العربية: لغة الشعر والفنون.. سياقٌ عالميٌّ نحو الاحتفاء بوقعها الفكري وأثرها الثقافي
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
تحتفل اليوم سلطنة عُمان مع دول العالم العربي باليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق الـ 18 من ديسمبر سنويًّا، لِما له من أثر كبير في تشكيل الهوية الإسلامية والوطنية والثقافية والفكرية للمجتمعات الناطقة باللغة العربية.
ويأتي الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية هذا العام ليكون أكثر قربًا من الوعي بالفكر وسياقاته، إذ عمدت اليونسكو ليكون الاحتفاء هذا العام (2023) في مجالي الشعر والفنون، إيمانًا منها بأنّ اللغة العربية قد ألهمت الإبداع في الشعر والفن لعدة قرون، مع الإدراك بهذين المسارين الفكريين في الأخذ بثقافات الأمم وحاضرها ومستقبلها.
وبحسب رؤية اليونسكو فإنَّ اللغة العربية تُعدّ ركنًا من أركان التنوع الثقافي لدى المتحدثين بها والقاصدين لمعرفة مقتضياتها أو الراغبين في سبر أغوارها، وأجمع على أنها إحدى اللغات الأكثر انتشارًا واستخدامًا في العالم اليوم، حيث أشارت المصادر إلى أنَّ عدد المتحدثين بهذه اللغة الفريدة يزيد على 400 مليون نسمة من شتى بقاع الأرض.
إرث ثقافيّ عميق ..
وبشأن الاحتفاء باللغة العربية هذا العام حيث الشعر والفنون؛ يقول الدكتور محمود بن عبدالله العبري مساعد أمينة اللجنة الوطنية العُمانية للتربية والثقافة والعلوم للثقافة والاتصال: إنّ الـ 18 من ديسمبر الذي يأتي ليحتفي باللغة العربية، يُجسِّد أهمية هذه اللغة العريقة والغنية بالتراث والثقافة؛ كونها لغةً تاريخيةً وحضاريةً، تحمل في طياتها إرثًا ثقافيًّا عميقًا يمتد لآلاف السنين، وهي شاهدة على تطور الفكر والعلم والأدب، والاحتفال بهذا اليوم يعكس تقديرنا للغة التي تربط بين شعوب متعددة بأنحاء العالم، وتعد جسرًا للتواصل والفهم المتبادل بين الثقافات المختلفة، ونحن نؤمن بأنَّ اللغة العربية تعزز الهوية الوطنية والانتماء، وهي رافدٌ للإبداع والتفوق في مجالات متعددة كالأدب والفنون والعلوم.
ويضيف: نحن في اللجنة الوطنية العُمانية للتربية والثقافة والعلوم ندعو في هذه المناسبة دائمًا إلى تعزيز الجهود لتعلم اللغة العربية وتعميق فهمها، سواء كان ذلك من خلال تعليمها في المدارس أو دعم المبادرات الثقافية التي تعزز استخدامها، فالاحتفال باليوم العالمي للغة العربية بدأ في عام 2012، حيث أقرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) تخصيص 18 ديسمبر للاحتفال باللغة العربية، وتم اختيار هذا التاريخ للاحتفال باللغة العربية نظرًا لأنه يوافق ذكرى اعتماد اليونسكو للغة العربية لغةً رسمية في عام 1973، وهو يوم يرمز إلى الجهود المبذولة للحفاظ على تراث اللغة العربية وتعزيز استخدامها وتطويرها، والهدف من هذا الاحتفال هو نشر الوعي بأهمية اللغة العربية كوسيلة للتواصل والتفاهم العالمي، وتعزيز التفاعل الثقافي والتعليمي بين الدول التي تستخدم هذه اللغة الجميلة (لغة القرآن الكريم).
أغنى اللغات الحية ..
