الإثراء بلا سبب.. استرداد اللوحات الفنية التي نهبها النازيون (2-2)
تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT
ماريا ألتمان بلوخ، لاجئة نمساوية للولايات المتحدة الأمريكية خلال الاحتلال النازي للنمسا في عام 1938. هربتْ هي وزَوْجُها بطريقة دراماتيكية إلى الولايات المتحدة رغبةً في النّجاة بعد أن قضى الأخير فترة من الزمن في معسكر دخاو النازي. كانت الوريثةَ الوحيدةَ للبارون اليهودي الثري فرديناند بلوخ بور. يمتلك فرديناند وزوجته مجموعة من اللوحات الفنية الرائعة.
تُوفي الزوجان فرديناند بلوخ بور قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وصادر النازيون عدة لوحات لبلوخ بور. وقعتْ خمس لوحات منها تحت يد الحكومة النمساوية بعد الحرب (وهي التي رسَمَها جوستاف كليمت). وُضعت هذه اللوحات في متاحف فيننا بعد تمسك الحكومة النمساوية بحقها في اللوحات. وسندُها في ذلك سؤال أديل بلوخ بور زوجها فرديناند بتواضع شديد قبل وفاتها بأن يتبرع باللوحات الخمس التي وقّعها كليمت عندما يحين موعد وفاته. وألحقت ذلك السؤالَ بطلب كتابي ترجو زوجها ذلك. تُوفي زوجُها ولم يصدر عنه إعلانٌ بتبرعه للدولة النمساوية بلوحاته الخمس. ولكن، مع الورقة التي كتبَتها زوجتُه وصمت الحكومة واختفاء أي وارث، لم يصدر أي طلب رد إطلاقًا حتى صدور قانون الرد لعام 1998، ونفض أوراق النازيين من جديد على الساحة النمساوية. وحتى تلك اللحظة، لم تعلم ماريا وهي الوريثة الوحيدة أن لها الحقَّ في طلب الرد، مع علمها بوجود تلك اللوحات المتحف.
لماذا لم تطلب الرد، خصوصًا بعد صدور قانون بذلك عام 1998؟ اعتقدتْ أنّ عمَّها الراحل فرديناند بلوخ قد تبرَّع بهذه اللوحات قبْل وفاته، وأنّها لا يمكنها المطالبة بملكية منقولات لم تملكها أساسًا لقيام الأخير بهبة اللوحات. ومن ثَمَّ فلا مجال للحديث عن طلب رد. وفي العام 1999، قام صحفي يعمل لدى مجلة Profil النمساوية بعمل تحريات مكثفة عن اللوحات المتعلقة بالحقبة النازية؛ واكتشف أن فرديناند بلوخ لم يصدر عنه تصرف أدى إلى تبرعه باللوحات أساسًا؛ ففرديناند كان خارج النمسا عند سرقة اللوحات، ولم يصدر أي تصرف للدولة النمساوية. وغني عن الذكر أن النمسا وقتها كانت تحت تصرف الرايخ. وتُوفي فرديناند في المنفى، فكيف صدر عنه مثل هذا التصرف؟! ولا يمكن أن تسند التصرفات القانونية للتخمينات.
