السنة والشيعة في مواجهة الحروب الصليبية من الصّدام إلى التحالف.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT
الكتاب: أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية
الكاتب: محمد بن مختار الشنقيطي
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 بيروت، 2016
عدد الصفحات: 290 صفحة
1 ـ تشتت المسلمين وتناحرهم عند قيام الحروب الصليبية
كانت الإمارات الإسلامية الناشئة تعيش حالة من الاقتتال فيما بينها، عند قيام الحروب الصليبية حال دون تحالفها لصدّ التحالف المسيحي.
مقابل هذا التحلّل في صفوف المسلمين، أشاد المؤرخون بوحدة الصف المسيحي. فكتب المؤرخ الصليبي فولشر الشارتري الذي رافق الحملة الصليبية الأولى عن وحدة المقاتلين الصليبيين بافتخار: "رغم أننا كنا مختلفي الألسنة، فإننا كنا متحدين في محبة الرّب، وكنا نفكر وكأننا عقل واحد" وهذا ما شاركه فيه ابن القلانسي ـ المؤرخ الدمشقي عندما اعتبر صداما حدث بينهم استثناءً. فذكر "وردت الأخبار من ناحية الإفرنج بوقوع الخلف بينهم من غير عادة جارية لهم بذلك، ونشبت المحاربة بينهم، وقتل منهم جماعة". فكانت نبرة الأسف العميق بادية في قوله. وكانت العبارة تتضمّن مقارنة ضمنية مع ما آل إليه أمر معاصريه من المسلمين من شقاق وغدر والتواطؤ مع العدو. وما ورد هنا تلميحا ذكره ابن العديم تصريحا. فكتب عن عجز القادة المسلمين عن توحيد جهودهم ضد الصليبيين: "ومن العجائب أن يخطب الملوك لحلب، فلا يوجد من يرغب فيها. ولا يمكنه ذب الفرنج عنها، وكان السبب في ذلك أن المقدمين (أي القادة) كانوا يريدون بقاء الفرنج، ليثبت عليهم ما هم فيه من السلطة والثروة".
يعرض الكتاب أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية للباحث محمد بن مختار الشنقيطي، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه، الصدام بين السنة والشيعة في ظل هذه الحروب، ويشير إلى وجوه أخرى من التقاتل انخرطت فيه الجماعات المسيحية العربية. فيقصيها من بحثه، لتركيزه على وجوه التفاعل بين المذهبين الإسلاميين الكبيرين حصرا ، أثناء هذه الحروب.
2 ـ الصدام السّني الشيعي شرخ يتعمق باستمرار في الجسد الإسلامي
من عوامل التشتت العربي الإسلامي أثناء الحروب الصليبية أسباب غير مباشرة يردّها الباحث إلى الشرخ المبكر حول موضوع الشرعية السياسية. فقد حدث انشقاق سياسي داخل الجماعة المسلمة الأولى في اليوم ذاته الذي توفي فيه النبي. ومثّل في جوهره أزمة دستورية، بدت هينة في سقيفة بني ساعدة وتعمّقت أكثر في الفتنة الكبرى. ولكنها ستتحوّل في القرون اللاحقة إلى انشطار اعتقادي سيجعل المسلمين عاجزين عن الخروج منه حتى اليوم. وسينزع الحجاج السني إلى اعتبار التشيع مرادفاً للإسلام، وتقديم الشّيعي في ثوب المبتدع الخارج عن روح الإسلام الأصلي.
ومثله سيفعل الحجاج الشيعي. ويجعل الباحث من العصر العباسي بداية لظهور هذا الشرخ في مستواه العقائدي، وهو الأخطر في تقديره. فقد كان الشيعة والعثمانية مجرد موقفين من قضية الإمامة، لا انشطاراً شاملاً في صف المؤمنين. ثم تحول المسلمون بعدها من الإيمان المفتوح، الذي يمثّل اختيارا شخصيا للمرء دون اختبار من الآخرين، إلى عقيدة مغلقة تفرض تفسيرا ضيقا للإيمان، فتعمل سلطة سياسية واجتماعية ما على حمايته دون غيره من التفسيرات.
ضمن هذا السياق صاغ الشيعة مفهومهم للإمامة. فعبروا بها من وجهة النظر السياسية إلى القضية الإيمانية الأصولية. فوسعوا مفهوم العصمة عن الكبائر والصغائر الذي نسبه السّنة للرسول ليشمل الأئمة وجوبا. فجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص على الأئمة. ثم بالغ بعضهم في تصوير هذه العصمة حتى رفعهم فوق مصاف البشر، ومنحوهم ولاية مطلقة، وجعلوهم نواب الله في أرضه، المختصين بفهم كلماته. و"قالوا بالولاية التكوينية التفويضية التي تمنح الأئمة القدرة على التصرف في الخلق والرزق، وما إلى ذلك من خصوصية الخالق".
