لقَدْ حقَّق زلزال السَّابع من أكتوبر منجزات عظيمة وانتصارات جليلة، ومكاسب تتجلَّى وتتضاعف يومًا بعد آخر، يكفي أنَّها زلزلت الكيان السِّياسي والعسكري في تل أبيب، وأفقدته صوابَه، وفضحته على مستوى العالَم، وأثبتت بأنَّ «الجيش الَّذي لا يُقهَر»، كَسرت شوكته، وأفقدته عزيمته، وأضعفت غطرسته وقوَّة ترسانته المُسلَّحة، مقاومة محدودة الإمكانات، ولكنَّها تتسلح بالإيمان والثِّقة والإرادة الَّتي لا تُقهَر، والتصميم على تحرير كامل الأرض الفلسطينيَّة، فكيف تمكَّن «الجناح العسكري» الحماسي، من بناء مقاومة تتمتع بجاهزيَّة عالية جدًّا، تمتلك مُدُنًا ومقرَّات ومرافق عسكريَّة استخباراتيَّة تحت الأرض، وشبكة أنفاق تصل إلى ما يزيد عن «500» كيلومتر، يصعب على القنابل المتطوِّرة الأكثر تدميرًا من الوصول إليها، وكميات هائلة من الأسلحة وآلاف العناصر البَشَريَّة المدرَّبة على الكرِّ والفرِّ وإلحاق الضَّرر والخسائر بالعدوِّ الإسرائيلي، في غفلة من شبكات التجسُّس والمخابرات وأجهزة التنصًّت الإسرائيليَّة ـ الأميركيَّة؟… كما أنَّه ـ أي زلزال السَّابع من أكتوبر ـ حوَّل اسم فلسطين «القضيَّة»، بعد أن أوشكَ غبار التجاهل والخذلان والنِّسيان أن يطمسَه، إلى قوَّة هائلة، ووقودٍ للتحرُّر واليقظة والانعتاق من قيود الغفلة والكذب والتزييف والازدواجيَّة، وفضحت النُّظم السِّياسيَّة الغربيَّة أمام شعوبها.
نعم، باتَ اسم «فلسطين» نموذجًا ومنهجًا وشعارًا، تردِّده ملايين الأفواه في ميادين وشوارع وساحات ومُدُن العالَم الحُر، وانتظمت المئات من الوقفات والاحتجاجات والفعاليَّات والبرامج واللوحات الفنيَّة ـ الثقافيَّة والمعارض لصالح فلسطين، ودفاعًا عن شَعبها، وفي سبيل نَيْل استقلاله… وفضح زلزال السَّابع من أكتوبر هيمنة الاحتلال الإسرائيلي وظُلمه وغطرسته ودكتاتوريَّته وممارساته غير الإنسانيَّة، في حقِّ شَعب أعزل، وتدميره لإنسانيَّة الأطفال والرضَّع والشيوخ والنِّساء، الَّذين استُبيحت طفولتهم وأجسادهم وضعفهم وأرواحهم وحقُّهم في الحياة والعلاج، فتراجعت شَعبيَّة هذا المحتلِّ البغيض، وانهارت مكانته وقدسيَّته اللَّتان بناهما على مدى عقود بالكذب والتدليس والاستغلال القذر، ومعه كُلُّ داعميه والواقفين معه في عدوانه، لصالح القضيَّة الفلسطينيَّة… ولَمْ تفلحِ القوَّة والجبروت وترسانة الأسلحة المتقدِّمة والتدمير والمذابح الَّتي ارتكبها المستعمر في كسر إرادة الشَّعب الفلسطيني العظيم، وفشلت في تدمير روحه المقاوِمة، فظلَّ وفيًّا لأرضه وحقِّه الأصيل الثَّابت، ما انعكس ضعفًا وهزيمةً على إرادة واندفاع وبجاحة وتحدِّي خِطاب المحتلِّ، الَّتي تراجعت وخضعت لشروط المقاومة في تبادل الأسرى، فكيف به إذن سيُنهي أسطورتها كما يدَّعي، وهو الَّذي اعترف بها وتفاوض معها وفقًا لشروطها… وكشف زلزال السَّابع من أكتوبر عن عجز النِّظام العربي، وأبانَ عن أقنعته، وقدَّم مقارنة بَيْنَ الشارع العربي المهزوم والمأزوم والمقهور، المسلوبة حُريَّته، المكسورة إرادته بفعل النُّظم السِّياسيَّة المتسلِّطة، وهيمنة أجهزة الأمن، وعقود من الملاحقة والظلم والفشل في التغيير، وتجذُّر الفساد والفقر والجهل، وغياب المؤسَّسات المَدَنيَّة وافتقاد الحُريَّات… الَّتي سلبت إرادة المواطن