ولأهمية الاحتفاء بها يقول الدكتور زاهر بن مرهون الداودي الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس: إنَّ اللغة بأنظمتها المختلفة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية وعاء الفكر بكل مستوياته التعبيرية، فلكي يتمكن الإنسان من التعبير عن مشاعره، ومكنوناته النفسية، في أيِّ قالب من القوالب فإنه يعتمد على اللغة؛ ذلك أنّ أول وظيفة من وظائف اللغة هي التعبير والتوصيل، والإبداع الأدبي بأشكاله المختلفة لم ينفصل في كل العصور عن اللغة، فقد وظف الأدباء اللغة في إبداعاتهم الشعرية والقصصية والروائية والمسرحية، فقد استطاع الأدباء أن يبرزوا أثر الكلمة في نفوس المتلقين، مما ساعد على الارتقاء باللغة العربية والنهوض بها.
ويشير: لقد أسهم الأدب بأشكاله الإبداعية في الحفاظ على اللغة العربية والارتقاء بها، فكشف للمجتمعات المختلفة حياة اللغة العربية، وقدرتها على مواكبة الأحداث المختلفة، والتطورات المختلفة عبر الزمان والمكان، فاللغة العربية من أغنى اللغات الحية وأعمقها دلالة، بحكم علومها وفنونها المختلفة في البلاغة والنحو والصرف والمعجم والدلالة، وخير نموذج على ذلك أنَّ الأدباء استطاعوا أن يصفوا بملكتهم اللغوية ما مر به العالم من أزمات وأوبئة مختلفة، في شتى العصور، وأقرب الإبداع إلى نفوس المتلقين ما قرأناه عن "كورونا" شعرًا ونثرًا، وما سمعناه وشاهدناه وقرأناه في روائع الأدب العربي شعرًا ونثرًا من تضامن الأدباء مع أحداث فلسطين وغزة، ووصف للعدوان الغاشم؛ فكان الأدب هو المرآة الصادقة لتطور اللغة، وهو المجدد الدائم لأنساقها.
وفي السياق ذاته يضيف الداودي أنَّ الأدب كان ولا يزال يمثِّل أنموذجًا صادقًا من نماذج الحفاظ على اللغة العربية، وسلامتها؛ فالشعر الجاهلي قبل الإسلام كان هو النموذج الأمثل للحفاظ على قوة اللغة وسلامتها، كما أنه كان دليلًا واضحًا على تعدد روافدها، وتنوع منابعها، وتأكيد جمالياتها الفنية، وقد احتفى العرب قديمًا بالشعر؛ لأنه تمكّن من المحافظة على العادات والتقاليد والأعراف القبلية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، فقد كانت القبائل العربية تُسرّ إذا ما وُلد فيها شاعر ينافح عنها، ويرسم خصائصها ومكارم أخلاقها، اعتمادًا على المفردة اللغوية، ووضعها في تراكيب تناسب سياقاتها، ومن أصدق الأمثلة على ذلك أن نجد الحضور العربي بارزًا في المهرجانات والمؤتمرات العالمية، ما يدل دلالة واضحة على قدرة اللغة العربية على الإبداع الأدبي، وقدرة الأدب على إبراز اللغة العربية ومكانتها في العالم أجمع، فأثبت للعالم أجمع أنَّ اللغة العربية ليست لغة البادية والبداوة، وإنما هي لغة متجددة صالحة لكل زمان ومكان.
انتشار اللغة العربية ..
ولا تبتعد الكاتبة والشاعرة الدكتورة حصة بنت عبدالله الباديّة عن التعريف بماهية وحقيقة هذه اللغة العالمية وأنماط توجهها، فتشير إلى أن اللغة العربية -التي يتكلمها ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان العالم، إضافة إلى استخدام حروفها كتابة في دول غير عربية بحكم انتشارها عبر الفتوحات الإسلامية أوان ازدهار الحضارة العربية سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا - ما زالت إحدى اللغات الأكثر انتشارًا واستخدامًا.