وسرعان ما علمت ماريا بالأمر، فذهبت إلى النمسا وطلبت التفاوض مع الحكومة النمساوية بخصوص رد اللوحات ولا سيّما أنّ بقاءَها تحت يد النمسا لم يعد له سند قانوني. فطلبت في البداية تسليم لوحتين فقط من أصل خمس لوحات، وهما الخاصتان بأديل بلوخ بور (رسَمَهُما كليمنت كبورتريه شخصي لأديل)، ورحّبت أن تحتفظ النمسا باللوحات الباقية كما هي. ولم يتمَّ التوصل إلى أرضية مشتركة بينهما، وقررت ماريا مقاضاة النمسا في محكمة محلية في العام نفسه (1999)، مع العدول عما أسفرت عنه المفاوضات العقيمة، وذلك بشأن السماح للنمسا بالاحتفاظ بثلاث لوحات من أصل خمس، وقررت استرداد كافّة اللوحات. وصادفت ماريا تحديًا آخر، فوَفْقًا للقانون النمساوي، رسوم الدعوى تُحَدَّد استنادًا إلى نسبة مئوية معينة من قيمة المنقولات المطلوب استردادها؛ فقدَّرت أسعار اللوحات الخمس مجتمعة بمبلغ (135) مليونَ دولار أمريكي، وكانت رسوم الدعوى المطلوب دفعها ابتداءً تُقَدَّر بمبلغ (1.5) مليون دولار أمريكي، ولم تستطع ماريا دفع مثل هذا المبلغ الضخم. ولتشجيع الملاك على طلب الاسترداد، تم التوصل إلى اتفاق تدفع ماريا بموجبه مبلغ (350) ألف دولار أمريكي. ولم تستطع ألتمان الاستمرار كذلك؛ فلم تكن تملك مثل هذا المبلغ، وسحبت دعواها من المحكمة النمساوية مع خيبة أمل كبيرة تجرها وراءها. وفي العام 2000، وجدت ألتمان بعد توصية محاميها أن رفع دعوى مبتدأة في المحاكم الأمريكية أمر ملائم لمقدرتها المادية.
فبدايةً رَفْع الدعوى كان في إحدى المحاكم المحلية في ولاية كاليفورنيا. استَنَد دفاعُ ألتمان إلى حق موكلته في طلب الاسترداد من سلطة أجنبية استخدمت سيادتها عبر وضع عائق رسوم تقاضٍ مكلفة من أجل تثبيط همّتها وعزمها على مواصلة دعواها، ومن ثَمّ سحبها لعدم قدرتها، ووصل سير الدعوى حتى المحكمة العليا الأمريكية، فكان دفاع حكومة النمسا أمام المحكمة أنها سلطة أجنبية مستقلة بسيادتها، ولا يجوز رفع دعوى مطالبة في الولايات المتحدة استنادًا إلى قانون حصانة الدول الأجنبية الأمريكي لعام 1976، وأن استلام السلطات النمساوية للوحات تمَّ في أربعينيّات القرن الماضي، أي: قبل نحو ثلاثين عامًا من صدور قانون حصانة الدول الأجنبية، واستناد المحكمة إلى ذلك يثير شبهة تطبيق القوانين بأثرٍ رجعيّ.
واستَنَد حكم المحكمة العليا الأمريكية على أساس أنه لا يمكن تطبيق القوانين بأثر رجعي، ولا شك في هذا، وذلك كأصل عام قد يرد عليه استثناءات، فلا يجوز تطبيق القانون بأثر رجعي ما لم يكن ثَمَّةَ نيةٌ واضحة لفعل ذلك. فرأت المحكمة أن إلزام ألتمان بدفع (1.5) مليون ونصف كبداية، مع تخفيضها إلى (350) ألفًا لاحقًا يشكل خرقًا واضحًا وفاحشًا لقانون Due Process، وهو قانون يحدِّد القواعد العامة للإجراءات القانونية الواجبة بالنظر لعلاقة الدولة صاحبة السلطان مع المواطن العادي، فلا يمكن اشتراط مثل هذا المبلغ الخيالي لعرقلة مواطن عن الحصول على حق له. وتكون الحكومة النمساوية غير محصنة تجاه هذه الدعوى. واتفق الطرفان نتيجة لقرار المحكمة على عرض النزاع على التحكيم في محكمة نمساوية مشكلة من ثلاثة قضاة نمساويين. وفي 16 يناير 2006، صدر قرار الهيئة لصالح ألتمان، وقررت أن الحكومة النمساوية ملزمة برد اللوحات الخمس للمدعية. وهذا ما حدث في مارس 2006.
