سامر أبو دقة صحفي مصور وفني مونتاج في قناة الجزيرة بغزة، من مواليد عام 1978، عاش وترعرع في خان يونس، ورفض الخروج منها رغم تلقيه عروض عمل في الخارج، فبقي مرابطا في الميدان ينقل الحقيقة والخبر، ويوثق انتهاكات الاحتلال لأهله وبلده، حتى صار أحد أثمان عدوان "السيوف الحديدية" وأحد شهدائه، وبقي ينزف 6 ساعات دون تمكن سيارات الإسعاف من الوصول له، فارتقى شهيدا يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2023.

عرف بين زملائه بابتسامته التي لم تفارق وجهه، وبتفاؤله المستمر، وبشخصيته المحبوبة بين الجميع، وبطبيعته المرحة، بالإضافة إلى أدائه الإبداعي والمميز في الوسط المهني، وبرسالته الصحفية التي تمسك بها حتى آخر نفس، وكان دائما هو من يدفع الزملاء نحو إكمال إيصال الرسالة عند تعبهم من تغطية الأحداث.

المولد والنشأة

ولد سامر أبو دقة والملقب "أبو يزن" جنوب قطاع غزة عام 1978، وعاش وسكن بلدة عبسان الكبيرة قرب خان يونس التي استشهد فيها. له 3 أبناء وبنت يقيمون في بلجيكا بعيدا عن أبيهم الذي اختار البقاء للعمل الميداني في غزة.

وقبل أشهر من وفاته، زار أبو دقة عائلته في بلجيكا مخططا معهم أن يلم شملهم في غزة ويعودوا لأرض الوطن، ورغم محاولة إقناعه بالخروج منها في وضع الحرب الإسرائيلية عليها التي بدأت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإنه رفض رغم الإقامة الأجنبية التي بحوزته وقال "لن أغادر"، وآثر الاستمرار في التغطية مؤكدا ذلك قبل استشهاده بيومين.

التجربة الصحفية

التحق بالجزيرة في يونيو/حزيران 2004، وعمل مصورا وفني مونتاج، ويعد من النواة الأولى التي أسهمت في تأسيس مكتب الجزيرة في فلسطين، وقاد الفريق التقني في مكتب الجزيرة في غزة، وتجاوزت مدة عمله في الجزيرة 20 عاما.

عمل معه الزميل تامر المسحال 8 سنوات في غزة، ورافقه في مهمات وعمليات صحفية خارج فلسطين، وغطيا سويا الأحداث في سوريا ومصر وغيرهما. ويقول عنه المسحال إنه جمع بين مهارتي التصوير والمونتاج، وكان متميزا جدا في التصوير، وبقي يغطي في الميدان طوال تجربته الصحفية بشجاعة فلا يخاف ولا يهاب حاملا على عاتقه مسؤولية نقل الحقيقة.

تميز بعدسته التي أخرجت صورا مميزة، وصوّرت تقارير إنسانية وأفلاما وغيرها من الإنتاجات الإعلامية لمنصات الجزيرة المختلفة، وكان يتابع ويشرف على الإخراج الفني لتقارير الجزيرة.

وأثناء تغطيته العدوان الإسرائيلي على القطاع، الذي بدأ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان سامر أبو دقة لا يتوقف عن العمل، وكان حريصا على تغطية الأحداث طوال الوقت، فيحمل كاميراته بيده ويهرع لمكان الحدث، ويوثق الشهداء والانتهاكات من وسط الاستهدافات.

الاستشهاد

استشهد الزميل أبو دقة يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2023 بعد أن ظل ملقى على الأرض ينزف ومحاصرا في محيط مدرسة فرحانة لـ6 ساعات، حيث لم تتمكن سيارة الإسعاف من الوصول إليه إثر إصابته إلى جانب الزميل وائل الدحدوح خلال تغطيتهما قصفا إسرائيليا على المدرسة.

وووري الثرى صباح يوم السبت 16 ديسمبر/كانون الأول 2023 في خان يونس، وشيع جثمان أبو دقة أفراد من عائلته وزملاؤه ومحبوه في قطاع غزة.

واستهدف أبو دقة مع وائل الدحدوح أثناء مرافقتهما سيارة إسعاف كان لديها تنسيق لإجلاء عائلة محاصرة، وكان والزميل سامر يصوران حالة الدمار الكبيرة التي خلفها القصف الإسرائيلي، وتمكنت عدستهم من الوصول إلى مناطق لم تصلها أي عدسة كاميرا من قبل، وحتى الطوارئ والإسعاف لم يصلوا إليها.