وتضيف بقولها: جميلٌ أن يكون موضوع الاحتفال باليوم العالمي للّغة العربية لهذا العام هو "العربية: لغةُ الشعر والفنون" كيف لا والشعر مصدر أول لتوثيق العربية عبر عصورها المختلفة منذ بدأت جهود المخلصين من عشاقها لحفظها من الغريب والدخيل! ويبقى الشعر مع البيان العظيم للقرآن الكريم آية إعجاز وبيان للغة العربية والناطقين بها حتى اليوم، فيهما كل شواهد الفصاحة وحجج البليغ من القول.
وتشير: ليس الاحتفاء بالعربية لغة خالدة عبر ما نعرف من قصائد عشاقها وحسب، ومنهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وغيرهم كثير ممن كتبوا وما زالوا يكتبون، ولكنه احتفاء إبداعي متصل عبر كل ما نُقش في عصورها المختلفة من قصائد لا تفنى وجمالات لا تخفى، عشق شعراؤها لغتهم التي عبرت إلى ذواتهم فوقّعتها تعبيرًا شعريًّا عن موضوعات للعشق والحنين، والأسى والرثاء، والوصف وحب الأوطان وتمجيد الحضارات والممالك، حتى رثاؤها حين سقط بعضها في تتابع وتلون أحداث التاريخ وعصوره، وما زال الشعر ديوان العرب المتضمن كل دقائق حياتهم، وانفعالاتهم، المحتوى في أغنياتها وطربها أسى واحتفالًا، وسلطان منابرها الذي لا يبارى حضورًا وجمهورًا.
وتؤكد الدكتورة حصة الباديّة أنّ دائرة الاحتفاء بالعربية تتسع لتشمل فن الحروفيات البديع خطًّا كتابيًّا، وتشكيلات جمالية رسمًا وتشكيلًا عبر شعوب مختلفة أبدعت في ذلك كالأتراك والفرس والهنود وغيرهم من عشاق الحرف العربي بخطوطه المختلفة، وتجلياته التي تجاوزت المعارض الفنية واللوحات الجدارية إلى مدارس التصميم والهندسة، لتبقى العربية خالدة بيانًا لا يخبو وبنيانًا لا يكبو.
أعمال فنية متخصصة ..
للفنان محمد بن عبدالله الصائغ رؤيةٌ خاصة، التي يربطها بسيرته مع الفن والحرف العربي، ويشير إلى جميل هذا الاحتفاء العالمي بالفن؛ كون أنَّ اللغة العربية لغةٌ حية، فهي لغة القرآن الكريم، والتخاطب بين المسلمين والعرب، وملهمة الشعراء والكتّاب، فقد أبدعوا في استخدامها، بدءًا من العصر الجاهلي مرورًا بالعصور الإسلامية المتعاقبة، ثم أتى الفنانون المستشرقون ونقلوا تلك الكتابات التي زُينت بها الجوامع والقصور في لوحاتهم الفنية التي رسموها، ومن هنا بدأت الفكرة لدى الفنانين العرب في استلهام الحرف العربي في أعمالهم الفنية كلٌّ حسب رؤيته الفنية.
ويضيف الصائغ: لم تبتعد أعمال الحروفيين العرب عن مدارس الفن التشكيلي في تنوعها وتعددها، فتبوأت الحروفية العربية مكانة قائمة بذاتها، وزاحمت تلك المدارس الفنية التي سبقتها، بل تربّعت على أعلى منصات المدارس الفنية، وكثُر الفنانون العرب المستخدمون للحرف العربي، وتعددت بدوره معها المذاهب والأشكال الفنية المستلهمة من الخط العربي وحروفه، فظهرت أعمال فنية ذات خصوصية عربية وإسلامية، متميزة عن باقي المدارس الفنية السابقة في هذا المجتمع الفني الكبير.
ويؤكد: تجربتي الفنية في مجال استعمال الحرف العربي، جاءت مشاركة مني لكثير من الفنانين الذين اشتغلوا على الحرف العربي، وعملت على استخدامي للحرف برؤية قد لا تكون معروفة عند الكثيرين، ففي البدايات كنت مضطربًا قليلًا في استخدام الحرف العربي بين الإقدام والإرجاء، وأنا أراوح بين متطلبات النفس والروح، حتى استقرت نفسي ونما عشقي لهذا الحرف العربي.
