الشاعر الخَفيّ خميس لطفي.. سَخّر شعرَهُ للهويةِ ويومياتِ الانتفاضة في فلسطين
تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT
إنه أكثرُ شاعر امتلك معه ذكريات، ثائر لكنه رقيق، عادي لكنه مفاجئ، متواضع لكنه كبير، سهل لكنه ممتنع، غزير الإنتاج لكنه مُجيد.. شعرُه واقعي لكنه واسع الخيال، تأخَّر لكنه نبغ. أشعاره سهلة تمتلئ بالبساطة والبراءة وربما السذاجة والسطحية لتوصيل أفكاره العميقة.. جمع الشعر من أطرافه، لا تعجزُهُ قافية ولا يحدُّهُ وزن.
حاولتُ كثيراً، كغيري، أن نُخرجه للإعلام، فكان يتمنع.. لم يظهر دفعة واحدة، بل تسرّب تسريباً عبر الصفحات. فظهرَ في شبكة فلسطين للحوار حيثُ تعارفنا هناك.. ودامت معرفتنا وسهرنا الليالي سوياً في الشبكة حتى وفاته رحمه الله. ثم في المنتديات الأخرى التخصصية. ثم أنشأ موقعه الخاص. ثم جاءت المقابلات الصحفية. ثم نشر مجموعاته الشعرية.
في الشبكة كان مرشداً للشعراء، خفيف الظل في التعليقات، كنا نُبارزُهُ ولا نقدر عليه.. كنا نقدم أفضل ما لدينا، ثم يقدم قصيدته "فتلقف ما صنعنا".
قلّدتُ شعره عدة مرات، فكتب قصيدة "عندي الكثير لأفعلَه" مقلداً أسلوبه، وأرسلتها له.. فعدّل فيها الكثير فصارت أجمل. وكتبت قصيدة "لا وقت عندي للكلام" على طريقة قصيدته "أحتاج بعض الوقت". لكني لا أنسى تلك الليلة التي طالت ونحن نرد على بعضنا شعراً، حتى قال لي: أخي ياسر، لم أعُد أستطيعُ التحمّل، فأنا أكتب الآن وأنا أبكي.. فَلَملمنا ما كتبناه، فخرج كلٌّ منا بقصيدة وجدانية جميلة وحزينة.
بعد أن تمنّع كثيراً، أجريتُ معه ثلاثَ مقابلات أدبية، وربما كنت الوحيد أو الأول، نشرتها في أكثر من مجلة.. وقد ذكر د. أسامة الأشقر هذا في رثائه له بقوله:" وكم كنتُ أتمنى أن يكشف الشاعر عن نفسه ويشارك في الملتقيات والأمسيات الشعرية إلا أنه لم يوافق يوماً على هذا الظهور العلني المباشر، إلا أنه اقتنع بجدوى الحضور فأطلق موقعه الشخصي وبدأ يُجري مقابلات صحفية حرّضه عليها الأخ الشاعر ياسر علي رئيس تحرير مجلة العودة وقبلها في مجلة فلسطين المسلمة".
استطعتُ استدراجَه لذلك حين اكتشفتُ أن له قصيدة بدأت تنتشر وتُنسب إلى الشاعر الكبير أحمد مطر، وهي قصيدة "هكذا تكلّم الزعيم"، ولكنها بعنوان "شت أب". فبذلتُ جهداً في حملة أدبية لأعيد نسبتها إليه، وطلبت منه المساعدة في ذلك من خلال المقابلات، وهكذا كان.
فمن هو شاعرنا؟
إنه خميس لطفي حْزَيِّن، شاعر لاجئ فلسطيني من قرية "القباب"، ولد في النصيرات وسط قطاع غزة بعد النكبة بأسابيع، عام 1948. وقضى طفولته الأولى في دير البلح، وتعلم في مدارسها، ثم نزح منها عام 1968 إلى الأردن بعد الاحتلال.
بدأ كتابة الشعر في مراحله الدراسية الأولى وله قصائد كثيرة منها: المهاجر، زمان الكفاح، النسر يأكل قلبي، الآخرون.
أكمل تعليمه الجامعي في أوروبا وحصل على بكالوريوس في الهندسة الإلكترونية، وعاد إلى الأردن، ثم انتقل للعمل مهندساً للاتصالات في السعودية.
