بقلم / عصام مريسي
حان وقت الإفطار بعد أن قام بتجهيز مائدته المتواضعة صحن من قلابة الفاصوليا و قوالب الروتي ( الخبز المصنوع من الدقيق الابيض الخالص) وعلى غير عادة أهل الحي يقبع في بيته المكون من مخزن ( غرفة النوم والمعيشة) والدارة ( غرفة مفتوحة تناسب المعيشة صيفا)
طاولة خشبية مهترئة يلتف حولها كرسيان قديمان من الخشب المنحوت كان قد احضرهما عند عودته من البلد الاوربي الشرقي حيث كان مبعوث هناك يدرس الطب ؛ بعد أن ارتدى قميصه البني القاتم و قف أمام المرآة يمشط شعره الاسود حيث تغازله بعض الشعيرات البيضاء يخط على رأسه فرقة تقسم رأسه إلى نصفين يتجه نحو طاولة طعامه يسحب كرسيه الذي يحدث صريرا اعتاد سماعه وبه يكسر حاجز الصمت الرهيب يفتح دفتي النافذة المصنوعاتان من الخشب الاحمر فيدخل بصيص ضوء ويرتسم ظل الطاولة على الجانب الآخر من الغرفة ويبعث دبيب الشارع حالة من الانتعاش في نفسه تمر الشابة التي كلما رأها ذكرته بفتاة أحلامه التي تركها وقطع كل التواصل معها بعد ابتعاثه للدراسة ولم يعد إلاو هي ذات عيال وبصوت أنثوي ما زال تخالطه نبرات الطفولة:
صباح الخير ياعم
وبتصرف غير ارادي يضع أطراف أنامله السمراء على خصلات الشعر الابيض في رأسه يتحسسها.
يجلس على طاولة طعامه التي ينفرد بها في الحي بل في مدينته الصغيرة حيث يجلس الناس على حصيرة على الأرض يلتفون حول سلقة ( مائدة مصنوعة من سعف النخيل) يغمسون كسر الخبز في طبق الفاصولياء المقلوبة ( إدام من مطبوخ الفاصولياء مع بعض الخضار ورشة من البهارات والسمن أو زيت السمسم ) يمد يده إلى الشوكة يحاول أن يلتقط حبات الفاصولياء التي تنزلق بعيدا فيحاول تتبعها بيده يلتقطها ويضعها في فمه ؛
فإذا به يمد يده نحو اطباق اللحم المطبوخ بالاجبان فيمد يده نحو فم صديقته ومن حولهم كؤوس المشروب الذي كان سببا في عودته وقطع رحلة الابتعاث والصالة تعج بالراقصين والراقصات ونساء كاسيات عاريات ؛
فينصرف الجميع نحو أعمالهم ودراستهم وهو ما زال غارق في سكره وتعديه على نفسه حتى يحضر الناذل ويطلب منه المغادرة ؛
عليك المغادرة ٠٠٠ سنغلق الحان
يحاول القيام وهو يتخبط يمنة ويسرة يحاول أن يستند على الطاولات حتى يصل نحو بوابة الحانة ويغادر ' يختلف المذاق فالذي في فمه فاصولياء وليس شرائح اللحم المقدد ينكس رأسه يقلب بصره هنا وهناك فلا يرى إلا اثاثا قديمة أحضرها عند عودته يحتسي رشفات من كوب الشاي الذي أعده بالسكر الزيادة يضع الكوب على الطاولة بأناة ويتبادر إلى مسمعة رنين أقداح المشروب الذي اعتاد احتسائة طيلة يومه في بلد الابتعاث وهي تصدر اصوات تحدث ضوضاء تهز الحانة وتبعث فيها حالة من الصخب تعزل المرتداين عن الصواب وتغرقهم في الغياب عن الواقع وتغمسهم في ظلمات المجهول. ينهض نحو شماعة الملابس المثبتة على أحد الجدران يضع القبعة الكحلية على رأسه ليخفي صلع قد بدأ يظهر في مؤخرة رأسه ويلقي نظرة أخيرة على هندامه ينحي يمسح مقدمة حذائه يتجه نحو الباب يفتح دفة الباب الخشبي القديم فيملأ الغرفة صريرا يلتفت عله قد نسي شيء يقدم أحد ساقيه خارجا يتابع يغلق الباب بقفل حديدي قديم كان قد اشتراه أبوه فيتذكر ما قاله له قبل أن يسافر للابتعاث :
ولدي إياك أن تغرق في جديد تلك البلاد وتنسى أو تتناسى ماضيك ، فالإنسان بماضيه وحاضره يصنع المستقبل.