وقُدِّر ثمن اللوحات مجتمعة عند الرد بمبلغ (150) مليون دولار أمريكي، ويُعَدّ أكبر استحقاق من حيثُ المبلغُ في تاريخ اللوحات المصادرة في الحقبة النازية في النمسا. عُرضت اللوحات في متحف لوس أنجلوس بعد عودتها مباشرة. وفي يوليو 2006، عَرضت ماريا اللوحات للمزايدة عليها في دار مزاد كريستيز في نيويورك. بيعت اللوحتان الشخصيتان لأديل بلوخ بمبلغ هائل قُدِّر بـ(223) مليون دولار: فالأولى بيعت بـ(135) مليون دولار، والأخرى بـ(88) مليون دولار. وبيعت اللوحات الثلاث الباقية بمبلغ إجمالي قُدِّر بـ(104) مليون دولار؛ لتصل كافة الاستحقاقات لمبلغ (327) مليون دولار. وكان ثمَّة محاولات عديدة من الحكومة النمساوية وأثرياء نمساويين لشراء هذه اللوحات، لكنَّ جميع محاولاتهم باءت بالفشل.
ويلاحظ أن دعاوى المطالبة قد ازدادت في الآونة الأخيرة، وشجَّعت القوانين الحديثة مُلّاك اللوحات وورثتهم على المطالبة بها قضاءً. وتتَّجه المحاكم إلى تقرير الاسترداد وإعادة الحقوق بشكل فعلي. لكنْ قدم تصطدم المطالبة بأسباب كانت في حينها غامضة، واتخذت بشكل سريع وتلقائي، إذ لو كان الأفراد قادرين على قراءة المستقبل، لأدى ذلك إلى اختلاف تصرفاتهم كليًّا.
وكثيرًا ما يكون طلب الاسترداد وُدّيًّا دون الدخول في معارك قضائية. فعلى سبيل المثال، الكثير من اللوحات استُرِدَّ وُديًّا، منها لوحة (أفراد من نقابة كلية جولدسميث) للفنان (توماس ده كايزر). سُرقت هذه اللوحة من أحد المضاربين في سوق اللوحات الفنية، يدعى ماكس ستيرن، عمل بعد هجرته إلى كندا على البحث عن لوحاته المسروقة في ألمانيا، فاستردَّ العديد منها، وأُسِّسَ بعد وفاته مشروعٌ لاسترداد اللوحات الفنية المملوكة له، ووُجدت اللوحة السابقة في أحد الكازينوهات في جنوب ألمانيا، وعادت إلى المشروع في أكتوبر 2011، وبقيت تحت تصرُّفه.
ويبدو أن ضغط مؤسسات المجتمع المدني في العالم الغربي قد أثمر نتائجه، خصوصًا ضغط التكتلات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية. فلماذا الانتظار طويلًا؟ لماذا لا نجعل الدولة تؤدّي دورًا مهمًّا في البحث معنا عن اللوحات المنهوبة في العصر النازي؟ سيتمكن بعض الورثة الذين لا يعلمون ماذا ترك لهم مُوَرِّثوهُم من لوحات تُقدَّر بالملايين. سنحاول قدر المستطاع ردَّ هذه اللوحات إلى أصحابها. فصارت الحكومة الأمريكية تساهم في رد اللوحات المسروقة بإنشاء وحدة خاصة في جهاز أمن الدولة الداخلي. وعمل هذا الجهاز على رد اللوحات التي سرقها النازيون مباشرةً من المتاحف الأورُوبية، خصوصًا في فرنسا وبولندا والاتحاد السوفييتي سابقًا. ومؤخرًا، احتفلت بولندا باستعادة لوحتين سرقهما الجيش النازي من المتحف البولندي الوطني في وارسو، واحتُفِلَ بردِّ هاتين اللوحتين في القنصلية البولندية في نيويورك في سبتمبر 2011.
فطلبُ استردادِ اللوحات سيكون له صدى كبير في هذا القرن؛ إذ العديد من اللوحات المسروقة لم يظهر بعدُ، والمفاوضات لن تتوقف عند ذوي الشأن، وقد تصل إلى أروقة المحاكم من أجل الرد. والمسألة لا تقتصر على مجرد لوحات، فلوحة ما من لوحات العالم قد تمثل تاريخ حقبة اجتماعية لدولة ما برُمّتها، كلوحة تنصيب نابليون بونابرت إمبراطورًا لفرنسا، لوحة العشاء الأخير، الجوكندا، وغيرها الكثير. وتدور الأقاويل عن وجود الكثير من اللوحات المنهوبة عند أحفاد النازيين، ووصل بعضهم من خوفهم عليها إلى حفظها في أماكن سرية أو في الخزانات البنكية؛ طمعًا في بيعها في السوق السوداء يومًا ما، وكأن لسان حالهم يقول: بيعُها في السوق السوداء سيضمن الحصولَ على ربح مادي، ولا سيَّما أنها تباع بالملايين. ولكن، تبقى تلك مجرد تكهنات لا يعلم أحد مدى صحتها. لكنْ من المؤكَّد أن الرد سيُحْدث العديدَ من التغييرات على مستوى الأفراد والمجتمعات؛ فبعضُ الأفراد سيثرون ثراء لم يكونوا يحلمون به من قبلُ، وبعض المجتمعات ستخسر لوحات فنية من أجل تحقيق عدالة الرد. وفي المستقبل القريب سنرى تغييرات مكانية للوحات على مستوى مؤسسات الفن كالمتاحف ومراكز الثقافة الفنية.