ويوضح: أنّ حروف اللغة العربية عندما نتطرق إليها من حيث الرسم وخطوطه الذي لا يخرج في الغالب عن الخط القائم أو النازل والخط المستقيم الأفقي، والخط المنحني والخط المائل والخط متعرج أو المسنن، ناهيك عما يتكون من هذه الخطوط من دوائر ومثلثات تصغر وتكبر، هذه الحروف ليست إلا أدوات لتنفيذ اللوحة الفنية، واستخدامها خارج النطاق الديني والأبجدي، فدعتني إرادة الشعور الذي تتبعه الإرادة بالميل إلى الخط العربي وتركيبات حروفه، والذي لأجله وجدت محبة هذه الحروف وتعلقت بها، لِما وجدت بها من صفات قد تدعو إلى محبتها.
ويؤكد في قوله: يعمق هذا الفكر لحركة الحرف العربي من حيث عدم الخروج أو التجاهل للجوانب الروحية للحرف، والصور الرمزية، والقيم المادية، والرمزية، والتعبيرية. وبهذه الرؤية لحروف اللغة العربية، رأيت فيها ما لا يراه الفنانون الآخرون الذين يشتغلون عليه؛ فلاحظت وجود تزاوج بين الحروف وأعضاء الجسم البشري وما يوجد في الطبيعة من شجر وكثبان وقيعان وسفن جاريات وجبال راسيات. فالألف في لوحة هي قوام الشيء قائم صاعدًا كان أم نازلًا، كالإنسان والشجر، والباء كالميزان، والنون كالإناء، والنقطة داخل أي تجويف كالمحاصر، والدال حركة نصف دورانية توحي بالحنان أو الاحتضان، الراء توحي بالرشاقة وسعفة النخلة، الواو تحوير لقبضة يد، الياء توحي بالتجذر والانتماء، فهو أصل أعوّل إليه، وركن أستند إليه، وعروة أتمسك بها، هكذا هي الحروف المستخدمة في أعمالي الفنية ماثلة للعين والأحوال الجارية، ولا تخرج عن هذا الاعتبار المنطوي على الإضافات والتخصيصات، منوطة بعضها إلى بعض ومنسوبة إليه.
ارتباطها بالشريعة الإسلامية ..
وتؤكد الدكتورة فاطمة بنت ناصر المخينية الأستاذة المشاركة في اللغويات بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة الشرقية، أنّ أهمية اللغة العربية تنعكس في ارتباطها بالشريعة الإسلامية في المقام الأول، فهي لغة القرآن الكريم، قال تعالى في سورة يوسف: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال تعالى: (بلسان عربي مبين)، ولا شك أنَّ اليوم العالمي للغة العربية يذكِّرنا بتاريخها العظيم؛ وأصالتها وعظمة تاريخها الفكري والأدبي والديني، إنها ليست مجرد لغة تتكون من بضعة أحرف ومفردات فقط، إنها هويتنا وتاريخنا المشترك.
وتشير: تمتلك اللغة العربية رصيدًا وتاريخًا أدبيًّا وفنيًّا كبيرًا يقرب من ألفين من السنين، مذ بدأ الشعر العربي في الظهور حتى يومنا هذا، فهي لغة علم وإحساس ورقي؛ تتميز بثرائها وتعدد مفرداتها وكثرة جذورها ما يجعلها صالحة لكل عصر، وقابلة للتطور والنمو لتناسب كل المستجدات فهي البحر الذي كلما غصت فيه وتعمقت أخرج لك اللآلئ والأصداف والجواهر الثمينة.
