عربي21:
2025-03-04@00:18:25 GMT

لماذا لا يتكلّم تلاميذُنا العربيّة الفصحى؟ كتاب يجيب

تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT

لماذا لا يتكلّم تلاميذُنا العربيّة الفصحى؟ كتاب يجيب

الكتاب: السرد الشفوي وبناء المعارف عند الطفل
المؤلّف: نجيبة بوغندة
الناشر: دار يس للنشر
الطبعة الأولى: 2023
عدد الصفحات: 391


تقف نجيبة بوغندة، كاتبة وباحثة تونسيّة متخصصة في أدب الطّفل، على مشكلة عويصة تواجه تلاميذنا داخل فصولهم مع اللغة العربيّة رغم كونها اللغة الرسمية الأولى؛ ذلك أنهم لا يتقنون استعمالها عند كل استخدام يرومون منه بناء النصوص السردية شفويا خصوصا، "فتراهم يبدؤون سردهم باللسان الفصيح مع تأتأة تبيّن عدم تملكهم لها، ثم تنفجر ألسنتهم باللهجة العامّية، وبصورة تلقائية، مستعملين تلك اللهجة التي تعجز، رغم طلاقتها، عن تمكينهم من السرد بما تمليه ضوابط المدرسة".



وتضيف بوغندة مؤكدة أنّ هذه المشكلة لا تقف عند المستوى الشفوي فحسب، ذلك أنّ النتائج تظهر جليّة في السرد الكتابي ضمن الأنشطة اليومية للفصل، أو من خلال الاختبارات التعديليّة أو الإشهاديّة.

هذه "الإعاقة" الشاملة في بناء النصوص السردية الفصحى وتوظيفاتها الشفوية والمكتوبة، تجعل من تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية وحتى المستويات الجامعيّة المتخصصة، يتعاملون مع اللغة العربية الفصحى بوصفها لغة غريبة وأجنبية، شأنها في ذلك شأن باقي اللغات الأجنبيّة، بيد أن هذه "الإعاقة" لا تعني أنّ تلاميذنا عاجزون عن الحكي بقدر شعورهم بالغربة عن خطابهم الأصل،ي و"هم من ثم بحاجة لمن يعترف بهم ويساعدهم على التعرّف على أنفسهم حتى يقدروا على استعادة توازنهم، وهو ما نلاحظه داخل الأقسام، إذ يمتلك التلميذ الفكرة مثلما يمتلك طريقة حكيها، لكن خطابه يأتي بلغته الأم التي استمدها من محيطه الاجتماعي والثّقافي عامة، ومن محيطه الصغير الذي تمثله أسرته باعتبارها النواة الأقرب إلى التّأثير فيه".

في هذا الإطار، يأتي كتاب "السرد الشفوي وبناء المعارف عند الطفل"، لمؤلفته نجيبة بوغندة والصّادر حديثا عن دار يس للنشر، والذي يروم توظيف فنون السرد الشفوي، في اتجاه مساعدة تلاميذ المدارس في البلدان العربية على استعادة توازنهم، وتجاوز الصعوبات التي يواجهونها عند الحكي والتخلي عن الخوف، واكتساب الثقة في النفس في بناء تعلّماتهم.

وقد قامت نجيبة بوغندة بتحسّس ملامح هذا السرد، من خلال الدّراسات الحديثة وكذلك الأدب العربي، في ثلاثة أبواب كبرى، تبدأ بتبيان السرد الشفوي وعلاقته باللغة والمقدّس والمعرفة، ثمّ تفكيك علاقة المعرفة بالسرد الشفوي وأثره في بناء العلوم وتطورها (مدخل نفسي معرفي)، وتنتهي بالوقوف على علاقة التعليم البنائي بالقدرة التواصليّة، وتحديد منزلة السرد الشفوي ووظائفه في البرامج الرسمية؟ (مدخل تعليمي تعلّمي).

أهميّة المبحث

تجمل الكاتبة نجيبة بوغندة أهميّة الكتاب في كونه خطوة صادقة نحو البحث عن كلّ العوامل الإيجابيّة، التي تكون خادمة للسّرد الشّفوي الذي تبدو ملامحه غائبة في معظم الأحيان عن تلميذ مدرستنا الابتدائيّة، في اتجاه تكوين أجيال تحقق القدرة على التّعرّف على ذواتها، ولا تعجز عن التّعبير عمّا يشغلها ويشبع حاجاتها. ومتى حققنا ذلك، نكون قد ضيّقنا اتّساع الهوّة بين الطّفل والمؤسسّة التربوية، وحسّنا من مستوى القدرة على التّواصل، وأعددنا جيلا قادرا على إدارة الحوار المدرسي والحوار المجتمعي عندما يكبر، كما يكون مساهما فاعلا في الإبداع الذي نتوق إليه.