3 ـ السنة والشيعة في مواجهة الحروب الصليبية.. من الصّدام إلى التحالف
يستعرض الباحث جوانب من العلاقات السنية الشيعية أوان الخلافة العباسية لنتمثّل السياق الذي بدأت فيه الحروب الصليبية. فقد كانت الثورة العباسية ضد الأمويين منذ البدء حركة تلفيقية، سنية على مستوى اعتقاد قادتها، شيعية على مستوى القاعدة الاجتماعية. ثم بعد استقرار الحكم لبني العباس اكتسح التشيع المجال حتى وصف المستشرق الفرنسي ماسينيون القرن الرابع بالقرن الإسماعيلي ويستدرك الباحث فيصفه بالقرن الشيعي عامّة بالنّظر إلى قيام الدولة الفاطمية الإسماعيلية بالقاهرة والسلطنة البويهية في بغداد والإمارة الحمدانية في حلب مؤكدا أنه كان في وسع البويهيين القضاء على مؤسسة الخلافة السنية في بغداد ولكنهم حافظوا عليها لأسباب موضوعية منها أنها تمثل رمزاً لوحدة الأمة، ومنها أن البويهيين كانوا يخشون حدوث فراغ سياسي يمهد للفاطميين انتزاع بغداد، من سلطتهم.
ضمن هذا السياق ظهرت الحملات الصليبية. فعمّقت الفجوة بين المذهبين ولكن مجريات الغزوات المتلاحقة جعلتهم يدركون في النهاية، حاجتهم إلى التوحد سياسياً وعسكرياً، و"إلى القتال في خندق واحد كأبناء أمة واحدة" يقول الباحث.
ما يشد الانتباه في مادة هذا الكتاب التشابه الكبير بين واقع المسلمين عشية قيام الحملات الصليبية وواقعهم اليوم الذي لا يعدو أن يكون، وفق رأيي الخاص، غير امتداد للحروب الصليبية، شأن محنة القدس وقطاع هام من الشّام والتباينات القُطرية التي عوّضت العصبية القبلية وحدّة الاختلاف العقائدي السني الشيعي مقابل وحدة القوى المسيحية أولا وخوض الحرب تحت راية الدين لإخفاء استهداف مدّخرات الشرق أساسا.يردّ محمد بن مختار الشنقيطي روح الوحدة بين الطائفتين إلى سبب اعتقادي، ذلك أنّ رواد الإحياء السني، من أمثال الوزير نظام الملك والعلامة أبي حامد الغزالي كانوا يرون في الإمامية صيغة من التشيع يمكن التعايش معها، اعتقادياً وسياسيا، وإلى سبب آخر موضوعي. فقد كان من الأجدى لإمامية بلاد الشام أن يطلبوا دعم الدولة السلجوقية السنية الصاعدة، من أن يطلبوه من الدولة الفاطمية الآفلة.
أضف إلى ذلك أنّ المراكز الحضرية التي يحكمها السنة كانت أقرب إليهم جغرافياً. ورغم أنّ أمراء بني عمار الإماميين في طرابلس قد حاولوا أن يحافظوا على شيء من التوازن يحفظ لهم الاستقرار في ظل التنافس بين فاطميي مصر وسلاجقة الشام والعراق، فإن حصار الصليبيين لعاصمتهم طرابلس أثناء هذه الحروب رغم تواطؤ أميرها ابن عمّار معهم في البداية، حسم الأمر لفائدة طلب حماية القادة السنيين. فاستنجد بالأمير التركي سقمان القطبي، صاحب قلعة كيفا الذي أزاحه الفاطميون من إمارته. ولكنه توفي وهو في طريقه لنجدة طرابلس فحمل جنده جثمانه، وعادوا به إلى القلعة.
أمّا الشيعة الإسماعيلية فقد كان تعاونهم مع السنة "قبولا بما ليس منه بدّ". فعلى خلاف التشيع الإمامي في بلاد الشام الذي لم يطرح نفسه منافساً سياسياً جدياً للخلافة العباسية، أو للأمراء الأتراك السنة في بلاد الشام، كانوا يطرحون أنفسهم البديل الشرعي للخلافة السنية المغتصبة لحق ليس لها.
ولتفصيل الأمر بنى فصلا بأسره على التوسع في وصف المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه للفاطميين بأنهم بيزنطيو الإسلام. فقد كان الفاطميون الشيعة يرفضون الخضوع للخلافة العباسية السنية، ويرون أنفسهم الورثة الشرعيين لرسالة الإسلام ولسلطة النبي محمد كما كان البيزنطيون الأورثوذوكس يرفضون الخضوع لسلطة بابا روما، ويرون أنفسهم الورثة الشرعيين للإمبراطورية الرومانية وللعقيدة المسيحية. ولكن المد الإسماعيلي انتهى إلى الانحسار السياسي والفكري، بعد أن هيمن على العالم الإسلامي خلال القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي، فغدت الدولة الفاطمية تحتضر، وباتت الجاذبية الأيديولوجية للمذهب الإسماعيلي تتلاشى.
