لجريدة عمان:
2025-03-07@02:37:24 GMT

مرفأ قراءة.. الخيال التاريخي في الفكر الأوروبي

تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT

مرفأ قراءة.. الخيال التاريخي في الفكر الأوروبي

- 1 -

ما بين تطور الشعر والأدب والبحث التاريخي في القرن التاسع عشر، وتطور مناهج الكتابة التاريخية ومحاولة فحص الحدود بين الكتابة الأدبية والتاريخية في القرن العشرين، برز مفهوم "السرديات التاريخية" في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وارتبط مفهوم "السردية" بالطريقة التي تصاغ بها الأفكار حول موضوع معين في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية.

مصطلح "سردية" أو "سرديات" من المصطلحات التي بات منتشرة الآن، وعلى نطاق واسع، في أدبيات التاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية عمومًا... فهل هناك مدلول محدد يُستخدم به في إطار النقاشات العلمية والأوراق البحثية في هذه العلوم؟

توجهت بهذا السؤال إلى المؤرخ والأكاديمي المصري شريف يونس الذي تصدى لترجمة عمل هايدن وايت الكبير (الخيال التاريخي في أوروبا القرن التاسع عشر) وصدرت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في العام الأخير.

يعرِّف المؤرخ والأكاديمي المصري شريف يونس مفهوم "السرد" (ويقال أيضًا السردية في الاستخدام الشائع) بأنه، نوع من الكتابة النثرية يتميز بالقَص، أي أنه يُروى. لذلك يقال عن "التاريخ" مثلًا أنه "سرد". وبالتالي فهو أوسع من مختلف أنواع النصوص الأدبية النثرية، لكنه أضيق من صنف النثر العام الذي يحتوي السرد، وغيره. ومع البنيوية وما بعدها أصبح السرد narrative شاغلًا نظريا أساسيا في كثير من العلوم الإنسانية والفلسفة.

- 2 -

يعود تاريخ هذه العلاقة الملتبسة بين الأدب والتاريخ أو بين الخيالي والواقعي إلى فجر الفلسفة الإنسانية والانشغال بقضايا الفكر والإبداع.

فإذا ما عدنا إلى أقدم تاريخ لبحث العلاقة بين التاريخ والأدب (الشعر) فإننا نجد أن أرسطو يقول في بداية الفصل الثامن من كتابه "فن الشعر": "لا يختلف الشاعر عن المؤرخ في الكتابة بالشعر أو بالنثر؛ فعمل هيرودوت ربما يكتب شعرًا، ولكنه يظل نوعًا من التاريخ، موزونًا أو من دون وزن.

إن الفارق الحقيقي في أن أحدهما يحكي ما حدث، بينما يحكي الآخر ما يمكن حدوثه؛ وهكذا يكون الشعر أكثر فلسفة من التاريخ؛ لأنه يميل إلى التعبير عما هو عام، بينما يميل التاريخ إلى التعبير عما هو خاص. وأنا أعني بكلمة "عام" الكيفية التي يتكلم بها أو يتصرف بها شخص ما وفقًا لقانون الاحتمال والضرورة".

كان هذا هو الطرح الأول والأقدم وكلاسيكية في بحث حدود هذه العلاقة.

مع مرور العقود والقرون وتطور التفكير ومناهج البحث، برز توجه آخر يرى أن التاريخ والسرد يتشابهان إلى أبعد حد، وربما يتطابقان؛ فالرواية -من جهة- هي نوع من التأريخ المستند إلى بحث ووثائق ومعاينة وربما معاناة للأحداث والوقائع المحكية، والتاريخ -من جهة أخرى ومن وجهة نظر ما- لن يكون تاريخًا حقيقيًّا، إلا إذا استند إلى رؤية أو فلسفة ذاتية، تجمع الوقائع وتصوغها في صورة قصة لها حبكة وفيها صراع ونتائج.

إذن فالتاريخ والرواية كلاهما نوع من محاكاة الوقائع وسردها، وكل منهما يصوغ الوقائع والوثائق من منظور معين، وكل منهما يستخدم اللغة في صياغة هذه الحقائق.

- 3 -

وفي مقابل هذين التوجهين التقليديين، هناك توجهان آخران يقومان على نظريات السرد الحديثة، وما بعد الحديثة، تلك النظريات التي -كما يقول هايدن وايت مؤلف كتاب "الخيال التاريخي"- "نقضت التفرقة بين الخطاب الحقيقي، والخطاب المتخيل، التفرقة القائمة على تصور اختلاف أنطولوجي بين مرجعية الخطابين، أي المرجعية الحقيقية والمرجعية الخيالية. وقد جاء نقض هذه التفرقة لصالح تأكيد الجانب المشترك بين الخطابين".