وبعد انتهائهما من التصوير عاد أبو دقة والفريق الذي معه سيرا على الأقدام، لوعورة المنطقة التي لا يمكن للسيارات أن تسلكها، حتى باغتهم صاروخ مفاجئ، وتناثرت معداتهم وأصيبوا بشظايا، وبينما تمكن الدحدوح من السير مصابا لنهاية شارع بقي زميله سامر ينزف ملقى على الأرض، ولم تستطع سيارات الإسعاف الوصول إليه إذ استهدفتها قوات الاحتلال.

واستطاع أبو دقة التحرك لمكان آخر بعد إصابته الأولى، قبل أن تستهدفه طائرة استطلاع إسرائيلية للمرة الثانية فقتلته مباشرة مع عدد من المدنيين و3 من رجال الدفاع المدني.

وقال مكتب الإعلام الحكومي بغزة إن "جيش الاحتلال استهدف بشكل متعمد طاقم قناة الجزيرة للمرة الرابعة على التوالي في جريمة مكتملة الأركان ومخالفة للقانون الدولي"، داعيا الاتحادات الصحفية والهيئات الإعلامية والحقوقية والقانونية إلى إدانة هذه الجريمة.

وأضاف المكتب -في بيان- أن استهداف طاقم الجزيرة يأتي في إطار "ترهيب وتخويف الصحفيين"، واعتبره محاولة فاشلة لطمس الحقيقة ومنعهم من التغطية الإعلامية"، مؤكدا أن جيش الاحتلال قتل خلال الحرب على غزة 89 صحفيا واعتقل 8 آخرين وأصاب العديد منهم.

قالوا عنه

وعلى قبر أبو دقة، أدلى المراسل وائل الدحدوح بشهادة مؤثرة عن مسيرته، قائلا إنه كان من أكثر الزملاء إخلاصا لمهنته وللجزيرة "وفقدناه في فعل همجي (رغم أننا) كنا في مهمة رسمية موافق عليها وبتنسيق مباشر".

وقال الدحدوح إن العزاء الوحيد في رحيل المصور أبو دقة هو وجود زملاء له يحملون رسالته النبيلة ويستمرون في أداء الواجب بمهنية وشفافية.

وكتبت وزيرة الدولة للتعاون الدولي بالخارجية القطرية لولوة الخاطر، على حسابها في موقع إكس "صحفي آخر يُقتل وصوت آخر يُسكت"، مضيفة أن هذا هو أكبر عدد من الصحفيين الذين يقتلون في أي نزاع مسلح خلال هذا الوقت القصير.

وذكرت المسؤولة القطرية بأنه "عندما وقع الهجوم على (المجلة الفرنسية الساخرة) شارلي إيبدو احتشد زعماء العالم من أجل حرية التعبير "لكن من الواضح أنه لا يولد الصحفيون متساوين.. عزيزي سامر نعتذر لأننا لم نتمكن من حمياتك وتركناك وحدك تواجه ترسانتهم العسكرية الوحشية بكاميرتك فقط.. لقد خدعونا وأخبرونا أن الكلمات أقوى من البنادق، وقد كانت حياتك وحياة عشرات الصحفيين ثمنا لندرك أن هذا مجرد كذبة.. لترقد روحك في سلام".

ونقلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن مصور يعمل لصالحها في غزة عبارات إطراء للزميل الشهيد حيث قال "اقتربت خلال الحرب من أبو دقة، وكنا نمضي وقتا معا في مستشفى الناصر، هو دائم الابتسام والجميع يحبه".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: سامر أبو دقة الأول 2023 فی غزة

إقرأ أيضاً:

جيش المشرق.. أنشأته فرنسا وكان بذرة لهيمنة العلويين على سوريا

خلال الحرب العالمية الأولى اتفقت كل من بريطانيا وفرنسا على تقسيم إرث الدولة العثمانية في الشرق الأوسط فيما بينهما، فكان من نصيب بريطانيا العراق وفلسطين وشرق الأردن، بينما كانت سوريا ولبنان وقليقية (جنوب تركيا) من نصيب فرنسا.