فأثر هذا التراجع العام للفكرة الإسماعيلية في الموقف الإسماعيلي من أهل السنة ومن الصليبيين. فتحوّل تنافسهم مع أهل السنة على حكم العالم الإسلامي، إلى قبول بالخضوع للقوى السنية الصاعدة. وكان الفاطميون كالبيزنطيين تماما، "عاجزين عن الدفاع عن عقيدتهم وحدود إمبراطوريتهم، ومضطرين إلى الاعتماد على خصومهم من أهل ملتهم السنة بالنسبة للفاطميين والفرنجة الكاثوليك بالنسبة للبيزنطيين الأورثوذوكس لأداء هذه المهمة الحيوية، التي لا بقاء للدولة من دونها. بيد أن هذا الوهن العسكري كان مصحوباً بحس التفوق الثقافي لدى كل من الفاطميين والبيزنطيين على خصومهم من أهل ملتهم".
ينتهي الباحث إلى أنّ الحروب الصليبية التي عمّقت الشقاق السني الشيعي في البداية قد وحّدهم على المدى البعيد ودفعتهم إلى تشكيل جبهة قوية تمكّنت من صدّ العدوان الصليبي. ويردّ ذلك إلى أسباب موضوعية آنية أكثر مما يرجعه إلى وعي عميق للعقل الإسلامي بضرورة الاتحاد في مواجهة التحالف المسيحي. فقد أصبح الشيعة على حال من الضعف وكان لا بدّ لهم أن يعوّلوا على السنة لإيقاف الخطر الصليبي. ومقابل هذا الانحسار في الغرب الإسلامي سيتجه المدّ الشيعي لاحقا شرقا نحو بلاد فارس، رغم أن بوادره ظهرت مع ميلاد الدولة الصفوية في عام 1051م أي قبل نهاية الحروب الصليبية في العام 1291م.
4 ـ أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية وبعد؟
لقد كلّفت هذه الانشقاقات القادة المسلمين الكبار العاملين على توحيد صفوف المسلمين بذل الوقت والجهد والمال لقتال مسلمين آخرين، كانوا يحولون دون بناء جبهة قوية قادرة على رد العدوان الخارجي، فظل عماد الدين زنكي لثماني سنين يقاتل الأمراء الذين اقتسموا بلاد الشام و بذل صلاح الدين الأيوبي اثنتي عشرة سنة في محاربة أمراء الشام وغرب العراق، قبل أن يوجّها جهودهما إلى قتال الصليبيين. ويرد الباحث الانقسام الذي كان عليه المسلمون عندئذ إلى السياق الاجتماعي والثقافي محاولا أن يقرأ بنية العقل العربي الإسلامي على نحو ما.
الدرس الصليبي يعلّمنا أن الحضارة العربية والإسلامية جميعا كانت مستهدفة من ذلك الغزو وأنّ حماية الأقطار لن يتاح إلا عبر بناء جبهة داخلية قوية ومتضامنة.فقد كانت العصبيات القبلية، وفق تصوّره، تحول دون فرض البعد الكوني للأخوة الإيمانية التي هي جوهر رسالة الإسلام. فتبنى في موقفه هذا رأي محمد إقبال القائل بأنّ فتوحات المسلمين الأولى وانتصاراتهم مثلت خسارة في العمق أدت "إلى تجميد نمو أجنة التنظيم الاقتصادي والديمقراطي للمجتمع التي أجدها مبثوثة في صفحات القرآن والسنة النبوية" فالمسلمون وهم ينجحون في بناء إمبراطورية عظيمة، "أعادوا الروح الوثنية إلى قيمهم السياسية، وأضاعوا بعض الإمكانات العظيمة الكامنة في دينهم". وللبرهنة على ذلك يستعرض الفتن العسكرية والسياسية التي سبقت جمع السلطة الأموية لشتات الأمة. وقد ساعدها في ذلك عدم وجود سنة وشيعة بالمعنى الاعتقادي عندئذ، وأكثر من ذلك، عدم وجود عقيدة إسلامية أصلاً. "فقد كان الإيمان مفتوحا، قائماً على البساطة وحسن الظّن".
وما يشد الانتباه في مادة هذا الكتاب التشابه الكبير بين واقع المسلمين عشية قيام الحملات الصليبية وواقعهم اليوم الذي لا يعدو أن يكون، وفق رأيي الخاص، غير امتداد للحروب الصليبية، شأن محنة القدس وقطاع هام من الشّام والتباينات القُطرية التي عوّضت العصبية القبلية وحدّة الاختلاف العقائدي السني الشيعي مقابل وحدة القوى المسيحية أولا وخوض الحرب تحت راية الدين لإخفاء استهداف مدّخرات الشرق أساسا.
