يبدو أن الحرب الدائرة حالياً جعلت إسرائيل عبئاً على أمريكا، فإسرائيل تبدو كالصخرة التى تعهد الرئيس الأمريكى «هارى ترومان» بحملها، مع ضمانة تحمل ثقلها عقوداً طويلة لأجل غير مسمى. ونعود إلى استطلاع رأى أجراه معهد «بروكينغز» فى 2016 داخل المجتمع الأمريكى حول الموقف من إسرائيل وجاءت نتائجه على النحو التالى: 76 % يرون إسرائيل حليفاً مهماً للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن نصف الديمقراطيين يعدونها عبئاً عليهم، ويشاركهم فى ذلك ربع الجمهوريين، وغالباً فيما لو أعيد إجراء الاستطلاع اليوم لظهرت أرقام مفاجئة لأولئك الذين يعتقدون أن ما تقوم به إسرائيل خلال هذه الحرب هو الدفاع عن نفسها ضد حماس، متجاهلين عواقب الدمار الهائل الذى أحدثته فى غزة.
ولا شك أن الرأى العام الدولى الذى تشكل ضد إسرائيل فى هذه الحرب يختلف عن كل الحروب السابقة، فهو أمر لا سابقة له، وهذا النوع من الانطباعات الضارة للصورة التى بدا عليها الكيان الصهيونى لن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التعتيم عليها، أو محاولة تلميعها حتى لو أرادت ذلك وسعت إليه. بل إن التطورات حدت بإدارة « جو بايدن» إلى تدارك الموقف المتهور الذى بدأت به فى الأيام الأولى للحرب، والذى كان منحازاً كلية لإسرائيل، لتتحول إلى موقف يشوبه الاعتدال لا سيما بعد أن وضع فى الاعتبار الفاقة التى اجتاحت قطاع غزة والعدد الهائل من القتلى المدنيين الذى تسببت به سياسات «نتنياهو».
غير أن المسارعة الأمريكية فى عسكرة البحر الأبيض المتوسط فور اندلاع الاشتباكات فى السابع من أكتوبر الماضى أوصلت رسالة للجميع مفادها أن واشنطن حليف قوى مضمون لدى تل أبيب، ومن خلال هذا العمل استطاعت أمريكا إيقاف فكرة الهجوم المتضامن بين حزب الله والفصائل الفلسطينية على إسرائيل. ولقد ساعد أمريكا فى تحركها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية «إيباك»، وهى من أهم جماعات الضغط داخل أمريكا بما لها من ثقل اقتصادى ومالى كبير جعل منها محط تأثير على السياسة الأمريكية والقرار الأمريكى، إضافة إلى جماعات ضغط أخرى لها ذات التأثير فى أوروبا والتى تدعم فكرة أن لليهود «حقاً توراتياً فى أرض فلسطين».
لم يمنع التحالف الأمريكى مع إسرائيل من أن يبادر «بايدن» بإدانة عشوائية القصف الذى تنفذه إسرائيل فى غزة، ويحذر من أنها قد تخسر الدعم الدولى الذى تنعم به بسبب هذا القصف، ويدعو إلى تغيير الحكومة الإسرائيلية. وسارع فأوفد « جيك سوليفان» مستشار الأمن القومى إلى إسرائيل الخميس الماضى ليبحث معها تطورات الحرب، هذا بالإضافة إلى الزيارة التى سيقوم بها «لويد أوستن» وزير الدفاع الأمريكى إلى المنطقة.