وتؤكد المخينية: لقد أولت سلطنة عُمان أهمية خاصة للعناية باللغة العربية، والمحافظة عليها انطلاقًا من إيمانها بحماية الهوية الوطنية التي تُشكِّل اللغة العربية أبرز مكوناتها، وأخذت على عاتقها مهمة النهوض بلغة الضاد، وحمايتها من خلال استراتيجية عمل متكاملة تشرف على تنفيذها مؤسسات تعليمية وثقافية؛ حيث أطلقت مبادرات عدة؛ صبّت جميعها في مصلحة هذه اللغة ورفع شأنها على المستوى الإقليمي والدولي، وهذه المبادرات تسعى لوضع خارطة طريق للنهوض بلغتنا الأم - دون إهمال تعلم اللغات الأخرى بالطبع - كما تسعى إلى رفع مكانة معلم اللغة العربية وزيادة دخله، وكذلك إقامة مسابقة وتقديم جوائز لمبدعي اللغة العربية في كل مجالاتها، بهدف إيجاد جو من التنافس.
وتختتم حديثها: لن نكف نحن أبناء الضاد عن الاهتمام بلغتنا، وتوفير سبل حمايتها من خلال سن القوانين والتشريعات التي تحميها من عوامل الاندثار والضعف، واستغلال إمكاناتها وتسليط الضوء على جمالياتها وثرائها لتتبوأ المكانة اللائقة بها بين لغات العالم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الیوم العالمی للغة العربیة بالیوم العالمی باللغة العربیة اللغة العربیة الشعر والفنون الحرف العربی هذه اللغة هذا العام العربیة ت التی ت هی لغة
إقرأ أيضاً:
لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي
تزوج شاعر البادية الأردنية محمد علي عذيمان من فتاة أحبها وكانت تنتقل معه في البادية حيث حل وارتحل، وبعد أن أنجبت له مولودته الأولى أصابتها حمى النفاس ومرضت وماتت في أثناء ولادتها.
وكانت الثلوج حينها تهطل بغزارة ولم يكن له في منزله ذاك جيران قريبون، فلم يتمكن من دفنها فجلس حاملا ابنته التي رفضت النوم في أحضانه، فما كان منه إلا أن ذهب بها إلى فراش أمها المسجّاة، ووضعها في حضنها فسكتت البنت عن البكاء ونامت، وفي منتصف الليل سكن الجو وتوقف الثلج عن الهطول وتوقفت الرياح وإذا عواء الذئب يجلجل بين تلك التلال، وفي ذلك الموقف الحزين قال الشاعر عذيمان:
يا ذيب ياللي توحش القلب بعواك
أظن حالك صاير(ن) مثل حالي
انت عويلك يوم فاتك معشاك
وانا عويلي من تيتَّمْ عيالي
وان كان صيدك فاقد(ن) من خوياك
انا فقدت من الخويا الغوالي
حذراك من سود الليالي تغشاك
ويعتم عليك الضو عقب الدلالي
وتعال أيها القارئ نستمع معًا إلى الشاعر الشيخ نمر بن عدوان وهو يبكي زوجته وضحاء، ويذكر حالها في القبر وحاله بفقدها، ويشنّع على لائميه داعيًا عليهم، وجرّب أن تقرأ الأبيات الآتية بتسكين أواخرها، واستحضِر في نفسك واجلب إلى مسامعك أسلوب إلقاء الشعر النبطي:
سار القلم بداجي الليل مهتاج
سار بهوى قليبي وحير دليلي
بكيت غرام بالحشا يوهج اوهاج
من وجد وجدي الويل فرقا خليلي
عيني تهل الدمع لاجن بلجلاج
ودموع عيني سيل دوما يسيلي
واجب علي أهله بكل ملعاج
ودموع عيني مثل نهر تسيلي
سمعت انا بظلمة القبر مهتاج
عفت الحياه وعند قبره نزيلي
ياقبر انا ما أظن من جاك يحتاج
تعريف هي وضحا أُو قلبي عليلي
ياقبرها يامنوة الروح وسراج
والله انا عندك طنيب ودخيلي
مجنون ليلى كان داير بلجلاج
ما أضن يشبهني ولا هو مثيلي
هات الكفن يا عقاب وتابوت من صاج