مفهوم السرد الشفوي

تشير بوغندة إلى أنّ ما يمكن تبيّنه من كلمة "السرد"، أنّ الأمر يتعلّق بالاتّساق والتّرصيف الجيّد والنّسج الحسن وتشابك المعاني، من خلال قوّة بنائه وتتابع أحداثه، وفي ذلك ما يحيلنا على قدرة هائلة لصاحبه على مواصلة الكلام في أريحية تامّة ودون انقطاع، نتيجة تراكم المكتسبات الدّاعمة للرصيد المعجمي المتين، الذي يساهم في متانة المضمون وغزارته اللّغويّة والمعنويّة التي تشدّ السّامع إليه وتؤثّر فيه.

وترى بوغندة أنّه يمكن أن نتبيّن من بعض المعاني لكلمة "السرد" أنّها تعني اللسان، وهو ما يزيد تأكيد متانة ارتباط السّرد بالمجال الشفوي بالدّرجة الأولى، وهذه الأهمية تظهر آثارها في المجال الكتابي، ولا تتوقّف عند حدود الشّفوي.

في هذا الإطار، تضيف نجيبة بوغندة أنّ القدرة المتحدّث عنها أعلاه في تعريف "السّرد"، واستنادا إلى "سيمون دوك"، فإنها: "ملكة ذهنيّة مسؤولة عن إنتاج اللغة واستعمالها للأهداف التّواصليّة. ومتى نجح التلميذ في إنتاج مقام تواصلي شفوي، فهو بالتّأكيد قد حقق قدرة على حسن استعمال اللغة المناسبة للمقام المقترح، متحكّما في زمانه ومكانه وشخصياته والأحداث المناسبة لكلّ واحدة منها".

والسّرد مصطلح نقدي حديث، يعني "نقل الحادثة من صورتها الواقعيّة إلى صورة لغويّة"، على حدّ تعريف آمنة يوسف في مؤلفها "تقنيات السّرد في النّظريّة والتّطبيق"، وهو الحكي الذي يقوم على دعامتين أساسيّتين، أوّلهما أن يحتوي على قصّة ما، تضمّ أحداثا معيّنة. وثانيهما أن يعيّن الكيفيّة التي تُحكى بها، وتسمّى هذه الطّريقة سردا، ذلك أنّ قصّة واحدة يمكن أن تحكى بطرق متعدّدة، ولهذا السبب، فإنّ السّرد هو الذي يعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكل أساسي، تضيف بوغندة.

المدرسة التونسيّة ونظام المحاكاة الشفوي القديم

تقول بوغندة؛ إن المدرسة التونسية تقوم في بعض جزئيات العمل من خلال مادّة التواصل الشفوي مثلا، على عالم المحاكاة الشفوي القديم، إذ تشجع عند استخراج البنية على إعادة الصيغ بما يتيح للطفل التمكن منها. وترى ذلك جليا، بحسب تأكيدها، في مادّة الإنتاج الكتابي الذي يعتمد بعض المدرّسين فيه على تكرار القوالب الجاهزة كما وردت على لسان أصحابها، "قاصدين من وراء ذلك إثراء العمل المنتج، فيطالبون تلاميذهم بحفظ مقاطع تخصّ الأعمال أو الأقوال والوصف، والحال أنّ الأخذ عن الآخر لا يكون بتبنيه كاملا، وإنّما بتوظيفه بطريقة موجزة من خلال عبارة أو كلمة يكون مكانها منطقيّا في النّص وغير مسقط بطريقة سمجة، تلغي أحيانا شخصيّة السارد لتتلبّس فكرته بما قاله غيره، فيفقد قيمته الفنية الذّاتيّة".

عوائق تملّك مهارات السرد الشفوي ومقترحات حلولها

تواجه التلميذ العديد من التحديات في أثناء السرد الشفوي، يقطع مع كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في المؤسسة التربوية، ولكنّ الحقيقة أن هذه اللغة ليست سوى وهم فضحه الاستعمال اليومي للغة من قبل الطفل، جعله يتعامل معها كلغة غريبة أو أجنبية في تواصل التلميذ مع غيره، حتى داخل المؤسسة التربوية ذاتها.

في هذا السياق، تعدّد الكاتبة نجيبة بوغندة الأسباب التي تقف حائلا دون تملّك التلميذ لقدرة السرد الشفوي، والتي يأتي على رأسها ضعف المهارات اللغوية. فبحسب تجربتها الطويلة في مجال التدريس في المدارس الابتدائيّة، تشير بوغندة إلى أنّ التلميذ في مدرسة اليوم يواجه صعوبة في تنظيم الأفكار والتعبير عنها بوضوح وبطلاقة، كما يجد صعوبة في استخدام المفردات المناسبة وتركيب الجمل بشكل صحيح.