إن الفصل بين ما هو تاريخي وما هو أدبي يواجه اليوم -كما تقول ليندا هاتشيون- تحديًا كبيرًا من قِبَل فن (ونظرية) ما بعد الحداثة، "وتتجه القراءات النقدية الحديثة للتاريخ والرواية إلى التركيز على أوجه التشابه لا الاختلاف بين هذين الشكلين من الكتابة؛ فقد لوحظ أن كليهما يستمد قوته من التشابه مع الواقع، وليس من أي حقيقة موضوعية. وكذلك فإنهما يعدان بناءين لغويين استقرت لهما أشكالهما السردية، ولا يمتلك أيهما اليقين الكامل من ناحية اللغة أو البناء، كما أنهما يبدوان متساويين في مسألة التناص، أي استخدام نصوص سابقة في النسيج النصي المعقد لكل منهما".

أحد التوجهين يرى أن "السرد" و"السردية" هما الظاهرة الأشمل، التي تضم كل ما في حياتنا من ظواهر، وأن السرد تمامًا كاللغة، خاصية جوهرية للإنسان، وأن الإنسان لا يستطيع أن يفهم الحياة ولا أن يصوغها بعيدًا عن هذه الخاصية؛ فهو يؤرخ بالسرد، ويكتب العلوم بالسرد، ويفكر بالسرد، ويتحدث سردًا. أو كما سبقت الإشارة إلى عبارة جوناثان كوللر "إننا نتعقل الأحداث من خلال قصص ممكنة. ويذهب فلاسفة التاريخ إلى أن التفسير التاريخي لا يتبع منطق السببية العلمية، وإنما منطق القصة، فلكي تفهم الثورة الفرنسية، مثلًا، عليك فهم السرد الذي يظهر الكيفية التي أفضى بها حدث إلى غيره، فالأبنية السردية منتشرة في كل مكان".

- 4 -

هذه العلاقات الإشكالية بين الرواية والتاريخ، حاضرة دائمًا في كلام منظري ما بعد الحداثة عن قضايا كثيرة، مثل التناص والذاتية والأيديولوجيا، وبعضهم ينظر اليوم إلى القص بوصفه "الأمر الأكبر" الذي يشمل هذه القضايا كلها، لأن عملية خلق القص قد أصبحت شكلاً جوهريًّا من أشكال الفكر الإنساني، وتلعب دورها في فرض المعنى والاتساق الشكلي على فوضى الأحداث، والقص من وجهة نظرهم هو الذي يترجم المعرفة إلى حكي، وهذه الترجمة بالتحديد هي ما يشغل رواية ما بعد الحداثة ومنظريها.

إنهم يميزون بين "أحداث" الماضي أو التاريخ أو حتى أحداث الحياة الواقعية، وبين "الحقائق" التي نتوصل إليها من هذه الأحداث أو نعطيها إياها؛ فالحقائق أحداث أعطيناها معنى. إن مناظير تاريخية مختلفة ستصل من نفس الأحداث إلى حقائق مختلفة.

وهذا الاتجاه يمثله كثير من دارسي التاريخ وفلاسفته على وجه الخصوص، ولعل من أهمهم هنا كولنجوود، وجوتشلك. وقد ركز كولنجوود في كتابه "فكرة التاريخ" على ما سماه بـ "الخيال التاريخي"، وهو الذي يقوم بعمليات ذاتية مهمة، منها الاختيار من بين الوقائع والوثائق المتاحة، وصياغة الفكرة، ثم النقد، وكلها علامات على الاستقلالية التي لا غنى عنها للمؤرخ.

كما أن كولنجوود يتحدث عن الثغرات التي يسدها خيال المؤرخ عبر النقد والإنشاء، بقوله: "الخيال -"هذه الملكة العمياء التي لا غنى عنها"، والتي لا نستطيع على حد تعبير "كانت" أن ندرك العالم المحيط بنا بدونه- ضروري كذلك للتاريخ.

وهذا الخيال الذي ينشط في صورة استدلال عقلي بحت، لا صورة خرافة تهذي وتتخبط، هو الأصل في كل إنتاج للصياغة التاريخية.. يجب أن تنطوي الرواية، كما ينطوي التاريخ، على مغزى، بحيث لا ينبغي أن يقحم في أحدهما تفصيل لا يفرضه منطق الأحداث. والذي يقرر هذه الضرورة المنطقية في الحالتين هو الخيال.