ولا شكّ أن فائدة التاريخ مزدوجة. فهي تعرفنا بالوقائع التي دارت في الماضي وفي الآن نفسه تدعونا إلى استخلاص الدروس والعبر عبر هذه المعرفة. والدرس الصليبي يعلّمنا أن الحضارة العربية والإسلامية جميعا كانت مستهدفة من ذلك الغزو وأنّ حماية الأقطار لن يتاح إلا عبر بناء جبهة داخلية قوية ومتضامنة. ورغم أنّ العقبات نحو هذا الهدف الأسمى تبقى كبيرة جدا في وقتنا الراهن لشدة التشتت العربي مقابل التحالف المسيحي اليهودي الصلب، فلا مناص للعرب من الخلاص الجماعي، إن عسكريا أو اقتصاديا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الحروب المسلمون التاريخ كتاب تاريخ مسلمون حروب كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحروب الصلیبیة هذه الحروب بلاد الشام فقد کان
إقرأ أيضاً:
هل فشلت أوروبا في دمج المسلمين؟
تحديات الهجرة والتكامل..
هل فشلت# أوروبا في #دمج #المسلمين؟
الدكتور #حسن_العاصي
أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا
مقالات ذات صلة سورية على مفترق التحول الكبير: بين صراع الاستحقاقات وضبط الإيقاعات الدولية 2025/01/07مع استمرار العولمة في اكتساب الزخم، يغادر المزيد والمزيد من الناس ديارهم سعياً وراء أحلامهم بحياة أفضل لأنفسهم ولأسرهم. يمثل المهاجرون المسلمون الذين يتدفقون على أوروبا من مجتمعات متباينة على نطاق واسع منتشرة في جميع أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، مجموعة كبيرة ومتنوعة من الثقافات والتقاليد المحلية. تشكل الشبكات عبر البحر الأبيض المتوسط أساس طرق الهجرة وتشكل عوامل رئيسية في وجهات هؤلاء المهاجرين وفي عملية الهجرة الإجمالية، سواء كانت نحو أوروبا أو دول إسلامية أخرى. تتشابك التدفقات من الجنوب إلى الشمال مع التدفقات من الجنوب إلى الجنوب، ومن بينها تبرز دول الخليج العربية كوجهة رئيسية، ليس فقط للعمالة منخفضة المهارة. تنشأ مواقف مختلفة، ضمن خطاب متنوع حول التعايش والتكامل والاستيعاب والحفاظ على الهوية. إن تبني هذا البعد العابر للحدود الوطنية الذي يضم كلاً من الوجهة ونقاط المنشأ، يمكّن التحقيق في الهجرة من تجاوز النهج الأوروبي المركزي البحت. وبالتالي، يتم تحليل الأنماط الوطنية المختلفة مع التركيز على عدد من دراسات الحالة المهمة. ومن خلال مناقشة السياسات والنهج الثقافية، فإن الهدف هو إضافة الدراسات المبتكرة إلى تحدي التكامل. إن التعددية الثقافية من جانب الدول القومية التي تشكل الاتحاد الأوروبي هي أحد السبل لتحريك الحوار بين الأطر الثقافية المختلفة نحو شكل أكثر توافقاً.
تحديات التكامل
يعيش ما يزيد قليلاً على 5% من مسلمي العالم البالغ عددهم 1.5 مليار نسمة في أوروبا الغربية البالغ عدد سكانها حوالي 450 مليون نسمة، ومع ذلك كان لهذه الأقلية تأثير غير متناسب على الدين والسياسة في موطنها الجديد. في غضون خمسين عاماً فقط، تضخم عدد السكان المسلمين من عشرات الآلاف إلى 16مليوناً في عام 2010 إلى ما يقارب 26 مليون حالياً، أي ما يقرب من واحد من كل 20 من سكان أوروبا الغربية.
من ناحية أخرى، هناك اعتقاد متزايد بين السكان الأوروبيين الأصليين بأن الإسلام، الذي سُمح له ذات يوم بالازدهار دون رادع في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، يجب إيقافه. تحث هذه النظرة العالمية الأوروبيين على الاستيقاظ من سباتهم وهزيمة “أوروبا العربية”. في مقابل هذا السرد، هناك وجهة نظر يتبناها بعض زعماء الجالية المسلمة، مفادها أن الحكومات الأوروبية قمعية وغير متسامحة مع التنوع بشكل موحد. والروايتان غير كافيتين، والأهم من ذلك أن كل منهما يتجاهل الاتجاه الأوسع لما يحدث بالفعل على الأرض.