لقد أوضحت الحرب الدائرة حالياً فى قطاع غزة أن حليفاً متفرداً فى المنطقة لواشنطن لا يكفى، وأن على الولايات المتحدة الأمريكية توسيع دائرة حلفائها بما يضمن استقرار كل دول المنطقة، وحتى لا تكون إسرائيل فى النهاية عبئاً على أمريكا. وإن كانت الوقائع تؤكد أنها حتى لو كانت عبئاً فهى عبء مستساغ ومرضى عنه حتى الآن، بيد أن استمرارها حليف وحيد فى كل الملابسات والظروف قد ينال من هذا الرضا ويقتص منه، وهو ما يعنى حتمية أن تفقد إسرائيل جزئياً أو كلياً هذا الوضع الاستثنائى خلال العقود المقبلة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: سناء السعيد الحرب الدائرة إسرائيل
إقرأ أيضاً:
الانتخابات الأمريكية: تكتيكات متغيرة وأهداف ثابتة في الشرق الأوسط
يبدو واضحاً أن المهمة الأكثر إلحاحاً التي ستواجه الولايات المتحدة الأمريكية، تكمن في كيفية رسم صورة جديدة لوجودها في منطقة الشرق الأوسط، أملا في الوصول إلى تغيير ملامحها التي باتت واضحة، نتيجة للمآسي المؤلمة التي سببتها الأزمة الإنسانية في غزة والجنوب اللبناني، والتي زادت من حدة حالة عدم الاستقرار، وضاعفت من احتمالات تسريع تفكيك خريطة الشرعية المرسومة دوليا، في معاهدات واتفاقيات تقاسم النفوذ منذ نهاية الحرب العالمية الأولى لدول المنطقة.
وإن كانت عملية غزو العراق قد كشفت في النهاية حقيقة زيف الأهداف الأمريكية المعلنة، والمتمثلة في إرساء الديمقراطية والسلام في العراق، ومن ثم التأثير لاستمرار سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، أظهرت شعارات الدفاع عن الحريات المدنية والدينية وحقوق الإنسان في العالم العربي والإسلامي، على أنها لم تكن إلا مجرد وهم من أوهام اللعبة السياسة، التي تتقنها القوى الكبرى في علاقتها المرسومة الثابتة في الأجندات، ومعاهد الدراسات العالمية، إذا ما نظرنا بعين الاهتمام إلى غياب الموضوعية الأمريكية الواضح، في كيفية إدارتها للأزمة التي تمر بها بلداننا، وباختلاف الإدارات التي جاءت بها الانتخابات الأمريكية.
وعلى الرغم من الأهمية الإقليمية التي تحظى بها نتائج الانتخابات الأمريكية، في حالة عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وعلى العكس من ذلك، ما قد يجلبه فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط ، بيد ان فرص نجاح أحد هذين الاحتمالين قد لا يسمح في تغيير الأفق المتصل بالجغرافيا السياسية والدور المستقبلي للولايات المتحدة في الشؤون العالمية.
وقد تتساءل دول وحكومات العالم العربي والإسلامي، عما إذا كانت قضية العرب المشتركة في الدفاع عن فلسطين، من خلال حل الدولتين وإرساء السلام، ستحظى بالأفضلية من قبل الديمقراطيين، أم من قبل الجمهوريين، وهل أن الولايات المتحدة الأمريكية وبغض النظر عن طبيعة الإدارة المقبلة، جادة لوضعها في أولوية سياستها المقبلة، لإعادة حقوق الشعوب المشروعة وإرساء السلام الدائم في المنطقة؟
لا شك في أن السمة الواضحة التي تميز السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأخيرة، تتمثل في الحرص على تحجيم الدور المتزايد الذي تلعبه الصين في العالم، فعلى الرغم من الأهمية التي يتمتع بها الصراع المسلح بين روسيا وأوكرانيا، وتداعيات الحرب المدمرة الإسرائيلية على غزة ولبنان، إلا ان مقومات الخطر الاقتصادي والسياسي الصيني يبقى ضمن أولى الأولويات في استراتيجية واشنطن العالمية، إضافة للتحديات المستمرة التي تواجه الولايات المتحدة مع روسيا وعلاقة هذه الأخيرة مع الصين في الحرب في أوكرانيا وإيران، وهذا ما قد يزيد من الأهمية والأولوية للإدارات المقبلة في تعاملها مع هذا الدور المتزايد الذي تلعبه بكين.
