حملت زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - أيده الله - إلى سنغافورة كأول دولة يزورها جلالته في جنوب شرق آسيا مضامين كثيرة؛ في بُعدها الرمزي (كونها زيارة دولة ولها دلالتها على مستوى رمزية العلاقات السياسية بين سلطنة عُمان وجمهورية سنغافورة)، وفي بعدها الاستراتيجي (كون أن أطر ومجالات التعاون الممكنة مع الطرف السنغافوري تمتد إلى عناصر عديدة سواء على مستوى إدارة الاقتصاد والموارد، أو في سياق التحول في الطاقة، أو في مجالات الثقافة والتعليم وإنتاج المعرفة).

حيث تشكل التجربة السنغافورية في بعدها التنموي مدرسة نجاح يُمكن البناء عليها في بعض الجوانب. ربما يعنيني في هذه الزاوية الإشارة إلى التجربة السنغافورية في استشراف المستقبل، والتي تعد نموذجًا مثاليًا للربط بين مستويات التخطيط التنموي وبين استشراف المستقبل كـ (إشارات/ معطيات/ فرص). - حسب المعلومات المتاحة في المواقع الرسمية - بدأت الحكومة السنغافورية جهودها في إدماج استشراف المستقبل ضمن نماذج العمل الحكومي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وكانت النواة حينها وزارة الدفاع السنغافورية، وكان الأهداف موجهة للأغراض الدفاعية الاستراتيجية، لتدخل بعدها في عام 1995 منظورات استشراف المستقبل إلى قلب العمل الحكومي المدني عبر إنشاء مكتب تخطيط السيناريوهات في مركز الحكومة، ليتحول بعدها إلى مسمى مكتب السياسات الاستراتيجية في عام 2003 وكان الدور الذي يقوم به ربط الخطط والبرامج الاستراتيجية للحكومة السنغافورية بعملية وضع السيناريوهات المستقبلية، لتكون الخطط أكثر استدراكًا للمخاطر المحتملة، وأكثر تنبهًا للفرص، وأكثر استشعارًا للإشارات المستقبلية التي قد تحمل الكثير من التحولات. وربما يعد عام 2009 أحد أهم التحولات المحورية في تجربة سنغافورة في استشراف المستقبل حيث حمل إنشاء مركز (CSF) والذي يعرف كونه «مركز أبحاث مستقبلي للتركيز على القضايا التي قد تكون مناطق عمياء، ومتابعة أبحاث مستقبلية مفتوحة طويلة المدى، وتجربة منهجيات استشرافية جديدة». اليوم هناك ما يقرب من 17 مؤسسة في قلب الجهاز الإداري السنغافوري إما أنها ترتبط بشكل مباشر بمنهجيات استشراف المستقبل، أو لديها فرق متخصصة في استشراف المسقبل، أو أنها تعمل على التدريب والتأهيل في مجال عقليات ومنهجيات استشراف المستقبل. ويعد إنشاء مجلس الاقتصاد المستقبلي تتويجًا لرحلة سنغافورة في الاستناد على العمل المستقبلي كموجه للتخطيط والعمل الحكومي حيث يعمل على تحديد الاستراتيجيات الرئيسية لدفع التنمية الاقتصادية المستقبلية في سنغافورة. بما في ذلك الشراكات ذات الأولوية، وآليات تشجيع الابتكار، استراتيجيات التخطيط الحضري للمدن الذكية، وآليات بناء مهارات القوى العاملة التنافسية، وتحفيز التنافس الدولي. إلى جانب ذلك هناك مبادرة مهمة تتبناها الحكومة السنغافورية في هذا الصدد وهي Skills Future Singapore (SSG) والتي تعنى ببناء أمة (مهارية)، من خلال تزويد المجتمع السنغافوري بالفرص من خلال مجموعة متنوعة من الموارد للمساعدة في إتقان مهارات المستقبل. وذلك بمساعدة مجلس اقتصاد المستقبل ومقدمي التعليم والتدريب وأصحاب العمل والنقابات. يمكن إيجاز عناصر نجاح التجربة السنغافورية في استشراف المستقبل في ثلاثة عناصر: وجود وحدات تنسيق مستقبلي في قلب الحكومة لعمليات الاستشراف تعنى بربط العمل المستقبلي بكافة مستويات العمل الحكومي، العناية بتطوير (العقليات الاستشرافية) وليس فقط مجرد إكساب الأفراد مهارات المستقبل، والعنصر الثالث هو التآزر القطاعي بين المؤسسات الحكومية والخاصة والأكاديمية والنقابات والمبادرات المدنية في سبيل إنجاح العمل المستقبلي.

