أُثير في السنوات الماضية سؤال مهم ذو شجون: هل الجغرافيا هي ذلك العلم الذي يتخرج فيه معلمون في المدارس الإعدادية أو الثانوية فحسب؟، وهل إلغاء أقسام الجغرافيا في الجامعات سيضر الأمن القومى للدولة؟، وكيف يمكن إذن تكوين مواطن عارف بحدود بلده وعناصر أمنها وخصوصيتها الثقافية بين الأمم؟!.
توحى القراءة السريعة للمشهد بأن في مصر فائضًا في أعداد معلمى الجغرافيا، ولكن هذا الفائض ظاهرى سطحى، فنسبتهم المئوية لإجمالى الملتحقين بالمدارس جد ضئيلة، ولا تقارن بما يجب أن يكونوا عليه، بل لابد من مضاعفتهم مرات عديدة، في حال مُنحت دراسة الجغرافيا مكانتها اللائقة، وصارت مادة أساسية في مراحل التعليم في أرجاء وعموم البلاد.
فحقيقة الأمر أن تدريس الجغرافيا في هذه المراحل ضعيف وغير إلزامى، وهى ليست مادة «حياة أو موت» في الالتحاق بالكليات الجامعية مثل اللغات الأجنبية أو الرياضيات أو الفيزياء والكيمياء.
لسنوات طويلة، وضع مناهج الجغرافيا في المدارس ثلة من مؤلفين تترسوا بالأرقام والمعلومات والجداول والخرائط ومئات أسماء الجبال والمحافظات والأنهار، ما سبّب حالة من النفور لدى الجمهور العام، وترسخت سمعة سيئة للجغرافيا باعتبارها علم الحفظ والاسترجاع والاستذكار من دون وعى أو فهم.
تستحق الجغرافيا رد اعتبار لأنها ركن أساس في تكوين المواطن المصرى، وهى علم تضررت سمعته بشكل بالغ.
أما على المستوى الجامعى فقد اتضح أن الجغرافيا تشعبت وتفرعت إلى تخصصات كبرى ودقيقة ولا يمكن جمعها في تخصص واحد، ولا يمكن لقسم أو كلية أن تستوعبه. لدينا أكثر من 60 تخصصًا ومسارًا بحثيًّا في الجغرافيا بداية من دراسة المدن والريف والطبوغرافيا والسياسة والاقتصاد والخرائط الرقمية والمساحة الجغرافية والسكان والأعراق والأنثروبولوجيا… إلخ.
قل لى بربك كيف يمكن وضع كل هذا في قسم واحد تعطيه اسم قسم «الجغرافيا»؟!.
لقد توصلت الدول الغربية إلى خطة بديلة، وهى توزيع الدعم المالى والمخصصات البحثية على هذه التخصصات في العلوم التي لها كليات ذات صلة، مع إنشاء مسارات بحثية جغرافية فيها، فيذهب المهتم بدراسة جغرافية الإنسان إلى كلية الدراسات الأنثروبولوجية، حيث يتم هناك دعم التخصص الجديد باعتبار الجغرافيا علمًا بينيًّا مع هذا التخصص، ويذهب الراغب في دراسة جغرافية التضاريس إلى كلية الجيولوجيا، ويحصل على دعم مالى وبحثى هناك.
وهناك دول قامت بحل بديل، وهى شطر الجغرافيا إلى شطرين:
– التخصصات البشرية والاجتماعية تذهب للمعاهد والجامعات المختصة بالشأن البشرى والاجتماعى.
– التخصصات الطبيعية في الجغرافيا (مثل التضاريس والمناخ والنبات والتربة) تُجمع معًا في كلية «علوم الأرض» أو «جامعة علوم الأرض»، حيث الأقران هناك يفهمون بعضهم بعضًا ويساعدون بعضهم بعضًا وينشرون أبحاثًا مشتركة مع بعضهم البعض.