أصدر ثلاث مجموعات شعرية عبر "مؤسسة فلسطين للثقافة"، بإشراف د. أسامة الأشقر الذي كتب مقدمات نقدية لهذه المجموعات، وهي:"وطني معي" و"عُد غداً أيها الملاك" و"فوق خط التماس".وهي مجموعات تضمنت في معظمها يوميات وأحداث جرت في الانتفاضة، وكما يقول في مقابلة سابقة: أدين في كل ما كتبته للانتفاضة..
عُرف بحبه الجارف لغزة، وكتب لها الكثير من قصائد "الحب" و"الفخر" المليئة بالانتماء عن بُعد.
واشتُهر له قسَمُهُ الشعري لفلسطين الذي يقول فيه:
أَنا الْمَدْعُوُّ: غزِّيٌّ أصيلٌ ، وابنُ غزيِّةْ
وَعُنْوانِي: خطوطُ النارِ ، في حيِّ "الشُّجاعيَّةْ "
وَأَعْمَلُ: في سبيل الله، أعمالاً فدائيةْ
أُدَوِّنُ عَنْ: هوى وطني قصائدَ لا نهائيَّة
وأُقْسِمُ أنْ: سأبقيها على شفتيَّ أغنيَّةْ
وَأَنْ أَبْقَى: على عهدي، ورأسي، غير محنيَّة
وَأَنْ أَحْيَا: لكي تبقى بلادُ العرْب محميَّة
وَلي حُلُمٌ: له أسعى، حثيثاً، صادق النيَّة
وَفِي نَفْسِي: إلى الأقصى حنينٌ ساكنٌ فيَّ
إِلَى أَجَلٍ: فها هي ذي قوى شعبي الطليعيَّة
تبشرنا بنصر الله ضد قوى الصليبية
وَلَنْ أَخْشَى: أنا إلاَّ من الذات الإلهيَّة
فَإِنْ أَقْضِ: صريعَ الحقِّ، والأوطانُ مسبيَّة
فَلا أَسَفٌ عَلى عَيْشٍ بِلا حُلُمٍ، وَحُرِّيَهْ
توفي في عمان حيث كان يقضي الإجازة السنوية إثر نوبة قلبية في أيلول (سبتمبر) 2010، عن 62 سنة.
قصيدة شت أب
أنا السببْ.
في كل ما جرى لكم
يا أيها العربْ.
سلبتُكم أنهارَكم
والتينَ والزيتونَ والعنبْ.
أنا الذي اغتصبتُ أرضَكم
وعِرضَكمْ، وكلَّ غالٍ عندكمْ
أنا الذي طردتُكم
من هضْبة الجولانِ والجليلِ والنقبْ.
والقدسُ، في ضياعها،
كنتُ أنا السببْ.
نعم أنا.. أنا السببْ.
أنا الذي لمَّا أتيتُ،
المسجدُ الأقصى ذهبْ.
أنا الذي أمرتُ جيشي
في الحروب كلها
بالانسحاب فانسحبْ.
أنا الذي هزمتُكم
أنا الذي شردتُكم
وبعتكم في السوق مثل عيدان القصبْ.
أنا الذي كنتُ أقول للذي
يفتح منكم فمَهُ:
" شَتْ أَبْ "!
***
نعم أنا.. أنا السببْ.
وكلُّ من قال لكم
غير الذي أقولهُ،
فقد كَذَبْ.
فمن لأرضكم سلبْ.؟!
ومن لمالكم نَهبْ.؟!
ومن سوايَ مثلما اغتصبتُكُم
قد اغتَصبْ.؟!
أقولها صريحةً،
بكل ما أوتيتُ من وقاحةٍ وجرأةٍ،
وقلةٍ في الذوق والأدبْ.
أنا الذي أخذتُ منكم
كل ما هبَّ ودبْ.
ولا أخافكم
ألستُ رغم أنفكم
أنا الزعيمُ المنتخَبْ.!؟
لم ينتخبني أحدٌ لكنني
إذا طلبتُ ذات يوم، طلباً
هل يستطيعٌ واحدٌ
أن يرفض الطلبْ.؟!
أقتلُهُ،
أجعلُهُ يغوص في دمائه حتى الرُّكبْ.
فَلْتَقْبَلوني هكذا كما أنا
أو فاشربوا “بحر العربْ“.
