عربي21:
2025-01-30@17:37:36 GMT

مشروع التحرير الوطني بين الإمكان والاستحالة

تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT

لو أردنا تشبيه الحضور "البورقيبي" بعد الثورة التونسية وما بشّرت به من قطيعة مع الزمن الاستبدادي وثقافة عبادة الزعيم، فإننا لن نجد أفضل من الحضور "الكمالي" (نسبة إلى كمال أتاتورك) حتى بعد هيمنة حزب العدالة والتنمية وأيديولوجيته الإسلامية. فرغم أن الثورة التونسية قد قامت على النظام الريعي-الجهوي-الزبوني التابع والمتخلف الذي أرسته الدولة الوطنية (الدولة-الأمة)، فإن البورقيبية قد ظلت هي "الإطار المرجعي" أو "الخطاب الكبير" الذي تكتسب سائر الخطابات المتنازعة شرعيتها بمقدار الاقتراب منه وتفقدها عند الابتعاد عنه.

وقد أدّى ذلك -كما هو الشأن بالنسبة للكمالية في تركيا- إلى جعل "البورقيبية" وخياراتها الكبرى ضربا من "المقدّس السياسي" الذي لا يجوز المساس به أو جعله موضوعا للنقاش العمومي.

وقد أدت هيمنة بعض الرهانات السياقية المرتبطة بالثورة وبانتظارات الناخبين إلى إخراج "التحرير الوطني" من دائرة السجال العام؛ واستبداله بعرض سياسي يتمحور أساسا حول "الإصلاح" و"الانتقال الديمقراطي" و"استمرارية الدولة"، ولم يعد "التحرير الوطني" إلى واجهة المشهد إلا بعد 25 تموز/ يوليو 2021 وإعادة هندسة الحقل السياسي؛ عبر التعامد الوظيفي بين الرئيس ومشروعه وبين النواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين (خاصة محور الثورات المضادة وفرنسا)، وهو ما يجعلنا أمام خطاب سياسي متناقض ذاتيا (أي متناقض من جهة علاقة الدعوى بالممارسة أو المحصول)، الأمر الذي يستوجب تفكيك السردية الرئاسية المتعلقة بـ"التحرير الوطني" وبيان وجوه إمكانها أو استحالتها بعيدا عن عنتريات الأنصار ومزايدات الخصوم.

إن طرح مشروع "التحرير الوطني" يستوجب بالضرورة وعيا بوجود "استعمار" ما زال يُكبّل الدولة التونسية رغم استقلالها الصوري عن فرنسا منذ أواسط القرن الماضي، وهو ما يعني -على الأقل في المستوى النظري- أن مشروع التحرير الوطني الآن-وهنا سيكون استكمالا لتحريرٍ منقوص في المناحي السياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية والديبلوماسية.

لقد تحدث الرئيس أكثر من مرة عن "حرب تحرير وطني" هدفها فرض سيادة الدولة كاملةً على قراراتها الداخلية والخارجية ومنع "تفجير الدولة من الداخل لتحويل البلاد إلى مجموعة من المقاطعات". ولفهم معنى "التحرير الوطني" عند الرئيس وتحديد الأطراف الذين يعتبرهم جزءا من منظومة "الاستعمار الجديد" أو من مشروع "هدم الدولة"، ينبغي أن ننطلق من سياقات تلك التصريحات ومن القرارات "السيادية" التي اتخذها الرئيس أو باركها لتجسيد هذا التوجه الرسمي، كما ينبغي علينا تدبر "اللاّ مفكر فيه" في هذا المشروع، أي تدبّر ذلك البياض أو تلك الفراغات التي تحكم هذا المشروع وتحدّد بصورة كبيرة مآلاته الواقعية.

لو أردنا أن نحدد الإطار المرجعي العام لمشروع التحرير الوطني عند الرئيس فإننا سنجده في "تصحيح المسار"، أو بالأحرى في "التأسيس الثوري الجديد" باعتباره بديلا شاملا هدفه إلغاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية وللنظام البرلماني المعدل، بل هدفه إلغاء الحاجة إلى مختلف الأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب السياسية) وبناء نظام شمولي لا يعترف بالانقسام الاجتماعي الموجب لتعدد الوسائط وشرعيتها.

