تعرف علي وجود السحر وما ينتج عنه من الإضرار بالناس
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
يسأل الكثير من الناس عن وجود السحر وما ينتج عنه من الإضرار بالناس اجابت دار الافتاء المصرية وقالت تعريف السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه ودق وخفي، وقالوا سحره، وسحره بمعنى خدعه وعلله، وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا»، والسحر بالفتح وبالتحريك الرئة، وهي أصل هذه المادة، والرئة في الباطن، فما لطف مأخذه ودق صنعه حتى لا يهتدي إليه غير أهله فهو باطن خفي، ومنه الخداع وهو أن يظهر لك شيئًا غير الواقع في نفس الأمر، فالواقع باطن خفي، وقد وصف الله السحر في القرآن بأنه تخييل يخدع الأعين، فيريها ما ليس بكائن كائنًا؛ فقال تعالى ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: 66].
والكلام في حبال السحرة وعصيهم، وفي آية أخرى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ [الأعراف: 116]، ويدل ذلك على أن السحر إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون، فيسمون العمل بها سحرًا؛ لخفاء سببه ولطف مأخذه، ويمكن أن يعد منه تأثير النفس الإنسانية في نفس أخرى لمثل هذه العلة، وقد قال المؤرخون إن سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين وتخييل أنها تسعى، وقد اعتاد الذين اتخذوا التأثيرات النفسية صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام مبهم وأسماء غريبة، اشتهر عند الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجان، وأنهم يحضرون إذا دعوا بها، ويكونون مسخرين للداعي، ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم عرف بالتجربة، وسببه اعتقاد الواهم أن الشياطين يستجيبون لقارئه، ويطيعون أمره، ومنهم من يعتقد أن فيه خاصية التأثير وليس فيه خاصيته، وإنما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغني منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته، وهذا هو السبب في اعتقاد الدهماء أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.
موقف الشريعة من السحر: قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۞ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ۞ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 101-103].
المعنى الإجمالي: يخبر المولى عز وجل أن أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه الذي أنزله على عبده ورسوله موسى عليه السلام وهو التوراة، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن، مع أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء مصدقًا لما بين أيديهم من التوراة، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد في الاستكبار والعناد، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي والإفساد والعناد، لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان، وما كان سليمان عليه السلام ساحرًا ولا كفر بتعلمه السحر، ولكن الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب، وعلموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس، وكما اتبع رؤساء اليهود السحر والشعوذة، كذلك اتبعوا ما أنزل على الرجلين الصالحين أو الملكين هاروت وماروت بمملكة بابل، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض؛ لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس، وما يعلمان السحر من أجل السحر، وإنما من أجل إبطاله؛ ليظهرا للناس الفرق بين المعجزة والسحر، ولله أن يبتلي عباده بما شاء، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وقد كثر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة أمورًا غريبة وقع بسببها الشك في النبوة؛ فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق، ومع ذلك فقد كانا يحذران الناس من تعلم السحر واستخدامه في الأذى والضرر، وكانا إذا علما أحدًا قالا له إنما هذا امتحان من الله وابتلاء، فلا تكفر بسببه، واتق الله فلا تستعمله في الإضرار، فمن تعلمه؛ ليتوقى ضرره ويدفع أذاه عن الناس، فقد نجا وثبت على الإيمان، ومن تعلمه معتقدًا صحته ليلحق الأذى بالناس، فقد ضل وكفر فكان الناس فريقين: فريق تعلمه عن نية صالحة؛ ليدفع ضرره عن الناس، وفريق تعلمه عن نية خبيثة؛ ليفرق به بين الرجل وأهله، وبين الصديق وصديقه، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم؛ لأنهم عرفوا أن من تجرد لهذه الأمور المؤذية ما له في الآخرة من نصيب، ولبئسما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فهم وإدراك، ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله وخافوا عذابه لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل مما شغلوا به أنفسهم من هذه الأمور الضارة التي لا تعود عليهم إلا بالويل والخسار والدمار.
والمقارنة بين ذكر الشياطين والسحر في الآية الكريمة هو أن السحر فيه استعانة بأرواح خبيثة شريرة من الجن والشياطين تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك، وقد كان بعض الناس يصدقونهم فيما يزعمون ويلجئون إليهم عند الكرب؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن: 6]، ولهذا اشتهر السحر عن طريق الاتصال بهذه الأرواح الخبيثة، وعبر القرآن الكريم عن السحر بالكفر في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ وسياق اللفظ يدل على أن المراد منه السحر أي وما سحر سليمان، وإنما عبر عنه بالكفر تقبيحًا وتشنيعًا؛ كما قال تعالى فيمن ترك الحج مع القدرة عليه: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، وفي هذا التعبير تنفير للناس من السحر، ودلالة على أنه من الكبائر الموبقات، بل هو قرين الكفر والإشراك بالله؛ ففي الحديث الصحيح قوله صلوات الله وسلامه عليه: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ» من رواية البخاري ومسلم.
