الفساد والمشكلات المجتمعية
تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT
حمد الحضرمي **
الفساد آفة خطيرة استشرى لهيبها، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، وتفشى سرطانها في أعصاب الحياة المجتمعية، فهو يعمل على تقويض أركان النهوض والازدهار في الدول، ويساهم في تراجع المجتمعات على سلم مؤشر التنمية البشرية، ويعد الفساد أكبر عقبة أمام تحقيق التنمية، وهو أشبه بالوباء الذي يُكلف اقتصاد الدول مليارات الدولارات سنويًا في غياب إرادة سياسية جادة للدول للتغيير والإصلاح، وعدم فتح المجال للمشاركة الفعَّالة من المجتمع المدني ووسائل الإعلام، الأمر الذي يعيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتعد ظاهرة الفساد- كإساءة استعمال السلطة والرشوة والواسطة والمحسوبية وغيرها- من أخطر المظاهر السلبية المنتشرة في أغلب دول العالم، وأكثرها فتكًا بالأمن والسلم المجتمعي؛ لأنها تصيب المفاصل الحيوية والمُؤثرة في مؤسسات الدولة، كالصحة والتعليم والاقتصاد والتجارة والبيئة وغيرها من مؤسسات الدولة.
والفساد سلوك لا أخلاقي يتمثل في استغلال ذوي المناصب الإدارية أو السياسية للسلطات والصلاحيات الممنوحة لهم بشكل غير قانوني لتحقيق منافع خاصة شخصية. ويظهر الفساد من خلال قيام بعض المسؤولين الحكوميين والمديرين وغيرهم الذين يشغلون مناصب في السلطة في القيام بأعمال غير نزيهة، وذلك لتحقيق مكاسب خاصة، كقبول الرشاوى والهدايا والغش والخداع وتحويل الأموال والاختلاس والتزوير والاحتيال وغسيل الأموال وغيرها.
وللفساد اشكال ومظاهر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولًا: الفساد العقدي: ويعتبر الفساد العقدي من أبرز مظاهر الفساد، لأن فساد الاعتقاد هو أساس كل فساد، وسعي الإنسان تبعُ لمعتقده، فإذا كان المعتقد فاسدًأ كان السعي فاسدًا، وإذا كان المعتقد صالحًا صلح السعي، قال الله تعالى "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ" (البقرة: 11-12).
ثانيًا: الفساد المالي والإداري: ولهذا الفساد أشكال منها الرشوة: حيث تعد الرشوة أحد أكثر مظاهر الفساد انتشارًا في القطاع العام، وهي دفع طرف ثالث لوكيل الدولة مبلغ من المال من أجل أن يقوم بعمل ما يتعارض مع واجبه الوظيفي، وبمجرد موافقته على التصرف بطريقة ضارة تخالف المعايير التي تحكمه يفسد دوره كموظف حكومي؛ حيث تمثل الرشوة سلوكًا غير قانوني، وتحاول الدول أن تصححه عن طريق التشريعات والقوانين المختلفة بمكافحة الفساد والجريمة.
وأيضًا من اشكال الفساد المالي الاختلاس: وفي هذا الأسلوب الجرمي يقوم الموظف المؤتمن على أموال مؤسسته باختلاس أموالها مستغلًا منصبه والثقة التي أعطيت له من قبل إدارة المؤسسة، ومن أشكاله أيضًا، الغش، والتدليس، وكذلك التزوير: والتزوير هو تحريف متعمد يجبر الآخرين على تحمل تكاليف أمور لم يفعلوها وعادة ما تكون خسائر مالية، والغاية من هذا السلوك حرمان الآخرين من بعض الحقوق.