المصدر: صحيفة الأيام البحرينية
كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا الحکومة النمساویة اللوحات الفنیة دولار أمریکی ملیون دولار هذه اللوحات من اللوحات مثل هذا لم یصدر
إقرأ أيضاً:
122 مليون دولار حجم التبادل التجاري بين مصر وجيبوتي في 2024
غرفة الأدوات الكهربائية: التبادل التجاري مع جيبوتي بلغ 122.4 مليون دولار 2024 أكد ميشيل الجمل رئيس شعبة الأدوات الكهربائية أن زيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي لها أهمية كبيرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وعلى رأسها فتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي بين البلدين، مثل الاستثمارات المشتركة والتجارة الثنائية، كما أنها تساهم في تعزيز التعاون في مجال البنية التحتية، مثل تطوير الموانئ والطرق والجسور.
وقال رئيس شعبة الأدوات الكهربائية إن التبادل التجاري بين البلدين بلغ 122.4 مليون دولار خلال العام الماضي، مقابل 161.9 مليون دولار في عام 2023، بحسب بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مؤكدًا أن من أهم نتائج الزيارة تخصيص 150 ألف متر مربع في المنطقة الحرة بجيبوتي لتستخدمها الشركات المصرية كمركز لوجستي لدعم وتعزيز التبادل التجاري.
وأشاد الجمل بالزيارة التي أثمرت عن بداية عهد جديد للعلاقات الاقتصادية بين البلدين، مشيرًا في هذا الصدد إلى مشروع توسيع ميناء الحاويات في دوراله، والدراسات الجارية لتشييد طرق لربط ميناء جيبوتي بشبكة الطرق في جيبوتي وفي المنطقة، مما يعزز حركة التجارة البرية.
وأضاف أن مصر تطرح نفسها كشريك تنموي لجيبوتي، عبر تأسيس مجلس أعمال مشترك، مشيرًا في هذا الصدد إلى إعلان تأسيس «مجلس الأعمال المصري – الجيبوتي» وتدشين بنك «مصر – جيبوتي»، وهو الأمر الذي يؤدي إلى فتح أسواق جديدة أمام المنتجات المصرية ويعزز الحضور الاقتصادي المصري في أحد أكثر المواقع الجيوسياسية أهمية في العالم.
وأوضح أن مصر وجيبوتي يتمتعان بعلاقات تاريخية واستراتيجية متميزة، حيث كانت مصر من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع جيبوتي بعد استقلالها عام 1977، وساندت جهودها لإنهاء الخلافات السياسية. في المقابل، دعمت جيبوتي مصر في المحافل الدولية، خاصة بعد ثورة 30 يونيو.
ونوه إلى أن موقع جيبوتي الاستراتيجي عند مدخل البحر الأحمر وبالقرب من مضيق باب المندب يجعلها محورًا مهمًا للأمن القومي المصري وبوابة لمنطقة القرن الإفريقي ، مؤكدا أن زيارة الرئيس لجيبوتي تتضمن جانبًا سياسيًا مهمًا مرتبطًا بالأمن القومي المصري، خاصة في ظل الأوضاع المتوترة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، مشيرًا إلى أن مصر تنقل خبراتها في مكافحة الإرهاب وتسعى لتعزيز تحالفاتها مع دول المنطقة لضمان الاستقرار الإقليمي.