هل للسحر حقيقة وتأثير في الواقع؟ اختلف العلماء في أمر السحر هل له حقيقة، أم هو شعوذة وتخييل:
أ- فذهب جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير.
ب- وذهب المعتزلة وبعض أهل السنة إلى أن السحر ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو خداع وتمويه وتضليل، وأنه باب من أبواب الشعوذة، وهو عندهم على أنواع:
1- التخييل والخداع.
2- الكهانة والعرافة.
3- النميمة والوشاية والإفساد.
4- الاحتيال.
ومن المؤيدين لهذا الرأي يقول: إن الساحر والمعزم لو قدرَا على ما يدعيانه من النفع والضرر وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب وأخبار البلدان النائية والخبيئات والسرقات والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرت لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز والغلبة على البلدان بقتل الملوك، بحيث لا ينالهم مكروه، ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس، فإذا لم يكن كذلك، وكان المدعون لذلك أسوأ الناس حالًا وأكثرهم طمعًا واحتيالَا وتوصلًا لأخذ دراهم الناس، وأظهرهم فقرًا وإملاقًا، علمت أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك.
واستدل الجمهور من العلماء على أن السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة منها:
أ- قوله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 116].
ب- قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه﴾ [البقرة: 102].
ج- قوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [البقرة: 102].
د- وقوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّٰاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: 4].
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: قوله تعالى له حقیقة السحر فی على أن
إقرأ أيضاً:
الشيخ كمال الخطيب يكتب .. كن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا
#سواليف
كن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا
#الشيخ_كمال_الخطيب
ها نحن ليس أننا في الأيام الأخيرة من شهر #رمضان، وإنما نحن في الساعات الأخيرة من هذه الساعات التي توشك أن تنقضي وتنطوي معها صفحة #شهر_مبارك، أكرمنا الله سبحانه بأن هيأ لنا أسباب صيامه وقيامه. فالحمد لله على نعمة رمضان والحمد لله على نعمة #الإسلام.
مقالات ذات صلة مسؤول إسرائيلي سابق: الحكومة لا تريد إعادة الأسرى خشية إنهاء الحرب وتفكك الائتلاف 2025/03/28إنه شهر رمضان الذي مضى وانقضى سريعًا ونحن الذين ما كدنا نفرح بقدومه وإذا بنا نتهيأ سريعًا لرحيله.
يا خير من نزل النفوس أراحل بالأمس جئت فكيف سترحل
بكت القلوب على وداعك حرقة كيف العيون إذا رحلت ستفعل
من للقلوب يضمّها في حزنها من للنفوس ولجرحها سيعلّل
ما بال شهر الصوم يمضي مسرعًا وشهور باقي العام كم تتمهل
عشنا انتظارك في الشهور بلوعة فنزلت فينا زائرًا يتعجل
ها قد رحلت يا حبيبي وعمرنا يمضي ومن يدري أأنت ستُقبل
فعساك ربي قد ضمنت صيامنا وعساك كل قيامنا تتقبل
إن #شجرة_الإيمان التي غرسها كل واحد منا في رمضان، فلا بد من سقايتها والعناية بها، وإلا فإنه الجفاف والذبول الذي سيصيب أغصانها. إنها أغصان الصلاة والقرآن والإحسان التي لا بد أن نتعهّدها بعد رمضان حتى تورق وتزهر وتثمر طوال العام بإذن الله تعالى.
صحيح أن رمضان يبلغ ذروته في ليلة القدر الشريفة {إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ} آية 1 سورة القدر، الذي قال فيها النبي ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن أحيا ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”. ولكن بلوغ الذروة يجب أن لا يكون بعده التراجع، وإنما مزيد من الإقبال على الله وهمة في الطاعات لبلوغ الرضوان، ولذلك كان ابن الجوزي رحمه الله يقول: “إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك وإنما الأعمال بالخواتيم”. فكما تحفّزت لاستقبال رمضان فتحفّز لوداع رمضان بأن تهيئ نفسك وتعد عدتك لاستمرار سيرك إلى الله تعالى.
وختامه مسك
إن المسلمين يحرصون على إحياء ليلة القدر الشريفة ثم يكون بعدها التراجع وفتور الهمة، غير منتبهين إلى أن في رمضان ما تزال ليلة عظيمة هي مسك الختام، إنها آخر ليلة من رمضان التي فيها يعتق الله سبحانه من الرقاب من النار بقدر ما أعتق طوال الشهر. فإذا لم يكن الله تعالى قد كتبك من العتقاء من النار فيما مضى من ليالي رمضان، فلعلّه ينتظرك سبحانه أن تطرق بابه وتقف على أعتابه في الليلة الأخيرة والأنفاس الأخيرة من رمضان لتكون من الفائزين ومن عتقائه من النار، فما عليك أيها المسلم أيتها المسلمة، إلا بالانشغال في هذه الليلة بالذكر والدعاء والاستغفار والرجاء والقيام في اللحظات والأنفاس الأخيرة من رمضان.