يصادر "التأسيس الثوري الجديد" على وجود تماثلٍ أو تماهٍ بين إرادة الشعب وإرادة "الزعيم" وسياسات النظام، ولذلك فإن كل معارضة هي بالضرورة معارضة "لا وطنية"، وكل مطالبة بـ"لا مركزية" القرار أو رفض للنظام الرئاسوي هي في جوهرها "تفجير للدولة من الداخل". فغلق مقرات حركة النهضة واستهداف قياداتها التاريخية هو جزء من مشروع التحرير الوطني، وكذلك الشأن عند رفض أي حوار وطني أو تشاركية في إدارة البلاد، ولا يختلف الأمر أيضا عندما يهاجم الرئيس "الخط التحريري " للإعلام العمومي ويتهمه بـ"الخضوع للقوى المضادة للحرية ولمعركة التحرير الوطني"؛ لأنه ارتكب خطيئة عدم مساندة الرئيس دون أي قيد أو شرط.

إنّ "معركة التحرير الوطني" في السردية الرئاسية لا تختلف في شيء عن باقي عناصر تلك السردية من جهة ارتباطها ببعد "إيماني" لا علاقة له بأي نسق حجاجي عقلاني أو بأي إنجاز واقعي. فعلى الشعب أن يؤمن بأن إلغاء الأحزاب واستهداف المعارضة ومركزة السلطة في نظام رئاسوي (لا يمكن محاسبة الرئيس فيه) هو جزء من معركة التحرير، كما كان عليه من قبل أن يؤمن بأن الصادقين (أي أنصار الرئيس) هم من يُجسّدون الإرادة الشعبية مهما كان عددهم في كل المناسبات التي عادت فيها السلطة للشعب (الاستشارة الوطنية، الاستفتاء، الانتخابات البرلمانية)، وأن يؤمن بأن تدهور الأوضاع الاقتصادية لا يعود إلى سوء إدارة النظام الحالي للأزمة وعجزه عن التخلص من منظومة "الاستعمار الداخلي" و"أساطير النمط المجتمعي التونسي" ورعاتها من متطرفي اللائكية الفرنسية "المُتونَسة"، بل يعود إلى "الغرف المظلمة" التي تُعطّل مشروع "التحرير".

لا يعود سبب حكمنا على معركة التحرير الرئاسية بأنها معركة لا وطنية إلى استهدافها لخصومه السياسيين ولا يعود أيضا إلى هلامية مشروعه السياسي، وانتهازية أغلب المدافعين عنه، بل يعود أساسا إلى اللا مفكر فيه طي هذا المشروع. فكيف يمكن خوض "حرب تحرير وطنية" بجنود (سياسيين، إعلاميين، مثقفين، إداريين.. الخ) هم في أغلبهم "عيال" منظومة الاستعمار الداخلي وصنيعتها وحرّاس مصالحها المادية والرمزية؟
رغم أن الرئيس لم يتحدث يوما عن "دكتاتورية وطنية" تحتاجها البلاد لتأسيس ديمقراطية حقيقية لا تكون بالضرورة ديمقراطية تمثيلية على النمط الليبرالي، فإن نظام الحكم الذي يشتغل بالأوامر والمراسيم الرئاسية التي لا تقبل الطعن أو الإلغاء (بحكم حالة الاستثناء من جهة وبحكم غياب أي جهة رقابية مثل المحكمة الدستورية) قد يغري باعتبار النظام نظاما دكتاتوريا وإن لم يُسلّم أصحاب هذا الرأي له بكونه "وطنيا". ولكننا لا نميل إلى هذا التوصيف لسبب بسيط ألمحنا إليه في مقدمة المقال، وهو طبيعة العلاقة التعامدية بين الرئيس والنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي. فنحن نعتبر الرئيس ومشروعه مجرد واجهة لتلك النواة (المركّب المالي-الأمني-الجهوي)، وهو ما يعني أن السلطة لا تتمركز بين يديه واقعيا مهما حاولت المنظومة إيهامنا بخلاف ذلك. فالرئيس ليس دكتاتورا، ولكنّ "معركة التحرير الوطني" التي يخوضها ليست معركة "وطنية" مهما كان صدق نواياه.