لقد نجح الأوروبيون والمسلمون في التفاوض مع بعضهم البعض والتكيف مع بعضهم البعض على مدى السنوات العشر الماضية. وهذا ما تؤكده عدة لحظات حاسمة في بناء الأمة. ففي المجالات الدنيوية ولكن الحاسمة للتكامل الديني ــ مثل بناء المساجد، وتدريب الأئمة، وتوافر الطعام الحلال وتأشيرات الإسلامي إلى مكة ــ بدأت الجاليات المسلمة والحكومات الأوروبية في التحدث والعمل في انسجام.
قارن هذا بما كان عليه الحال قبل ثلاثين عاما، عندما كان الإسلام غير معروف إلى حد كبير كقضية سياسية محلية بالنسبة للسياسيين والإداريين الأوروبيين. وإلى الحد الذي تم فيه تناول القضايا الدينية، كان ذلك من اختصاص سلطات الهجرة والدبلوماسيين ــ وليس البرلمانات ووزارات الداخلية. كما عكست المنظمات المجتمعية الإسلامية في المدن الأوروبية هذا الوضع؛ ولكن في أوروبا، لم تكن هذه المجتمعات متجذرة عضوياً في الثقافة والسياسة الأوروبية المحلية، بل كانت لا تزال خاضعة لسيطرة الحكومات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية الدولية.
لقد بدأ مشهد جديد يتشكل حيث وجد القادة المسلمون مكاناً متزايداً في مجتمع ومؤسسات بلدانهم الجديدة. وبدأ إجماع سياسي جديد ــ وممارسة إدارية ــ يترسخ، وهو ما يعكس الاعتراف البراغماتي المنتشر بالوجود غير القابل للرجوع فيه للمسلمين في أوروبا.
كان العقد من منتصف تسعينيات القرن العشرين إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فترة من النمو الكبير في العلاقات بين الدولة والإسلام في أوروبا. وكان المثال الأكثر وضوحاً على التحرك الأوروبي الواسع النطاق نحو دمج الإسلام مع تطوير المشاورات الوطنية مع أماكن الصلاة ومنظمات المجتمع المدني. واختفت الاستجابات غير الرسمية من جانب الحكومات للأسئلة التي تواجه المجتمعات المسلمة ومجموعات العمل بين الوزارات في العقود السابقة، وحل محلها بناء المؤسسات على غرار الشركات وإنشاء مؤسسات للتفاوض على العلاقات بين “الدولة والمسجد”.
وفي مختلف أنحاء أوروبا، اتخذت قمة الاعتراف المؤسسي والتدجين شكل المجالس الإسلامية. ولقد ساعدت مجالس مثل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، والمجلس الإسلامي الإسباني، ومؤتمر الإسلام الألماني، ولجنة الإسلام الإيطالية في حل القضايا العملية المتعلقة بالبنية الأساسية الدينية ــ من إنشاء أماكن للأئمة ورجال الدين في المؤسسات العامة إلى تنظيم المساجد، والتعليم الديني، والطعام الحلال، وتأشيرات الحج.
ومع استمرار هذا الواقع الجديد، ينشأ نظام جديد للقيادة المجتمعية والأئمة، وهو نظام يختلط بشكل أكبر بالمجتمع المحلي ــ بما في ذلك المسلمون من جميع الخلفيات فضلاً عن غير المسلمين ــ وهو أكثر دراية بالأنظمة التعددية للعلاقات بين الدولة والدين، والمعايير الثقافية الأوروبية فضلاً عن اللغات. ومع تنقل المنظمات الإسلامية بين المؤسسات التي تحكم الممارسة الدينية، تستطيع السلطات أن تتمتع بفرص استشارية فضلاً عن توفير هيكل حوافز لتشجيع الحوار بين الأديان والتعاون الأمني مع المسؤولين المحليين.
والمنظمات والقيادات التي كانت في السابق تنظر فقط إلى ما وراء الحدود الأوروبية بحثاً عن السلطة والأصالة الإسلامية بدأت تكتسب ببطء مراجع مؤسسية محلية أيضاً. لا يزال هناك الكثير من المجال للتحسين داخل المساحات الجديدة للوساطة. ولكن هذا لن يحدث إلا إذا لم يتم التنازل عن المواقف المتشائمة المبالغ فيها، والسرديات السلبية حول مستقبل المسلمين في أوروبا. وإذا كان للتقدم أن يستمر، فإن كلا من “المجتمعات الأوروبية” و”المجتمعات الإسلامية” سوف يضطران إلى التخلي عن هذه المكاسب. إن الناس يحتاجون إلى النظر إلى الأعلى وتسجيل أنفسهم عقليًا بأن السماء لن تسقط.
دور الدولة في دمج الأقليات
تبذل الحكومات الغربية المتعاقبة الجهود المستمرة منذ أكثر من عقدين للحد من ظهور الإسلام داخل المجتمعات ذات الأصول المهاجرة في مختلف أنحاء أوروبا. وفي السنوات الماضية صدرت في هولندا، وفرنسا، وألمانيا، والدنمارك، ودول أوروبية أخرى، عدة قوانين بشأن منع النقاب، والحجاب، وفرض قيود على الذبح الحلال، وحظر الصلاة الإسلامية في المدارس وأماكن العمل.