يحتاج الطّفل عامّة وتلميذ المرحلة الابتدائيّة خاصّة، العيّنة التي يتناولها الكتاب بالدّرس، إلى طرق معيّنة تمكّنه من تحقيق سرد شفاهي منتظر، له خصوصيته، ويعتمد على التدرّج في بناء المعنى وخصوصية كلّ فئة عمريّة، وتنويع الأنشطة ودفع الطّفل إلى المشاركة الإيجابيّة في كلّ أنشطة الفصل، مع الحرص على إشعاره بالثقة في نفسه، وتثمين ما يأتيه من سرد مهما كانت المحاولة بسيطة.في هذا السياق، تذكر بوغندة ما يشعر به بعض التلاميذ من قلق وخجل عند الكلام أمام الجمهور، وهو أمر له أسبابه الخفية، قد تكون الوضع الاجتماعي أو النفسي وأسباب ظاهرية كتنمّر أصدقائه عليه أو عدم ثقته بنفسه. وأيّا كانت الأسباب، فإنّ المحصّلة واحدة: تراجع قدرتهم على التعبير، والخوف من مواجهة الآخر في مختلف مقامات التّواصل الشّفوي (الحوار/ السّؤال/ طلب المساعدة/ الفعل التّشاركي/ الإفصاح عن التّمشّي...)، وهو ما يحدّ من قدرتهم التفاعلية ويؤخّر بناء شخصياتهم، ويُضعف قدرتهم على تملك المعارف.

ولمعالجة هذا الضعف في تملّك المعارف اللغوية والتعابير الشفويّة، تقترح بوغندة منح مساحة زمنية معتبرة للسرد الشفوي، ذلك أنّ ضيق الوقت الممنوح للتلميذ عند الحكي قد يزيد من الضغط على التلميذ، ويؤثر على قدرته على تنظيم الأفكار والتعبير عنها بشكل مناسب، مما يدفعه إلى اتّخاذ موقف المتفرّج المستقيل من عمليّة بناء المعارف، ويكتفي بالفتات الذي بناه غيره.

من ناحية أخرى، ترى بوغندة أنّ اكتظاظ الأقسام في بعض المدارس يقلّل من حظوظ الفرد من نسبة مشاركته التفاعلية الشفوية، كما أنّ التشتت وفقدان الانتباه لدى التلميذ، خاصّة مع انتشار وسائل التكنولوجيا التي تدفع التلميذ إلى الانطواء والاكتفاء بنفسه، عواملُ تقلّل فرص التواصل والنقاش والتحاور وفرص النقاش التي تقوي ملكة الشفوي.

كذلك تلفت الكاتبة نجيبة بوغندة إلى مسبّبات أخرى عمّقت الهوة بين التلميذ والجانب الشفوي الذي يكاد ينعدم خاصة إن كان بالفصحى، من ذلك قلة التدريب والتمرين وكثرة مواد التدريس وغياب دور العائلة الموسعة، ونقصد بذلك غياب حضور الجدّة والجدة والأعمام والأخوال ممن قد ييسرون تلك التملكيات في ظل غياب الأبوين للعمل. طبعا هذا لا يعني أن التلميذ لا يتفاعل شفويا، ولكنه يعجز عن تحويل تلك القدرة إذا كانت بالفصحى، ويقف مرتبكا أمام لغة يراها غريبة عنه، وهو عكس ما يحدث إن وافقنا أن يتحدّث بالعامية.

المطالعة الفريضة الغائبة

لمعالجة جملة هذه المعوقات، تقترح الكاتبة نجيبة بوغندة ضرورة عودة المتعلّم إلى المطالعة، وهي دعوة توجهها على وجه الخصوص إلى وزارة التربية والتعليم بإعادة النظر في هذه المادة، التي اعتبرتها برامجنا الحالية رافدا من الروافد التي تغذي مجال اللغة العربية، لكن على أرض الواقع لا وجود لها، وهو ما أثر سلبا في مادة الإنتاج الكتابي باللغات التي تعتمدها مناهج التدريس، ففاقد الشيء لا يعطيه. كما يجب على المُدرِّس تحفيز بناء مهارات الحكي عند التلميذ، وأن يكون واعيا بالمراحل التي يفترض أن ينطلق منها، كإعداد المحامل المحفّزة والتدرّج بعرضها عليه، وخلق وضعيات دالة تُنطق الطّفل آليّا.

ويحتاج الطّفل عامّة وتلميذ المرحلة الابتدائيّة خاصّة، العيّنة التي يتناولها الكتاب بالدّرس، إلى طرق معيّنة تمكّنه من تحقيق سرد شفاهي منتظر، له خصوصيته، ويعتمد على التدرّج في بناء المعنى وخصوصية كلّ فئة عمريّة، وتنويع الأنشطة ودفع الطّفل إلى المشاركة الإيجابيّة في كلّ أنشطة الفصل، مع الحرص على إشعاره بالثقة في نفسه، وتثمين ما يأتيه من سرد مهما كانت المحاولة بسيطة.