لا يعود سبب حكمنا على معركة التحرير الرئاسية بأنها معركة لا وطنية إلى استهدافها لخصومه السياسيين ولا يعود أيضا إلى هلامية مشروعه السياسي، وانتهازية أغلب المدافعين عنه، بل يعود أساسا إلى اللا مفكر فيه طي هذا المشروع. فكيف يمكن خوض "حرب تحرير وطنية" بجنود (سياسيين، إعلاميين، مثقفين، إداريين.. الخ) هم في أغلبهم "عيال" منظومة الاستعمار الداخلي وصنيعتها وحرّاس مصالحها المادية والرمزية؟ وكيف يمكن أن توكل مهمة التحرير الوطني لأصحاب "القضايا الصغرى" الذين لا يوجد في سيرهم الذاتية، أي انحياز للقضايا الكبرى أو معارضة لمنظومة الاستعمار الداخلي؟ وهل يستقيم الحديث عن معركة تحرير وطني مع المحافظة على الانتماء الفرنكفوني لتونس وتجذير العلاقات الاستراتيجية مع محور التطبيع (محور الثورات المضادة)؟ وما قيمة معركة التحرير عندما لا تتوجه إلى العدو الأساسي (منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج)، وتستبدل هذا العدو الوجودي بأعداء سياسيين يعرف الجميع أنهم لا يتحكمون في آليات توزيع السلطة والثروة وفي تأبيد وضعية التخلف والتبعية؟

معركة التحرير الوطني بالصورة التي تدار بها هي "مهمة مستحيلة" أو هي مجرد مجاز يُضاف إلى جملة الاستعارات المؤسسة للدولة-الأمة وللخطابات السلطوية التي هيمنت عليها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وإذا كان أغلب التونسيين لا ينكرون وجود استعمار غير مباشر لبلدهم الذي لا يتمتع واقعيا بمقومات السيادة، فإن بناء تلك المقوّمات -في نظرنا- لا يمكن أن يحصل دون مواجهة السبب الأساسي في فقدانها: منظومة الاستعمار الداخلي
ختاما، فإن معركة التحرير الوطني بالصورة التي تدار بها هي "مهمة مستحيلة" أو هي مجرد مجاز يُضاف إلى جملة الاستعارات المؤسسة للدولة-الأمة وللخطابات السلطوية التي هيمنت عليها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وإذا كان أغلب التونسيين لا ينكرون وجود استعمار غير مباشر لبلدهم الذي لا يتمتع واقعيا بمقومات السيادة، فإن بناء تلك المقوّمات -في نظرنا- لا يمكن أن يحصل دون مواجهة السبب الأساسي في فقدانها: منظومة الاستعمار الداخلي.

وإذا ما سلّمنا للرئيس بصدقه في حرب التحرير الوطني، فإننا لا يمكن أن نوافقه في تحديد الخصم الحقيقي للفوز بهذه الحرب. فتغيير الدستور وتعديل النظام السياسي واعتماد المراسيم والأوامر وإلغاء الحاجة للأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب السياسية).. كل ذلك لا يعني أن الرئيس يخوض "حرب التحرير الوطني" في مكانها الطبيعي وضد خصمها الحقيقي، ولا يعني بالتبعية أنه سينجح فيها. فحرب "التحرير" لا يمكن أن تنجح إلا ببناء "كتلة تاريخية" هدفها محاربة منظومة الاستعمار الداخلي ومراجعة كل "الأساطير" المؤسسة للدولة-الأمة دون شيطنةٍ للتاريخ ورموزه ولا أمثَلة لهم، ودون احتكار للقرار السيادي أو شخصنة له بصورة تقرّبه من الدائرة الايمانية وتبعده عن الجدل العمومي العقلاني.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية الوطنية التحرير تونس التحرير الإستعمار الوطنية قيس سعيد سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا المشروع لا یمکن أن لا یعود

إقرأ أيضاً:

عائدون لديارنا المدمرة.. غزة مخيلة عصية على الاستعمار

كيف ظننتَ أن تهزم شعبا كشعبنا
وغزّة كغزّتنا؟
يا محتل
الأرض لنا والتاريخ لنا والجذور لنا
فمن أنت؟
سلام علينا بما صبرنا
نحن الذين تألمنا وتحسرنا.. نحن الغزيين
نحن الذين انطفأت قلوبنا
ولكن أُنيرت بصيرتنا

موطني يا مهجة قلبي
موطني يا حبيبي
اليوم هو يوم المنى
اليوم عادت لي الروح التي ظننت أنني فقدتها

عائدون
عائدون لديارنا المدمرة الجميلة
موطني وإنا نراك في أعيينا جنة يطيب بها مر الحياة
رحم الله شهداءنا وشفا الله جرحانا
والسلامة التامة للجميع