العربي وحُريَّته، في مقابل حراك وقوَّة وصخب ونشاط الشارع العالَمي، في الدوَل الديمقراطيَّة، المعَبِّر عن الحُريَّة والإرادة والتصميم والصلابة في سبيل كشف الحقيقة وفضح الظلم… كما أبانَ الزلزال الحماسي، عن حقيقة مُهمَّة، تؤكِّد أنَّ زمن الهيمنة الإعلاميَّة المركزيَّة، واحتكار دَولة أو مؤسَّسة لشبكة وقناة إخباريَّة تُديرها وتُوجِّهها بما يُحقِّق مصالحها وأهدافها قَدْ ولَّى، فكُلُّ مواطن اليوم يمتلك قوَّته الإعلاميَّة المؤثِّرة. فصورة واحدة تلتقطها عدسة هاتف، يطلقها صاحبها، في وسائل ومنصَّات التواصل يُمكِن أن تحدِثَ تحوُّلًا عميقًا وانقلابًا غير محسوب العواقب في الرأي العامِّ العالَمي، تغيّر السِّياسات والخطط والقرارات لصالح الحقِّ الإنساني والقانون الدولي… وغرس زلزال السَّابع من أكتوبر، في الشعوب، كُره الظلم، والقدرة والنَّجاح في مقاطعة العلامات والشركات الَّتي تموِّل الكيان الإسرائيلي، فكان سلاح المقاطعة إضافةً أخرى رادعة وداعمة لسلاح المقاومة… ـ مع ما رافق المقاطعة من استغلال وتوظيف سيء، تمثَّل في رفع سعر المنتَج المحلِّي في بعض البلدان العربيَّة، وكَيد الوكلاء التجاريِّين والتجَّار لبعضهم بالتدليس ونشر الإشاعة أنَّ بضاعة أو منتجًا أو علامة ما تدعم «إسرائيل» دُونَ دليل وحجَّة، وتسريح للموظفين… ـ وفي المشهد مكاسب أخرى كثيرة، إذا قُدِّر لي كتابة مقال مكمل في قادم الأيَّام. وبالمختصر المفيد، فإنَّ زلزال السَّابع من أكتوبر بثَّ الحياة في أوصال القضيَّة الفلسطينيَّة. متى ستنتهي هذه الحرب؟ وما الكيفيَّة الَّتي ستصير عَلَيْها المنطقة بعد توقُّف آلة القتل؟ وهل ستحدُث تحوُّلات عميقة في النظامَيْنِ العالَمي والعربي، لصالح القِيَم الإنسانيَّة وحقوقها وحُريَّاتها؟ وهذه الضريبة الهائلة من الأضرار البليغة، والمذابح الشنيعة، والمجازر المُرعبة، والدَّمار الهائل، وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعوقين وأصحاب العاهات والمكلومين والمُحطَّمين نَفْسيًّا… ممَّا لَمْ يشهد له العصر الحديث مثيلًا، هل ستقود الفلسطينيِّين إلى التحرير وإقامة دَولتهم المسلوبة؟ هل سينجو نتنياهو، والعصابة الَّتي تقود عمليَّة تصفية الشَّعب الفلسطيني، وقتل النِّساء والأطفال والرضَّع والشيوخ، من المحاكمة العادلة، والعقوبات الرادعة لكُلِّ طاغية ظالم؟ هل ستنجح المقاومة في إلحاق الهزيمة بـ»إسرائيل»؟ كيف سيتمُّ التعامل مع هذه الفوضى الَّتي خلَّفتها حرب غزَّة…؟ لا أدَّعي أنَّني أمتلك القدرة على الإجابة عن هذه الأسئلة الدقيقة والعويصة، ولا القدرة على استشراف مستقبل مفاتيحه في يَدِ مَنْ يُدير المعركة على الأرض؟ ولا أصوغ لِنَفِسي الادِّعاء، كما هو شأن بعض مَنْ يُطلق عَلَيْهم بالإعلاميِّين والباحثين والخبراء، الَّذين يقدِّمون للمواطن العربي وجبات دسمة من المعلومات والأخبار الواهمة والتنبؤات الغيبيَّة، إرضاء لعواطفه، وكسبًا للمزيد من الشَّعبيَّة والمتابعة والإطراء، وكأنَّهم أعضاء في حركة المقاومة أو مستشارين يعملون معهم، أو مَدْعوون باستمرار لاجتماعات الزعماء العرب، وجزء أصيل من مخابرات الدوَل العظمى… ويمتلكون من المعلومات ما لَمْ يتحصل عَلَيْها غيرهم من الشخصيَّات السِّياسيَّة والإعلاميَّة البارزة، مع