وزارة التربية قادرة على تحويل الدفّة وإنقاذ المتعلمين من هذا الفشل الصارخ، بإصلاح حقيقي شامل يراعي حاجات الطفل الوجدانية والمعرفية وخلق مناخ للإبداع، يشجّع المجدّدين داخل فصولهم ويثمن مبادراتهم الشّخصيّة، وهي مطالبة بإعادة النّظر في أهمية مادة المسرح الخادمة للشفوي والقاطعة مع الخوف والارتباك، والدافعة على الإيمان بالذات، ومن ثم الانخراط في عمل تفاعلي يمكّن الطفل من التّعبير عما يخالجه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب التونسية تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الابتدائی ة على الت من خلال فی بناء ا کانت ذلک أن وهو ما فی هذا ة التی

إقرأ أيضاً:

في محاضرته الرمضانية الثانية قائد الثورة: القرآن الكريم هو كتاب هداية جاء بأحسن القصص

الثورة /

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في موضوع القصص القرآني، كُنَّا عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي عدداً من القصص القرآني، عن بعضٍ من أنبياء الله، وتحدثنا في هذا السياق عن بعضٍ من مميزات القصص القرآني، وعن ما يتعلق بهذا الموضوع، في مقدمة ذلك: لماذا أتى في القرآن الكريم نماذج معينة من القصص والأحداث التاريخية، وما يميِّز العرض القرآني والتقديم القرآني لما قَصَّهُ من قصصٍ عن الماضي، ونبهنا أن القرآن الكريم هو كتاب هداية، هو في الأساس ليس كتاباً تاريخياً، يُقدِّم العرض والسرد التاريخي كما هي الكتب التاريخية، أو يقدِّم القصص كذلك كما هي الكتب المتخصصة في هذا المجال، ولكنه أكبر وأهم من كل ذلك.

القرآن الكريم هو كتاب هداية؛ ولـذلك فما قدَّمه من نماذج متنوعة من القصص والأحداث التاريخية، قدَّمه كأسلوب من أساليب الهداية؛ ولـذلك ضمَّنه الكثير من الدروس والعبر، وعرض فيه الكثير من الحقائق المهمة جدًّا؛ ولـذلك فهو غنيٌ بمحتواه من الدروس، ومن العبر، ومن الحقائق، ومن المفاهيم العظيمة، التي هي كلها تندرج تحت عنوان (الهداية)، فيها هدايةٌ لنا نحن في واقعنا، في ظروف حياتنا، في ديننا، في استلهام القيم العظيمة والأخلاق العظيمة، عندما نسمعها ونراها متجسدةً في الواقع، فيما عرضه الله لنا من النماذج الراقية من أوليائه من الأنبياء، والرسل، والمؤمنين… وهكذا.

فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قال في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:89]، فكان من ضمن ذلك هو: ما أتى به من القصص والأنباء في نماذج معينة، مختارة بهداية الله، بعلمه، بحكمته، يختار لنا أحسن القصص، التي تتضمن دروساً مهمة، نحن في أمسِّ الحاجة إليها، وتعرض لنا حقائق مهمة، وتعرض لنا السنن الالهية، وهذا من أهم ما في القصص القرآني.

أيضا هي- كما أشرنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي- هي من معالم الرسالة الإلهية؛ لأنها من أنباء الغيب، وأوحاها الله إلى رسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وهو أميٌّ في مجتمعٍ أميٍّ، لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك؛ ولهـذا قال الله «جَلَّ شَأنُهُ»: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود:49].

هي أيضاً ملهمةٌ في مقام التأسي والاهتداء، كما ذكرنا عن قصص الأنبياء والمؤمنين، وقال الله «جَلَّ شَأنُهُ»: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود:120].

الممــيزات للقصـص القـــرآني ممــيزات عظيمــــة ومهمـــة:

الله «جَلَّ شَأنُهُ» قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3].

• في مقدمة هذه المميزات: أنــه مــن الله:

الذي قصَّ علينا تلك النماذج من القصص هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ وبالتالي فهي حقٌّ، كل ما ورد فيها من تفاصيل وحقائق، ليس فيها أي شائبة من الشوائب التي يتعرض لها الكثير من القصص التاريخية، والأحداث التاريخية، والكتب التاريخية؛ أمَّا ما قدَّمه الله لنا في القرآن الكريم فهو حقٌّ خالص، ليس فيه أي شيءٍ من الزيف، ولا من الخرافات، ولا من الأساطير، ولا من الروايات غير الصحيحة، فهو يأتي لنا بالحقِّ في ذلك، وبالحقيقة الخالصة النقية، التي لا يشوبها أي شائبة؛ ولهـذا يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف:13].

• ثم أيضاً الاختيار من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»:

اختار لنا؛ لأن سِجِلّ التاريخ هو سجلٌ كبيرٌ جدًّا، ونحن آخر الأمم، حتى على المستوى التخصصي، لا يستطيع الإنسان أن يستوعب كل الأحداث التاريخية على كثرتها، لو أمضى كل عمره، لكن الله اختار لنا بعلمه، بحكمته، وهو العليم بما نحتاج إليه أكثر شيء، وما هو الأكثر فائدةً لنا، فقدَّم لنا نماذج متنوعة، متنوعة، وسنتحدث عن قيمة وأهمية هذا التنوع.

فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» باختياره لنا من سِجِلّ التاريخ الهائل نماذج معينة، تتناسب مع ظروف حياتنا، حتى لا يحتاج الإنسان أن يمضي كل عمره، ولا يصل بعد إلى استقراء الحقائق والأحداث التاريخية والقصص في التاريخ، اختار نماذج معينة، متنوعة، مهمة، مفيدة جدًّا، وإذا كان الاختيار هو من الله، فهل هناك أحد يمكن أن يكون أكثر دقةً وحكمةً في هذا الاختيار نفسه؟ معاذ الله!

• كذلك العــرض القــرآني عرض راقٍ جدًّا:

على مستوى الأسلوب، والتعبير، والطريقة، وعرض فيه هداية بكل ما تعنيه الكلمة، وسليم من كل المؤثرات السلبية، يعني: حتى عندما يعرض حقائق فيها جوانب سلبية كحقائق، كوقائع حصلت، هو يُقدِّمها بشكلٍ يبعدها عن التأثير السلبي، وأنت تسمعها، أو تتلوها في القرآن الكريم، فأنت لا تتأثر سلباً؛ وإنما يقدمها بطريقة راقية جدًّا، وذكرنا أمثلة لذلك في العام الماضي، ونذكر- إن شاء الله- أمثلة لذلك في هذه المحاضرات إن شاء الله.

• كذلك في غناها بالدروس والعبر:

في عرض الحقائق، في عرض المفاهيم، في تصحيح التصورات، في الجانب التربوي لها، في جوانب كثيرة ومهمة، في بيان السنن الإلهية، ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف:111]؛ ولـذلك فمسألة التركيز على موطن العبرة من القصة هي مسألة أساسية في العرض القرآني؛ لأنه- كما قلنا- كتاب هداية.

• كما أن من المميزات لما في القرآن الكريم من القصص: أنهــا قصـصٌ واقعيــة:

ليست خيالية، بل هي أمثلة من الواقع، وهذا يمنح الإنسان ثقة تجاه تلك القصص، وتجاه ما فيها من حقائق، وما يستلهم منها من دروس وعبر… وغير ذلك؛ لأن الواقع البشري فيه الكثير من القصص- يعني كأسلوب- التي فيها إمَّا الكثير من الزيف والخرافات، ليست نقيةً في النقل، أو كأسلوب آخر بعيداً عن الواقع، هناك أيضاً الكثير من القصص الخيالية في واقع البشر التي تُنقل، لتصور شيئاً من الحياة، لكنه ليس بواقعٍ في الحياة؛ إنما هو جانبٌ خيالي، ويراد له أن يكون إما من قبيل التسلية، أو من قبيل التأثير في النفوس، أو بشكلٍ أو بآخر.

• من مميزات العرض القرآني للقصص وما فيه أيضاً: أنه يقدِّم لنا جوانب نفسية، ولكن ليس من باب التخمين والتقدير؛ وإنما من باب الحقيقة:

لأنه من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الذي يعلم ما في النفوس، يعلم الواقع النفسي، عندما يعرض قصصاً لأشخاص، لنماذج معينة، لأمم؛ فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو العليم بذات الصدور، العليم بخفايا النفوس، عندما يقدِّم لنا صورةً عن الدوافع، عن الواقع النفسي، وعن الحالة النفسية، يُقدِّمه وهو العليم به كحقائق، حقائق ممن يعلم ما في النفوس، حتى ما هو في خفايا الفكر والتفكير، يقدِّمه وهو العليم بذلك؛ ولـذلك فهو لا يقدِّم لنا فقط الأحداث بشكلها الخارجي، بل في عمقها، في الواقع النفسي، في الدوافع، في الحالات النفسية، وهذه دروس مهمة حتى في هذه الأمور، التي نحتاج فيها حتى هي إلى دروس وإلى عبر؛ لأنها جانبٌ أساسيٌ في واقع حياتنا.

التنوع في القصص القرآني هو كذلك مهمٌ، وغنيٌ، ومفيدٌ جدًّا:

• نماذج من قصص الأنبياء، مجموعة كبيرة من أنبياء الله ورسله، وكذلك حتى هذا الجانب (في قصص الأنبياء) فيه أيضاً نماذج لظروف مختلفة، وأحوال مختلفة، ومقامات متنوعة.

• نماذج من قصص المؤمنين من أولياء الله، من غير الأنبياء: مثلما هي قصة أصحاب الكهف، مؤمن آل فرعون، مؤمن أهل القرية في (سورة يس)… وغير ذلك.

• نماذج من قصص النساء: على مستوى الجانب الإيماني، مثلما في قصة الصديقة الطاهرة (مريم ابنت عمران)، وباسمها سورة في القرآن الكريم، وتحدث القرآن عنها في مواضع متعددة، وكذلك عن غيرها.