بهذه الكلمات التي أتت بوقع قصيدة مستوفية، خاطبت فتاة غزية المحتل صباح 27 يناير/كانون الثاني عبر ميكروفانات الجزيرة، معلنة بابتسامة عنفوانٍ لم تفارق وجهها أنها عائدة للشجاعية حتى "لو كانت مدمرة… بتضل أرضنا وبلادنا". فهل تدرك هذه الفتاة الفلسطينية أنها بقصيدتها العفوية تقلب رأسا على عقب سردية ثقافية حاولت زج الفلسطيني والإنسان العربي، بل وجميع سكان النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ضمن شعريةِ "عدم الانتماء للأرض" (ideological statelessness) التي رُصد لها منذ حوالي العقد موارد ثقافية معتبرة من مهرجانات وجوائز تحتفي بثقافة الانخلاع عن الجذور والاندماج في "هوية كونية واحدة"؟ فعمّ نتحدث؟

إعلان استعمار المخيلة

تقول الفيلسوفة الإيطالية "غلوريا جيرماني" (Gloria Germani) إن "الاستعمار الغربي خرج من الباب ليدخل من النافذة من خلال استعمار المخيلة"، واستعمار المخيلة، تقول المفكرة الإيطالية المختصة بالحوار بين الغرب والشرق، "يتمثل في استعمار الرغبات وفرض نموذج العولمة الذي يفرض على الشعوب الشرقية أسلوب حياة لا يشبهها"، وتواصل المفكرة في حوار على شاشة بيوبلو الإيطالية بتاريخ 19 يناير/كانون الثاني أن "تحفيز أنماط استهلاكٍ موحدة تصب كلها ضمن "احتلال الرغبات" وصنع مواطن عالمي يشتهي المنتجات ذاتها ونمط العيش ذاته، وإن هو لم يدخل ضمن هذا النسق يصبح خارج منظومة الحداثة بالمعايير الغربية".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الشر السائل.. كيف تهندس الحداثة الغربية ممارسات الاحتلال والإبادة؟list 2 of 2ما حقيقة اختراق مستعرب صهيوني للجهاد المقدس عام 1948؟end of list

ولعل التصريحات الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب عقب تنصيبه، بشأن غزة تدل على أننا أمام نموذج استعماري جديد لا يؤمن بالضرورة بالغزو العسكري للبلدان وإنما بغزو المخيلة. فترامب يرى غزة بعين المقاول الليبرالي كـ"قطعة أرض تتمتع بمناخ رائع يمكن إنشاء مشاريع مذهلة فوقها". ليظهر وكأنه من البديهي بالنسبة لترامب أن يكون الغزيون متطلعون لنموذج من العيش تتحول فيهم سواحلهم إلى منتجعات سياسية تزخر بالملاهي، والكازينوهات والمراقص وشواطئ العراة المكلّفة، على غرار مينوركا وميامي وإيبيزا وسان تروبي، وبذلك تصبح غزة وجهة الاستجمام النموذجية التي تدغدغ المخيلة المقولبة على النمط المعولم.

الوجهات التي يكدح الإنسان الأوروبي المعاصر طيلة السنة حتى يتمكن من تجميع ثمن التلذذ بها بضعة أيام في العطلة الصيفية، ليغدو ثمن رحلات الاستجمام التي يستطيع الفرد أن يمنحها لنفسه كل سنة دليلا على المكانة الاجتماعية ومدى نجاح الفرد في مجتمعات احتلتها قيم السوق الرأسمالية.

قيم لا تتوافق بالضرورة مع قيم الإنسان الغزي ذي الرغبات المتحررة من نموذج العولمة أو بتعبير غلوريا جيرماني المخيلات غير المستعمرة، وهو نموذج ذهني يطلق عليه الفيلسوف الإيطالي جامباتيستا فيكو "الذهن البطولي" (Mente eroica). ذهن قادر على السفر في أبعاد ميتافيزيقية تتجاوز الحسي لرؤية ما لا تراه العين الخاضعة للرؤى الأرضية. "جنة جنة جنة تسلم يا وطنا/يا وطن يا حبيّب/يا بو تراب الطيب/حتى نارك جنة". هكذا تغنى الغزيون بوطنهم طيلة حرب الإبادة والتدمير التي طالتها، وكأنهم كانوا يرون ما لم تكن أعين العالم القاصرة على رؤيته من وراء الشاشات. وهي ذاتها كلمات فتاة الشجاعية الحرة العائدة إلى أرضها بعد أشهر مريرة من النزوح والصمود التاريخي: موطني وإنا نراك في أعيينا جنة يطيب بها مر الحياة.