- 5 -

ستجد أن الرواية والتاريخ على حد سواء، يحملان في طياتهما من العناصر ما يكفل تفسيرهما وتبريرهما، بحيث يبدو كل منهما نتاج نشاط مستقل، أو نشاط يفرض نفسه، كما أن النشاط في الحالتين هو نشاط الخيال الإبداعي العقلي.. ولا يوجد ثمة فارق بين إنتاج المؤرخ، وبين إنتاج الروائي؛ بوصف الاثنين من نسج الخيال.

والنقطة التي يختلفان فيها، هي أن الصورة التي يرسمها المؤرخ قصد بها أن تكون صورة صادقة: إن الروائي ليلتزم بشيء واحد فقط- ذلك هو رسم صورة متشابكة متماسكة، صورة ذات مغزى. أما المؤرخ فيلتزم بواجبين معًا- أن صورته يجب أن تستوفي هذا الوصف السابق، بالإضافة إلى رسم صورة ترسم الأشياء بالوضع الذي كانت عليه، وتصف الأحداث على نحو ما حدثت فعلاً"..

لكن بحث المسألة برمتها سيختلف جذريا وموضوعيا ومنهجيا مع سفر هايدن وايت الكبير "ما بعد التاريخ: الخيال التاريخي في أوربا القرن التاسع عشر" الذي ترجمه إلى العربية شريف يونس وصدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة... لكن هذا يقتضي حديثا آخر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التاریخی فی کل منهما ما بعد

إقرأ أيضاً:

ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «8-13»

ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «8-13»

قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024 (8-13)

بقلم سمية أمين صديق

غلاف الكتاب

إهداء المؤلف لكتابه:

“إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”.   المؤلف

نلتقي اليوممع الفصل الثامن من كتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام.  جاءالفصل بعنوان:”إنطلاقاً من دعوة محمود محمد طه للتغيير ووفقاً لرؤيته كيف ومتى ستهب رياح التغيير؟”، وسأتناوله في حلقتين، من خلال محاور الفصل كما جاءت في الكتاب، وهي:

متى وكيف تهب رياح التغيير؟

الوصية المشرفة: كثفوا العمل.. يا عمر[القراي] لا تتوقف عن العمل

تكثيف العمل هو السبيل لمقاومة سردية رجال الدين: سردية كسل العقول وتناسل الجهل

هل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/ جفونها، والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة: إن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام؟

القيام بالواجب المباشر خروج عن مأزق الموقف السلبي

ما الذي يحتاجه الواجب المباشر

العبادة في الخلوة مدرسة الإعداد النظري، فما هو ميدان التطبيق العملي؟

عن مفهوم رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس

الجمهوريون دعاة التغيير الجذري

مفهوم التغيير الجذري عند محمود محمد طه

ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني

يقول المؤلف عن هذا الفصل، أنه يسعى للإجابة عن سؤال مركزي في فضاء الفهم الجديد للإسلام، و يتصل بعلاقة الفكر بالواقع، و السؤال: متى وكيف ستهب رياح التغيير ؟ انطلاقاً من رؤية محمود محمد طه، و هو الداعي إلى الثورة الفكرية و الثورة الثقافية لإحداث التغيير. ووضع المؤلف السؤال بصيغة أخري، حيث يُقرأ، ماهي الأمور التي يجب توفرها حتى  تهب رياح التغيير ؟