وهناك تجارب أوروبية شرقية نظرت إلى الجانب النفعى التطبيقى من الجغرافيا بشكل مباشر. وتحضرنى هنا زيارة قمت بها قبل عشر سنوات إلى كلية جديدة للجغرافيا في رومانيا، وقد غيرت هذه الكلية قبلتها، وأصبحت تؤهل الطلاب للتخرج كى يكونوا مرشدين سياحيين لأن رومانيا- بعد أن خرجت من معسكر الشيوعية- اكتشفت ما بها من تنوع جغرافى بيئى بكر يتلهف عليه سياح أوروبا الغربية، وأصبحت السوق في حاجة إلى الدليل المرشد الجغرافى الواعى والفاهم للمناخ والنبات والبيئة البرية والبحرية والأعراق والجماعات السكانية.
في عام 2001 حصلت على رسالتى للدكتوراه من «كلية الجغرافيا» في جامعة سان بطرسبرج، في روسيا. وقد تألفت هذه الكلية من خمسة أقسام علمية موزعة بين العلوم الطبيعية والبشرية. وأعتبر ذلك من وجهة نظرى أحد أفضل الحلول التوفيقية لكل البدائل المطروحة، أي أننا في مصر في حاجة إلى تأسيس «كليات للجغرافيا».
مجالات عمل الجغرافى تتسع كل يوم، ولا تقتصر على التعليم أو الإرشاد السياحى، فوجود الجغرافى ضرورة في كل وحدة محلية، وفى كل إدارة في القرية والريف والمدينة، كما أن مجالات الاحتياج إليه في سوق القطاع الخاص أكبر منها في القطاع الحكومى.
الحقيقة أن الفكر الجغرافى هو مكون أساس في العقل الإنسانى، وقد توصلت بعض المدارس الأجنبية إلى أن الجغرافيا ستنتصر في المستقبل لأنها تتوغل من دون إعلان أو ضجيج في نشرات الأخبار والفيلم والرواية والحديث السياسى، وترافقنا دومًا مع القلق بشأن التغير المناخى، والتوتر الذي ينتابنا خلال فهم الحروب والاستراتيجيات، واستكشاف الغابات والصحارى وتدعيم السفر وحب الإنسان للمكان.
الوضع الذي تعيشه أقسام الجغرافيا بالجامعات المصرية يحتاج إلى نقلة مهمة تتعاون فيها الدولة مع أساتذة التخصص من أجل تحقيق ثلاثة أهداف:
– تأمين مالى لأساتذة الجامعات كى لا يهدروا حياتهم في مشتتات جلب الرزق على حساب تطوير علم الجغرافيا وبيع الكتب والمذكرات أو الانتقال لتدريس مقررات من كلية إلى كلية والسفر من هنا وهناك لتدريس مواد في أكثر من مكان مقابل دخل مادى يلبى الحياة المشتعلة غلاء.
– تفكيك مركزية الإشراف على رسائل الدكتوراه والماجستير كى لا تكون دوائر مغلقة تستنسخ نفسها ويهيمن عليها عدد من الأساتذة، فتجد نفس الوجوه في الإشراف ونفس الوجوه في المناقشة، الأمر الذي يخلق حالة «عائلية» بائسة لا يتطور فيها العلم، وتنقطع صلته عن سوق العمل وعن تيار الحياة.
– أن تفتح الدولة مع الجامعات أسواق عمل للخريجين الجدد، ونقصد بالطبع أسواق عمل تتجاوز استقطاب تخصصات العمل في التدريس أو أعمال المساحة، بل تشمل كل فنون وعلوم الحياة التطبيقية، التي تحتاج إلى خبرة علم المكان، والجغرافيا في أبسط تعريف لها هي «علم المكان».
د. عاطف معتمد – المصري اليوم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الجغرافیا فی إلى کلیة
إقرأ أيضاً:
عاجل | المبعوث الأممي إلى سوريا: هناك اتفاق واسع النطاق على أن القرار 2254 لا يمكن تطبيقه في ظل الظروف الجديدة
التفاصيل بعد قليل..