لا تطوِ سجلّك
إن من علامات قبول الله طاعة العبد أن يوفقه إلى طاعات أخرى بعدها، ومن علامات قبول الحسنة الحسنة بعد ذلك لكأنها تصيح وتقول: أختي أختي.
فإذا كان الله تبارك وتعالى قد قبل منك صيامك وقيامك وقرآنك، فإن من إشارات ذلك القبول أن يوفّقك لمزيد من الطاعات بعد رمضان ومزيد من الإقبال عليه سبحانه، لأن شجرة الإيمان التي غرست تكون قد أثمرت والحمد لله تعالى.
وإن من علامات عدم القبول لا سمح الله، أن تطوي سجّل طاعتك التي داومت عليها في رمضان فتتوقف عنها وترمي بذلك السجّل جانبًا وأنت لا تدري هل ستعيش إلى رمضان القادم وتفتح سجلّك من جديد أم أنه سيكون هو السجّل الأخير في صحيفة أعمالك.
كن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا
ما أعجبهم وما أكثرهم الذين يُقبلون على الله تعالى وعبادته في شهر رمضان المبارك بكل أشكال العبادة، وهذه ولا شك دلالة على إيمان في قلوبهم ورغبة في رضا ربهم سبحانه، لكن هؤلاء وبعد رمضان فإنهم سرعان ما تفتر عزيمتهم لا بل يتراجعون عما داوموا عليه شهرًا كاملًا، فلا يقيمون الصلاة ولا يقرأون القرآن بل يهجرونه وكأن هذه العبادات لا تكون إلا في رمضان.
لقد أوصى ذلك الرجل الفاضل لمّا قال: “لا تكن رمضانيًا وكن ربانيًا”. إنه الله سبحانه الذي نعبده هو رب رمضان وشعبان وكل العام، وإن كان رمضان من بين الشهور هو محطة تزوّد إيماني ليس كغيره من الشهور، فإذا كان رمضان قد انقضى فإن الصيام والقرآن والقيام لن ينقَضوا ما دام فينا عرق ينبض.
لقد شبّه العلماء من يتقرب إلى الله في رمضان بكل العبادات ثم بعد رمضان يهجرها، كتلك المرأة التي تغزل ثوبها لتصنع منه ثوبًا جميلًا، فلما اقتربت من إكماله قامت ونقضت الغزل وفرطت الخيوط {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} آية 92 سورة النحل.
وإن من أعظم القربات إلى الله تعالى في رمضان هي قراءة القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} آية 185 سورة البقرة. وإن عموم المسلمين يقتدون برسول الله ﷺ وبأصحابه الذين كانوا يُقبلون على القرآن في رمضان حالّين مرتحلين، فما أن ينهي ختمة من القرآن إلا واستهل بأخرى. سأل رجل رسول الله ﷺ: “يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الحالّ المرتحل. قال: يا رسول الله ما الحالّ المرتحل؟ قال: يضرب من أول القرآن إلى آخره ومن آخره إلى أوله”. فإذا كان الحال كذلك في رمضان فيجب أن يستمر بعد رمضان ولا يكون الانقطاع ولا الهجران، قال ﷺ: “عليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض”.
وإذا كان خالد بن الوليد رضي الله عنه يحمل المصحف الشريف ويبكي وهو يقول: “أشغلنا عنك الجهاد في سبيل الله”، فما الذي يشغل المسلم اليوم عن القرآن الكريم؟ وأي عذر له بالانشغال عن كتاب الله تعالى؟ بل ماذا سيكون حال المسلم من شكوى رسول الله عنه يوم القيامة إلى الله تعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} آية 30 سورة الفرقان؟ فكن قرآنيًا ربانيًا ولا تكن رمضانيًا.
جيران الله
وإن من أعظم مظاهر إحياء شهر رمضان، فإنه إحياء المساجد وارتيادها للصلاة والقيام وحضور مجالس العلم وحلقات الذكر، ويظهر ذلك جليًا عبر الزحوف التي تتوجه إلى المساجد سواء لإحياء صلاة التراويح وإحياء ليلة القدر أو لصلاة الجماعة في المسجد في كل صلاة وفي صلاة الفجر خاصة.