ما دام لم يعجبْكمُ العجبْ.
مني، ولا الصيامُ في رجبْ.
ولْتغضبوا، إذا استطعتم، بعدما
قتلتُ في نفوسكم
روحَ التحدي والغضبْ.
وبعدما شجَّعتكم
على الفسوق والمجون والطربْ.
وبعدما حوَّلتُكم
إلى جليدٍ وحديدٍ وخشبْ.
وبعدما أرهقتُكم
وبعدما أتعبتُكم
حتى قضى عليكمُ الإرهاقُ والتعبْ.
وبعدما أوهمتُكم أنّ المظاهراتِ فوضى
ليس إلا، وشَغَبْ.
وبعدما أقنعتكم
أن السكوتَ من ذهبْ.
***
يا من غدوتم في يديَّ كالدُّمى
وكاللعبْ.
نعم أنا.. أنا السببْ.
في كل ما جرى لكم
فلتشتموني إن أردتم،
في الفضائياتِ والخطبْ.
وادعوا عليَّ في صلاتكم وردِّدوا:
“ تبت يداهُ مثلما تبت يدا أبي لهبْ “.
ماذا يَضيرُني أنا؟!
ما دام كل واحدٍ في بيتهِ،
يريدُ أن يسقِطَني بصوتهِ،
وبالضجيج والصَخبْ.؟!
أنا هنا!
ما زلتُ أحمل الألقابَ كلها
وأحملُ الرتبْ.
فَلْتُشْعِلوا النيرانَ حولي
واملؤوها بالحطبْ.
إذا أردتم أن أولِّيَ الفرارَ والهربْ.
وحينها ستعرفون، ربما
مَن الذي
في كل ما جرى لكم
كان السببْ.!؟
قصيدة ما أروعك
ما أروعكْ.!
رفع الجميع الرايةَ البيضاءَ من زمنٍ،
وأنت بقوةٍ،
ما زلتَ ترفع إصبعيك ومِدفَعَكْ.
ذهب الجميع إلى مخادعهم وناموا بينما،
لم تغفُ أنت للحظةٍ،
وبقيت تهجر في الليالي مَخْدَعَكْ.!
عزفوا مقاطعهم عن “الإرهابِ“
ثم “الإنتحاريينَ“ لكن،
ما اكترثت ورحت تعزفُ،
للشهادة والخلود مقاطعكْ.
يتساءلون لِمَ “انتحرتَ“؟!
وأنت تسخر من تساؤلهم،
وقدرتِهم على استيعاب شرحكَ،
إنْ شرحتَ دوافعَك.
هل يفهم السفهاء ما
معنى الشهادةِ في سبيل اللهِ،
أو لِمَ نيلُها،
أضحى مُنَاك ومطمعك؟!
دعهم!
فقد ضلوا كما الأنعام بل
صاروا أضلَّ ومثلُهم لن ينفعكْ.
ما أروعكْ!
كم حاصروك وطاردوكَ،
وأوقفوك وقهقهوا..!
متوهمين بأن ذلك كلَّه قد أخضعكْ.
كم عذبوك وما اعترفت سوى
بحبك للتراب وكم،
بكيت وكنت في صمتٍ،
تكفكف أدمعكْ.
أذهلتهم.!
بتوازن الرعب الذي أوجدتهُ،
لمَّا وضعتَ على حزامك إصبعك.!
لم تستطع كل الحواجز،
إنْ أردت النيل من قطعانهم، أن تمنعكْ.
علمتهم كيف الحياة تصير موتاً،
كيف تغدو أنت حياً في الأعالي
حين تلقى مصرعكْ.
لم يفهموك..
وكلهم يسعى بجدٍ،
كي يُضيِّع تضحياتِك هكذا..
ويضيِّعك.
والآن قل..
قل ما تريدُ،
فمن سيجرؤ أن يحدق في عيونك لحظةً
ويقاطعَكْ!؟
قل ما تريد فأنت سيدهم،
وكلُّ حلولهم هي كالسراب بِقِيعةٍ،
ومتى استطاع سرابهم يا سيدي
أن يخدعك؟ّ!
ما أروعكْ.!
حسبوك وحدك عندما،
وجدوك في الميدانِ، لم يدروا،
بأن الله يا شعبي معك.!
