لفتني تأكيد أحد العاملين في الشأن العام، ولكن خلف الكواليس راهنًا، أن الفراغ، على سيئاته، أفضل مئة مرّة من رئيس "كيف ما كان"، رئيس لا لون ولا رائحة ولا طعم له، رئيس "شغلتو ومشغلتو" أن يبصم فقط، لأنه سيكون مجرّدًا من حرية القرار في أي موضوع سيطرح عليه في حال تمّ طرحه، رئيس لن تتخطّى صلاحياته جدران قصر بعبدا.

     ما حصل في العام 2014 حين أُريد أن يكون الفراغ متحكّمًا بمفاصل الحياة السياسية طيلة سنتين ونصف السنة يتكرّر اليوم، ولكن مع اختلاف الظروف، التي أدّت في الماضي إلى انتخاب النائب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية. فما أراده "حزب الله" حين أصرّ على إبقاء البلد من دون رئيس حتى قيامة الساعة صار واقعًا، وأصبح للبنان رئيس فرضته "حارة حريك"، واستجابت له القوى الأخرى، ومن بينها تيار "المستقبل" و"القوات اللبنانية"، وكان ما كان، وكانت بداية النهاية.    قيل للمسيحيين يومها تريدون رئيسًا لديه حيثية نيابية وشعبية واسعة فليكن لكم ما تريدون، وأوتي بالرئيس عون، وهو أول رئيس لجمهورية لبنان كانت لديه أكبر كتلة نيابية، ويتمتع بنسبة كبيرة من التأييد في الوسطين المسيحي والشيعي، ولكن النتيجة العملية كانت أن دخل اللبنانيون في عهد سمّاه البعض قويًا عتبات "جهنم"، بعدما أسقطوه في "تجربة" المحاصصة في مغانم السلطة. وهذا ما اعترف به النائب اللواء جميل السيد، الذي قال في آخر مقابلة تلفزيونية معه أن الرئيس عون "سقط" عندما طالب لنفسه بحصّة وازنة من التعيينات، الأمر الذي فتح "شهية" الآخرين، فكان السقوط الكبير، ليس للرئيس المسيحي القوي فقط، بل لكل الوطن بمفاهيمه القائمة على توازنات دقيقة.    قد يكون ما يحصل اليوم هو تكملة لمشهدية العام 2016، ولكن في ظروف مختلفة، إذ أن ما يُشغل اليوم "حزب الله" هو مساندة قطاع غزة وأهله ومحاولة التخفيف من الضغط الذي يتعرّضون له منذ أكثر من شهرين، من خلال إشغال العدو الإسرائيلي بإشعال جبهة الجنوب. فالأهمّ بالنسبة إليه هو الحرب الدائرة في غزة وإمكانية انتقالها تدريجيًا إلى الجنوب كمقدمة لتوسيعها لتشمل كل لبنان. أمّا المهمّ فيأتي في الدرجة الثانية بعد الأهمّ. ولذلك، فإن الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى سيطول إلى أن تنجلي صورة الوضع في غزة، وما يرافقها من مشاريع إقليمية موازية لما يمكن أن تؤول إليه هذه الحرب من نتائج.    وبالعودة إلى ما قيل عن تفضيل البعض الفراغ على رئيس "الكيف ما كان" تحضرني مقولة "ارتضينا بالبلاء، ولم يرتضِ البلاء بنا" (محوّرة). فمحاولات الالهاء التي يقوم بها البعض ليست سوى التوغّل أكثر في "لعبة" لحس المبرد، أو "لعبة" ذرّ الرماد في العيون. ما شهدناه في الساعات الماضية الأخيرة من مقارعة طواحين الهواء، التي أصبحت جزءًا ملازمًا لتقمصّ هذا البعض لشخصية "دونكيشوت"، لا ينمّ سوى عن التعبير عن الطريقة، التي تم فيها التعاطي مع الملفات الوطنية طيلة ست سنوات.    لم تكن المعركة الدستورية التي خاضها الذين قلبهم على وحدة البلد ومؤسساته وشعبه في مسألة التمديد لقائد الجيش العماد جوزاف عون ولسائر القادة الأمنيين معركة شخصية مع أحد بالتحديد أو ضد أحد في المطلق، بل كانت معركة الحفاظ على ما تبقّى من مؤسسات، وفي طليعتها المؤسسات العسكرية، التي إذا انهارت ينهار معها آخر أمل في إمكانية قيامة البلد من تحت انقاضه وضمضمة ما أصابه من جروح.    ليس المهمّ من ربح في هذه "المعركة"، ولكن ما هو أكثر أهمية أن المؤسسات العسكرية، وفي مقدّمها الجيش، القائمة على التضحية والوفاء والشرف لم يمسّها ما يمكن أن يزعزع ثقتها بنفسها وبقدراتها أولًا، وبثقة الناس بها لإيمانهم بأنها الوحيدة القادرة على أن تحميهم من غدرات الزمن، ومن غدر ذوي القربى، الذي هو أشد مضاضة من السيف المهند.     وسيبقى الوضع على جموده إن لم يتوصّل ممثلو الشعب إلى أن يتوافقوا على انتخاب رئيس للجمهورية تمامًا كما توافقوا على التمديد لقائد الجيش وللقادة الأمنيين.    المصدر: خاص "لبنان 24"

المصدر: لبنان ٢٤

إقرأ أيضاً:

المجالس المحلية وترميم الفراغ (8)

 طالبت فى مقالى السابق أن تعيد الأحزاب ترتيب أوراقها؛ استعدادًا لقانون الإدارة المحلية وانتخابات المجالس الشعبية، كما طالبت الحوار الوطنى وكذلك مجلس النواب بأن يسرع أعضاؤه الخطى؛ للانتهاء من مشروع القانون الذى طال انتظاره؛ لنبدأ مرحلة جديدة من الديمقراطية الشعبية؛ وحياة سياسية سليمة تمارس فيها الأحزاب دورها الرقابى من خلال مجالس محلية منتخبة بنظام القائمة المغلقة أو النسبية أو الفردى.