يقول عبد الله :( هذا هو السؤال المركزي، و الذي أجاب عنه محمود محمد طه، و هو سؤال يتصل بالواجب المباشر و بالمسؤولية الفردية في العمل. و يرى عبد الله، أن الناس قد انصرفت عن هذا السؤال بأسئلة أخري على شاكلة، من الذي سيطبق الرسالة الثانية من الإسلام؟ و هل يُمكن تطبيق الرسالة الثانية من الإسلام قبل ظهور المسيح؟ و هل حقاً ليس من واجب الجمهوريين الآن الدعوة أو التبشير بالفكرة الجمهورية؟ هل المطلوب العمل الداخلي في النفوس أم العمل الخارجي لدعوة الآخرين؟ ويضع عبد الله،  سؤالاً ملحاً : ما الذي يمنع الجمع بين العملين الداخلي والخارجي لدعوة الآخرين؟ ويجيب: حقاً لا مانع، بل المطلوب الجمع بينهما. ويواصل بوضع الأسئلة؛ هل يكتفي الجمهوريون بالتوجه الروحي بدلاً من العمل على دعوة الآخرين؟ ماهي القامات المطلوبة لإحداث التغيير الكوكبي المرتجى ؟ هل المطلوب العمل أم إنتظار ظهور الرجل؟ هل المطلوب انتظار الوقت؟ هل الإنشغال بإعداد المواعين أولى من العمل الخارجي؟ هل هناك داعي للعمل الخارجي طالما نحن في إنتظار الرجل؟ يقول المؤلف : هذه الأسئلة ، و هناك غيرها، وعلى الرغم من أهميتها و قيمتها، إلا أنها صرفت الناس عن الواجب المباشر ، ذلك لأنها مثلت الإنشغال بما بعد اللحظة الحاضرة، كما أن الإجتهاد في الإجابة عنها أدى للقعود، و الهجر للعلمية، التي هي معجزة الرسالة الثانية من الإسلام، حيث علمية القرآن، و العلم لا ينفصل عن العمل قط. و يواصل المؤلف، أن الواجب المباشر، الذي هو عيش اللحظة الحاضرة، يتجلى بوضوح في الإجابة عن السؤال المركزي : ماهي الأمور التي يجب توفرها حتي تهب رياح التغيير ؟ و يؤكد المؤلف، أن هذه الأسئلة تتصل بالمسؤولية الفردية، و بالقيام بالواجب المباشر، كون القيام بالواجب المباشر يحقق إنجاز المطلوب، و هو أن تهب رياح التغيير.

عبد الله الفكي البشير متي و كيف تهب رياح التغيير؟

“هذه الدعوة فكر جديد، لكنه في تطبيقه العملي يمشي على رجلين مع الناس”.

محمود محمد طه

يقول المؤلف : ( أجاب  محمود محمد طه على هذا السؤال، ضمن حديثه عن “محتوى ما يُذاع”، و قد وردت الإشارة إليه آنفاً، فبيّين بأن هناك أمور  تحتاج لتوضيح للناس، ثم حدد  تلك الأمور و أجملها  كما يلي : ”

أولاً : أن يُوضح للناس و بحسم قاطع أن الإسلام رسالتان”و يجرى التفصيل الذي يعرفه الأخوان الجمهوريين جيداً حتى لا يكون في هذا الأمر أدنى لبس و لا غموض” و أن الجمهوريين هم دعاة البعث الإسلامي، دعاة الرسالة الثانية من الإسلام، و فيها هي وحدها حل جميع المشاكل لجميع المجتمعات في اليوم الحاضر و الأيام المقبلة.

ثانياً: أن يتم التفصيل عن آيات الأصول ( الآيات المكية)، و آيات الفروع (الآيات المدنية)، وعن المسلمين و المؤمنين، و الأصحاب و الأخوان، و عن الشريعة و السنة.

ثالثاً: أن يتم التفصيل عن قصور الشريعة السلفية عن حاجة إنسان اليوم، و عن التناقض الذي يعيشه المسلمون في واقع حياتهم مع بعض صور شريعتهم.