أو علي من رمل السبايب هيلي
واحفر على قبري بازميل وهاج
اللي جرى ياعقاب وانت الوكيلي
انقش سقيم عايف الطب واعلاج
أضحى طريح الحب وامسى قتيلي
من لامني يبلاه بالهم وهاج
عليه حسبي الله ونعم الوكيلي
يُكتب الشعر النبطي كما ينطق، وقد استحدثت كل قبيلة مفردات وألفاظا جديدة، واستعملتها وأدخلتها على الشعر النبطي بقصد أو بدون قصد، فضم بذلك الشعر النبطي كثيرا من اللهجات المختلفة، وصار له قاموسه الخاص. وفي توصيف لغة الشعر النبطي وبُعدها عن الإعراب والحركات قال ابن خلدون "أساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جماعة تحت السور التونسية.. أدباء ساخرون من المجتمع والاستعمار وكل شيءlist 2 of 2غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطنend of list إعلانيعتمد الشعر النبطي على اللهجة العامية الدارجة والمتداولة بين الناس والأسلوب البسيط الواضح قريب المأخذ في سرد الوقائع والقصص، وله قدرة عالية على نشر الحكمة وتوثيق الأحداث بأسلوب يسير ومشوق يربط بين الماضي والحاضر بسلاسة وعذوبة؛ وذلك لاستعماله لغة الناس المحكية.
قد يتعذّر عليك فهم بعض الكلمات وربما كثير منها لبعد اللهجات المحلية اليوم عن بعضها، غير أن ذلك لا يحجب عنك تذوق سحر اللغة و جمال الشعور والاستمتاع بعذوبة التراكيب؛ فالشعر النبطي يمتاز بقدرة عالية على سكب المشاعر الإنسانية في ألفاظ شعرية بسيطة وواضحة ومباشرة، وفي قوالب شعرية قريبة من قلوب عامة الناس، فهو في المحصلة شعر، والشعر يتكئ على الخيال والتصوير والفني، ويعتمد على ألوان البلاغة وأساليبها المتنوعة كالتشبيه والاستعارة، ويميل إلى تزيين النصوص الشعرية بألوان البديع التي تضفي على النصوص جمالًا وعمقًا.
ومن أهم ما يتميز به الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغان تحقق شهرته وانتشاره وشعبيته بين الناس.
ما الذي يجعل بعض أبناء العربية ينظرون إلى الشعر النبطي نظرة سلبية؟وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي هذا النوع من الشعر، لأنه يبدو تأصيلا للعامية على حساب الفصحى وتنحيتها، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوةِ إلى الشِّعرِ النَّبَطِي)؛ رأى فيه المؤلف ذياب الغامدي أن الشعراء الذين ينظمون الشعر النبطي: "دُعاة العامِّيَّة، وما أدراك ما العامِّيَّة؟! سواء كانت دَعوتهم سافرة جِهارًا نهارًا، كما تبنَّتْه الصُّحف وغيرها، أو دعوة مُستَتِرة تحت ثوب فَضفاض نسجَتْه أيدي الأعداء فألبسَته أمَّة الإسلام، والعرب العَرْباء، وشباب الصَّحوة؛ وذلك فيما يُسمى بالشّعر النَّبَطيِّ".
ويقول الغامدي في موضع آخر من هذا الكتاب "ولو استسلم العُلماء أمام هذه السَّفسَطة والجَهالة التي يتّكئ عليها عشاق النَّبَطيّ في القرن الثّاني عشر الهجريّ وما تلاه من قرون، لكانت اللّغة الفصحى اليوم خبرًا بعد عِيان، كما يراد لها… وما زلنا نظنّ أن جَذوة دُعاة النّبطي ستنطفئ، وتنهار قواهم، حتَّى اتّسع الخَرق، وتجاوز شِعرُهم حُدوده، وعَلَت أصواتُهم، حتى استباحوا الصُّحف والمجلَّات والإذاعات، وأقاموا النَّدَوات والأُمسِيات؛ تمجيدًا وتعزيزًا، وتقريرًا وتقنينًا لنشر النَّبَطيّ".
