كيان اللغة العربية في عُمان
تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT
تشكِّل اللغة أحد أهم مكونات الهُويات المجتمعية؛ حيث تُسهِم في تشكيل طريقة تفكير الناس وتوجهاتهم، إضافة إلى قدرتها الثقافية والاقتصادية التي تمكِّن الدول من بناء حضارات مستقلة دالة عليها، وعلى تاريخها الحضاري، ولهذا فإن العالم يُدرك أهمية اللغة وسلطتها على المجتمعات، وإمكاناتها التي تؤسِّس أنماط حياتها وتتماشى مع آفاق مستقبلها، وهو المنطلق الذي يجعل منها سلطة حضارية، دفعت بعض الدول إلى اتخاذها أساسا للهيمنة الثقافية بل وحتى الاقتصادية.
إن اللغة تمثِّل قوة المجتمعات ووحدتها الثقافية، وهُويتها الوطنية، ولهذا فقد أسَّست سياساتها اللغوية التي انعكست على قوانينها وتشريعاتها وبرامجها الوطنية الراعية للغة، والداعمة للمقتضيات الحضارية والسياسية المرتبطة بالدين والعمق التاريخي؛ فللغة تاريخها الشاهد على عراقتها وبُعدها الفكرية الذي يظهر ضمن ممارسة المجتمعات وقدرتهم على الحفاظ عليها من ناحية، وإمكانات تمثلهم لها في مختلف أنماط حياتهم من ناحية أخرى.
فاللغة دالة على القدرة المعرفية، والسلطة السياسية والاقتصادية، القادرة على حمايتها من الهيمنة الخارجية التي يمكن أن تشكِّل خطرا على المجتمع، فالكثير من الدول التي لا تقبل بدخول أية لغة أخرى غير لغتها الوطنية حتى وإن كان على سبيل وصفها لغةً ثانية؛ ذلك لأنهم يدركون قوة اللغة وقدرتها على التغيير المعرفي وهيمنتها على المجتمع عبر الوسائط الاجتماعية والاقتصادية، والصراعات اللغوية التي يمكن أن تشكِّل خطرا على اللغة الوطنية.
ولهذا فإن سلطنة عُمان بوصفها دولة معرفية وحضارية، استطاعت أن تؤسِّس هُويتها على ركيزة اللغة العربية باعتبارها هُوية لغوية راسخة؛ فهي وسيلة التعبير والتفاهم والتواصل، بل هي لغة التعليم، والمكاتبات والمراسلات والاتفاقيات الدولية، والمعاملات التجارية، فاللغة العربية اللغة الرسمية للدولة حسب النظام الأساسي، وهذا يعني أنها أحد مقومات الشخصية العمانية، التي تميِّزه بهُوية عربية، لذا فإن حمايتها وتطويرها يُعد انطلاقا من ذلك واجبا وطنيا.
فمنذ القِدم كان في عُمان الاهتمام باللغة العربية تدوينا معجميا ودراسات نحوية وصرفية وصوتية ودلالية، وعناية بالآداب المرتبطة بها، وذلك من خلال تلك الجهود الكبرى التي قدمها العلماء والأدباء ، وما تقوم به اليوم المراكز والجامعات من جهود علمية لها دور فاعل في دراسة اللغة بمختلف أنماطها ، والحفاظ عليها وتطويرها وتنميتها بما يتناسب والتطور اللغوي الذي تتميَّز به، إضافة إلى الجهود المتفرقة في الترجمة والتعريب.
كما اعتنت عُمان باللغة العربية سواء من خلال السياسات والتشريعات، أو الممارسة التي تكفل تلك الحماية والتطوير؛ فلقد شكَّلت أساسا قانونيا في العديد من قوانين الدولة، بدءا من تلك المتعلِّقة بالتعليم والتي تنص صراحة على استخدام اللغة العربية لغة للتدريس عدا في تدريس بعض المقررات التي تقتضي طبيعتها استخدام لغة أخرى، وليس انتهاءً بالمعاملات التجارية، التي تُشكِّل نمطا من أنماط القوة اللغوية.
ولأن اللغة ترتبط بالسياسة والاقتصاد والتجارة، فإنها تقوى بهذا الارتباط، وتعده مجالا خصبا للنهوض والتطوُّر، ولقد دلَّت قوانين الدولة وسياساتها على الاهتمام باللغة العربية والتمسُّك بها باعتبارها كيانا يمثِّل جوهر الثقافة العمانية ومكمن القوة الناعمة للهُوية الوطنية؛ فاللغة العربية بموجب القوانين والتشريعات لغة الكتابة للبيانات الجمركية، ولغة التحكيم الأساسية في المنازعات المدنية والتجارية، ولغة صحائف الدعاوى التجارية والمستندات المتعلقة بها في المحاكم التجارية، ولغة العلامات والبيانات التجارية، ولغة فواتير البيع والشراء للسلع، وهي لغة الإعلانات واللافتات التجارية والترويج، وهذا ما نجده في كافة التعاملات التجارية حتى البسيطة منها.