رابعاً: أن يتم التفصيل عن الدعوة إلى تطوير التشريع /تطوير الشريعة الإسلامية. و يضيف عبد الله  قائلاً : و بتحديد هذه الأمور الأربعة تكون قد ظهرت المهمة بجلاء، و تحدد الهدف المنشود بدقة، ففي التوضيح لهذه الأمور، تكمن المهمة التي يجب القيام بها، و متى ما داوم الناس على القيام بالمهمة، فإنهم قد استوفوا استحقاق الشرط المطلوب، الذي يسوق إلى الهدف المنشود، وهو أن تهب رياح التغيير. و يقول المؤلف  موضحاً : ( و يفيدنا حديث محمود محمد طه، عن رياح التغيير، و يبين لنا بأن الشرط المطلوب توفره حتي تهب رياح التغيير، هو فقط توضيح تلك الأمور للناس، و ليس من بين الشروط أن يؤمن الناس  بالفهم الجديد للإسلام أو يقتنعوا به، أو أن يصبحوا جمهوريين، أو أن يلتزموا بطريق محمد، و إنما فقط أن توضح لهم تلك الأمور، و تتضح عندهم. و متي ما وضحت لهم، كما قال محمود محمد طه.” فإن رياح التغيير قد هبت” وعندها لن تقف قوة المُبطلين المكذِّبين أمام الثورة الفكرية و الثورة الثقافية التي يرجوها للشعب السوداني الأصيل وعبره للبشرية جمعاء. كما يفيدنا كذلك، حديث محمود محمد طه، بأن المطلوب هو العمل،أذ لايمكن توضيح تلك الأمور  للناس إلا عبر العمل و العمل ثم العمل..) ، يقول المؤلف:، أن جل الأسئلة التي طُرحت عليه خلال العقد الماضي(12013-2023)، خلال تقديمه  ومشاركته في نحو  مائة فعالية عن الفهم الجديد للإسلام، سواء كانت محاضرات أو ندوات أو لقاءات إعلامية أو مؤتمرات علمية والتي تم تنظيمها من قبل جهات مختلفة في (11) دولة حول العالم، لم تخرج جميع هذه الأسئلة التي طُرحت عليه، عن الأمور التي حددها الأستاذ محمود محمد طه، و وجه بالعمل على توضيحها للناس،حتي تهب رياح التغيير. وهذا أنما يؤكد بأن الناس في حاجة لتوضح لهم تلك الأمور وهذا ما يحتم العمل وتكثيفه.

الوصية المشرفة: كثفوا العمل.. يا عمر [القراي] لا تتوقف عن العمل

يحدثنا المؤلف، بأن العلم لا ينفصل عن العمل عند  الأستاذ محمود محمد طه، و هو الذي يرى بأن العلم في الإسلام، معناه العمل” و أي علم لا يستتبع العمل فهو عِلمٌ ناقص” و لهذا فإن دعوته للإخوان الجمهوريين بتكثيف العمل، تتضمن الاستيفاء بشرط استتباع العلم للعمل، و ضرورة القيام بمهمة توضيح الأمور ، آنفة الذكر للناس حتي تهب رياح التغير .ففي رسالة موجهة من الأستاذ محمود محمد طه للإخوان  الجمهوريين، بتاريخ السبت 1 سبتمبر 1984، كتب قائلاً ” أعتقد أن شعبنا لا يزال يعطي الوزن للكثرة العددية لا للفكر .. الشعب غير مستعد لقيادتكم الآن.”. ثم وجههم،قائلاً “.. كثفوا العمل الفكري حتي يتم وعي الشعب..كثفوا توزيع المنشور و أكثروا منه و من الحوار على هذا النحو الذي أراه منكم..لا تتعاونوا الآن مع أي جهة في عمل جماهيري بدون و عي من جانبهم هم .. إن الشعب سيستعد لقيادتكم يوم يظهر وعيه بفكركم” و يقول عبد الله، عن طلب الأستاذ  من الإخوان الجمهوريين بعدم التعاون مع أي جهة في عمل جماهيري ، بدون وعي من جانبهم هم ، يقول : إن هذا الطلب يقودنا للحديث عن موقف محمود محمد طه من الجهات العاملة في المجال العام، و موقفه من الأحزاب السودانية، وهذا ما لايسع المجال للحديث عنه الآن .. وبشرنا  المؤلف بكتاب قادم، بعنوان : في نقد المنظومة السياسية في السودان: قراءة في آراء محمود محمد طه و مواقفه من الأحزاب السودانية.

أكد المؤلف أن الحث  على العمل و الاستمرار فيه،  ظل من أهم توجيهات الأستاذ محمود محمد طه. ففي مقابله أجراها المؤلف مع عمر القراي، وهو من كبار الجمهوريين، حكي، بأنه و في آخر لقاء له جمعه مع الأستاذ محمود محمد طه في سجن كوبر بالعاصمة الخرطوم، يوم الثلاثاء 15 يناير 1985،و ذلك قبل تنفيذ حكم الإعدام بثلاثة أيام، كان توجيه الأستاذ محمود محمد طه، أن يعمل الأخوان الجمهوريين، و لا يتوقفوا عن العمل.. ووجه عمر القراي قائلاً:”ياعمر لا تتوقف عن العمل”. ورد عمر ب(حاضر). كتب عبد الله معلقاً “يا لها من وصية مشرفه”.