• نماذج عن الأقوام والأمم: قوم نوح، عاد، ثمود، قوم فرعون… وغيرهم.

• نماذج عن التجار.

• نماذج عن المزارعين.

• نماذج عن العلماء.

• نماذج عن الملوك…

وهكذا… قصصٌ واسع.

فهي نماذج نستفيد منها في مختلف مجالات حياتنا، يعني: في الجانب العقائدي، في الجانب السياسي، في الجانب الاقتصادي، في الجانب الاجتماعي، في المجال الأخلاقي، في شؤون حياتنا نحن أيضاً، الشؤون المختلفة، ونحن آخر الأمم، بين أيدينا رصيدٌ هائلٌ من الأحداث، من التجارب في الواقع البشري، وهذا ما يساعدنا على أن نستفيد منها كتجارب واقعية، عرضت لنا نماذج متعددة ومتنوعة، تُقدِّم لنا الدروس المهمة، التي تزيدنا حكمةً، ورشداً، وبصيرةً، ووعياً، وفهماً، وتساعدنا على تَجَنُّب المزالق، المزالق في هذه الحياة، الأخطاء الكبيرة، التوجهات التي لها نتائج كارثية، العواقب الخطيرة، التي تكون نتيجةً لتوجهات معينة، أو مواقف معينة، كذلك دروساً في مجال الدعوة إلى الله، دروساً في مجال معرفة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهذا من أهم ما نستفيده من القصص القرآني حتى في مجال معرفة الله، وهذا مما سنلحظه- إن شاء الله- فيما نعرضه.

عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي من قصص القرآن:

• عن نبي الله آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وزوجه حواء «عَلَيْهَا السَّلّامُ».

• وكذلك عن قصة ابني آدم.

• وعن نبي الله إدريس «عَلَيْهِ السَّلَامُ».

• وعن نبي الله نوح «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وكذلك عن قومه في سياق قصته.

• وعن نبي الله هود «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وقومه عاد.

• وعن قصة نبي الله صالح «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وقومه ثمود.

ويتضح لنا كم تضمن العرض القرآني لتلك القصص من دروسٍ مهمة، وحقائق كثيرة، وعِبر عظيمة، بالرغم من أنَّا عرضناها باختصار، وبمحدودية ما نعرفه وما نقدمه.

في هذا الشهر المبارك، نبدأ مشوارنا مع القصص القرآني مع نبي عظيمٍ، من أبرز رسل الله وأنبيائه، ورد ذكره في القرآن الكريم (تسعاً وستين مرة)، وتحدث القرآن الكريم عنه في (خمسٍ وعشرين سورة) في قصصٍ عنه، وحقائق مهمة تتعلق به، منها سورةٌ باسمه في القرآن الكريم (سورة إبراهيم).

الحديث عن نبي الله ورسوله وخليله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، فيما قَصَّهُ القرآن الكريم عنه، متنوعٌ تنوعاً مفيداً، في أحوالٍ وظروفٍ متنوعة، ومقاماتٍ متعددة، وشؤونٍ مختلفة، وكلها غنيةٌ بالدروس والعِبر، ومسيرة حياته مدرسةٌ متكاملة في الهداية، في الأخلاق، في القيم، في الحكمة، في الرشد، في العلاقة مع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»… في جوانب كثيرة، نتحدث عن الكثير منها إن شاء الله، بقدر ما يوفقنا الله له.

رسول الله ونبيه وخليله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» منحه الله الوسام الرفيع، والحديث عنه في القرآن الكريم يبيِّن لنا عظيم مقامه، ورفيع منزلته، ودرجته العالية، الله قال عنه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، هذا وسام رفيع جدًّا، من أعلى وأعظم الأوسمة، التي تبيِّن منزلته الرفيعة عند الله «جَلَّ شَأنُهُ».

مقامه أيضاً بين الأنبياء والرسل، هو من أرفعهم مقاماً، ومن أفضلهم، ومن أعلاهم منزلة، فمنزلته بينهم هم كأنبياء ورسل منزلة عالية جدًّا؛ لأن مقامات وفضل الأنبياء يتفاوت في مستوى منزلتهم، وكمالهم، وأدوارهم، كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة : 253]، وكما قال «جَلَّ شَأنُهُ»: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}[الإسراء:55]، فمقامه بين الأنبياء والرسل مقامٌ عظيم، قدوةٌ لغيره من الرسل والأنبياء ممن أتى بعده؛ ولهـذا تُقَدّم الكثير من الدروس والعبر من حياته، من سيرته، لهم في مقام القدوة، واستلهام الدروس والعبر.