في حين أصاب المسلمون وغير المسلمين بعض اليأس من احتمالات التكامل الإسلامي على المدى الطويل في أوروبا في القرن الحادي والعشرين، فإن الخلاف حول مدى إلحاح وضرورة تقييد الرموز الإسلامية في المجال العام ــ من الملابس إلى العمارة والطعام ــ يشكل أصل سوء فهم خطير محتمل.
إن قضية الدين والتدين ليس هما العاملان الأساسيان للهوية بالنسبة لمعظم المسلمين الأوروبيين، ولكن الجو الحالي عزز الشعور بالوصم الجماعي والشعور المشترك بالظلم حيث لم تكن هناك روابط كثيرة من قبل. وقد أدى هذا إلى تغذية مواجهة متنامية، تنبئ بها روايتان متنافستان عن الضحايا تفصلان المسلمين عن غير المسلمين في أوروبا، والتي تستمر في اكتساب القوة.
في الرواية الأولى: تخبر الأحزاب السياسية السكان الأوروبيين “الأصليين” بأن العديد من الممارسات الدينية الإسلامية السائدة ــ من الحجاب إلى اللحوم الحلال ــ هي في الواقع محاولات خبيثة لفرض القواعد الإسلامية على غير المسلمين ويجب وقفها. وكما جاء في
رسالة الإرهابيين اليمينيين المتطرفين النرويجي والنيوزيلاندي، اللذان ارتكبا مجزتين دهب ضحيتها عشرات المصلين المسلمين في النرويج ونيوزيلاندا بسلاح ناري كُنب عليه “فيينا 1683″بدلالة تاريخية واضحة للمعركة الضخمة التي جرت بين جيوش العثمانيين المسلمة وأوروبا عام 1683، بعد أن حاصر العثمانيون مدينة فيينا مدة شهرين قاربت المدينة فيها على السقوط، لكن الإمبراطور النمساوي أرسل رسالة استغاثة لبابا الفاتيكان، انتهت المعركة بهزيمة جيوش الدولة العثمانية ضد تحالف أوروبي مسيحي، بقيادة ملك بولندا يوحنا الثالث سوبيسكي.
في مقابل هذه الرواية، هناك وجهة نظر يتبناها العديد من زعماء الجاليات المسلمة، مفادها أن الحكومات الأوروبية قمعية وغير متسامحة مع التنوع. وفي هذا السياق، لا نعود إلى عام 1683، بل إلى عام 1938 حيث صدر في ألمانيا قانون ألزم الرجال من اليهود بإضافة اسم “يسرائيل” إلى أسمائهم الأصلية والنساء بإضافة اسم “سارا” إلى أسمائهن الأصلية، في حال لم يكن الاسم الأصلي يشهد بكونهم من اليهود بحسب قائمة وضعها النازيون بـ “الأسماء اليهودية”. وهكذا بات من السهل التعرف على اليهودي بمجرد التعرف على اسمه. في دلالة على الحظر المفروض على الرموز الدينية السائدة (المآذن والحجاب) فضلاً عن الممارسات الأقل شيوعاً (البرقع، وتعدد الزوجات، والزواج القسري) نذير بما هو أسوأ في المستقبل.
في الواقع، لا يتعلق القياس المناسب بفيينا عام 1683 أو برلين عام 1938، بل يتعلق بسياسات تؤدي إلى نجاح التكامل، وتوفير أسباب العيش المشترك. ففي المجالات العادية، ولكن الحاسمة للتكامل الديني ــ مثل بناء المساجد، وتدريب الأئمة، ورجال الدين، وتوافر الطعام الحلال، وتأشيرات الحج ــ بدأت المجتمعات المسلمة والحكومات الأوروبية في الحديث والعمل في مجالس الإسلام الناشئة في مختلف أنحاء القارة. وبفضل الطبيعة العامة لهذه المشاورات، لم يعد الإسلام صندوقاً أسوداً بالنسبة للناخبين العامين.
إن هذا الأمر يستحق التكرار في ضوء الجهود التشريعية الأخيرة التي تلخص ما يعرفه الأوروبيون جيداً: إن المساواة القانونية الرسمية ليست كل شيء، والتحرر ليس أمراً لا رجعة فيه. وهناك خطر متزايد يتمثل في أن تتلاشى الإنجازات المتواضعة التي تحققت في مجال التكامل الديني قبل أن يتم دمج المسلمين. ويرى المسلمون في أوروبا على نحو متزايد أن مجموع المناقشات العامة حولهم مجرد اضطهاد ديني ــ وهو مزيج غريب من انعدام الثقة السياسية الذي كان وراء الصراع الثقافي والاستياء الديني الذي غذى معاداة السامية التقليدية.