تكثيف العمل هو سبيل لمقاومة سردية رجال الدين: سردية كسل العقول وتناسل الجهل

تحدث عبد الله، عن السردية التكفيرية التي نسجها رجال  الدين، و التي تحكمت، و لا تزال تتحكم في التعاطي مع الفهم الجديد للإسلام و السيرة الفكرية لصاحبه، ومع السجل الضخم للإخوان الجمهوريين العامر بالعطاء و التضحية. كتب عبد الله: ( لقد نجح رجال الدين، و هو نجاح إلى حين، عبر تحالف ديني عريض، في تنميط صورة محمود محمد طه و الإخوان الجمهوريين في الشارع السوداني و الإسلامي، بلصق تُهم الكفر و الإلحاد و الردة عن الإسلام.) و بيّن عبد الله؛ أنهم بدأوا ذلك بتكفير  تلاميذ محمود محمد طه و فصلوهم عن المعهد العلمي بأم درمان في العام 1960، ثم تآمروا مع شركائهم، فجاءوا بحكم المحكمة المهزلة، بردة محمود محمد طه عن الإسلام 1968. ثم نشط التحالف الديني العريض في سبيل إصدار الفتاوي، فجاءت فتوى الأزهر بتكفير محمود محمد طه (1972)، و فتوى رابطة العالم الإسلامي بردته عن الإسلام (1975)، و تمويلها لاستكتاب الأساتذة ضده بالتعاون مع جامعة أم درمان الإسلامية ووزارة الشؤون الدينية و الأوقاف السودانية. فضلاً عن حملات هيئة علماء السودان، الواسعة و المنتظمة و المستمرة، في تضليل الشارع السوداني والإسلامي. كانت هيئة علماء السودان تطلب من أئمة المساجد و الوعاظ في مختلف أنحاء السودان، أن يشيعوا من على منابر المساجد، كفر محمود محمد طه و  الإخوان الجمهوريين، و إعلان ردتهم عن الإسلام. ويواصل عبد الله :(تبع ذلك أن  تبني التحالف الديني العريض العمل المستمر ضد الفكر الجمهوري، عبر الإنتاج المعرفي التضليلي، الكتب و المقالات، و تدريس الأجيال في الجامعات و المعاهد العليا في السودان و في الفضاء الإسلامي، فضلاً عن التشييع لتلك الفتاوى. و ظل يعمل على مدى (70) عاماً، بلا ورع علمي ووازع أخلاقي، في النسج لهذه السردية التكفيرية الراكدة و الباطلة، و التسييل لها و إنتاج الأدبيات حولها. حتى عمت الفضاء الإسلامي، فأرهبت  الكثير من المثقفين و المفكرين، و بلغ خبرها الأجيال الجديدة التي ُلدِت بعد تنفيذ حكم الإعدام على محمود محمد طه في 18  يناير 1985.

هل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/جفونها والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة: إن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام؟

يقول عبد الله الفكي: أمام هذا التضليل المقصود، و العبث الفكري، و الفوضى العلمية، و العمل اللا أخلاقي الذي قام به التحالف الديني العريض، و لا يزال، في محاربة الفكر الجمهوري، وفي تكفير محمود محمد طه والإخوان الجمهوريين، هل يُقبل من الأحرار غض الطرف أو التزام الصمت؟ و هل يستقيم التخلي عن العمل في مواجهة هذا الضلال و التضليل و الإكتفاء بالتوجه الروحي مثلاً؟  و هل يعقل أن ينام الجمهوري و الجمهورية ملء جفونه/جفونها و الناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة: أن محمود محمد طه كافر و مرتد عن الإسلام ؟و يجيب عبد الله: الإجابة عن كل هذه الأسئلة قطعاً لا، ثم يتساءل: إذن ما المطلوب؟  و تأتي إجابته بقوله : المطلوب هو القيام بالواجب المباشر   The Most Immediate Duty، حيث العمل من أجل توضيح تلك الأمور للناس، كما حددها محمود محمد طه، حتي تهب رياح التغيير . و أشار  عبد الله،  لما يردده البعض “عن الحاجة لتهيئة الظروف السياسية حتى تُفتح المنابر الحرة و تنطلق الدعوة” ويتساءل: هل المطلوب أن ينتظر الناس تهيئة الظروف السياسية حتى يتم فتح المنابر الحرة ؟ يقول عبّد الله : هذا سؤال تكمن إجابته في معطيات البيئة الإنسانية الجديدة، حيث المنابر الحرة و مخاطبة الناس في العالم، أصبحت أمراً متاحاً للجميع، و لا يحتاج لتهيئة سياسية، لقد هيئته التكنولوجيا. فمنحت الإنسان فرصة المنابر الحرة، التي غدت كوكبية.