إعلانيرى بعض الباحثين أن التغيير اللغوي أمر طبيعي في سياق مرور الزمن وتطور الحياة، ولا يمكن أن ننظر إلى الشعر النبطي لأنه يعتمد العامية على أنه فساد لغوي، لا سيّما في ظل إمكانية رد الألفاظ العامية إلى الفصيح منها استنادا إلى القواعد الصرفية والصوتية تحديدا، ناهيك عن أن عامل الزمن يفرض تغيُّرات وتطوّرات حتمية يقررها تقدُّم الحياة وتطوّرها، وتمر بها أي لغة حية في سيرورة الأيام.
إن أكبر سبب -في حقيقة الأمر- للنظرة السلبية التي يحملها بعض أبناء العربية تجاه الشعر النبطي تتعلق باعتماده على اللهجات المحكية الدارجة، وذلك ليس إلا تخوفا من شيوعها وانتشارها واستسهالها على حساب العناية باللغة العربية الفصيحة التي تعد حاملا للدين ومصادره وأداة لمعرفة التاريخ العربي الممتد عبر العصور، وجسرا لعبور المعارف والوقائع والأحداث من جيل إلى آخر.
تبدو هذه المخاوف مشروعة لكن ينبغي ألا نبالغ فيها، فالشعر النبطي لون من ألوان الفنون الكلامية، وشكل من أشكال الإبداع الشعري، لا يهدف إلى إزاحة الشعر العربي التقليدي عن عرشه ولا قدرة له على ذلك، وإن كنا نستمع إليه ونتذوق جمالياته لقرب عهده أو قرب لغته، فإن ذلك لا يعني أنه راجح على ما سواه من أشكال الشعر العربي في الذائقة العربية.
تولي دول الخليج العربي أهمية كبيرة للشعر النبطي باعتباره امتدادا لأصالة عاشها الأجداد في غابر الزمن، واستمر عبقها أخاذا على مر العصور، يربط الماضي بالحاضر، ويوحد الذائقة الشعرية لدى الأجيال المتعاقبة، وكأنه الحبل الأصيل المتين الذي يربط إنسان العصر في بوادي العربية بالإنسان العربي القديم الذي عاش فيها وأثبت عراقته وبنى حضارة ما تزال مشعة بين صفحات التاريخ، لا سيما في بادية الحجاز وما والاها، لأنه سجل دقيق دوّنوا فيه أهم الأحداث التاريخية والاجتماعية، وهو وسيلة للحفاظ على اللهجات المحلية والتراث الثقافي، ناهيك عن أنه يعزز القيم البدوية كالكرم والشجاعة وغيرها.
إعلانحافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية. غير أن مجال النظر في موضوع الشعر النبطي واسع جدا، ويحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق والجهد للوصول إلى نتائج دقيقة وأجوبة شافية، لا سيما في مسألة اللغة المحكية التي يعتمدها.
الشعر النبطي جزء أساسي لا يتجزأ من الثقافة البدوية، وقد شهد بمرور الأيام والعصور تحولات كبيرة جعلته يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، فصار الشعراء يميلون إلى استخدام وسائل الإعلام والتواصل الحديثة لنشر قصائدهم وإبداعاتهم، فازدادت شعبية الشعر النبطي، وعمد بعض الشعراء إلى المزج بين الشعر الفصيح والنبطي فأضافوا بذلك أبعادا جديدة فنية وجمالية لقصائدهم وأشعارهم.