وبالعروج إلى الهند، وهي المحطة الثانية في زيارة جلالته، فالعلاقات العُمانية الهندية يمتد تجذرها التاريخي في مجالات عديدة، وهو ما يتيح الاستفادة اليوم من اقتصاد صاعد بقوة في قيادة الاقتصاد العالمي. حيث تتوقع وكالة التصنيف S P Global Ratings أن اقتصاد الهند قد يصبح بحلول عام 2030 ثالث أكبر اقتصاد في العالم، فيما يتمركز الآن في المرتبة الخامسة بعد الولايات المتحدة، الصين، ألمانيا واليابان. يتشكل هذا الصعود وفق عدة عوامل تشكل البيئة التكاملية للاقتصاد الهندي، يأتي في مقدمتها «الاستثمار في فرصة العائد الديموغرافي» الهائلة، من خلال التركيز على التعليم النوعي، وحشد المهارات المهنية، وتكوين قاعدة ضخمة من القدرات الشابة في مختلف القطاعات، عوضًا عن التنمية المتكاملة والمركزة على استثمار عامل استقرار الأرياف وتنمية اقتصادياتها وعوامل الإنتاج لدى ساكنيها. ويعنينا هنا ما يقف خلف التجربة الهندية من مؤسسات لاستشراف المستقبل. حيث تمتلك الهند - على غرار سنغافورة - مؤسسات تقود التوجهات المستقبلية؛ فهناك (NITI Aayog) المؤسسة التي تعمل كـ (عقل للحكومة) في الهند، حيث تعمل على «تطوير رؤية مشتركة لأولويات التنمية الوطنية وقطاعاتها واستراتيجياتها»، بالإضافة إلى «تقديم المشورة وتشجيع الشراكات بين أصحاب المصلحة الرئيسيين ومراكز الفكر الوطنية والدولية ذات التفكير المماثل، وكذلك المؤسسات التعليمية وأبحاث السياسات». وهناك أيضًا (مركز أبحاث التكنولوجيا لحكومة الهند)، والذي يعمل على «إعداد تقارير الاستبصار التكنولوجي، وتطوير التكنولوجيا وإعداد تقارير الفرص التجارية المرتبطة بالتكنولوجيا، وتقييم أحدث التقنيات وتحديد الاتجاهات للتنمية التكنولوجية». إضافة إلى عدة مراكز أبحاث قطاعية يتشكل جزء من دورها في تقديم الاستبصار للحكومة الهندية فيما يرتبط بالسياسات، والتخطيط الاستراتيجي وفرص المستقبل.

إذن يُشكل العمل المستقبلي متمثلًا في: مسح الأفق، وتحديد الإشارات المستقبلية، ووضع سيناريوهات المستقبل، وتحديد العوامل الأكثر تأثيرًا على مساقات التخطيط الاستراتيجي عنصرًا حتميًا وضروريًا اليوم في نهج عمل الحكومات المستجيبة للمستقبل، والأكثر قدرة على التكيف مع متغيراته. بل وأصبحت منظومات بناء «الفكر المستقبلي» نموذجًا مركزيًا في قلب مؤسسات التعليم والتدريب وتطوير القوى العامة والمهارات. وهو أمر لا يمكن اكتسابه بمجرد دورات تدريبية وتأهيلية لاحقة في المسارات الوظيفية فحسب، بل ينبغي أن يتحول إلى أدوات تعليمية ومنهجيات ممارسة في قلب النظام التعليمي. ومما لا شك فيه أن الزيارتين الساميتين لهاتين الدولتين ذات الإرث في العمل المستقبلي تشكل دعامة لتبادل الخبرات والتجارب في هذا المجال تحديدًا، إضافة إلى غيرها من مجالات التعاون والتبادل المشترك. وفق الله سلطان البلاد وحفظه حلًا وترحالًا.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: استشراف المستقبل العمل المستقبلی السنغافوریة فی العمل الحکومی فی استشراف فی قلب