ولهذا السبب أنشأت فرنسا ما عُرف باسم "جيش المشرق"، وهو الاسم الذي أُطلق على القوات العسكرية الفرنسية التي شُكّلت وأرسلت إلى بلاد الشام عقب الحرب العالمية الأولى، وقد أُسّس هذا الجيش في عام 1919 بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو (1916) وهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

لقد أدرك الفرنسيون أن الأغلبية السنية في سوريا ستكون ضد تطلعاتهم واستمرار بقائهم في البلاد بحكم خبرتهم العملية، ومعلوماتهم الاستخبارية، ومن ثم فقد حرصوا على تقسيم سوريا وشرذمتها إلى 5 دويلات، بل أصروا على استمرار بقاء "جيش المشرق" وفق الأسس الطائفية التي تخدم المصالح الاستعمارية الفرنسية لأطول مدى ممكن.

ووفقا للمؤرخ ستيفن هامسلي لونغريغ في كتابه "تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي"، فقد عُقد مؤتمر سان ريمو في أبريل/نيسان 1920، حيث أصدر مجلس الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى قرارا رسميا بإسناد مهمة الانتداب على سوريا ولبنان إلى فرنسا.

إعلان

وفي 14 يوليو/تموز 1920، أرسل الجنرال هنري غورو، الممثل الفرنسي في لبنان، إنذارا رسميا إلى حكومة الملك فيصل في دمشق التي كانت تحكم البلاد بعد خروج العثمانيين، وإلى المؤتمر السوري (البرلمان)، مطالبا بتنفيذ مجموعة شروط قاسية.

كان منها إلغاء نظام التجنيد الإجباري وتسريح الجيش العربي الذي كان يبلغ تعداده 10 آلاف مقاتل، وقبول الانتداب الفرنسي من دون شروط، واعتماد العُملة السورية الفرنسية الجديدة للتداول، وتسليم إدارة السكك الحديد للفرنسيين إلى جانب مرافق أخرى.

هنري غورو الجنرال الفرنسي بمكتبه في بيروت عام 1920 (غيتي) شرذمة سوريا

كانت هذه المطالب بمنزلة إعلان الاستسلام للاحتلال الفرنسي، واللافت أن الملك فيصل ومعظم وزرائه وافقوا على الامتثال، وأصدر أوامره بانسحاب القوات العربية من الحدود اللبنانية إلى الداخل السوري وتسريح الجيش.

أثار هذا القرار غضبا شعبيا واسعا، فقد عدّته الجماهير السورية استسلاما وخيانة، ورفضه وزير الحربية الشاب يوسف العظمة الذي أصر على مواجهة الفرنسيين، فكانت معركة ميسلون التي استُشهد فيها العظمة، ورسخ الفرنسيون على إثرها احتلالهم للبلاد.

عقب دخول الفرنسيين دمشق أدركت إدارتهم أن سوريا كانت دائمًا مركزا مهما من مراكز المقاومة الإسلامية في المشرق منذ عصر الحروب الصليبية، ولذلك رأت أن أفضل وسيلة للقضاء على هذه الروح تكمن في تقسيم البلاد إلى دويلات قائمة على أسس طائفية.

وهذا ما أقرّ به الكولونيل جورج كاترو، رئيس مكتب الاستخبارات في إدارة الانتداب الفرنسي وقتئذ، إذ صرّح قائلا "لقد جزّأنا سوريا مراعاة منا للخصائص الطائفية وليس لوحدة البلاد الطبيعية والجغرافية".

وكان التقسيم الجديد يشمل دولة في دمشق ودولة حلب ودولة الدروز ودولة العلويين ثم دولة لبنان الكبير، وكان الهدف من سياسة التجزئة يتثمل في إضعاف الروح الوطنية لدى السوريين، بالإضافة إلى العمل على إذكاء المنافسات والتفرقة بين هذه الدويلات.

إعلان

وقد أدت هذه السياسة بدورها إلى تشجيع النزعات الانفصالية بين المكونات المختلفة، وتحويل سوريا إلى دولة غير مستقرة عبر إنشاء دويلات إقليمية مستقلة، تفصلها عن بعضها الحواجز وتمنع التواصل فيما بينها.

كذلك عمدت السلطة الفرنسية إلى استغلال الخصوصيات الطائفية لتعزيز الانقسامات وإضعاف البلاد، وكما يقول الباحث علي ضيائي في دراسته "العلويون النصيريون والمستشرقون الفرنسيون" فإننا نرى في هذه الفترة أن الدراسات الفرنسية في سوريا بدأت بتقارير عامة عن المناطق العلوية خاصة، مثل مدن اللاذقية وطرطوس وجبلة وغيرها، وتطورت تلك الدراسات تدريجيا لتتناول العقائد الدينية للعلويين، وهياكلهم الدينية، وارتباطاتهم مع الشيوخ، بالإضافة إلى الخلافات القديمة بين القبائل.