ويؤكد عبد الله، أنه في :(خلاصة الأمر إن الإنشغال بأي أسئلة لا تخدم توضيح تلك الأمور للناس، التي حددها محمود محمد طه، هو إنصراف عن الواجب المباشر، و هو موقف سلبي.)

القيام بالواجب المباشر: الخروج عن مأزق الموقف السلبي

“لا تقف موقف سلبي، تعمل الواجب المباشر جهد الإتقان”

محمود محمد طه

الواجب المباشر

يعرف عبد الله الواجب المباشر عند الأستاذ محمود محمد طه، بأنه، هو الإستقامة، التي هي العيش في اللحظة الحاضرة. و يقول الأستاذ محمود محمد طه: فإذا استطاع المرء، أن يعيش في اللحظة الحاضرة، مشتغلاً بتجويد الواجب المباشر، من غير أن تذهب نفسه أسفاً على الماضي، و لا خوفاً من المستقبل، من غير أن يستخفه النصر، إذا نجح، أو أن يقتله اليأس، إذا أخفق، فإنه يكون قد ورد معين الحياة الكاملة، التي منها صدرت، في سحيق الآماد .. و يكون بذلك مستمتعاً بكمال حياة الفكر  وكمال حياة الشعور،  في داخل حصن آمن، ليس للشر إليه من سبيل. و بهذا  يكون إنشغال المرء بالدقيقة المقبلة، أي مابعد  اللحظة الحاضرة، إنشغال بغير الواجب المباشر، وهو إنشغال بما لا يعنيه..و أورد قائلاً: هناك حديث منسوب للحسن بن علي، يقول فيه:”من وثق بحسن إختيار  الله له، لم يتمن غير الحالة التي هو فيها” و يوضح عبد الله:( أن اللحظة الحاضرة هي ميدان عمل الواجب المباشر، أما اللحظة المقبلة، كما يقول محمود محمد طه، فهي مخفية عنا بإرادة الله و لكن مكشوفة لنا شريعته في مستويات: الشريعة، و الطريقة والحقيقة، لأن الحقيقة أيضاً شريعة، و لكن شريعة فردية.. الشريعة شريعة، و السنة شريعة ، و الحقيقة شريعة، و التفاوت فقط في المقدار بينهم. هنا كلما كان الفرد دقيق في النظر، كلما عرف ما يجب عمله، و لذلك لا يقف موقف سلبي، و إنما يعمل  الواجب المباشر جهد الإتقان، و  الإحسان.

ما الذي يحتاجة الواجب المباشر ؟ العبادة في الخلوة مدرسة الإعداد النظري، فما هو ميدان التطبيق العملي؟

إن شعارنا المستمر يجب أن يكون: أداء الواجب المباشر بإتقان..يجب أن يكون أداؤنا للواجب محاكاة لصنع الله، وتخلقاً بأخلاقه.”

محمود محمد طه،  1972

عن ذلك، أورد  عبد الله، قول الأستاذ محمود محمد طه؛ إن المقدرة على التمييز بين الواجبات: أيها المباشر ؟ و أيها الذي يليه؟و كذلك تقديم الواجب المباشر، بعد تمييزه، يحتاج إلى قوة فكر لا تتوفر إلا بالعبادة المجودة، و لكن العبادة ليست معنية لذاتها، و إنما المقصود دورها في سوق الفرد للعمل و المعاملة. يقول الإستاذ محمود محمد طه:” العبادة ليست مقصودة لذاتها.. العبادة وسيلة للعمل.. العبادة وسيلة للمعاملة.” و ليس للعبادة قيمة إن لم تنعكس في معاملة الجماعة، لأن معاملة الجماعة في حد ذاتها عبادة.يقول الاستاذ محمود محمد طه :لم يقل المعصوم “الدين المعاملة” إلا ليؤكد ضرورة حسن خدمة الناس، و حسن القول للناس، و حسن الظن بالناس.. و كل هذا لا يكون إلا بإتقان العبادة. ويلاحظ أن المعصوم لم يقل “الدين العبادة” .. و العبادة هنا حاضرة، كما يقول الاستاذ محمود محمد طه لأنه لا يمكن أن تكون هناك معاملة للناس في مستوي حسن العمل فيهم، و حسن الظن بهم، إلا إذا كانت هناك عبادة، و عبادة صحيحة.