خطوات إلى الامام خارج باب منزله ثم يلتف مرة أخرى نحو الباب يخرج من جاكيث كان يرتديه المفتاح الوحيد فيفتح القفل وينطلق مسرعا باتجاه أحد أطراف الغرفة حيث تقبع سحارة خشبية قديمة (صندوق خشبي تحفظ فيه الملابس والأشياء الثمينة) كان لوالديه لم يقترب منه لأكثر من عشرين سنة يمد كلتا يديه يمسح الغبار عن غطاء الصندوق يفتحه فيتراءى له كل الماضي أمه تعد طعام الفطور على مراكيب الصعد( موقد خشبي) خبز البر الاحمر ودلة الشاي الممزوج بالحليب وطبق الفاصولياء المقلوبة بمهارة أمه المميز وأبوه يجلس في أحد أركان المنزل بيده مسبحة مصنوعة من حبات العود الهندي عبق رائحتها يملأ المكان وهو يرتل آيات من القرآن الكريم متكىء على جدار الغرفة المصنوع من الطين المبيض بالنورة ( الجير الابيض) .
يمد يده صوب الصندوق يلتقط مسبحة والده وكوفيته( مغفر للرأس مصنوع من الصوف والكتان المطرز) وفي الجانب الآخر من الصندوق عقد من الكهرب بألوانه الزنجالي ( اخضر مائل نحو الزرقة) يتحسسها حبة حبة ثم يقربها نحو وجهه ليشم عبق أمه المميز وفي أنحاء الصندوق أغصان من عيدان الريحان يابسة كان يضعها والده على رأسه مشقر بعد أن يلف عمامته حول الكوفية .
وفي أحد أركان السحارة مأزر لوالده كان يرتديه لصلاة يوم الجمعة يتناوله ويحاول ارتدائه فلم يرتدي مأزر لزمن طويل فاعتاد اللباس الاوربي وكأنه لم يعد بعد من ذلك البلد الاوربي الشرقي
يضع الكوفية ويلف حولها العمامة ثم يغادر الغرفة .. تتجه صوبه الأنظار ويهمس بعض أهل الحي :
كم هذا الغريب الذي خرج من بيت البولندي هكذا كان يكنيه أهل الحي البولندي.. ينطلق صوت أخر:
إنه البولندي بعينه
عجوز تقف على إحدى نواصي الشارع تبيع بعض المكسرات والحلوى:
كأنه والده
وهو يسير غير أبه لما يلحظ من نظرات التعجب والاستغراب وربما بعض الكلمات والعبارات كانت تروق له فيزداد بها اعجاب وزهو وهو يرفع كفه ويلقي التحية عن يمينه وشماله لكل من يقع عليه بصره
عصام مريسي
المصدر: عدن الغد
إقرأ أيضاً:
الإعلام بين الماضي والحاضر
يمثل الإعلام أداة أساسية لنقل الأخبار والمعلومات، وقد شهد تحولات جذرية عبر العقود، حيث تغيرت وسائله وأساليبه بشكل كبير، ما أثر على طبيعة العلاقة بين الجمهور والمحتوى الإعلامي. سنستعرض هنا أبرز الفروق بين الإعلام القديم والحديث وأثر كل منهما على المجتمع.
– الإعلام القديم.. تقاليد راسخة ومصداقية عالية
يتجسد الإعلام القديم في الوسائل التقليدية؛ مثل الصحف، والمجلات، والإذاعة، والتلفزيون، التي كانت- ولا تزال- تعتبر مصادر موثوقة للأخبار والتحليلات. لعب هذا النوع من الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام خلال القرن الماضي.