إضافة إلى أن اللغة العربية لغة القانون في الدولة؛ فبها تُحرَّر الوثائق الرسمية والتقارير والمحاضر، وتُجرى بها المرافعات، وتصدر بها الأحكام. إنها لغة التعليم، والثقافة والإعلام، والاقتصاد، والقضاء، فهي القوة التي تمثِّل الكيان اللغوي للدولة واستقلاليتها اللغوية.
كتب خالد الجيوسي مقالا في صحيفة (رأي اليوم) قبيل إصدار قانون العمل العماني في يوليو من العام الحالي، صدَّره بـ (كيف انتصر سُلطان عمان للغة العربية في تعديلات قانون العمل العماني الجديد؟)؛ وهو تصدير لافت على الرغم من أن الكاتب لم يقصر مقاله على ذلك، إلاَّ أنه أشار صراحة إلى المادة السابعة من القانون التي تنص صراحة على أن (اللغة العربية هي اللغة الواجبة الاستعمال في اللوائح والقرارات والتعاميم التي يصدرها صاحب العمل لعماله، وإذا استعمل صاحب العمل لغة أجنبية إلى جانب اللغة العربية في أي من الحالات المذكورة فإن النص العربي هو المعتمد دون غيره).
إنه انتصار دال على الحكمة الرشيدة التي تُبنى على المعرفة بأهمية اللغة وقوتها الاجتماعية والثقافية السياسية والاقتصادية، ولهذا فإن استخدام المشرِّع عبارة (واجبة الاستعمال)، وتحديده أن النص العربي هو المعتمد (دون غيره) عند استخدام لغة أخرى إلى جانب العربية، تدُّل على وجوب هذا الاستعمال وقوته من ناحية، وتحديد السياسة اللغوية النافذة في الدولة بصرف النظر عن المرجعية اللغوية الخاصة بـ (صاحب العمل).
إن ما أطلق عليه الجيوسي (انتصارا) هو أصل من أصول الهُوية العمانية، التي تأسَّست عليها الحضارة في عُمان، وكونها اللغة الرسمية، يجعل منها أساسا لغويا يعزِّز المواطنة انطلاقا من علاقته بالثقافة الوطنية، ويرسِّخ مبادئ الانتماء والوحدة اللغوية، ولهذا فإن الانتصار لها انتصار للوجود الحضاري الممتد الذي يميِّز المجتمع والشخصية العمانية باعتبارها مرتكزا لا يتمثَّل في الدراسات والآداب وحسب، بل في شتى مناحي الحياة خاصة السياسية والاقتصادية، كونهما قوة المجتمع وواجهته.
فهذه المادة وغيرها من مواد القوانين واللوائح والسياسات التي حرصت على اللغة العربية حماية وصونا وتطويرا، تشكِّل أهمية كبرى في ترسيخ كينونة اللغة، وإمكاناتها باعتبار ارتباطها بالمجتمع العماني وحضارته من ناحية، وبمجالات حياته في مختلف القطاعات ، وما تملكه هذه اللغة من الفيض المعرفي من ناحية أخرى، لذا فإن قدرة اللغة تكمن في إيمان مجتمعها بها بوصفها قوة ثقافية وسلطة لغوية بهيمنة ورسوخ سياسي واقتصادي.
إننا إذ نحتفل مع العالم باليوم العالمي للغة العربية، فإننا نفاخر بما تقوم به عُمان من جهود هادفة إلى حماية هذه اللغة باعتبارها اللغة الرسمية، وما تبذله في سبيل ترسيخها في الممارسة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، بما يحافظ على كيانها ويُرسِّخ القيم اللغوية المرتبطة بحضارة المجتمع، ويحميه من سطوة اللغات الأخرى؛ فبالرغم من انفتاح عُمان على التنوع اللغوي ودعمها للتعلُّم بلغات أخرى، إلاَّ أنها حافظت على كيانها اللغوي المستقل.
إن ما تقدمه الدولة وما تقوم به خدمة للغة العربية، يُعدُّ أحد أشكال المحافظة على القيم الثقافية والحضارية التي تشكِّل أصل المجتمع العماني، وشكلا من أشكال الاستقلالية والاعتداد بالكيان الفكري الذي ينعكس على القيم المجتمعية وأخلاقه وفكره وأنماط حياته، ولهذا فإن هذا الاهتمام الذي تقوده الدولة يجب أن يكون ركيزة أساسيا للهُوية الوطنية التي تتمثَّلها المؤسسات خاصة التعليمية والأكاديمية؛ ذلك لأنها مسؤولة عن البناء المعرفي للأطفال والناشئة والشباب وهم مستقبل هذا الوطن، إضافة إلى دور المراكز والمؤسسات المعنية بالترجمات والتعريب في تأصيل هذا الاهتمام والمساهمة الفاعلة في إثرائه.
