَرَه السَّام على الإقليم ظهر بعد الحرب العالَميَّة الأولى، أي عِندما توجَّب على أقوام الإقليم الاتِّجاه إلى نخبها الثقافيَّة في سبيل الإجابة عن سؤال مُضنٍ، مفاده أيُّ الطُّرق ينبغي أن نسلكَ نَحْوَ المستقبل؟ ذلك المستقبل الَّذي بدَا غائمًا، يكتنفه الغموض في أجواء تفاعل الأيديولوجيَّات الأوروبيَّة والبرامج السِّياسيَّة المتنوِّعة. وقَدْ تمَّ اختزال السؤال بثلاثة خيارات، وهي: الإسلامي والقومي العربي والاشتراكي. وقَدْ زاد سقوط الدَّولة العثمانيَّة المدوِّي الَّذي توافَق مع اندفاع وهيمنة التفوُّق الأوروبي من عدم تيقن أقوام كان عَلَيْها اتِّخاذ قرار الاختيار التاريخي الصعب، الملخَّص بـ»ما العمل؟»
بقِيَت مُشْكلة اللااستقرار واحدة من أهمِّ معطيات النُّخب الفكريَّة الَّتي ينقصها التَّيقن في إقليم مرتبك كهذا، الأمْرُ الَّذي قاد إلى غياب التواصل في البناء التراكمي، أي البناء الَّذي ابتلعته دوَّامة دوَل الإقليم بسبب توالي الانقلابات والحكومات غير المؤهلة للإدارة وأنظمة حُكم متخلِّفة غير قادرة على إدامة تراكم خبرة متواصل في سبيل التقدم من مرحلة إلى أخرى في سياق مَسيرة مستمرَّة، بلا تعثُّر، نَحْوَ التقدُّم.
واحدة أخرى من المفارقات المعيقة تجسَّدت في العلاقة المكهربة بَيْنَ الدَّولة والنُّخب الثقافيَّة، وهي علاقة تزداد تعقيدًا لِتتجسَّدَ في صيغة السُّلطة نقيضًا للثقافة. وقَدْ كانت هذه واحدة من أكثر العلاقات إرباكًا وتوتُّرًا؛ لأنَّها تخضع شراكة الدَّولة مع الدِّين للاختبار. وهي الشراكة الَّتي اعتمدها بعض الحكَّام الَّذين استحوذوا على التاريخ الحديث للإقليم، خصوصًا وأنَّهم وظَّفوا الدِّين لمصالحهم، علمًا أنَّها شراكة تيسِّر ضمَّ الاستبداد ذاته إلى طرائق الخالق نَحْوَ الإنسان. هنا يتمُّ استخدام الدِّين في صناعة وإدامة الاستبداد.
والحقُّ، فإنَّ الأكثر إحباطًا وإثارة للهواجس وللمخاوف، يتجسَّد في شراكة المنظورات وأنماط السلوك بَيْنَ الحكومات والمعارضات، أي في الخلل الَّذي تشترك به الحكومة مع أحزاب وجماعات المعارضة في آنٍ واحد. لذا استحالت الآمال المعقودة على المعارضات خيبات أمل بسبب سقوطها في ذات الأخطاء.
والحقُّ، فإنَّه في مقدِّمة العوامل الَّتي أدامت هيمنة «حلم الأسلاف» المعيق انطلق من التشكيل الغريب للأنظمة التربويَّة من المراحل الابتدائيَّة صعودًا حتَّى مراحل الدِّراسات العُليا. هذه الأنظمة، كما لاحظنا أعلاه، تبذر بذور الرجوعيَّة في تربة الطفولة الخصبة، ثمَّ تحصد أثمارها المؤسفة في الجامعات، بل وحتَّى فيما بعدها من مراحل التنشئة. وتخضع هذه المفارقة التربويَّة كلًّا من الثقافة الشائعة ووسائل الإعلام لسطوتها في سبيل تكوين أُطر خانقة توصد جميع أبواب الخروج من سُلطة قِيَم العصر الوسيط وتقاليده الشَّائعة بَيْنَ جميع شعوب إقليمنا.