وإلى أن يتم الاتفاق على نظام الانتخاب المناسب لظروفنا، أواصل الحديث عن مزايا وعيوب كل نظام، وأقول الفردى هو الأنسب الآن من القائمة المرهقة للناخب لأسباب عدة من بينها: عدم وجود نظام حزبى قوى بمعناه السياسى الواضح، فمعظم الأحزاب الجديدة ليس لها قواعد شعبية، وأغلبها مجرد أسماء لا يعرف العامة ولا حتى السياسيون عنها ولا عن برامجها ورؤسائها شيئًا، إلا إذا حدثت كارثة أو مشكلة داخل الحزب، وتناقلتها وسائل الإعلام والميديا.

وبالتالى، وبهذا الوضع الحالى، لن تكون هناك منافسة حقيقية لجهل الناخبين بها؛ ولا سيما وأن الأجيال الشابة الصاعدة المقيدة فى جداول الانتخابات، لم تترب سياسيًا بشكل واع، ولا تستطيع أن تفرق بين البرامج المتشابهة للأحزاب، وأمامها مشوار طويل حتى تنضج سياسيًا، وتدرك كيف تختار من يحل مشاكلهم ويعالج قضاياهم ويمثلهم عبر برامج تنافسية وواقعية لا ورقية ولا حنجورية أو فانتازية.

فكلما زادت الأمية السياسية، لا تكون القائمة بنوعيها (مغلقة ومفتوحة) هى الأفضل، ويكون النظام الفردى بديلًا جاهزًا حتى تتم عملية التربية السياسية الحزبية السليمة، وهى عادة ما تحتاج سنوات من الممارسة، وفى الفردى أيضًا يختار الناخب مرشحًا واحدًا يعرفه شخصيًا ويقتنع بمميزاته وخدماته وقدراته، ويستطيع محاسبته وانتقاده وتقييم أدائه ومواجهته، بمعنى أن قوة النائب ترتهن إلى جماهيريته فى قلب دائرته والشىء نفسه ينطبق على نائب المحليات.

 وتلك ميزة تمنحه الحرية والاستقلال بالرأى بعكس «نائب القائمة» الذى يكون ملتزمًا بموقف الحزب ورأيه تجاه أى قضية وهو ما يعرف بـ«الانضباط الحزبى»، وتتم ممارسته بشكل سلطوى وعنيف أحيانا مع أى نائب يسير ضد اتجاه الحزب فى أى قضية، ويكون التهديد بالاستبعاد من القائمة حاضرًا وجاهزًا دائمًا.

والخلاصة ان الانتخاب الفردى أسهل حتى فى المجالس الشعبية، فهو يساعد على الاستقرار السياسى، وينجح ويحقق هدفه إذا كان هناك عدد قليل من الأحزاب (ثلاثة أو اربعة) تتنافس على تداول السلطة، مثلما يحدث فى أمريكا وأوربا، بعكس نظام القائمة الذى يخدم الحزب على حساب المواطن، حيث يكون الالتزام الحزبى سيد الموقف؛ فضلًا عن حرمان المستقلين من ممارسة حقهم السياسى والدستورى. وتبقى الحسنة الوحيدة للقائمة إنها تحد من سيطرة رأس المال على العملية الانتخابية وتمنح أحزاب الأقلية فرصة التواجد النسبى فى المجالس النيابية والمحلية الشعبية.

 وفى ضوء ما نراه الآن من فوضى حزبية عددية (108 أحزاب) يعمل منها ثلاثة أو أربعة فى الشارع السياسى بطرق وأساليب مختلفة، ولكن ببرامج تكاد تتشابه فى أهدافها ووسائلها ولا تقدم جديدًا للشعب، يكون الفردى أفضل حتى تستوعب التيارات السياسية الدرس وتنزل إلى الشعب وتستمد منه جماهيرية نوابها. 

المهم أن نبدأ الآن بنسف القانون القديم، ونسقط المخاوف، والموائمات، وننهى لعبة المصالح، مهما كانت التحديات؛ ونمنح الأحزاب قبلة الحياة لترميم الفراغ السياسى الناتج عن ضعفها وهشاشة دورها وإنشعالها بالصراعات الداخلية والمصالح الشخصية.

وإلى حلقة جديدة بإذن الله. 

[email protected]

 

مقالات مشابهة

  • بوتين: روسيا لم تبادر لاستخدام القوة ولكن عند الضرورة سنتخذ جميع التدابير لحماية
  • تقرير: المتفجرات التي أسقطت على قطاع غزة أكثر مما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية
  • استقرار حالة نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح بعد عملية جراحية في أبو ظبي
  • المجالس المحلية وترميم الفراغ (8)
  • رئيس سلطة الموانئ الجيبوتية يزور ميناء الإسكندرية للاطلاع على مشروعات البنية التحتية
  • رئيس الدولة يطمئن على صحة طارق محمد عبدالله صالح الذي يتلقى العلاج في مستشفى زايد العسكري
  • السباق الرئاسي محتدم و ترامب يضيق الطريق أمام هاريس .. من سيصبح رئيس أميركا؟
  • خالد الغندور: حمزة علاء يعطي الأهلي الضوء الأخضر لتجديد عقده.. ولكن
  • وهبي: لا أرفض الحوار مع المحامين ولكن رئيس جمعيتهم يضع شروطا على الدولة
  • لبنان: خلاف الأولويات