إن اللغة العربية هُوية لغوية وطنية، قادرة على التأثير ومسؤولة عن حماية كينونة المجتمع، ولهذا فإن علينا جميعا المساهمة الفاعلة في تعزيز هذه الهُوية والمحافظة عليها من خلال ممارساتنا مع أبنائنا ومعاملاتنا في كافة المجالات.
عائشة الدرمكية: باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللغة العربیة للغة العربیة إضافة إلى من ناحیة التی ت
إقرأ أيضاً:
معرض الكتاب يناقش تاريخ الأدب البولندي وحركة الترجمة إلى العربية
شهدت القاعة الدولية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56، ضمن محور “الترجمة إلى العربية”، إقامة ندوة لمناقشة كتاب بعنوان "موجز تاريخ الأدب البولندي"، للمؤلف يان تومكوفسي، ترجمة الدكتورة أجنيتكا بيوتر فسكا من سفارة بولندا، والدكتورة هالة صفوت كمال، وبحضور ميهاو هابروص، القائم بأعمال السفير البولندي بالقاهرة، والتي كان مقررًا إقامتها في قاعة العرض.
في البداية، عبّر ميهاو هابروص، القائم بأعمال السفير البولندي بالقاهرة، عن سعادته بصدور هذا الكتاب المهم، الذي يعرف بتاريخ الأدب البولندي، معبرا عن أمله في زيادة التعاون مع المركز القومي للترجمة في ترجمات أخرى.
من جانبها، قالت أجنيتكا بيوتر فسكا، إنها بوصفها مترجمة بولندية، انتقلت إلى مصر لتتفرغ بالكامل للترجمة، وأنجزت ترجمة عدة كتب من بلاد مختلفة، وكانت أول ترجمة لها من البولندية إلى العربية في عام 2016.
وأشارت إلى أنه في عام 2020، تم إطلاق مشروع نشر "مصر تتحدث عن نفسها" من العربية إلى البولندية وبعض الكتب التي تتناول تاريخ مصر والكتابات الوثائقية، وفي هذا الإطار تم تقديم الكتب بمقدمات كتبها باحثون أو كتّاب محليون، ونشرنا مذكرات هدى شعراوي التي لاقت رواجًا كبيرًا في بولندا.
وقالت إن حركة ترجمة الأدب البولندي إلى اللغة العربية، تعود إلى القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الوقت تم ترجمة أكثر من 70 عملًا.
وأضافت أن المترجم هناء عبد الفتاح متولي يعتبر رائد حركة ترجمة الأدب البولندي إلى العربية، وشارك في الترويج للأدب البولندي، من خلال ترجمة عدد من المسرحيات والروايات من الأدب البولندي.
وأشارت إلى أن دار الحصاد في سوريا، تعتبر من أبرز دور النشر العربية التي ساهمت في ترجمة ونشر الأدب البولندي في العالم العربي حديثا.
وأوضحت أن نجاح التبادل الثقافي في مجال الترجمة للأدب يعتمد على العلاقات الطبيعية، من خلال اختيار الكتب بناءً على اهتمامات المترجم واحتياجات السوق وأيضا الدعم المؤسسي.
ولفتت إلى أنه منذ عام 2018 تم نشر 22 ترجمة جديدة من اللغة البولندية إلى اللغة العربية، مشيرة إلى أن معهد الكتاب لديه برامج لدعم الناشرين والمترجمين الأجانب.
وعبرت عن أمنياتها أن يكون هناك حالة من الرواج للأدب البولندي في العالم العربي.
من جانبها، قالت الدكتورة هالة كمال، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، إنها بدأت الترجمة منذ صغرها حيث كانت تكتب وتقرأ اللغة البولندية منذ صغرها بسبب والدتها، حيث تعتبر اللغة البولندية لغة ثالثة بالنسبة لي.
وأضافت أن “هذا العمل الذي نتناوله يعد عملا موسوعيا، حتى أن قراءته لا تكون سهلة، خاصة أنه كتاب يتحدث عن تاريخ الأدب البولندي، فالترجمة ليست فقط نقل من لغة إلى لغة، ولكنها نقل من ثقافة إلى ثقافة”.
وأشارت إلى أنها حرصت على أن يكون الكتاب بمثابة سردية، وليس فقط مجرد ترجمة، فالكتاب يتضمن أحداثا سياسية بالإضافة إلى خصائص الثقافة البولندية وهذا أمر هام.
وأوضحت أن اللغة البولندية لغة متطورة، وهذا يظهر في التدرج في فصول الكتاب لترصد الحقبة منذ العصور الوسطى وحتى القرن العشرين.