وخلال الفترة بين عامي 1918 و1929، تضمنت وثائق وزارة الخارجية الفرنسية أبحاثا شاملة عن الشيعة الاثني عشرية بقيادة كامل بك الأسعد، والدروز، والعلويين، والقبائل العربية، والشراكسة، وغيرهم. وقد كانت هذه الوثائق، التي أعدّتها فرق جمع المعلومات الفرنسية، موجّهة بالكامل لخدمة أهداف فرنسا الاستعمارية.

وقد ركزت تلك الأبحاث على نقاط ضعف الأقليات لاختراقها، وتحديد نقاط قوتها لتعزيز السيطرة الفرنسية في المنطقة بهدف إدماجهم والاعتماد عليهم في جيش المشرق.

فقد وجه الرئيس الفرنسي ألكسندر ميلران إلى الجنرال هنري غورو في عام 1920 خطابا سرّيا أوضح فيه خطة الحكومة الفرنسية وسياستها في سوريا، وجاء فيه "إن العلويين الذين يقطنون المناطق الساحلية والجبلية السورية ويتحدثون اللغة العربية يمثلون طائفة دينية مرتبطة بالإسلام، ولكنهم في الواقع ليسوا جزءا من الدائرة الإسلامية، ولا ينبغي اعتبارهم مسلمين".

كان الهدف من هذا الخطاب تكريس التفرقة بين السوريين، فقد كانت المناطق العلوية جزءا من المناطق السنية الأوسع، ولهذا السبب أعلن الفرنسيون وبدعم مباشر منهم استقلال الساحل عام 1922، وتم الاعتراف رسميا بحكومة العلويين التي أصبحت تُعرف باسم "بلاد العلويين".

موكب الجنرال هنري غورو في حلب بعيد الاحتلال في 1920 (مواقع التواصل) جيش المشرق والاعتماد على الأقليات

وبالتوازي مع اللعب على الورقة الطائفية سياسيا، اعتمدت فرنسا كذلك على القوة العسكرية لفرض سلطتها الانتدابية على سوريا، وذلك نتيجة للثورات التي اندلعت خلال الفترة بين عامي 1920 و1927 والتي أدت إلى مقتل أكثر من 5 آلاف جندي فرنسي في تلك المرحلة، وقد دفعت هذه الأحداث الحكومة الفرنسية إلى إرسال عدد من كبار جنرالاتها كمفوّضين في بلاد الشام، واستمرت المواجهات الدامية بشكل متقطع حتى وقعت مذبحة البرلمان في مايو/أيار 1945، قبل الجلاء الفرنسي بعام.

إعلان

ونرى أن السلطة الانتدابية الفرنسية تمتعت بالطابع العسكري الصارم، حيث كانت تهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على هيبة فرنسا وضمان مصالحها الاستعمارية في الشرق الأوسط، ولهذا السبب بلغ تعداد جيش الاحتلال الفرنسي أكثر من 40 ألف جندي، وكانت مهمته الأساسية تثبيت المصالح الاستعمارية الفرنسية الاقتصادية في سوريا، وتعزيز الأرباح لمصلحة الاحتكاريين الفرنسيين، وتأمين نفوذ فرنسا في المنطقة.

وقد شكّل جيش المشرق الفرنسي العمود الفقري لنظام الدفاع والأمن الذي اعتمدت عليه إدارة فرنسا في سوريا، حيث ضم عددا كبيرا من الكتائب وسرايا المدفعية ووحدات المهندسين والطيران القادمة من فرنسا، كما استقدمت فرنسا عددا كبيرا من الجنود الأفارقة.

لم تكتف الإدارة الفرنسية باستخدام جيشها المجنّد من الفرنسيين والأفارقة فقط، بل جنّدت أيضا أعدادا كبيرة من الأقليات السورية واللبنانية عبر نظام التطوع، وتم تقسيمهم إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى عُرفت باسم "الجوقة السورية والقناصة اللبنانية"، والثانية باسم "الحرس الخاص" المرتبط بضباط الاستخبارات الفرنسية.