في ألمانيا، دفع حظر الحجاب على الموظفات العموميات إحدى الصحف إلى نشر عنوان رئيسي يقول “إذا كنت ترتدين الحجاب، فلن تستطيعي إلا أن تكوني عاملة نظافة”، وهو ما يشير إلى أن الحكومة تحاول إبقاء النساء المسلمات في وظائف شاقة. وبعد قرار المحكمة العليا الألمانية بحظر صلاة المسلمين في المدارس العامة، قال أحد الاتحادات الإسلامية الألمانية إن السلطات “تحاول إبعاد الدين الإسلامي عن جميع الأماكن العامة”.
إن ثلاثينيات القرن العشرين ما زالت حاضرة في أذهان المسلمين في أماكن أخرى من أوروبا. ففي القريب الماضي، دعا “عبد الرحمن دحلان” – المستشار السابق في قصر الإليزيه – مسلمي “فرنسا” إلى ارتداء نجمة خضراء، وذلك للاحتجاج على الجدل الثائر حول العلمانية المطلوبة من قبل الحزب الحاكم. وعندما نظر البرلمان الفرنسي في فرض حظر جديد على الحجاب، أشار مقدمو الالتماسات ضد مشروع القانون صراحة إلى قوانين “نورمبرج” التي أصدرتها ألمانيا النازية عام 1935وتم بموجبها حرمان اليهود الألمان من المواطنة كما حُرم عليهم الزواج أو الدخول في علاقة جنسية مع أشخاص من ألمانيا أو مع من ينتسبون لهذه الدماء، كما جردوهم من حقوقهم الشرعية ومُنعوا من أغلب الحقوق السياسية.
قوانين هدّامة
إن موجة القيود لا تظهر أي دلائل على تراجعها. فالملاحقة الانتخابية مجزية للغاية ــ ومحفوفة بالمخاطر السياسية إلى الحد الذي لا يسمح بمعارضتها. وهذا مسار يجد فيه العديد من الساسة المكافآت، ولكنه في اتجاه زلق. ولا يجادل سوى قِلة من المراقبين في خطر الأصولية الإسلامية أو عواقبها المميتة. ولكن إذا كان الهوس بالرموز الإسلامية يشكل جزءاً من أجندة أمنية وطنية متماسكة، فسوف يستكمل بتدابير بناء الثقة في أحد المجالات القليلة حيث تتمتع الدولة بسلطة حقيقية للتأثير على النتائج، على سبيل المثال ضمان الحريات الدينية في ظل حكم القانون. ولكن بدلاً من ذلك، أدى التركيز غير المتناسب على حالات التقوى المتطرفة أو التواضع الديني المفرط إلى إنتاج تدبير تشريعي هدّام تلو الآخر.
على سبيل المثال القيود المفروضة على الحجاب والنقاب التي تم فرضها على المسلمين في عام 2008. إن هذه القوانين الجديدة لن تؤثر بشكل مباشر إلا على مئات أو ربما آلاف الأسر على الأكثر، أي أقل من واحد في المئة من الملايين العديدة في البلدان التي أقرتها مجالس الشعوب. وعلاوة على ذلك، فإن النساء القليلات اللاتي يعشن تحت وطأة النقاب في البلدان التي تفرض حظراً جديداً سوف يتم نفيهن إلى شققهن. أما الفتيات القليلات اللاتي يجبرن على الاختيار بين عقيدتهن والتعليم العام فسوف نادراً ما يقابلن أقرانهن من غير المسلمين في بيئة محايدة. أما فيما يتصل بالمناقشات حول تقييد الذبح الحلال، فإن هذا لن يؤثر إلا على قدرة الاتحادات الإسلامية على جمع الأموال محلياً. وسوف يتم استيراد اللحوم المناسبة فقط ولن يكون هناك أي نقص في النقد الأجنبي اللازم لتمويل الجمعيات الدينية المحلية.
لقد انتقل أولئك الذين يريدون فرض قيود على حضور الإسلام في المجال العام، في غضون عقد من الزمان، من حظر الحجاب نيابة عن حقوق المرأة إلى التشكيك في الممارسات الأساسية للتسامح الديني، مثل الحق في ذبح الحيوانات وفقاً للطقوس الدينية، أو بناء دور العبادة، مع أو بدون مآذن. في ميلانو، عندما حضرت نائبة العمدة إفطار رمضان في إحدى المرات اتهمها سلفها “بإرسال الإشارة المؤسسية الخاطئة” والسعي إلى “المساواة للإسلام كدين”، وهو ما من شأنه أن يؤدي مباشرة إلى قانون الشريعة الإسلامية.