أما مظاهر الفساد الإداري فتتمثل في غياب مبدأ تكافؤ الفرص بين الأفراد، وتجاوز القوانين، والتحيز والتمييز بين الموظفين، والمحسوبية والواسطة، وانتشار الرشوة والعمولات. إن هذا المظاهر من الفساد بأنواعه وأشكاله، تسبب مشكلات مجتمعية كثيرة منها: زيادة أعداد الباحثين عن العمل، وقلة فرص العمل للشباب، وعدم حصولهم على أراضي سكنية لسنوات طويلة، وعدم استطاعتهم الزواج وتكوين أسرة، وسوف يستمر الفساد بأنواعه وأشكاله، إذا لم تفعل أدوات الرقابة والإشراف من الجهات المختصة، وإذا لم يؤدي المسؤولين المعنيين عن التوظيف في مؤسسات الدولة أعمالهم بالصدق والأمانة.
وحتى تسير الأمور في نصابها الصحيح، لا بد من تتبع مواطن الفساد الإداري في مؤسسات الدولة المختلفة، من خلال وجود هيئات حكومية لمكافحة الفساد، وتطبيق القانون الفعال لضمان معاقبة الفاسدين، وتعزيز النزاهة الفردية في المجتمع، وذلك حتى يتم القضاء على منابع الفساد في مؤسسات الدولة التي تلحق الضرر بالأفراد والمؤسسات والمصلحة العامة للمجتمع والدولة، ليعيش الإنسان في وطنه عيشة كريمة في نظم راشدة تضمن له حقوقه.
ثالثًا: الفساد السياسي: هو الفساد الذي يتعلق بالجانب السياسي في المجتمع، ومن أشكاله الابتزاز الذي يقوم به المسؤولون في الدولة من أجل تمرير قرارات تصب في صالحهم وتخدم مصالحهم، والمال السياسي هو المال التي يدفع في الانتخابات لشراء أصوات الناخبين، ومن أشكاله الواسطة والمحسوبية والمحاباة التي تمنع تحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع، الأمر الذي يزيد المشكلات في المجتمع؛ كمشكلة الباحثين عن العمل وتزايد أعدادهم، دون إيجاد حل من الجهات المختصة لفئة الشباب الباحث عن العمل الذي ظل بعضهم سنوات يبحث عن وظيفة تؤمن له حياة وعيشة كريمة في وطنه.
رابعًا: الفساد الأخلاقي: وهو من مظاهر الفساد التي تنتشر في المجتمعات المختلفة بسبب السلوكيات الخاطئة والأخلاق السيئة، ومن أشكاله العلاقات غير الشرعية بين الجنسين، والملابس الفاضحة والتعري، والفحش في الكلام، وسوء الأدب في التعامل مع الغير خاصة تعامل الصغير مع الأكبر منه سنًا. خامسًا: الفساد المجتمعي: وهذا الفساد يتمثل في سلوكيات أفراد المجتمع، كإهدار المياه في الميادين، وقطع أشجار الغابات بشكل غير قانوني، وعدم العدل بين الناس في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها.
سادسًا: الفساد البيئي: هو الفساد الذي يحدث للبيئة بسبب تصرفات الناس وأفعالهم، ومن أشكال هذا الفساد انتشار انبعاثات عوادم السيارات والمصانع التي تسبب زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره وتأثيراته السلبية على البيئة وطبقة الأوزون، وكذلك إهدار موارد البيئة المتاحة حاليًا دون الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة. سابعًا: الفساد الإداري: وهذا الفساد يكمن في استغلال الموظف منصبه الوظيفي من أجل القيام بأعمال وخدمات لشخص أو لعدة أشخاص بشرط الحصول على مقابل مادي، ويعرف أيضًا بأنه الاستخدام السيئ للوظيفة وعدم تطبيقها بأسلوب مناسب، ويكون في الأغلب قبول الموظف الرشوة، والتي هي مقابل مادي يحصل عليه الموظف لإتمام عملية ما بتجاوز النظام والقانون، أي بالاحتيال على لوائح وقوانين جهة العمل التي يعمل فيها، من أجل تمرير معاملة ما لتحقيق مصلحة لشخص أو لعدة أشخاص على حساب أشخاص آخرين.