قصيدة بقاؤكم مستحيل
على أرضنا لم يعمِّر دخيلُ.
وتاريخُنا شاهدٌ ودليلُ.
وأنتم أطَلْتُم هنا، وفسقتم
وخيرٌ لكم كانَ، ألاَّ تطيلوا.
وكل سلامٍ لنا معكم
كِذبةٌ،
وبقاؤكمُ مستحيلُ.
ستنقرضونَ،
ونحن سنبقى
ويبقى الكثيرُ، لنا، والقليلُ.
ستبقى السماءُ لنا والهواءُ
ويبقى الندى والنسيمُ العليلُ.
ستبقى الغيومُ وتبقى الرياحُ
وشمسُ النهار لنا، والأصيلُ.
لنا كل سهلٍ، لنا كل حقلٍ
لنا البرتقالُ هنا، والنخيلُ.
لنا اليومُ، والغدُ، والذكرياتُ
التي ما لها، عند شعبٍ، مثيلُ.
لنا القدسُ عاصمةٌ،
والخليلُ ويافا وحيفا
لنا، والجليلُ.
وكلُّ فلسطينَ من بحرها
إلى نهرها، والفضاءُ الجميلُ.
فهيا ارحلوا،
يا برابرةَ العصرِ
جئتم غزاةً، وحانَ الرحيلُ.
ولا تكذبوا..!
لا تقولوا بأنَّ لديكم هنا وطناً
لا تقولوا.!
ولا تحلموا.!
بحدودٍ يمرُّ بها، ذات يومٍ،
فراتٌ ونيلُ.
فنحن هنا..
منذ فجر الزمان
إذا غاب جيلٌ لنا، جاء جيلُ.
وأنتم هنا طارئونَ، وليسَ
وما، للمفرِّ لديكم سبيلُ.
سنقضي عليكم
وسوف نظلُّ
وراءَكمُ
والزمانُ طويلُ.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير شاعر فلسطين فلسطين مسيرة شاعر هوية سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أنا السبب أنا الذی فی کل ما
إقرأ أيضاً:
فديتك زائرًا في كل عام.. الرمضانيات في الشعر العربي
هل سمعت من قبل بالرمضانيات في الأدب العربي؟ لم يكن الأدباء والشعراء على مدى العصور في التاريخ العربي لِيفوّتوا مناسبة عظيمة مثل شهر رمضان المبارك دون أن يتحدثوا عنها، ويبينوا جمالياتها، ويصفوا طقوسها واتفاق الناس واختلافهم في تأديتها، لا سيما أن لشهر رمضان خصوصية مجتمعية تفرض وجودها على أطياف المجتمع كلها، سواء أكانوا من المسلمين أم لا.
تعرَف القصائد التي تتحدث عن شهر رمضان وتدور في فلكه في الشعر العربي بالرمضانيات، ويعدها بعض النقاد لونا شعريا مستقلا، إذ تدور حول مجموعة من الأفكار الثابتة التي تتعلق بشعيرة الصيام لدى المسلمين، ولها خصائص فنية وأسلوبية تميزها من غيرها.
كما تعد هذه القصائد مرآة تعكس الروح الإيمانية لدى الشعراء الذين عُنوا بها وبكتابتها وتحبيرها، إذ يعبرون فيها عن مكنونات النفس المؤمنة وانعكاساتها على الروح في عالم مُواز بعيد عن الواقع المعيش الذي تطوقه المعاني المادية من كل جانب.
فرمضان فرصة الروح للانعتاق من أسر المادة وهيمنة النفس ورغباتها، وذلك بتأطير سلوك المرء وشهواته بالعمل على تربية النفس وتهذيبها وتطويقها بحدود وقواعد لا يمكن للصائم أن يتجاوزها أو يخرج عنها.
تندرج الرمضانيات بطبيعة الحال تحت غرض الشعر الديني، إذ تصور حال المجتمع المسلم وتفاعلاته مع أجواء الشهر الفضيل، وهي قصائد دينية وصفية -إذا جاز التعبير- لأنها تصف حال المسلم أثناء تأدية شعيرة الصيام وأثرها في نفسه.