دمشق بعد القصف 1945 (مواقع التواصل)

أما الضباط الذين قادوا هذه الوحدات فكان معظمهم فرنسيين، بينما أُتيح لقلة من السوريين التخرج في المدرسة العسكرية التي أسّسها الفرنسيون في حمص. وقد خرّجت هذه المدرسة أيضا ضباطا ومترجمين من السوريين واللبنانيين، بهدف دمجهم في الهيكل العسكري التابع للسلطة الانتدابية.

واتبعت إدارة الانتداب الفرنسي سياسة "فرّق تسد" في تشكيل الفرق العسكرية المتخصصة وتوزيعها، وقد تم إلى حد كبير استبعاد المسلمين السنة، الذين يمثلون حوالي 80% من سكان سوريا، من الخدمة في القوات الخاصة التي كانت تتألف بشكل أساسي من أفراد الأقليات العلوية في المرتبة الأولى ثم الدروز والمسيحيين والشركس.

إعلان

وفي الفترة ما بين 1926 و1939، ضم جيش المشرق الفرنسي ما بين 10 آلاف و12 ألف جندي محلي تم تنظيمهم إلى 10 كتائب مشاة كان معظمهم من العلويين، و4 أسراب من سلاح الفرسان كانت تضم دروزا وشراكس وسوريين مختلطين، و3 سرايا من قوات الهجن، إلى جانب وحدات من المهندسين والسيارات المصفحة والدعم اللوجستي.

والحق أن الفرنسيين كانوا يملكون خبرة قديمة ومعرفة لا بأس بها بالعلويين، وكانوا يستهدفون من تجنيدهم تحقيق مقاصد إستراتيجية بعيدة المدى، فقد جاء إليهم عام 1878 الرحالة الفرنسي ليون كاهون قادما من لبنان، زائرا العديد من قراهم ومدنهم وعلى رأسها القرداحة التي وُلد فيها حافظ وآل الأسد، ففي كتابه "رحلة إلى جبال العلويين" يشير ليون إلى أن العلويين يختلفون عن الأغلبية السنية، وأنهم من حيث العادات الاجتماعية الأخلاقية أقرب إلى الغرب.

وأدرك ليون طبيعة العلويين وضرورة مساعدة فرنسا وأوروبا لهم حتى يؤدبوا جيرانهم قائلا "أعترفُ بأنه ليس هناك من شعب يستحق الخير أكثر من هذا الشعب الشريف والقوي، والذي يصبو بكل جوارحه إلى الحضارة، ويحترم ذاته، كما أنه بقليل من الدعم الأوروبي سيُعلِّم بكل تأكيد الشعوب التي تُحيط به كيف تحترم ذاتها".

بحلول عام 1938، بلغ تعداد الفرق الخاصة التي أنشأها الفرنسيون حوالي 10 آلاف جندي، من بينهم 306 ضباط، كان 88 منهم فرنسيين، وفي تلك الأثناء أُنشئت الأكاديمية العسكرية في حمص والتي ستُصبح الكلية الحربية فيما بعد لتدريب الضباط السوريين واللبنانيين وضباط الصف المتخصصين.

تعداد الفرق الخاصة التي أنشأها الفرنسيون عام 1938 بلغ حوالي 10 آلاف جندي (غيتي) جيش المشرق وانقلابات سوريا

وحتى نهاية الانتداب استمرت فرنسا في تفضيل تجنيد الأقليات وعلى رأسها العلويون والدروز، وهو ما أشار إليه الجنرال هنتسيغر القائد العسكري الفرنسي في سوريا عندما صرّح في عام 1935 "يجب ألا ننسى أن العلويين والدروز هم الأعراق الحربية الوحيدة في ولايتنا، وهم جنود من الدرجة الأولى نجنّد من بينهم أفضل فرقنا الخاصة".

إعلان

لهذا السبب حرص الفرنسيون على عدم تشكيل جيش وطني في سوريا لآخر لحظة، وعملوا على ضم السوريين لجيش الاحتلال الفرنسي الذي استمر في محاربة الاستقلال الوطني بشتى وسائل الاحتلال، إذ عمل هذا الجيش في الوقت نفسه على تنفيذ أغراض الإدارة الفرنسية في البلاد.

وكما يقول الباحث حسام النايف في دراسته "الإدارة الفرنسية في سوريا" فإن فرقة الجوقة السورية لم تكن ترتبط بسوريا ومصالحها الحقيقية إلا بالاسم الذي أُطلق عليها، فقد حرص الفرنسيون على رفع العلم الوطني لبلادهم إلى جانب العلم السوري على مبنى دائرة الأمن العام وغيرها من الدوائر في أيام الأعياد، ثم كان يتم إنزالها في الأيام الاعتيادية، وإبقاء علم الاحتلال الفرنسي فقط، وقد أدى ذلك إلى الاصطدام بالسوريين في مناسبات عديدة وخاصة في مدينة حماة.