إن علاقة المسلم مع المسجد تتحول إلى علاقة عشق ورباط مقدس، فما أن يعود المسلم من عمله إلا ويلبي نداء ربه إذا ناداه للصلاة استجابة لصوت الأذان يقول له: حي على الصلاة حي على الفلاح. وإن طمع المسلم بذلك يصل إلى حد أن يتمنى أن يكون من السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، حيث أحدهم: “ورجل تعلّق قلبه بالمساجد”.
إنها العلاقة المتبادلة في الحب بين المسلم وبين المسجد الذي هو بيت الله تعالى. فإذا كان المسلم يسعى ليكون في جوار الله تحت ظلّ عرش الله عبر تعلّقه بالمساجد، فإن الله تبارك وتعالى كذلك يبادل رواد المساجد نفس الحب والشوق، قال رسول الله ﷺ: “إن الله لينادي يوم القيامة: أين جيراني أين جيراني؟ قال: فتقول الملائكة: ربنا ومن ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين عمّار المساجد؟”.
فإذا كنت في الدنيا تأنس بجارك صاحب الخلق والدين، فكيف سيكون الحال يوم القيامة لما يكون جارك الله تعالى وأنت قريب منه وهو قريب منك؟
فيا أيها الأخ الحبيب الذي زادت همتك في رمضان وتعلّق قلبك بالمسجد ووجدت في نفسك العزيمة والإرادة والوقت على أن تلبي نداء الله وتأتي إلى المسجد، إياك إياك أن يضحك منك الشيطان وأن يغلبك بل أن يسرقك من المسجد لتجد لنفسك المبررات والأعذار بالتقصير وعدم الحفاظ على صلاة الجماعة في المسجد، فكما أنت في رمضان مسجديًا ابق كذلك طوال باقي شهور العام.
كن كبيرًا ولا تصغّر نفسك
ليس أن رمضان كان محطة فارقة في حياة المسلم تعبديًا فقط، أي أن عبادته في رمضان اختلفت عما سواه، وإنما يجب أن يكون رمضان محطة فارقة في الهوية الفكرية للإنسان المسلم. فإذا كان رمضان الحالي الذي نودعه ورمضان الماضي قد عشناهما ساعات وليالي وأيامًا من القهر والوجع، حيث فيهما ارتكبت المجازر البشعة وقتل الآلاف من أبناء شعبنا وأهلنا في غزة، فإن هذا القهر وهذا الوجع إذا اختلط مع حلاوة الإيمان فإنه لا بد أن يشكّل شخصيتنا ويصيغها صياغة جديدة بل تختلف جذريًا عما كنا عليه.
إن علينا أمة وأفرادًا أن يجعل الإنسان منا لنفسه انطلاقة جديدة وموازين جديدة، فلا ننظر إلى ما حولنا ولا نزن الأحداث والمواقف بميزان الأنا والمصلحة الشخصية، ولا بميزان العائلة والوطن الصغير، وإنما أن يصبح ميزاننا ونظرتنا للأشياء والأحداث بمنطق وميزان الأمة. فحرّر نفسك من أن تكون عبدًا لشخصك أو عائلتك أو مصلحتك، لأن هذا انتماء صغير لا يليق بك، وليكن انتماؤك هو الانتماء الواسع الممتد يربطك بالأمة كلها ولسان حالك يقول:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمي يا هذه الدنيا بدين المسلم
وأنا البريء من المذاهب كلها وبغير دين الله لن اترنم
فلتشهد الأيام ما طال المدى أو ضمّ قبري بعد موتي أعظمي
أني لغير الله لست بعابد ولغير دستور السما لن أنتمي
خلوا عيونكم ع الأقصى
لأن شهر رمضان المبارك يشهد حالة التفاف وحشد من أبناء شعبنا مع المسجد الأقصى المبارك تتمثل بكثرة الزيارة والتردد وشدّ الرحال إليه في أيام وليالي رمضان، حيث تصل الجموع في صلاة الفجر إلى أكثر من خمسين ألفًا وفي صلاة التراويح تزيد الأعداد عن مائة ألف رجالًا ونساء وأطفالًا.
فإن هذه المكرمة التي أعطانا إياها ربنا سبحانه لما جعلنا الأقرب إلى المسجد الأقصى المبارك دون باقي العرب والمسلمين بل وحتى الفلسطينيين، يجب أن تغرس فينا مزيدًا من الحب والالتحام مع المسجد الأقصى المبارك فلا تنقطع هذه العلاقة مع نهاية شهر رمضان بل وتزداد وتتوثق لتصبح عهدًا وميثاقًا بيننا وبينه أن لا ننساه ولا نهجره ولا نتركه وحيدًا. إنه المسجد الأقصى عشقنا السرمدي، الأقصى الذي هو للمسلمين وحدهم وليس لغيرهم حق ولو في ذرّة تراب واحدة فيه، فخلّوا عيونكم ع الأقصى يا أبناء شعبنا. كن أقصاويًا ولا تكن رمضانيًا.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.