قبل أن ندخل في تفاصيل القصص القرآني عنه، نعرض عرضاً موجزاً عن مقامه العظيم، وعناوين عن شخصيته وكماله الإنساني والإيماني:

نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، كما قال الله عنه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[البقرة: 124]، هو شخصيةٌ عالمية، تلتقي على تعظيمه وتقديره الكثير من الأمم، والطوائف، والملل، والأديان، بل وتدَّعيه رمزاً لها، كُلٌّ منهم يدَّعي أنه رمزٌ له، وتدَّعِي الاقتداء به، إلى درجة أن مشركي العرب، الذين كانوا على الوثنية في الجاهلية، كانوا يدَّعون أنهم يقتدون به، ويعتبرونه الرمز العظيم لهم، مع ما هم عليه من انحراف كبير، وكفر بالرسالة والرسل والأنبياء، وهم في حال الشرك والوثنية، كذلك هو حال اليهود، يدَّعونه رمزاً لهم، وينسبونه منهم، في انتمائه العقائدي والديني، وكذلك هو الحال بالنسبة للنصارى، وبالنسبة لغيرهم، هناك كذلك أقوام، وأمم، وطوائف، وملل، لها نفس الدعوى.

ولهـذا رد الله عليهم في القرآن الكريم، في قوله «جَلَّ شَأنُهُ»: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:67]، ليرد عليهم في تلك الادَّعاءات، ويقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}[آل عمران:68]، بين كل للذين يدَّعون أنه رمزٌ لهم، وأنهم يقتدون به، وأنهم منتمون عقائديًا ودينياً إليه، أولى الناس به من؟ {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:68]، يعني: هم الذين- فعلاً- يمثلون امتداداً لنهجه: رسول الله محمد «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، والذين آمنوا معه، هم الذين يمثلون امتداداً لنهج نبي الله إبراهيم وملته ودينه، وهم أولى الناس بهذا الانتماء.

فيما يتعلق بنماذج من العناوين القرآنية عن شخصيته: وهو- كما قلنا- من منحه الله الوسام الرفيع، العظيم، العجيب، الذي يندهش الإنسان أمامه، عندما قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، فيما يفيده هذا من علاقته العظيمة بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ومنزلته الرفيعة جدًّا، (معنى: خليلاً، يعني: حبيباً وولياً)، الله اتَّخذه حبيباً له وولياً، وهو في مقام المحبة لله، والمحبة من الله له في مستوى عالٍ جدًّا، مُقَرَّبٌ جدًّا من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يحبه الله محبةً عظيمة، ويحظى بمنزلةٍ رفيعة، وهذا بنفسه وسامٌ عظيم، يبيِّن ما هو عليه من الكمال الإيماني والطهارة، وسنتحدث عن هذه النقطة- إن شاء الله- في سياق القَصص، عندما ندخل في التفاصيل؛ ولـذلك هو حظي برعايةٍ عجيبةٍ من الله، وهذا من الدروس المهمة في قصص نبي الله ابراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»: ما حظي به من رعايةٍ عجيبةٍ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وما منحه الله، هذا درسٌ مهمٌ جدًّا في رعاية الله لأوليائه، وما يمنحهم، ما يمنحهم ويَمُنُّ به عليهم في إطار رعايته لهم، فله مكانته الراقية، ومنزلته الرفيعة في علاقته بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

يقول الله «جَلَّ شَأنُهُ» في القرآن الكريم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}[النحل:120]، هذا التعبير العجيب: {كَانَ أُمَّةً}، يُقدِّم لنا صورةً عن كمال إبراهيم، عن منزلته الرفيعة، عن دوره العظيم:

• كَانَ أُمَّةً فيما حازه من كمالٍ إنسانيٍ وإيمانيٍ ومواصفاتٍ راقية، وفيما حمله من قيم، وجسَّده من مبادئ، يعدل أُمَّةً بكلها، يساوي أُمَّةً بكلها، فاجتمع فيه ما لو تفرَّق في أُمَّة، من مواصفات الكمال الإيماني والأخلاقي والإنساني، لكانت أُمة نموذجية، لكانت أُمَّةً صالحة، هذا تعبير عظيم جدًّا، هذا يُقرِّب لنا وإلى أذهاننا مستوى عظمة شخصيته، ومستوى كماله.

• وكَانَ أُمَّةً في أهليته العالية، في مقام الاهتداء والقدوة؛ فكان رمزاً للأنبياء، وإماماً للناس، ومعلماً عالمياً للمجتمع البشري.

• وكَانَ أُمَّةً في دوره العظيم، الذي قام به في إرساء دعائم الحق والخير والهدى، وفي تصديه للطغيان والضلال، وما بذله من جهدٍ في ذلك، بالرغم من أنه بدأ بمفرده، لكنَّ حجم هذا الدور الذي نهض به، بما تنهض به أُمَّة، إلى هذا المستوى، شخص له هذا الدور، له هذا التأثير، يعادل مجهود أُمَّة، ودور أُمَّة، ونهضة أُمَّة، وحركة أُمَّة، هذا يفيد مستوى الدور العظيم الذي قام به، وما بذله من جهد، وما حققه من تأثير ونتائج.

ولهـذا عندما قال الله عنه هذا التعبير، فهو تعبير جامع، جمع كل هذه الدلائل والمفاهيم.

{كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ}[النحل:120]، هنا يعرض لنا القرآن الكريم مواصفات راقية جدًّا، تبيِّن لنا كيف كان في مستوى إيمانه، كيف كانت علاقته بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهذا من أهم ما أهَّله لهذا الدور، وارتقى به إلى هذه المنزلة، وهذا المقام العظيم.

{قَانِتًا لِلَّهِ}، هذه مواصفات مهمة، مجموعة من المواصفات تندرج تحت عنوان (قَانِتاً لِلَّهِ)، كان خاضعا لله، مطيعاً له؛ ولـذلك ففي قوله «جَلَّ شَأنُهُ»: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} كم يجتمع لنا؟ يجتمع لنا أنه كان نموذجاً عظيماً:

• في المحبة لله تعالى، والإخلاص له، والاستقامة على نهجه.

• وفي الخضوع التام لله.

• وفي الخشوع لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

• وفي الثبات على نهج الله.

كل هذه العناوين تجتمع تحت قوله تعالى: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِفًا}، وسنتحدث أيضاً في سياق التفاصيل، في القَصص عن نبي الله إبراهيم، عن كيف تجسَّدت هذه العناوين في واقعه، في حركته، في أعماله، في مواقفه، بشكلٍ عظيمٍ ومميَّز.

عَـــرَض القُـــرْآنَ الكريـــم عنـــه أيضــاً أنه:

• كان رمزاً عظيماً في التسليم لله تعالى والإسلام له: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131]، في التفاصيل في القصص عنه سيأتي نماذج في واقعه العملي، عن هذا الإسلام والتسليم لله «جَلَّ شَأنُهُ»

• قدَّمه على أنه نموذج راقٍ في المصداقية، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 41]، (صِدِّيقًا): مصدقاً بكلمات الله تعالى، وكانت مصداقيته في أقواله، في انتمائه، في أعماله، تامة وراقية جدًّا.

• نموذج في اليقين، وسيأتي الحديث عن ذلك.

• في الشكر: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}[النحل:121]، يُقدِّر نعم الله عليه، ويُعظِّم نعم الله عليه، ويشكر الله على نعمه في أقواله، في أفعاله، وفي أعماله، بقلبه وسلوكه، وسيأتي أيضاً تفاصيل عن هذا الموضوع، وهذا العنوان.

• في الرشد، والعلم، والحجة، والحكمة، والبصيرة كذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51]، كان راشداً، حكيماً، على بصيرة، على معرفة، على علم، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[ص:45]، فهو من المتمسكين، والمقدمين، والمسهمين، في إقامة الحق، وفي مسيرة النبوة والرسالة أعطى دفعاً كبيراً للحق والهدى، استمر لأجيالٍ طويلة، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83]، وستأتي التفاصيل أيضاً عن ذلك.

• في الحلم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114]، وفي آيةٍ أخرى: {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75]، فهو من ذوي الحلم، ونموذج في الحلم، وستأتي التفاصيل، وتعريف هذا العنوان ودلالاته.

• في الكرم، في حسن الضيافة: كذلك في القصص تأتي التفاصيل.

• رمزٌ في البراءة، والموقف الحاسم من أعداء الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}[الممتحنة:4].

العناوين كثيرة، والتفاصيل كثيرة، وكثيراً من العناوين نأتي اليها مع المفاهيم، مع الحقائق، مع الدروس، مع العبر، في سياق القَصَص الذي قَصَّهُ الله عنه، وقدَّم في ذلك القصص- كما قلنا- نماذج من ظروف متنوعة، وشؤون مختلفة، وأحوال متعددة.

نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ، وَالقِيامَ، وَصَالِحَ الأَعْمَال، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي هَذَا الشَّهْر الكَرِيم مِنْ عُتقَائِهِ وَنُقذَائِهِ مِنَ النَّار.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • إيلام الفيلية.. صدور أول كتاب سردي بالكوردية البهلوية للكاتبة مريم رهنما
  • كتاب في سطور| صوت الراوي وميراث السرد.. رحلة في عالم السرد والحكايات
  • تهجير الفلسطينيين من غزة جريمة طبقتها إسرائيل قبل أن ينظّر لها ترامب.. كتاب جديد
  • في محاضرته الرمضانية الثانية قائد الثورة: القرآن الكريم هو كتاب هداية جاء بأحسن القصص
  • مفتي مصر السابق يجيب على سؤال طفلة: “لماذا أغلب أهل النار من النساء؟” (فيديو)
  • بـ"الجلباب والإسدال".. تلاميذ الشرقية يحتفلون بشهر رمضان
  • بأقلام الزوار.. مكتبة مصر العامة تستعد لإصدار كتاب تذكاري
  • ما حكم موائد الرحمن التي يقيمها الفنانون والمشاهير؟.. مفتي الجمهورية يجيب
  • السوداني يقدم كتاب شكر وتقدير بمناسبة عيد المعلم
  • السياسة الطاقية بالمغرب.. أية رهانات للانتقال؟ قراءة في كتاب