وبشكل عام، فإن الفساد ظاهرة مركبة ومعقدة، تشمل الاختلالات التي تمس الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي في المجتمع، والذي يتطلب تظافر الجهود لمعالجته والتخلص منه، ويبقى الفساد بشتى أنواعه وأشكاله أحد معارك الهدم التي تواجه عمليات البناء والتعمير والتطوير والازدهار في الدولة، وعليه فإن أحسن وسيلة لمحاربة الفساد تتمثل في إعداد خطة استراتيجية وطنية شاملة بمشاركة واسعة من قطاعات المجتمع وأطيافه، وذلك لإعادة العدل بمختلف صوره في المجتمع من القمة إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى القمة، وإنهاء الظلم وأشكال الاستغلال في المجتمع عن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة وتحديث التشريعات وتغليظ العقوبات لردع كل من تسول له نفسه ممارسة أي شكل أو مظهر من مظاهر الفساد التي تؤثر على مصالح المواطن ومصالح الدولة العليا.
وترى الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الفساد أصبح ظاهرة دولية ولم يعد شأنًا داخليًا أو إقليميًا، مما يستوجب إيجاد قرار دولي شامل متعدد الجوانب لمنع هذه الظاهرة ومكافحتها. وللقضاء على الفساد يتطلب على الدول إيجاد منظومة نزاهة وشفافية وعدالة شاملة، يستطيع المواطن من خلالها تقديم شكواه عند ملاحظة أي تصرف أو أفعال مريبة دالة على الفساد، وتكون وفق آليات فعالة وآمنة محاطة بضمانات قوية من مؤسسات الدولة لمكافحة الفساد في شتى صوره، وهذا ما سوف ينعكس مردوده على أمن المجتمع والاقتصاد اللذين يعدان جناحا التقدم ورفع مستوى المعيشة الكريمة للمواطنين في الدولة.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: الأحداث التي مرت بالأمة الإسلامية تبرز الفرق بين التدين الصحيح والمغلوط
أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، أن الأحداث التي مرت بها الأمة الإسلامية منذ فجر الإسلام تبرز الفارق بين المؤمنين الصادقين والمنافقين، مشيرًا إلى أن تلك الأحداث تعد درسًا في كيفية التمييز بين التدين الصحيح والتدين المغلوط.
وخلال حديثه مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج "اسأل المفتي" على قناة "صدى البلد"، أوضح عياد أن الحروب الفكرية والثقافية التي نشهدها اليوم أصبحت جزءًا من التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية في كل من الشرق والغرب، مشيرًا إلى أن هذه التحديات تتطلب منا التمييز بين الحق والباطل في ظل الفتن التي قد تشتعل في أي وقت.
وأوضح مفتي الجمهورية أن الحادثة التي وقعت في العهد النبوي قدمت نموذجًا حيًا لآلية التعامل مع الفتن التي قد تؤثر على وحدة المجتمع الإسلامي، مشيرًا إلى أن أبرز الأساليب التي استخدمها الأعداء وقتها كانت نشر الشائعات التي تعمل على تفكيك المجتمع وخلق حالة من الشك والفرقة بين الناس.
وشدد عياد على أن هذه الشائعات تمثل خطرًا بالغًا على الأمن الفكري والاجتماعي، وأنه من الضروري عدم السكوت عنها، بل يجب مواجهتها فورًا لضمان الحفاظ على وحدة الأمة واستقرارها.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان سريعًا في مواجهة الشائعات وبيان خطورتها، مؤكدًا على أهمية التوضيح والبيان السريع من أجل درء الفتن وحماية المجتمع. وأضاف عياد أن النبي كان يقصد بالإيمان الحقيقي ذلك الإيمان الذي لا يتأثر بالشائعات أو الأفكار المغلوطة.
كما تناول عياد المنهج النبوي في التعامل مع الأفكار المغلوطة، موضحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستخدم الفكر العلمي الدقيق في مواجهة الشائعات، حيث قام بتوضيح الحقائق بطرق علمية، مما يعكس قدرته الفائقة على استخدام البيان السليم والعقل الراجح في مواجهة المغالطات.