إعلانكما تصف معراج الروح في الليالي الرمضانية وانعتاقها من قيد الشهوات الدنيوية، وتتحدث عن أهمية شهر رمضان بوصفه أشبه بدورة إعادة تأهيل نفسي وبدني للانطلاق مجددا في مواكب الأرض سعيا وراء تحقيق الهدف الأمثل من الوجود، ومحاكاة حقيقة الخلق.
ومن جانب آخر، تسهم في تحقيق التوازن النفسي، ما يمنح المرء قدرة على التعاطي مع مجريات الحياة في ظل الصخب الذي يزداد في حياتنا يوما بعد يوم، بسبب طغيان المادة والمنفعة على الإنسان في أيامه ومعاملاته عامة.
ولا تخلو الرمضانيات من الوعظ والحكمة، كما تتكئ على أسلوب السرد القصصي التعليمي أحيانا، ما يجعلها أقرب إلى غرض الزهد من غيره.
أضف إلى ما سبق أن قصائد الرمضانيات تُعنى بدرجة عالية بالحديث عن فضائل الشهر المبارك وما خصّه الله به من مضاعفة أجر العبادات التي تؤدى فيه.
كما تصف استقبال الناس له واستبشارهم بطلوع هلاله عليهم، وحزنهم لفراقه بعد ما وجدوه في أنفسهم من عبق إيماني ينتشر شذاه في فراغات النفس حبا وقربا وإيمانا وطمأنينة، وبعدما عاينوه من توازن نفسي أعاد ترتيب أولوياتهم في هذه الحياة، لاسيما بعد ما لاقوه من بركة وخير عميم في أيامه ولياليه.
هلال رمضان في الشعر العربيلشهر رمضان حضور واسع في وجدان الأمة الإسلامية، وحضور بهي في تراثنا الأدبي وأشعارنا، وهلال رمضان بشرى خير تطل على العالم الإسلامي في كل عام.
ويبدأ الاحتفاء به وترقب ظهوره من أواخر شهر شعبان استبشارا بما تحمله أيامه ولياليه من فضائل وخيرات ومسرات وجدانية، فها هو الشاعر البحتري يرحب بقدوم شهر رمضان بين يدي الخليفة العباسي المعتصم بالله قائلا:
قم نبادر بها الصيام فقد .. أقمر ذاك الهلال من شعبان
ويرتبط هلال رمضان ببداية شهر الخير، فالترحيب به ترحيب بما يؤذن به من تجليات إيمانية، فلننظر معا إلى ما قاله الشاعر الأندلسي ابن حمديس الصقلي مُرحّبا محتفيا بمجيء شهر الصيام:
قلت والناس يرقبون هلالا
يشبه الصب من نحافة جسمه
من يكن صائما فذا رمضان
خط بالنور للورى أول اسمه
تعد أيام رمضان ولياليه فرصة عظيمة للتجارة الإيمانية الرابحة بكل تأكيد، لذلك نجد مِن الشعراء مَنْ يحض على اغتنام هذه الأيام والليالي في سبيل تحقيق المغفرة وانجلاء الهموم وتسكين النفس وتعظيم أملها بما ينتظرها في حياتها الآخرة، وفي ذلك يقول الشاعر أبو عبدالله الأندلسي:
هذا هلالُ الصومِ من رمضان
بالأفق بان فلا تكن بالواني
وافاك ضيفًا فالتزمْ تعظيمه
واجعلْ قِراه قراءة القرآنِ
صمْه وصنْه واغتنم أيامَه
واجبرْ ضعافَ الناس بالإحسانِ
واغسلْ به خط الخطايا جاهدا
بهُمول وابِل دمعك الهتّانِ
وفي قصيدة (هلال رمضان) التي تنسب للشاعر أحمد شوقي، استقبل الشاعر فيها شهر رمضان بمعان بديعة جدا، إذ قال فيها:
يا هلال الصيام مثلك في السامين
للعز من طوى الأفلاكا
مرحبا للثواب منك وأهلا
بليالٍ جمالها لقياكا
كل عال أو كابر أو نبيل
أو وجيه من النجوم فِداكا
أنت مهد الشهور والحسن والإشراق
مهد الوجود منذ صباكا
فوق هام الظلام ضوء جبين الكون
تاجٌ للكائنات ضِياكا
ومن بديع ما قاله الأديب مصطفى صادق الرافعي عن هلال رمضان مبتهجا بقدومه وواصفا إياه:
فديتك زائرا في كل عام
تحيي بالسلامة والسلام
وتقبل كالغمام يفيض حينا
ويبقى بعده أثر الغمام
وفي فضل رمضان وأهميته وتأثيراته العظيمة في نفس المسلم يقول الشاعر الشيخ أحمد سحنون واصفا شهر الصيام بالطبيب المعالج، وبالغيث الذي يهمي على صحراء الروح العطشى لسكينة الإيمان بعد جدب أصابها جراء الانهماك في الحياة الدنيا:
رمضان ما رمضان عهد حضارة … بعطائها زخرت كبحر زاخر
رمضان عنوان الكمال لأمة … صُنعت على عين الحكيم القادر
أكرمْ به شهرًا كأكرم زائر … أعطى وأجزلَ مثل غيث غامر
رمضان يوفده الإله معالجا … لسَقامنا مثل الطبيب الماهر
رمضان ينسينا الهموم بعطره … بين الشهور كمثل روض زاهر
فإليك يا رمضان خير تحية … من حافظٍ عهدَ الصديق وشاكر
ويقول في قصيدة أخرى واصفا جمال أثر الصيام في وجوه الصائمين القائمين العابدين، متحدثا عن انعتاق الروح من شهواتها وتحررها من أسر الحياة الدنيا ومشاغلها:
وعلى الوجوه نضارة الإيمان … يا للجمال يشع في "رمضان"
"رمضان" شهر البر والإحسان … "رمضان" شهر الصوم والقرآن
"رمضان" أغنية بكل لسان … "رمضان" إنك غرة الأزمان
"رمضان " فيك تيقظ الوجدان … "رمضان" فيك تحرر الإنسان
أنا فيك مبتهل إلى الرحمن … فعسى تعود هناءة الأوطان
في رمضان قامت وتحققت أعظم فتوحات المسلمين وانتصاراتهم، أشهرها وأعظمها غزوة بدر التي وقعت يوم 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة.
إعلانوكذلك فتح مكة في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، ومعركة القادسية التي جرت أحداثها في رمضان في السنة الخامسة عشرة للهجرة بقيادة الصحابي سعد بن أبي وقاص، وغير ذلك مما لا يمكن للشعراء تفويت الحديث عنه والتغني به.
فها هو الشاعر الشيخ أحمد سحنون يتحدث عن عظيم الفتوحات في شهر رمضان فيقول:
أي شهر قد ساد كل الشهور … فتجلى في حلة من نور!!
وتوالت فيه الفتوحات وانجابت … عن الكون حلكة الديجور
ويتابع قصيدته متحدثا عن فضائل شهر رمضان وخصائصه مُعدِّدا إياها، ففي رمضان تُصفّد الشياطين ويبقى الإنسان في مواجهة حقيقية بينه وبين نفسه الأمارة بالسوء، ولا يغفل الشاعر عن ذكر أهم ما يميز شهر رمضان عن غيره، إذ خصه الله بجعله الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم:
والشياطين صفدت فهي لا تغوي … وتغري بكل إفك وزور
كل خير فيه يسير وفعل الشر … فيه تلفيه غير يسير
أي شهر غير الذي أنزل … القرآن فيه فكان خير الشهور
رمضان الذي به ولد الإسلام … دين الإنشاء والتعمير
رمضان شهر الهداية … والتوبة شهر التحرير والتطهير
شهر تزكيه النفوس وتهذيب … العقول بالعلم والتنوير!
ولشدة جمال أجواء الشهر الكريم وما يضفيه على النفس من حبور واطمئنان تمنى الشاعر تميم الفاطمي لو كان شهر رمضان حولا كاملا؛ فقال:
يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت
فيه الضمائر بالإخلاص في العمل
صومٌ وبرٌ ونسكٌ فيك متصل
بصالحٍ وخشوع غير منفصل
يا ليت شهرك حولٌ غير منقطع
وليت ظلك عنّا غير منتقل
وفي وصف حال الصائمين المنتظرين لأذان المغرب، التواقين لنداء الإفطار بعد صيام طويل، يقول الشاعر راصدا حركات الصائمين وانفعالاتهم النفسية وترقبهم للأذان:
جعلت الناس في وقت المغيب
عبيد ندائك العاتي الرهيب
كما ارتقبوا الأذان كأن جرحا
يعذبهم، تلفَّت للطبيب
وأتلِعت الرقاب بهم فلاحوا
كركبان على بلد غريب
مزج بعض الشعراء بين الرمضانيات وأغراض شعرية أخرى، ولعل أولها وأهمها في هذا السياق كان غرض المديح، فإذا أراد الشاعر مدح خليفة أو صاحب مقام عال لا سيما في العصور الإسلامية عمد إلى الحديث عن ورع الممدوح وتقواه وزهده وعباداته.