– خصائص الإعلام القديم
إيصال الرسالة بشكل أحادي الاتجاه: يعتمد الإعلام القديم على نقل المعلومات من المصدر إلى الجمهور دون تفاعل مباشر.
ومواعيد محددة للبث أو النشر: تُقدم الأخبار والبرامج في أوقات معينة، مما يتطلب من الجمهور انتظارها.
والتدقيق المكثف للمحتوى: تخضع الأخبار لعمليات تحرير ومراجعة دقيقة، مما يعزز المصداقية.
علاوة على جمهور محلي أو إقليمي: محدودية الوصول بسبب القيود التقنية والجغرافية.
في حين أن الإعلام الحديث يتسم بالسرعة والتفاعل.
فقد ظهر مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ مثل فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، بالإضافة إلى المواقع الإخبارية والتطبيقات الذكية. أدى هذا التطور إلى ثورة غير مسبوقة في نشر المعلومات وتلقيها.
– خصائص الإعلام الحديث..
التفاعل المباشر، حيث يمكن للجمهور المشاركة في النقاشات عبر التعليقات والمشاركات، ما يخلق تجربة ديناميكية.
والنقل اللحظي للأخبار، حيث تُنشر الأحداث فور وقوعها، ما يجعل العالم أكثر ترابطًا، فضلاً عن انتشار عالمي واسع، ويمكن لأي محتوى الوصول إلى جمهور عالمي دون حواجز جغرافية.
وفوق هذا وذاك، تنوع أشكال المحتوى، مع تقديم الفيديوهات والصور والمقالات بطريقة مرنة ومبتكرة.
– أوجه الاختلاف بين الإعلام القديم والحديث..
مصادر المعلومات: الإعلام القديم يعتمد على مؤسسات معترف بها؛ مثل الصحف والقنوات الإخبارية.
أما الإعلام الحديث فيتيح لأي شخص أن يصبح مصدرًا للمعلومات، ما يزيد من احتمالية انتشار الأخبار المزيفة، فالسرعة مقابل المصداقية.
فالإعلام القديم فيتميز بالتأني والتدقيق. أما الإعلام الحديث فسريع ومباشر، لكنه قد يفتقر أحيانًا للدقة. وبدراسة عميقة نجد أن الإعلام القديم يتطلب ميزانيات ضخمة للإنتاج والنشر، ولكن الإعلام الحديث منخفض التكلفة، حيث يمكن لفرد واحد إنشاء محتوى والوصول إلى جمهور واسع. أيضًا من ناحية الجمهور المستهدف؛ فالإعلام القديم يخاطب جمهورًا واسعًا، لكنه محدود جغرافيًا. والحديث يستهدف جمهورًا متخصصًا بناءً على اهتماماتهم. ورغم مزايا الإعلام الحديث، إلا أنه يواجه العديد من التحديات؛ منها: انتشار الأخبار المزيفة، فسهولة النشر قد تؤدي إلى تضليل الجمهور. ضعف المصداقية: فبعض المنصات تفتقر لعمليات تحرير ومراجعة دقيقة. التأثير النفسي السلبي: التعرض المستمر للأخبار قد يسبب القلق والإجهاد.
ولا يعني تطور الإعلام الحديث نهاية الإعلام التقليدي.؛ بل يمكن لكليهما أن يتكاملا لتقديم تجربة إعلامية شاملة، ويمكن للإعلام القديم أن يستفيد من التكنولوجيا الحديثة لتوسيع نطاق تأثيره. بينما يعتمد الإعلام الحديث على مصداقية الإعلام التقليدي لتعزيز ثقة الجمهور.
ويمكن أن نستخلص مما مضى، بأن لكل من الإعلام القديم والحديث دورًا محوريًا وأهمية خاصة؛ فالإعلام القديم يمثل مرجعية المصداقية والجودة، بينما يعكس الإعلام الحديث الابتكار وسرعة التواصل. والتحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن بين الاثنين؛ لتلبية احتياجات الجمهور في عصر متسارع التغير.