أنَّ مَنْ يتابع تصريحاتهم ومقالاتهم وتغريداتهم كُلَّ فترة من الوقت، سيجدها بعيدة عن الواقع، وأكَّدت الأحداث والتطوُّرات زيفها… ثلاث حقائق أثبتتها حرب غزَّة (الظالمة)، يسعدني أن أختمَ بها هذا المقال، هي: أولاها، والَّتي لا يشوبها غبار ولا يعكَّرها زيف ولَبس، أنَّ الحقَّ هو المنتصر في نهاية أيَّة معركة وإن طال الزمن، والمستعمِر نهايته الخزي والعار والانكسار وإن تأخَّر النَّصر بعضًا من الوقت، ولا يضيع وطن خلفه مقاومة باسلة، وإرادة صلبة، وإيمان واثق من التحرير، ومطالبة لا تهاون يضعف عزمها، لاسترداد الأرض… الحقيقة الثانية: إنَّ الإنسانيَّة، كقِيمة وأخلاق ومُثل، تتهاوى إلى عالَم من العتمة، بفعل الشَّر الهائل الَّذي ترتكبه القلَّة المتحكمة في السِّلاح المُدمِّر، والمهيمنة على صناعة القرار العالَمي، ولولا بصيص الأمل الَّذي يضيئه أحرار العالَم، لقلتُ تتهاوى إلى عالَم من الظلمة الحالكة… الحقيقة الثالثة: مِنَ الثابت، أنَّ العنف والإجرام والمجازر والمذابح، تشعل نيران الحقد والكراهية وطلب الثأر، فعشرات الآلاف من الشَّباب الفلسطينيِّين، الَّذين فقدوا أُسرهم وأحبابهم وكُلَّ ما يملكونه في الحياة من أسباب العيش ومُقوِّماته، جعل من التخلف عن الشهادة والبقاء، جحيمًا لا يُطاق، فلَمْ يَعُدْ من خيار وسبيل أمامهم إلَّا القتال وطلب الثأر، وكُلَّما قتلت «إسرائيل» فلسطينيًّا أنجبت مجاهدًا ينضمُّ إلى المقاومة، إنَّها تقدِّم المزيد من الوقود لحرب تتجدَّد، وخطر على وجودها يشتعل ويتمدَّد ويكبر.
سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية:
العال م
إقرأ أيضاً:
المؤتمر: المساعدات الإنسانية لغزة تعكس التزام مصر التاريخي لدعم القضية الفلسطينية
ثمن الربان وليد جودة، أمين مساعد حزب المؤتمر، الدور الرائد الذي تقوم به الدولة المصرية في دعم الأشقاء في غزة، مؤكدًا على التزام القيادة السياسية بتقديم الدعم الإنساني المستمر للشعب الفلسطيني في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها، خصوصًا مع دخول فصل الشتاء.
وقال جودة، في بيان له، إن حزم المساعدات المتتالية التي تم إرسالها إلى قطاع غزة تأتي كجزء من الجهود المصرية المستمرة لتخفيف معاناة المدنيين وتعزيز صمودهم في مواجهة التحديات الإنسانية.
وأضاف أمين مساعد حزب المؤتمر، أن المساعدات المصرية تشمل إمدادات غذائية وطبية ومواد إغاثية أساسية، لضمان حصول الشعب الفلسطيني على الدعم اللازم لمواجهة صعوبة الأوضاع المعيشية خلال فصل الشتاء.
وأكد الربان وليد جودة، أن هذه الجهود تعكس التزام مصر التاريخي بدعم القضية الفلسطينية، ودورها الفاعل في تحقيق الاستقرار الإقليمي وحماية حقوق الإنسان.
وحذر أمين مساعد حزب المؤتمر، من خطورة الشائعات التي تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار الدول، مشيرًا إلى أن الشائعات تُعد من أخطر الأسلحة المستخدمة في التأثير على الروح المعنوية للمواطنين، وزرع الفتنة والتوتر بين الشعوب والحكومات.
وطالب أمين مساعد حزب المؤتمر، المواطنين بتوخي الحذر وعدم الانسياق وراء الأخبار المضللة التي تنتشر عبر وسائل الإعلام غير الموثوقة، مؤكدًا أهمية التحلي بالوعي الوطني والحصول على المعلومات من المصادر الرسمية.