إعلانوشهر رمضان خير وسيلة لهذا الحديث، ومن ذلك قول الشاعر العباسي ابن أبي حصينة:
صِيامكَ للمهيمن ذي الجلال … وفطرك للمكارم والمعالي
فيومٌ لِلتُقى وَلِنَيلِ أَجرٍ … وَيَومٌ لِلمَواهب والنِزالِ
فأنت من المَناسِكِ غَيرُ عارٍ … وَأَنت من المحامد غيرُ خالِ
فِدىً لِلعامِرِيِّ أَبِي وَأُمّي … وَما ثَمَّرتُ مِن نَشَبٍ وَمالِ
استعمل الشعراء فكرة الصيام وتأدية العبادات في شهر رمضان بوصفها أيقونة تدل على ورع الممدوح والتزامه الديني والأخلاقي.
ومن مبالغة بعض الشعراء أن عمدوا إلى تشبيه فضل الممدوح بفضل شهر رمضان وفضل ليلة القدر على غيرها من الليالي.
ومن ذلك ما قاله الشاعر الصنوبري في سياق المديح:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه .. ووقاك الإله ما تتقيه
أنت في الناس مثل ذا الشهر في الأشهروتنبه الشعراء إلى الاستفادة من شهر رمضان الكريم في نظم قصائد التهنئة لِأُولي الملك والسلطان، كقصيدة البحتري التي هنأ فيها الخليفة العباسي المعتصم بشهر رمضان فقال:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم وبسنة الله الرضية تفطر
ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما في وسعه لسعى إليك المنبر
ماذا عن ليلة القدر في الشعر العربي؟لليلة القدر نصيب كبير من الرمضانيات، وحضورها في الشعر العربي واسع، إذ يترقبها المسلمون ترقب الظمآن بعد قحط وعطش شديد، علّ دعاء فيها يغير الأقدار ويقلب الموازين ويسعد القلوب ويبهج النفوس، وها هو الشاعر أحمد مخيمر يتحدث عن شهر رمضان مبينا فضائله واصفا إياه بروضة المؤمن التقي، وذاكرا فضائل ليلة القدر:
أنت في الدهر غرة وعلى الأر
ض سلام وفي السماء دعاء
يتلقاك عند لقياك أهل الـ
ـبر والمؤمنون والأصفياء
فلهم في النهار نجوى وتسبيـ
ـح وفي الليل أدمع ونداء
ليلة القدر عندهم فرحة العمـ
ـر تدانت على سناها السماء
في انتظار لنورها كل ليل
يتمنى الهدى ويدعو الرجاء
وتعيش الأرواح في فلق الأشوا
ق حتى يباح فيها اللقاء
فإذا الكون فرحة تغمر الخلـ
ـق إليه تبتل الأتقياء
وإذا الأرض في سلام وأمن
وإذا الفجر نشوة وصفاء
وكأني أرى الملائكة الأبـ
ـرار فيها وحولها الأنبياء
نزلوا فوقها من الملأ الأعلـ
ـى فأين الشقاء والأشقياء؟
ومن ذلك أيضا ما جادت به قريحة الشاعر محمد العيد آل خليفة مخاطبا نفسه قائلاً:
تهجدي في الليالي العشر وارتقبي في ليلة القدر ما يسخو به القدر
ولا تكوني بطيب الورد قانعة لا يحمد الورد حتى يحمد الصدر
ظهر هذا الفن كما يقال في العصر العباسي في بغداد ثم انتقل إلى القاهرة، ويعتمد بعض دارسي الأدب عند الحديث عن فن القوما مصطلح أدبيات التسحير.
إعلانفالقيام للسحور من طقوس شهر رمضان المبارك، ويرتبط التسحير أي إيقاظ الناس للتسحر في ليالي شهر رمضان بالدق على الأبواب وقرع الطبل.