ومن أمثال ذلك الحديث عن القهوة العربيّة ومجالسها التي تعد أهم معالم الهويّة البدويّة، وقد قيل في ذلك كثير من الأشعار؛ منها ما قاله الشاعر حوشان بن عبود بن سويلم الشلواني العازمي:
لادك في قلبي من الهم هوجاس
حطيت فوق النار زين المحاميس
وحمست ما يجلى من الهم وعماس
بنٍّ من النيبار يجلى الحواسيس
لا ذاقه اللي من عنا الوقت محتاس
من لذته تنجال عنه النواحيس
ولننظر معا إلى قول الشاعر راكان بن فلاح بن مانع بن حثلين العجمي متغزلًا بفنجان القهوة راسمًا تفاصيل الشعور المرافق لاحتسائه القهوة في مجلس برفقة الأصحاب والأحباب؛ في صورة شعرية بديعة:
ياما حلى الفنجال مع سجّة البال
في مجلس ما فيه نفس ثقيله
هذا ولد عم وهذا ولد خال
وهذا رفيق ما لقينا مثيله
يركز الشعر النبطي على القيم والأخلاق والعادات والتقاليد ويقدسها، ولا عجب في ذلك لأن الشاعر ابن بيئته، والشعر محاكاة للبيئة التي يُنظم فيها، والشعر النبطي بدوي في أصالته، يؤكد أهمية الحفاظ على القيم المجتمعية وتوارثها بين الأجيال، فالقيم الأخلاقية تحدد هوية الشعوب وانتماء المجتمعات، لذا يبدو الشعر النبطي ممتلئًا بكل ما يحض على مكارم الأخلاق ويزكيها في النفوس، ومن ذلك قول الشاعر محمد بن ناصر بن صقر السياري:
ياللي تعرف الجوهرة من نحاسَـــــهْ
خذ لك على درب التـــجاريب مرواس
مبنى على الغرمول ينــهد ساســـــه
ويثــبت إليــا عزيت مبنى على ســاس
واجب على الرجال يلبـــــس مقاسه
ويـصــير بعـيون الرياجــيل نــبراس
يرفع مجـــــاله عن دروب الـدناسـه
ونفــســه يدربـــها عـلى قــوة الـــباس
ويحــسن أخلا قـه بلــيّا شراســـــــه
لــو هـو شجاع ويلبس الـدرع والطاس
وياخذ تجاريب الـــــليالي دراســـه
ويمــيـّز الياقــوت من لمــعة الــــماس
ومن يصحب الأنذال وأهل النجاسه
يُــقـْـلب عــليه الهـرج في كل مجلاس
الذيــب يرفع هــمته عن مداســـــه
يوم يجوع وســاعـةٍ يــــرفــع الــراس
وبعض العرب مـــا همه إلا لباســـه
ودايم على عورات الأجواد عـــســاس
وحين نطالع قصائد الشعر النبطي نلحظ مدى سعة ثقافة الشعراء واطلاعهم على التراث الثقافي، ونلحظ جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر، بذكر حكاية مشهورة من حكايا التراث القديم، وإسقاط المعاني بعدها على واقعنا المعيش بذكر أسماء أو رموز تدل عليه، وها هو الشاعر حمد بن علي بن مايقة الحبابي يَذكر في الأبيات الآتية حشدًا من الشُّعراء الأماجد في الفصحى؛ فيقول:
صناديد لهم باب النَّشيد
تفتَّح واستحلُّوا مغلقاتِهْ
الاخْطَل والفرزْدق مع جريرٍ
والاعْشى والذي سوَّى سواتِهْ
وابن ثابت وأبي سلمى زهير
وعمرٍو والضليلِ ومبكياتِهْ
وعنتر مَن هوى عبلةْ وقيس
هوى ليلى مسوِّي بهْ شراتِهْ
وذي الرمة والأقرع مع جميل
ومن قولهْ تسبَّب في وفاتِهْ
وبشار بن بردٍ والمهلهلْ
ومَن سمي الفحل بمقدماته
وحاتم والنوابغ وابن حلزهْ
وطرفة واطراف المعاني طراته
وأنا قصدي هو الشِّعر الفصيح
لهم فضْلُ القديمِ وسابقاتِه
إنّ الشعر النبطي لم ينشَأ لمحاربة الفُصحى ولم يعرف عنه مزاحمتها، بل إنَّ التجارب المتراكمة تؤكد أنّه حاول أن يسير جنبًا إلى جنب معها واستقى منها واعتمد عليها ونهل من معينها، فقد اتخذ من طُرق الشعر التقليدي الذي يعتمد اللغة الفصيحة وأساليبه مرجعًا له.
إعلان