إعلان أشعار الاستعمار

والواقع أن الآلة الاستعمارية الجديدة حاولت من خلال الورقة الثقافية، لا سيما الشعر، الترويج لخطاب الانخلاع من الجذور على نحو أصبحت فيه كلمة "وطن" كلمة تخضع للرقابة في الترجمات الشعرية الإيطالية على سبيل المثال. فوطن كلمة يتم التحايل دوما في ترجمتها، وبـدل اختار مفردة "Patria" الدقيقة بكل ما تختزنه من زخم الانتماء إلى حيز مكاني محدد، يجري اختيار عادة "Terra" (أرض) وهي مفردة يمكن سحبها بجرعة قليلة من الشطط التأويلي إلى كامل الكرة الأرضية.

هذه المقاربات الترجمية التي تخص شعراء مكرسين يصعب غض البصر عن نتاجهم الشعري، لا تمس الشعراء الشباب الذين يتم تجاهل نتاجهم إن زادت فيه جرعة الوطنية عن حدها. ذلك أن الوطنية والارتباط بالجذور بحسب توجهات النقد المعاصر أصبحت تعد حالة قبل حداثية وما قبل ليبرالية، والمطلوب في حقبة العولمة هو الاحتفاء بخطاب الانتماء إلى اللا أرض، و"الهوية الكونية" المختلَقة.

لا يوجد شيء اسمه هجرة طوعية وإنما خلق ظروف طاردة تدفع للهجرة فيما يطلق عليه بالمصطلحات السياسية "الهجرة من خلال اليأس" (رويترز)

وفي الوقت الذي تعد فيه حالة "عدم الانتماء إلى أي دولة" (statelessness) قضية قانونية معقدة تخص أشخاص فُرض عليهم عدم حمل أي جنسية لأسباب تتعلق عادة بالحروب واللجوء السياسي أو لأسباب عرقية خاصة، إلا أنها أخذت تكتسي أبعادا شاعرية رومنطقية في النتاج الشعري الأوروبي، على غرار ما نجده لدى واحد من أبرز شعراء إيطاليا، إيرّي دي لوكا (1950)، الذي أعلن في ديوانه الشعري "معدوم نابولي" (2006) بنبرة تراجيدية أنه يختار الانفصال عن جسده الأصلي ليهدي نفسه للعالم: "إن لم يكن لي الحق أن أصف نفسي كمعدوم الأرض، فأنا معدوم نابولي، رجل انخلع من جسده الأصلي ليسلِم نفسه إلى العالم".

والحقيقة أن دي لوكا -الذي وقف مع إسرائيل في عدوانها على غزةـ كان يستطيع أن "يسلم نفسه للعالم" قانونيا من خلال طلب إسقاط الجنسية الإيطالية عنه والدخول رسميا في عداد معدومي الأرض والتلذذ بهذا الوضع قدر ما شاء كأي غجري أو مهاجر يعيش أيامه ولياليه بلا وثائق في أوروبا، لكنه لم يفعل. ذلك أن هذه الحالة اللاإنسانية التي يتم حضّ "الآخر" على الانخراط فيها كأسلوب حياة من خلال التشجيع الممنهج على الهجرة واللجوء ليست هي الحالة المثالية التي يمكن للإنسان أن يحيا من خلالها بكرامة ويتمتع بأبسط حقوقه في إطارها.

إعلان

وعن ذلك يقول الدكتور حسن أيوب أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح تعليقا على مشروع "الهجرة الطوعية" الذي طرحه بن غفير قبل أشهر لتفريغ غزة من أهلها بعد أن فشلت آلة القتل: "لا يوجد شيء اسمه هجرة طوعية وإنما خلق ظروف طاردة تدفع للهجرة فيما يطلق عليه بالمصطلحات السياسية "الهجرة من خلال اليأس" (displacement by despair) وهي بالمعنى القانوني تبقى تهجيرا قسريا".

عمليات التهجير القسري هذه كانت قد خضعت لها (ولا تزال) "أفريقيا المستباحة" كما تسميها الكاتبة المالية "أميناتا  تراووري" (Aminata Dramane Traoré) في كتابها الصادر عام 2008، حيث تخوض الكاتبة في مصطلح "استعمار المخيلة" مؤكدة: "أن استباحة القارة الأفريقية لا يكمن فقط في العنف الذي اعتاد الغرب ممارسته علينا. ولكنه يكمن أيضا في رفضنا لفهم ما يحدث لنا. إذ لا وجود من جانب واحد لقارة تختزن القيم وصور التقدم اسمها أوروبا بينما على الجانب الآخر أفريقيا التي تختصر معاني الظلمات والبؤس". وتواصل تراووري معاتبة مثقفي الجنوب على تبني لغة المستعمِر وسرديته، وتضع للـ"مُهانين" خارطة طريق لأجل استعادة مصائرهم: "هذه الرؤية، التي يميل بعضنا إلى استبطانها تتحطم في اللحظة التي نرى فيها بأعيننا آليات الهيمنة والإفقار والإقصاء الذي نتعرض له. إن التحدي الذي نواجهه اليوم هو تصور مستقبل يتمحور حول الإنسان، وإعادة السيطرة على مصائرنا وهو ما لا يمكن أن يحدث سوى باستدعاء لغتنا ومرجعياتنا وقيم مجتمعنا وثقافتنا".

رفض الغزيون  محاولات التهجير بإباء، مصرين على العودة إلى ديارهم وإن كانت مدمرة، ليصنعوا مشهدية تاريخية عظيمة عزّ نظيرها (الأناضول) خارطة طريق

خارطة طريق تبدو كأن فتاة الشجاعية قد اختصرتها في قصيدة عفوية وهي عائدة إلى ديارها شمال غزة رافضة أن تكون دمية مستباحة في يد الاستعمار الجديد على غرار ما يقترحه علينا "شعراء الهوية الكونية" الوهمية والتي لا تصب إلا في خدمة بارونات الرأسمالية: "نحن شعوب أفريقيا التي استعمِرت في الماضي وأعيد استعمارها الآن من طرف الرأسمالية العالمية، لا نتوقف عن سؤال أنفسنا: ماذا حل بنا؟"… تتساءل تراووري بمرارة في كتابها عن مصير يعرفه جميع من يرى حالة "الشاردين" الذين قطعوا علاقتهم بأوطانهم، واعتنقوا ثقافة عدم الانتماء والانسلاخ عن الجذور، وعنهم يقول أندريا زوك في كتابه "نقد العقل الليبرالي" (2020) إنهم "عناصر وظيفية للآلة الرأسمالية التي تستثمر في هشاشة المهاجر المترتبة عن انفصاله عن أرضه حتى يصبح طيّعا للاستغلال.

إعلان

وعن هذه الجريمة الإنسانية كتب الشاعر الإيطالي "دافيدي كيندامو" (Davide Chindamo) قصيدة بعنوان "تجار بشر" ألقاها على "راديو بوتانزا" (Radio Poetanza) في حلقة مخصصة لأفريقيا بتاريخ 23 سبتمبر/أيلول 2023 ندد فيها "بالمجرمين الذين يتكسبون من حياة مهاجرين ضعفاء يتوهمون وجود سعادة افتراضية في أوروبا".

ويذهب الفيلسوف الإيطالي دييغو فوزارو لاعتبار عمليات تشجيع البشر على الهجرة من أوطانهم دفع لعبودية جديدة في الحقبة النيوليبرالية. مصيرٌ رفضه الغزيون بإباء، مصرين على العودة إلى ديارهم وإن كانت مدمرة، ليصنعوا مشهدية تاريخية عظيمة عزّ نظيرها. يحملون متاعهم سيرا على الأقدام من جنوب غزة إلى شمالها، لا يحلمون بشيء سوى بالانغراس مجددا في أرضهم، وإعادة إعمار بيوتهم بسواعدهم، لترجع غزة "جنة" كما هي في مخيلة أهلها البطولية… مخيّلة يستعصي على أي محتل استعمارها.

مقالات مشابهة

  • عَملٌ مسرحي على خشبة ثقافي طرطوس يُحاكي اللحظات التي رافقت التحرير
  • ما الأسرار التي يحاول ترامب كشفها حول اغتيال الرئيس جون كينيدي؟
  • حزب الأمة القومي يجيز “مشروع الخلاص الوطني” لإنهاء الحرب
  • "المالية" تبدأ تعميم "السّجل الوطني للأصول الحكومية"
  • مجلس النواب يبحث الصعوبات التي تواجه جهاز «مشروع النهر الصناعي»
  • الوطني الاتحادي يواصل مناقشة قانون تعديل بعض القوانين الاتحادية
  • «ملتقى متحف زايد الوطني» يناقش دور المتحف في الحفاظ على التراث البحري
  • وزارة المالية تبدأ تعميم مشروع السجل الوطني للأصول الحكومية
  • عائدون لديارنا المدمرة.. غزة مخيلة عصية على الاستعمار
  • كوريا الجنوبية.. ما السيناريوهات التي قد يواجهها الرئيس يون بعد اتهامه بالتمرد؟