والأمر اللافت أن لغة التعليم في الجيش وهذه الفرق كانت الفرنسية والقسَم الذي كان يؤديه الجنود كان لخدمة الأغراض والمصالح الفرنسية.

وكما يقول مصطفى الشهابي في كتابه "محاضرات في الاستعمار" فقد أظهرت الإحصاءات حينئذ أن قوام الجيش السوري ضمن "جيش المشرق الفرنسي" كان قد بلغ حوالي 25 ألف عنصر، موزعين بين ضباط وجنود في وحدات منتشرة في مختلف أنحاء البلاد، وكان للجيش الفرنسي محاكم خاصة داخل الأراضي السورية، تختص بمحاكمة كل من يُعثر بحوزته على سلاح، أو يشتبه في بيعه، أو من يتشاجر مع الجنود الفرنسيين.

لاحقا ألغى الفرنسيون الدويلة العلوية التي أنشؤوها في الساحل وكانوا يعتمدون عليها في التجنيد بجيش المشرق، وقد انقسم العلويون أمام هذا القرار؛ فعدد من وجهائهم الكبار بمن فيهم جد حافظ الأسد أرسلوا رسالة تطالب ببقاء دويلة العلويين مستقلة وهي محفوظة في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية تحت رقم 3547 مؤرخة بشهر يونيو/حزيران 1936.

وقد جاء فيها "إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله على مرّ السنين مقابل تضحيات كبيرة يختلف بمعتقداته الدينية وتقاليده التاريخية عن تلك التي تخصّ الشعب المسلم السني، ولذلك فإن الشعب العلوي يرفض أن يكون مرتبطًا بسوريا المسلمة".

ولكن بحسب المؤرخ الألماني ستيفان وينتر في كتابه "تاريخ العلويين: من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية"، فإن فريقا آخر رفض تصرف أبناء طائفتهم المطالبين بالانفصال، وأرسل إلى المسؤولين الفرنسيين بعد شهر في يوليو/تموز من يعبرون عن استنكارهم الشديد لاستمرار ممارسات التلاعب والدكتاتورية من قِبل حاكم منطقة العلويين، الفرنسي أرنست شلوفير وغيره من المسؤولين.

ومهما يكن وكما مر بنا، فقد قصد الفرنسيون أن يتكون جيش المشرق في أغلبه من أبناء الأقليات والطوائف الدينية، وخاصة الجوقة السورية والكتائب الخاصة التي كان أغلبها من العلويين والدروز والشركس وغيرهم، الأمر الذي كان له تأثيره الضخم في شكل الجيش السوري ومسيرته وكثرة الانقلابات العسكرية فيه بعد الاستقلال، وما آل إليه الأمر من استيلاء آل الأسد العلويين على السلطة طوال أكثر من نصف قرن فيما بعد.

إعلان

مقالات مشابهة

  • سياسي أنصار الله: دماء القادة الشهداء هي مشعل المقاومة ووقود حركتها والطوفان المتجدد الذي لن يتوقف إلا بزوال إسرائيل
  • سياسي أنصار الله: دماء القادة الشهداء مشعل المقاومة ووقود حركتها والطوفان الذي لن يتوقف إلا بزوال إسرائيل
  • فعالية في حلب إحياءً للذكرى الثانية عشر لمجزرة نهر قويق التي ارتكبها النظام البائد
  • الاتفاق ينهي علاقته بـ جيرارد رسميًا
  • جيش المشرق.. أنشأته فرنسا وكان بذرة لهيمنة العلويين على سوريا
  • عَملٌ مسرحي على خشبة ثقافي طرطوس يُحاكي اللحظات التي رافقت التحرير
  • مثل الشهيد مازن كمثل الصحابي الجليل عمرو بن ثابت الذي حفظ الله جسده من الأعداء
  • مصور فيديو فتاة الشرقية يكشف كواليسه: «كنت برتعش وأنا ماسك الموبايل»
  • مجلس كنائس الشرق الأوسط يهنّئ سامر لحّام لانتخابه عضوًا بمجلس إدارة "آكت الليانس"
  • مصور إماراتي يرصد لحظات مهيبة لصقور تنقض على فرائسها بصحراء دبي