وبينما تكون أفضل النيات لدى العلمانيين، أو الليبراليين، أو النسويات، أو نشطاء رعاية الحيوان هي التي تعمل في كثير من الأحيان على صياغة هذه التدابير، فإن تأثيرها الواضح هو التضحية بالفرص الذهبية لنقل القيم الجمهورية في بيئة مشتركة. ويبقى الانطباع بأن عواطف هؤلاء المدافعين أقل إثارة بسبب عدم الليبرالية لدى غير المسلمين. إن السعي وراء القضايا الاجتماعية والسياسية التقدمية، مثل حقوق المرأة، ورعاية الحيوان، وحرية التعبير، يمكن أن يكتسب نغمات تمييزية إذا لم يتم متابعتها بنفس الحماس لجلب الإصلاح للجماعات الدينية غير المسلمة.
الريح والشمس
في يوليو/تموز 1917، ألقى الرئيس الأميركي السابق ويليام هوارد تافت خطاباً يتأمل فيه مصير الأقليات اليهودية في أوروبا مع انضمام الولايات المتحدة إلى الحرب العظمى. في دعوته إلى تحرير اليهود دون قيد أو شرط ودمجهم في كل مجتمع وطني في أوروبا، حذر تافت من أن “الإجراءات القاسية والقمعية لم تساعد”، والأسوأ من ذلك أنها “ضارة دائماً”. ولم يستشهد تافت بإرث التنوير أو حتى الثورتين الأميركية والفرنسية لدعم حجته. بل استشهد بحكاية “إيسوب” عن الصراع بين الريح والشمس في خلع معطف الرجل من ظهره. فكلما هبت الريح بقوة، كلما اقترب الرجل من معطفه. ويعتبر ايسوب من كتاب القصص القصيرة عند الاغريق وقد ولد في القرن السادس قبل الميلاد وقد تم تجميع اعماله تحت ما يسمى (حكايات ايسوب) وهي الحكايات التي تعطى عبر ودروس في الحياة من خلال عنصر التشويق والمتعة والتي تساهم بقدر كبير في ثقل شخصية الانسان وازدياد فهمه للحياة من حوله. وعلى نحو مماثل، كتب تافت: “إن الاضطهاد والظلم لا يؤديان إلاّ إلى تعزيز خصوصية اليهود في تمسكهم بعاداتهم القديمة ودينهم وطقوسهم”.
إن الحل الذي قدمه يرقى إلى حكمة فيكتورية ــ الإقناع أفضل من القوة ــ ولكن هذا لا يقلل من حكمة القرن السابع قبل الميلاد: “لم يخلع الرجل معطفه إلا عندما زادت أشعة الشمس الدافئة من درجة الحرارة وتسببت في الشعور بعدم الراحة”. إن نصيحة تافت لا تزال تتردد حتى اليوم. إن الإشارات الشعبوية حول أغطية الرأس، أو الصلاة في الشوارع، أو الطعام الحلال لا يمكن أن تحل محل استراتيجيات جادة للإدماج الاجتماعي والسياسي.
إذا لم يتقدم الزعماء الأوروبيون لمواجهة هذا التحدي، فسوف يقوم شخص آخر بذلك في النهاية. وهناك مجموعة جديدة من الخاطبين في القارة. فقد دخلت قطر إلى الضواحي الفرنسية بهدية استثمارية بقيمة 50 مليون يورو ومغازلة النخب الفرنسية المسلمة، كما مولت بناء المسجد الكبير في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن أو ما يسمى مركز حمد بن خليفة الحضاري. كما كثفت الدول الأصلية للعديد من المسلمين الأوروبيين، وخاصة تركيا والمغرب، جهودها التوعوية. فقد أنشأت مؤسسات معقدة وآليات استشارية خاصة بها للبقاء على اتصال مع الأقليات التي تعتبرها عرضة للخطر على نحو متزايد وحمايتها. وحتى الولايات المتحدة وضعت برامج تهدف إلى تعزيز اندماج المسلمين الأوروبيين.
إن هذه البلدان الأخرى تغري النخب الأوروبية المسلمة بالانضمام إليها لأنها غالباً ما تكون الوحيدة التي تأخذها على محمل الجد. إذا استمرت الأمور على هذا النحو، فسوف تهدر الحكومات الأوروبية الفرصة للاستفادة من التضحيات السياسية الأخيرة والتقدم الواضح باسم التكامل، وسوف تتراجع إلى عصر ما قبل أن تبدأ في تحمل المسؤولية عن مواطنيها.
وبعد أن يتم قطف كل الثمار المنخفضة المعلقة ــ حظر آخر النقاب، وترحيل آخر متطرف أجنبي ــ سوف تظل الحكومات الأوروبية في حاجة إلى رفع مستوى أدائها والتوصل إلى إجماع بشأن الهدف الأكثر أهمية وصعوبة في الوصول إليه: سياسة تكامل متماسكة تنخرط في الحقوق والمسؤوليات الدستورية الكاملة لجميع المواطنين. وفي الوقت الحالي، يبدو أن المنافسة الحزبية والرأي العام غير المواتي أقنعا العديد من الحكومات الأوروبية بأن هذه العنب حامض.