من هنا، أصبح من الصعوبة إن لم يكن من المستحيل، أن نتجاهل قراءة واضحة للمستقبل، وفق معطيات المنطق والواقع، الذي فرضه تشابه السياسة الخارجية الأمريكية من موقفها من سياسة حليفتها إسرائيل، من دون الرجوع إلى الأسباب الحقيقة لهذا الانحياز الواضح، الذي يضمن ويؤمن مصالح الدولة العبرية.
فلا يمكن لناقد او متتبع في السياسة، أن يتجاهل حجم علاقة الغرب وأمريكا من خلال اعتبار الدفاع عن إسرائيل أحد أهم الأولويات والواجبات للسياسة الخارجية، وهذا ما يوضح حجم التباين في ميزان القوى، مقارنة بأولويات أمريكا مع أولويات الدول العربية، التي تعتبر القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القدرة السياسية والعسكرية التي تتمتع بها هذه القوى العظمى.
لقد كان لدعم إدارة بايدن لحرب إسرائيل في غزة ولبنان، الدليل والإشارة الواضحة لحجم التباين بين هذه الأولويات، وهذا ما ترجم أسباب استمرار تقويض مصداقية الولايات المتحدة في علاقاتها مع دول المنطقة، وصمتها على منطق العقاب الجماعي الخطير بحق المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، أو عن طريق إذلال العراقيين والسماح بمسح تاريخهم وهويتهم، عن طريق فرض الصراع السني ـ الشيعي، وجعل منطقة الشرق الأوسط بؤرة لأشكال عدة من الفوضى وتصعيد الصراعات الإقليمية بين الاشقاء لتصب في النهاية لصالح إيران وأجندتها التوسعية.
يبقى السؤال عن احتمالات تغير الموقف الأمريكي واستراتيجيته في العراق، في حال فوز مرشح الرئاسة دونالد ترامب على الرغم من تشابه أهداف الإدارات الأمريكية وحرصها في الدفاع عن الأحادية الدولية في عالم أحادي القطب، على الرغم من اختلاف الأحزاب والرؤساء لكونهما وكما يراه ويلمسه الكثيرون، وجهين لعملة واحدة، لا تختلف مواقفهم إلا من خلال التباين في طرق تنفيذ الأهداف المركزية الثابتة، التي لا تتغير بتغير من سيمثل البيت الأبيض، إلا من خلال الخصوصيات والتباين في وجهات النظر.
ففي الوقت الذي اعتبر الرئيس الجمهوري السابق الحرب على العراق بمثابة الخطأ الكبير، حرصت إدارة بايدن الديمقراطية على استمرار علاقتها «العلنية ـ السرية« مع نظام ولاية الفقيه الإيراني، في طرق التعامل والتوافق في الملف النووي سعيا لإفشال الأهداف الروسية والصينية الهادفة إلى شل القدرة الأمريكية في تثبيت أهدافها في الشرق الأوسط.
ومع استمرار الحرب على غزة وجنوب لبنان، قد يكون من الأفضل للرئيس المنتخب الجديد، تبني دور أكثر عقلانية وأكثر جرأة، من خلال إعطاء الأولوية لإدارة الصراعات في الشرق الأوسط، اذ كان راغباً في إرساء السلام، وهذا ما يلزم الجهتين، معالجة هذه الإشكالية والتفرغ لإيجاد الحلول العادلة لقضية العرب المركزية، بدلاً من تجاهلها وإجبار نظام الولي الفقيه في الوقت نفسه على وقف التحدي للنظام الإقليمي العربي، حتى لا تتحول شعارات الانتخابات الأمريكية للشرق الأوسط، منبرا لتحقيق استراتيجية انتخابية في الولايات المتحدة، وساحة للألغام لدول المنطقة نفسها.
القدس العربي