إقرأ أيضاً:

“التربية” و”الداخلية” تستكملان الزيارات الميدانية للمدارس خلال أكتوبر الحالي ضمن حملة “بهمتنا نحقق حلمنا”

أعلنت وزارة التربية اليوم الأربعاء عزمها القيام بالتعاون مع وزارة الداخلية بتنفيذ زيارات ميدانية تشمل 35 مدرسة في جميع المناطق التعليمية خلال شهر أكتوبر الحالي وذلك للتوعية بأهمية تحية العلم من خلال توزيع منشورات توعوية للمعلمين والطلبة حول أهمية الحفاظ على علم الكويت واحترامه.

وذكرت (التربية) في بيان صحفي أن تلك الزيارات تأتي استكمالا للحملة الإعلامية التوعوية المشتركة بين وزارات التربية والداخلية والإعلام ومركز التواصل الحكومي تحت شعار (بهمتنا نحقق حلمنا).

وأضافت أن هذه الزيارات تهدف إلى ترسيخ الهوية الوطنية والانتماء مع التأكيد على حماية علم الكويت الوطني والحفاظ عليه باعتباره رمزا للدولة ومسؤولية وطنية مشتركة.

وأشارت إلى أنه في هذا السياق قامت وزارة الداخلية بزيارة إلى مدرسة (أميمة بنت حمزة) المتوسطة للبنات في منطقة (جابر الأحمد) التابعة لمنطقة العاصمة التعليمية حيث شاركت الطالبات في تحية العلم وقدمت هدايا للفائزات في مسابقة وزارة الداخلية.

ونقل البيان عن مديرة المدرسة نايفة القحص إعرابها عن الفخر باستضافة هذه الحملة مؤكدة أهمية تعزيز حب العلم وتشجيع الطالبات على المحافظة عليه.

من جانبها قالت النقيب مريم ناصر من إدارة العلاقات العامة والإعلام الأمني بوزارة الداخلية وفق البيان إن هذه الزيارة تأتي ضمن جهود ترسيخ قيم المواطنة وتحقيق أهداف الحملة المشتركة (بهمتنا نحقق حلمنا) معبرة عن تمنياتها بالنجاح والتوفيق للطلبة.

المصدر كونا الوسومبهمتنا نحقق حلمنا وزارة التربية وزارة الداخلية

مقالات مشابهة

  • بدور القاسمي تترأس اجتماعاً استشارياً لقيادة التطوير المستقبلي لـ «أميركية الشارقة»
  • الشيخة بدور تترأس اجتماعاً استشارياً استراتيجياً لقيادة التطوير المستقبلي للجامعة الأميركية في الشارقة
  • الحكم على وزير سابق بالسجن عاما بتهم الفساد وعرقلة العدالة
  • المندوبية السامية للتخطيط تعلن انتهاء تجميع معطيات إحصاء الأسر والشروع في مرحلة أخرى
  • “التربية” و”الداخلية” تستكملان الزيارات الميدانية للمدارس خلال أكتوبر الحالي ضمن حملة “بهمتنا نحقق حلمنا”
  • حاضر ومستقبل المنطقة على المحك.. تحذير برلماني من خطورة التصعيد الإيراني- الإسرائيلي
  • النائب أيمن محسب: التصعيد العسكري يضع حاضر ومستقبل المنطقة على المحك
  • عبد اللطيف: الهدف من الزيارات الميدانية متابعة تقديم عملية تعليمية حقيقية
  • وزير التعليم: الزيارات الميدانية لمتابعة تقديم عملية تعليمية حقيقية للطلاب داخل الفصول
  • شرطة دبي تستشرف مستقبل التنقل الذكي والتأمين على الممتلكات