عن مفهوم رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس:

أورد المؤلف عبارة للأستاذ محمود محمد طه، و هي:” لقد جاءني تعليق إبني المحبوب محمود المطبعجي على منشور أغسطس، قوله إن هذا المنشور (قدم الفكرة للواقع بقوة كادت ترفع الواقع للفكرة)، هذه العبارة أيقنتني و أبهجتني”

أوضح عبد الله، أن العبارة الواردة أعلاه تعود للأستاذ محمود محمد طه، و المقصود بمفردة الفكرة هي الفكرة الجمهورية. و يقول أن العبارة أصبحت من الادبيات الراسخة في المجتمع  الجمهوري، كونها محور الواجب المباشر، و المرتكز الأساس للثورة الفكرية التي تقود للثورة الثقافية. ترتبط العبارة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الثورة الثقافية التي دعا لها محمود محمد طه منذ العام 1951، و قد وردت الإشارة للثورة الثقافية في العديد من كتاباته و أحاديثه. من بين تلك الكتب على سبيل المثال لا الحصر، كتابه: أسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية ، (1955)، و في كتابه : لا إله إلا الله، (1969)، ثم نشر الأستاذ محمود محمد طه في العام (1972) كتاباً بعنوان الثورة الثقافية. ويوضح المؤلف:( و الثورة الثقافية عند الأستاذ محمود محمد طه ، هي النتيجة المباشرة “للثورة الفكرية”، والثورة الثقافية هي “نقطة إلتقاء الفكر بالواقع”. والفكر المقصود هو الفكر “الثائر”. و يوضح قائلاً : إذا التقى الفكر الثائر بالواقع فإن التغيير هو دائماً النتيجة.. و لايمكن إلا أن يكون التغيير  سريعاً، و مع ذلك، فإنه يجب أن يكون تغييراً بغير عنف ..”فالثورة الثقافية، على هذا هي التغيير السريع للأحسن، من غير عنف.. هي  تملك “سرعة” الثورة، و تبرأ من “عنف” الثورة .. فالثورة  الثقافية، بإيجاز، هي علم، و عمل بمقتضي العلم.. و هذا ما به يحصل التغيير “.

ويوضح عبد الله: (ولما كانت معادلة التغيير عنده، تشتمل على الواقع و الفكر، و أن التغيير يجيء نتيجة لتغيير الأفكار، فإن عبارة رفع واقع الناس للفكرة و إنزال الفكرة لواقع الناس، هي محور الواجب المباشر، الذي بموجب القيام به تهب رياح التغيير.

نلتقي في الحلقة التاسعة، وهي تتمحور في المحاور الآتية: واقع اليوم والحاجة المُلحة للفهم الجديد للإسلام؛ (الفكرة الجمهورية)- الجمهوريون دعاة التغيير الجذري- مفهوم التغيير الجذري عند محمود محمد طه- ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني.

ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «7-13»

 

الوسومالأستاذ محمود محمد طه التغيير الجذري التكفير الثورة الثقافية الفكرة الجمهورية الهوس الديني د. عبد الله الفكي البشير سمية أمين صديق عمر القراي

مقالات مشابهة

  • وزير الأوقاف: ندعم اليمن في استعادة الاستقرار وترسيخ الفكر الوسطي
  • ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «8-13»
  • مدير أمن محافظة اللاذقية لـ سانا: المجموعات المسلحة التي تشتبك معها قواتنا الأمنية في ريف اللاذقية كانت تتبع لمجرم الحرب “سهيل الحسن” الذي ارتكب أبشع المجازر بحق الشعب السوري
  • الوزير الشيباني: لأول مرة في التاريخ، خاطبت سوريا المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية عبر وزير خارجيتها. وأكدت من جديد التزامنا بحل هذه الأزمة-التي ورثناها عن نظام الأسد وعانينا منها لمدة 14 عاماً، من واجبنا أن نضمن عدم تكرار هذه الجرائم، وأن تت
  • حوار الفكر الروحي- تأملات في تاريخ التصوف وتطوره
  • بميزات استثنائية.. Oppo Enco Buds 3 Pro سماعة تفوق الخيال | اعرف مواصفاتها
  • مآرب نتنياهو في فتح الجبهة السورية.. قراءة متأنية في الأوراق التي يحاول اللعب بها!
  • حطيط: العدالة وحدها تبرد قلوب أهالي شهداء مرفأ بيروت
  • رسامني اطلع رئيس مجلس ادارة مرفأ صورعلى واقع المرفأ
  • البعريني: لتأهيل مرفأ العبدة وتحويله الى سياحي