والغرض من إنشاد الأشعار المعروفة بفن القوما من قِبَل المسحر هو إيقاظ الناس للسحور في شهر رمضان المبارك، ومن هنا جاءت تسميته بــ"قوما"، إذ تعبر عن نداءات "المسحراتي" الذي يتجول في الأزقة والشوارع وقت السحر ليوقظ الناس مناديا إياهم (قوما للسحور).
لذلك نجد أنها تعتمد اللهجة الدارجة بين الناس، وتعد من الشعر الشعبي، وقد جاء اسم القوما من قول بعض المسحرين:
نياما قوما .. قوما للسحور
وقد نُظمت أشعار القوما على مجزوء الرجز، ويقال إن لهذا الفن وزنين مختلفين؛ الأول مركب من أربعة أقفال، تكون الثلاثة الأولى متوازية في الوزن والقافية، أما الرابع فيكون أطول منها وزنا، ويكون مهملا بغير قافية.
وتقوم هذه الأشعار على مجموعة من المواعظ والحكم الدينية، وتتكئ على اللغة الوجدانية التي تخاطب عاطفة السامع وتحركها وتحضها على العمل من أجل الحياة الآخرة.
وفي تعريف هذا اللون الشعري قال الشاعر محمد علي عزب "إنه نظم غنائي يُصاغ باللفظ العامي، وله شكل فني خاص به، حيث يتكون البيت من عدة أشطر مُقفّاة بطريقة معينة".
يقول الأبشيهي صاحب كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) إن بداية هذا اللون الشعري تعود إلى أبي بكر محمد بن عبد الغني (629هـ) المعروف بابن نقطة، وذكر بعض القصائد التي تندرج تحت "فن القوما"، وأكد أنها تشتهر بطرافة معانيها وخفة إيقاعها.
وأشار الأبشيهي إلى أن تأثير هذا الفن الشعبي كان واسعا، وذكر بعض قصائد صفي الدين الحلي التي حاكت هذا الفن في النظم والأسلوب والإيقاع.
الشكوى من الصيام في فصل الصيفلم يمنع إيمان الشعراء وحبهم للشهر الفضيل من تذمرهم وشكواهم من فرط ما يعانونه من تعب وعطش في أيام رمضان، لا سيما في فصل الصيف، ومن ذلك ما قاله الشاعر العباسي ابن الرومي على وجه الفكاهة:
شهر الصيام مباركٌ .. ما لم يكن في شهر آبْ
خفت العذاب فصمته .. فوقعت في نفس العذابْ
في حين نجد شاعرا آخر يجاهد النفس ويغتنم ما بقي له من أيام في الصيام على الرغم من كبر سنه، وهو الشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري، الذي يصور حوارا لطيفا دار بينه وبين آخرين عن تعب الصيام في شهر رمضان، فيقول:
قالوا : سيتعبك الصيام وأنت في السبعين مضنى
فأجبت: بل سيشد من عزمي ويحبو القلب أمنا
ذكرا وصبرا وامتثالا للــــذي أغنى وأقنى
ويمدني روحا وجسما بالقُوى معنى ومبنى
رمضان عافية فصمه تقى، لتحيا مطمئنّا
وإننا في كل عام إذ نستقبل شهر رمضان المبارك نغتنم أيامه ولياليه ونعاين جماله وبركاته، حالنا كحال هؤلاء الشعراء الذين يبتهجون بالشهر الفضيل ولسان حالنا يردد قول الشاعر:
رمضان يا خير الشهور
وخير بشرى في الزمان
ومطالع الإسعاد ترفل
في لياليك الحسان
وفي وداع شهر رمضان المبارك نتمثل قول الشاعر الأندلسي ابن جنان الذي يتحسر على انقضاء شهر الصيام؛ شهر الخير واليمن والبركات فيقول:
مضى رمضان أو كأني به مضى
وغاب سناه بعدما كان أوْمَضا
فيا عهده ما كان أكرم معهدا
ويا عصره أعزِزْ عليّ أن انقضى
ومثله في ذلك الشاعر الشيخ أحمد سحنون الذي يتحدث عن الدقائق الأخيرة المتبقية من رمضان فيقول:
لم يبق من رمضان غير دقائق … ويزول مثل زوال أمس الدابر
يا حسرتا لفراقه ففراقه … ما كان غير فراق عهد زاهر