وأخيرًا، يتجسَّد أمامنا رهاب الأجنبي والحساسيَّة المفرطة مِنْه، عائقًا، خصوصًا مع التحسُّس من التأثيرات الغربيَّة، وهي حال يُمكِن أن تبررَ إخفاق رؤيا تحرير أُمم الشَّرق الأوسط من الغلاف القديم المتكلِّس الَّذي يلفُّها منذ عصور. وإذا كان قَدْ تمَّ استفزاز هذا التعقيد بواسطة الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003، فإنَّه قَدْ أماط اللثام عن محرِّكات لا واعية تَدُور عميقًا في دواخل النفسَيْنِ الأميركيَّة والرافدينيَّة في ذات الوقت على طريق بلوغ رؤيا عالَم جديد يتبلوَر من قلب الإبحار «الكولومبي» من العالَم القديم إلى «العالَم الجديد» في سياق مطاردة أسطورة جماعيَّة أميركيَّة ترنو إلى زواج الشَّرق من الغرب لولادة نَوْع جديد من البَشَر، لأنَّ هذا الاقتران الثقافي لا يُمكِن أن يخلوَ من الثمار المُهمَّة، خصوصًا بقدر تعلُّق الأمْرِ بالمقاومة الارتداديَّة الَّتي جسَّدها الكتَّاب والمؤلِّفون العراقيون من خلال دواخل «الفضاء المؤنث» للأرض المحتلَّة، أي من العراق في هذه الحال. لا رَيْبَ في أنَّ استجاباتهم المُهمَّة في سياقنا هذا لأنَّها تجسِّد «الضوابط الثقافيَّة» الكابحة على أوضح صوَرها، خصوصًا عِندما توظَّف تلك الضوابط المرتكنة إلى ذات الحلم الوسيط، أداةً، لمقاومة وصدِّ القوَّة الغربيَّة «الذكوريَّة» المهاجمة.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: على ن ح ع ندما خصوص ا
إقرأ أيضاً:
البرلمان سيرفع كلف انتاج نفط الإقليم في موازنة 2025
25 نوفمبر، 2024
بغداد/المسلة: اكد عضو اللجنة المالية البرلمانية جمال كوجر، الاثنين، ان البرلمان سيقوم برفع كلف انتاج نفط الاقليم في موازنة 2025، فيما بين ان سبب ذلك هو استئناف عملية التصدير.
وقال كوجر، إن “التعديل الأول على قانون الموازنة لسنة (2023، 2024، 2025) يشمل فقرة واحد فقط، وهي متعلقة بقضية كلف إنتاج نفط إقليم كردستان”، مبينا انه “وحسب الاتفاق الأخير ما بين بغداد وأربيل وفق الحوارات والمفاوضات الأخيرة، سيتم رفع سعر كلف الإنتاج الى (16) دولار لبرميل النفط الواحد، بعدما كان ما يقارب (6) دولار”.
وأضاف ان “هذه الخطوة تأتي من اجل إعادة تصدير نفط إقليم كردستان، وهذا نتاج الحوارات والتفاهمات ما بين بغداد وأربيل طيلة الفترة الماضية، واكيد هناك دعم سياسي وبرلماني لهذا الاتفاق، ولهذا تعديل الموازنة سوف يمرر وفق ما اتفقت عليه مؤخرا حكومتي الإقليم والاتحادية”.
وفي 30 آب الماضي، قال سفين دزيي، رئيس مكتب العلاقات الخارجية في رئاسة وزراء إقليم كردستان، إن العراق تكبد خسائر تقدر بنحو 5.5 مليار دولار بسبب توقف تصدير نفط الإقليم.
يذكر أنه في 25 آذار الماضي أُعلن توقف تدفق النفط من العراق إلى ميناء جيهان في تركيا، على خلفية قرار صادر عن محكمة التحكيم الدولية ومقرها باريس، بشأن تصدير النفط بين تركيا والعراق.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts