مشروع التحرير الوطني بين الإمكان والاستحالة
تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT
لو أردنا تشبيه الحضور "البورقيبي" بعد الثورة التونسية وما بشّرت به من قطيعة مع الزمن الاستبدادي وثقافة عبادة الزعيم، فإننا لن نجد أفضل من الحضور "الكمالي" (نسبة إلى كمال أتاتورك) حتى بعد هيمنة حزب العدالة والتنمية وأيديولوجيته الإسلامية. فرغم أن الثورة التونسية قد قامت على النظام الريعي-الجهوي-الزبوني التابع والمتخلف الذي أرسته الدولة الوطنية (الدولة-الأمة)، فإن البورقيبية قد ظلت هي "الإطار المرجعي" أو "الخطاب الكبير" الذي تكتسب سائر الخطابات المتنازعة شرعيتها بمقدار الاقتراب منه وتفقدها عند الابتعاد عنه.
وقد أدت هيمنة بعض الرهانات السياقية المرتبطة بالثورة وبانتظارات الناخبين إلى إخراج "التحرير الوطني" من دائرة السجال العام؛ واستبداله بعرض سياسي يتمحور أساسا حول "الإصلاح" و"الانتقال الديمقراطي" و"استمرارية الدولة"، ولم يعد "التحرير الوطني" إلى واجهة المشهد إلا بعد 25 تموز/ يوليو 2021 وإعادة هندسة الحقل السياسي؛ عبر التعامد الوظيفي بين الرئيس ومشروعه وبين النواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين (خاصة محور الثورات المضادة وفرنسا)، وهو ما يجعلنا أمام خطاب سياسي متناقض ذاتيا (أي متناقض من جهة علاقة الدعوى بالممارسة أو المحصول)، الأمر الذي يستوجب تفكيك السردية الرئاسية المتعلقة بـ"التحرير الوطني" وبيان وجوه إمكانها أو استحالتها بعيدا عن عنتريات الأنصار ومزايدات الخصوم.
إن طرح مشروع "التحرير الوطني" يستوجب بالضرورة وعيا بوجود "استعمار" ما زال يُكبّل الدولة التونسية رغم استقلالها الصوري عن فرنسا منذ أواسط القرن الماضي، وهو ما يعني -على الأقل في المستوى النظري- أن مشروع التحرير الوطني الآن-وهنا سيكون استكمالا لتحريرٍ منقوص في المناحي السياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية والديبلوماسية.
لقد تحدث الرئيس أكثر من مرة عن "حرب تحرير وطني" هدفها فرض سيادة الدولة كاملةً على قراراتها الداخلية والخارجية ومنع "تفجير الدولة من الداخل لتحويل البلاد إلى مجموعة من المقاطعات". ولفهم معنى "التحرير الوطني" عند الرئيس وتحديد الأطراف الذين يعتبرهم جزءا من منظومة "الاستعمار الجديد" أو من مشروع "هدم الدولة"، ينبغي أن ننطلق من سياقات تلك التصريحات ومن القرارات "السيادية" التي اتخذها الرئيس أو باركها لتجسيد هذا التوجه الرسمي، كما ينبغي علينا تدبر "اللاّ مفكر فيه" في هذا المشروع، أي تدبّر ذلك البياض أو تلك الفراغات التي تحكم هذا المشروع وتحدّد بصورة كبيرة مآلاته الواقعية.
لو أردنا أن نحدد الإطار المرجعي العام لمشروع التحرير الوطني عند الرئيس فإننا سنجده في "تصحيح المسار"، أو بالأحرى في "التأسيس الثوري الجديد" باعتباره بديلا شاملا هدفه إلغاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية وللنظام البرلماني المعدل، بل هدفه إلغاء الحاجة إلى مختلف الأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب السياسية) وبناء نظام شمولي لا يعترف بالانقسام الاجتماعي الموجب لتعدد الوسائط وشرعيتها.
يصادر "التأسيس الثوري الجديد" على وجود تماثلٍ أو تماهٍ بين إرادة الشعب وإرادة "الزعيم" وسياسات النظام، ولذلك فإن كل معارضة هي بالضرورة معارضة "لا وطنية"، وكل مطالبة بـ"لا مركزية" القرار أو رفض للنظام الرئاسوي هي في جوهرها "تفجير للدولة من الداخل". فغلق مقرات حركة النهضة واستهداف قياداتها التاريخية هو جزء من مشروع التحرير الوطني، وكذلك الشأن عند رفض أي حوار وطني أو تشاركية في إدارة البلاد، ولا يختلف الأمر أيضا عندما يهاجم الرئيس "الخط التحريري " للإعلام العمومي ويتهمه بـ"الخضوع للقوى المضادة للحرية ولمعركة التحرير الوطني"؛ لأنه ارتكب خطيئة عدم مساندة الرئيس دون أي قيد أو شرط.
إنّ "معركة التحرير الوطني" في السردية الرئاسية لا تختلف في شيء عن باقي عناصر تلك السردية من جهة ارتباطها ببعد "إيماني" لا علاقة له بأي نسق حجاجي عقلاني أو بأي إنجاز واقعي. فعلى الشعب أن يؤمن بأن إلغاء الأحزاب واستهداف المعارضة ومركزة السلطة في نظام رئاسوي (لا يمكن محاسبة الرئيس فيه) هو جزء من معركة التحرير، كما كان عليه من قبل أن يؤمن بأن الصادقين (أي أنصار الرئيس) هم من يُجسّدون الإرادة الشعبية مهما كان عددهم في كل المناسبات التي عادت فيها السلطة للشعب (الاستشارة الوطنية، الاستفتاء، الانتخابات البرلمانية)، وأن يؤمن بأن تدهور الأوضاع الاقتصادية لا يعود إلى سوء إدارة النظام الحالي للأزمة وعجزه عن التخلص من منظومة "الاستعمار الداخلي" و"أساطير النمط المجتمعي التونسي" ورعاتها من متطرفي اللائكية الفرنسية "المُتونَسة"، بل يعود إلى "الغرف المظلمة" التي تُعطّل مشروع "التحرير".
لا يعود سبب حكمنا على معركة التحرير الرئاسية بأنها معركة لا وطنية إلى استهدافها لخصومه السياسيين ولا يعود أيضا إلى هلامية مشروعه السياسي، وانتهازية أغلب المدافعين عنه، بل يعود أساسا إلى اللا مفكر فيه طي هذا المشروع. فكيف يمكن خوض "حرب تحرير وطنية" بجنود (سياسيين، إعلاميين، مثقفين، إداريين.. الخ) هم في أغلبهم "عيال" منظومة الاستعمار الداخلي وصنيعتها وحرّاس مصالحها المادية والرمزية؟
رغم أن الرئيس لم يتحدث يوما عن "دكتاتورية وطنية" تحتاجها البلاد لتأسيس ديمقراطية حقيقية لا تكون بالضرورة ديمقراطية تمثيلية على النمط الليبرالي، فإن نظام الحكم الذي يشتغل بالأوامر والمراسيم الرئاسية التي لا تقبل الطعن أو الإلغاء (بحكم حالة الاستثناء من جهة وبحكم غياب أي جهة رقابية مثل المحكمة الدستورية) قد يغري باعتبار النظام نظاما دكتاتوريا وإن لم يُسلّم أصحاب هذا الرأي له بكونه "وطنيا". ولكننا لا نميل إلى هذا التوصيف لسبب بسيط ألمحنا إليه في مقدمة المقال، وهو طبيعة العلاقة التعامدية بين الرئيس والنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي. فنحن نعتبر الرئيس ومشروعه مجرد واجهة لتلك النواة (المركّب المالي-الأمني-الجهوي)، وهو ما يعني أن السلطة لا تتمركز بين يديه واقعيا مهما حاولت المنظومة إيهامنا بخلاف ذلك. فالرئيس ليس دكتاتورا، ولكنّ "معركة التحرير الوطني" التي يخوضها ليست معركة "وطنية" مهما كان صدق نواياه.
لا يعود سبب حكمنا على معركة التحرير الرئاسية بأنها معركة لا وطنية إلى استهدافها لخصومه السياسيين ولا يعود أيضا إلى هلامية مشروعه السياسي، وانتهازية أغلب المدافعين عنه، بل يعود أساسا إلى اللا مفكر فيه طي هذا المشروع. فكيف يمكن خوض "حرب تحرير وطنية" بجنود (سياسيين، إعلاميين، مثقفين، إداريين.. الخ) هم في أغلبهم "عيال" منظومة الاستعمار الداخلي وصنيعتها وحرّاس مصالحها المادية والرمزية؟ وكيف يمكن أن توكل مهمة التحرير الوطني لأصحاب "القضايا الصغرى" الذين لا يوجد في سيرهم الذاتية، أي انحياز للقضايا الكبرى أو معارضة لمنظومة الاستعمار الداخلي؟ وهل يستقيم الحديث عن معركة تحرير وطني مع المحافظة على الانتماء الفرنكفوني لتونس وتجذير العلاقات الاستراتيجية مع محور التطبيع (محور الثورات المضادة)؟ وما قيمة معركة التحرير عندما لا تتوجه إلى العدو الأساسي (منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج)، وتستبدل هذا العدو الوجودي بأعداء سياسيين يعرف الجميع أنهم لا يتحكمون في آليات توزيع السلطة والثروة وفي تأبيد وضعية التخلف والتبعية؟
معركة التحرير الوطني بالصورة التي تدار بها هي "مهمة مستحيلة" أو هي مجرد مجاز يُضاف إلى جملة الاستعارات المؤسسة للدولة-الأمة وللخطابات السلطوية التي هيمنت عليها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وإذا كان أغلب التونسيين لا ينكرون وجود استعمار غير مباشر لبلدهم الذي لا يتمتع واقعيا بمقومات السيادة، فإن بناء تلك المقوّمات -في نظرنا- لا يمكن أن يحصل دون مواجهة السبب الأساسي في فقدانها: منظومة الاستعمار الداخلي
ختاما، فإن معركة التحرير الوطني بالصورة التي تدار بها هي "مهمة مستحيلة" أو هي مجرد مجاز يُضاف إلى جملة الاستعارات المؤسسة للدولة-الأمة وللخطابات السلطوية التي هيمنت عليها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وإذا كان أغلب التونسيين لا ينكرون وجود استعمار غير مباشر لبلدهم الذي لا يتمتع واقعيا بمقومات السيادة، فإن بناء تلك المقوّمات -في نظرنا- لا يمكن أن يحصل دون مواجهة السبب الأساسي في فقدانها: منظومة الاستعمار الداخلي.
وإذا ما سلّمنا للرئيس بصدقه في حرب التحرير الوطني، فإننا لا يمكن أن نوافقه في تحديد الخصم الحقيقي للفوز بهذه الحرب. فتغيير الدستور وتعديل النظام السياسي واعتماد المراسيم والأوامر وإلغاء الحاجة للأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب السياسية).. كل ذلك لا يعني أن الرئيس يخوض "حرب التحرير الوطني" في مكانها الطبيعي وضد خصمها الحقيقي، ولا يعني بالتبعية أنه سينجح فيها. فحرب "التحرير" لا يمكن أن تنجح إلا ببناء "كتلة تاريخية" هدفها محاربة منظومة الاستعمار الداخلي ومراجعة كل "الأساطير" المؤسسة للدولة-الأمة دون شيطنةٍ للتاريخ ورموزه ولا أمثَلة لهم، ودون احتكار للقرار السيادي أو شخصنة له بصورة تقرّبه من الدائرة الايمانية وتبعده عن الجدل العمومي العقلاني.
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية الوطنية التحرير تونس التحرير الإستعمار الوطنية قيس سعيد سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا المشروع لا یمکن أن لا یعود
إقرأ أيضاً:
مديونتها تجاوزت كامل مديونية الجامعات الاردنية.. المشروع الوطني الاهم شمالا يستصرخ دولة الرئيس
#سواليف
كتب أ. د. #عبدالحكيم-الحسبان
قبل أيام صدر التقرير السنوي المعتاد لديوان المحاسبة والذي يقدم جردة حساب لأداء مؤسسات الدولة الاردنية على صعيد المالية العامة كما على صعيد الاداء الاداري والمؤسسي مشيرا لمواقع الخلل التي يقتضي الحال أن يتم تصويبها في القطاع الحكومي وشبه الحكومي الأردني. وعلى النقيض من الأجواء الاحتفالية المتواصلة التي تعيشها، وتبثها إدارة جامعة اليرموك وموقعها الاخباري، وصفحاتها الالكترونية وإذ لا يكاد يمر يوم دون توجيه الدعوة للعاملين في الجامعة لحضور جلسة افتتاح نشاط أو فعالية أو حفل تكريمي، فقد جاء تقرير ديوان المحاسبة ليصب بأطنان من المياه الباردة في وجه العاملين في الجامعة، كما في وجه كل ذي عقل يتفكر في أمور الجامعة وفي المصير القاتم الذي باتت الجامعة تسارع الخطى نحوه.تقول الصفحات التي وقعت عليها عيناي من هذا التقرير والمتعلقة بالعجز المالي للسنة المالية الاخيرة التي يرصدها التقرير أن جامعة اليرموك سجلت العجز المالي السنوي الاكبر على صعيد الجامعات الاردنية، وهي تتصدر قائمة الجامعات الاردنية بعجز سنوي يقترب من العشرة ملايين دينار مقارنة ببعض الجامعات التي سجلت عجزا صفريا أو عجزا ببعضة مئات الالاف من الدنانير. ونتيجة لهذا العجز السنوي المتراكم والمتمادي فقد تصدرت جامعة اليرموك قائمة الجامعات الاكثر مديونية، بل إن مديونية الجامعة تجاوزت مديونية الجامعات الرسمية الاردنية مجتمعة لتسجل رقما قياسيا يقترب من 65 مليون دينار أردني، وبما يتجاوز موازنة الجامعة السنوية، مع ملاحظة أن ثمة مبالغ مالية تتعلق بالتأمين الصحي، وبمكافآت نهاية الخدمة لبعض العاملين في الجامعة إن تم احتسابها، فإن المديونية سوف تقفر لارقام فلكية مرعبة.
من يرقب تطور حال مديونية الجامعة سوف يلاحظ أن المديونية كانت وحتى بضع سنوات خلت، تنمو وفق متوالية حسابية منطقية فالجامعة كانت حينها تنفق على استكمال مبانيها، ومختبراتها وبنيتها التحتية وكادرها البشري الاكاديمي والاداري، ومع ذلك كانت ارقام المديونية تنمو ضمن نطاق منطقي وآمن. ففي العام 2015 كان العحز السنوي بحدود النصف مليون دينار، كما كانت تقديرات المديونية الاكثر تشاؤما تتحدث عن رقم لا يتجاوز ال 18 مليون دينار. وأما في العام 2018 فقد شكل عطوفة رئيس جامعة اليرموك حينها وفي الاسابيع الاولى لتوليه رئاسة الجامعة لجنة لتضع تقريرا حول الوضع المالي للجامعة لتخلص اللجنة أن مديونية الجامعة هي بحدود ال 34 مليون دينار.
مقالات ذات صلة عائلة الطبيب البلوي تتهم سلطات الاحتلال بإخفائه قسريا 2024/12/26أن تقفز مديونية الجامعة منذ العام 2018 من 34 مليون دينار إلى اكثر من 64 مليون دينار، يعني أننا انتقلنا إلى نمط اخر من المتواليات. ففي مقابل المتوالية الحسابية التي كانت تنمو وفقها مديونية الجامعة حتى سنوات قليلة خلت، فإن مديونية الجامعة باتت تسير وفق السيناريو الأكثر سوءا وهو النمو وفق المتوالية الهندسية الذي يعني أن العجز السنوي بات يسجل في عام واحد فقط ما كان يسجله في عشر سنوات سابقة من عمر الجامعة، وهو ما يوضح هذا النمو الفلكي في العجز المالي السنوي لينعكس بالتالي في حجم المديونية. كما باتت مخصصات خدمة الدين التي تقترب من رقم ال 5 ملايين دينار سنويا تأكل الاخضر واليابس في الجامعة بحيث لا تبقي إلا العدم أو فتات الفتات كي تقوم أجهزة الجامعة ووحداتها بوظائفها التعليمية، والاكاديمية، والبحثية، والتدريبية، والادارية.
من المفارقات التي يجب استحضارها عند النظر في هذا النمو المنفلت لارقام المديونية والتي يمكن أن تساعد في فهم وتسليط الضوء على الاسباب التي أدت إلى هذا الحال الخطر الذي تعيشه الجامعة، مفارقة أن جامعة اليرموك هي من بين الاكبر بين الجامعات الاردنية وبعدد طلاب يقترب من ال 42 الف طالب، ما يعني أن أزمة الجامعة ليست كحال جامعات الجنوب التي تشكو قلة أعداد الطلبة ما يؤثر سلبا في وضع ماليتها العامة.
كما أن واحدة من مفارقات هذا الدين المخيف والمتمادي يتعلق بالتوقيت وبالزمن الذي تأتي فيه هذه المديونية؛ نفهم أن تسجل أي جامعة عجزا ومديونية في سنوات التأسيس لأنها سنوات الانفاق الكثيف على البنى التحتية وعلى تجنيد الموارد البشرية من اكاديميين واداريين، ولكن أن تأتي المديونية لتسجل أعلى أرقامها ولتكشف عن اكثر الحالات مأساوية على صعيد الجامعات الاردنية بعد حوالي النصف قرن من تأسيس الجامعة وفي وقت يفترض فيه أن الجامعة استكملت بناها التحتية والبشرية فهو ما يجب أن يثير الكثير من الاسئلة حول ما جرى وما زال يجري في الجامعة وحولها، على صعيد الممارسات التي يدير من خلالها مجلس التعليم العالي هذه الجامعة، كما على صعيد نسق الادارات المتتالية التي تعاقبت على هذه الجامعة في السنوات الاخيرة، وهو ما بات يستدعي وضع الجامعة تحت مجهر أعلى المراجع في الدولة كما تحت مجهر أعلى دوائر صنع القرار.
نمو المديونية بهذا الشكل بات يطرح كثيرا من الاسئلة حول مجمل النهج الذي تم سلوكه في السنوات الاخيرة من قبل مجلس التعليم العالي تجاه جامعة اليرموك إذ سجل هذا المجلس رقما قياسيا في عدد المرات التي اجتمع فيها ليعفي رئيسا وليعين رئيسا مكانه. وحدها اليرموك التي يسود شعور بين العاملين فيها أن اعفاء الرئيس وتعيين بديل له هو أسهل لبعض من في مراكز صناعة القرار من شرب رشفة ماء. ووحدها اليرموك التي لا يبدو أن صانع قرار تعيين رؤسائها يتجشم عناء التفكير في هوية تخصصاتها الاكاديمية التي تأسست عليها، كما في هويتها المناطقية والاجتماعية ذات الخصوصية الشديدة.ووحدها اليرموك التي باتت الاعتصامات والاضطرابات وطقوس التعبير عن الغضب على درج الرئاسة بمثابة طقوس روتينية ورتيبة للعاملين فيها الذي باتوا ومنذ سنوات يرون بل ويعيشون واقع انخفاض ما يصل لجيوبهم من دخل، وما يجب إن يصل إلى بنود الانشطة العلمية والبحثية والتي باتت تخضع للتقليص والتآكل يوما بعد يوم.
ومن مفارقات المشهد اليرموكي أيضا، إنه وفي الوقت الذي تغرق الجامعة فيه بهذه الازمة المالية التي تهدد وجودها ما يفرض على مجلس التعليم العالي، كما على رئيس الجامعة ومعه الفريق الاداري المحيط أن يعلنوا حالة طوارئ إدارية ومالية، بمعنى أن تكون هوية الرئيس، كما طاقم الرئيس المحيط به، كما الخطاب المبثوث والسائد داخل الجامعة يتعلق بالوضع المالي وخطورته على الجامعة، فان الوضع المالي لا يبدو على قائمة أولويات الجامعة. فالخطاب المبثوث في فضاء الجامعة وفي كل حيز فيه، لا تتردد فيه سوى عبارات: جودة، وتسكين، وتصنيفات عالمية، واعتماد. وهو ما ينعكس ايضا في هوية الطاقم الرئاسي والاداري الذي يخلو بشكل لافت من طاقم مالي يعنى بازمة الجامعة المالية في حين بات هذا الطاقم يعج بالمهتمين بملفات الجودة، والتصنيفات العالمية، والريادة، والتسكين وغيرها.
في محاولة تشخيص ما جرى ويجري من إنهيار سريع لعمل هذه المؤسسة وأدائها من المهم الأشارة إلى بعض الملفات الكبيرة التي قد تكون وراء هذا جبل المخاطر الكبير الذي بات يتهدد الجامعة، وهي كلها ملفات يتحدث بها العامة والخاصة على صعيد الجامعة كما على صعيد قطاع التعليم العالي في البلاد. ثمة ملفات مالية وادارية كبيرة كان لها ارتباط زمني وتزامني مع هذا الانهيار الكبير في الوضع المالي للجامعة. فثمة ملف كبير يتعلق بتعيينات اكاديمية بالمئات جرت في سنة واحدة قيل أن هيئة الاعتماد اشترطتها، ما زالت ترهق مالية الجامعة. وثمة ملفات تتعلق بصندوق الاستثمار في الجامعة تتعلق بملايين الدنانير استنزفت ايضا مالية الجامعة، وثمة ملف يتعلق بتعيينات بنظام المكافأة لمئات من الاشخاص استنزفت ايضا ملايين الدنانير من مالية الجامعة. وثمة مبالغ يقال أن جهات حكومية تبتعث طلابها ولا تقوم بدفع ما يترتب عليها. وثمة وثمة وثمة. كل هذه الملفات يشير اليها بعض العارفين في أمور الجامعة وباتت تحتاج للجنة على اعلى المستويات من خارج الجامعة وداخلها كي تجلي الامور حولها.
وفي موازة هذه الملفات، ثمة ملفات تتعلق بالحاكمية أو الحوكمة داخل الجامعة يجب التحقق منها وصولا للتحقيق فيها. فثمة مراكز للدراسات والابحاث في الجامعة كانت حتى سنوات قليلة مصدرا مهما للايرادات المالية من خلال الخدمات البحثية والاستشارية التي كانت تقوم بها، بات من المهم أن يتم اجراء دراسة مقارنة لتبيان مستوى أدائها خلال العشرين عاما الاخيرة لتبيان فيما إذا كانت ساهمت بهذا الانهيار المالي الكيبر والمتسارع في الجامعة.
كما أن دراسة معمقة تقوم به لجنة متخصصة تجري دراسة وتقييما لعمل وحدة المشاريع الدولية- التي جرى تعيين زميل موقر أكن كل الاحترام له على رأسها موخرا-مع مقارنة لمدى مساهمة المشاريع الدولية في مالية الجامعة على مدى العشرين عاما الاخيرة كي يتم التقرير فيما اذا كانت دائرة المشاريع الدولية قد ساهمت سلبا أو ايجابا في هذا الانهيار الكبير في المالية العامة للجامعة مع ملاحظة أن المشاريع الدولية كانت خلال سنوات ازدهار الجامعة واحدة من أهم أذرع الجامعة على عدة صعد. وللتدليل على ذلك يكفي النظر في عدد المختبرات والاجهزة التي تم توفيرها في كليات العلوم والهندسة والاثار والانثربولوجيا على سبيل المثال من خلال المشاريع الدولية ولم تكلف الجامعة دينار واحدا.
تقرير ديوان المحاسبة وأرقامه المفزعة المتعلقة حول جامعة اليرموك تقول وبوضوح أن هذه الجامعة باتت في مهب الريح، وأن في الافق خطر حقيقي للانهيار والموات إن لم يجر تدارك الامور من قبل أعلى جهات صناعة القرار وأعني به هنا هو دولة رئيس الوزراء. فمصير اليرموك لا يتعلق فقط بمجرد مصير واحدة من مؤسسات التعليم العالي الكثيرة بالبلاد، ولكنه يتعلق بمصير شمال البلاد كله بالنظر إلى الدور المركزي الذي تلعبه جامعة اليرموك في اقتصاد الشمال واجتماعه، وثقافته. فجامعة اليرموك كانت وما زالت هي المؤسسة الادارية والاقتصادية الاكبر على صعيد شمال الاردن، وعلاقة الجامعة بالمجتمع المحيط لا تشبه مطلقا علاقة الجامعة الاردنية مثلا بمجتمع مدينة عمان. فاليرموك هي محور اقتصاد الشمال، وهي محور التحول الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي في مجتمع الشمال الكبير. وحين كانت اليرموك تتمتع بالصحة، كان اقتصاد الشمال واجتماعه عفيا ويتمتع بالعافية، وحين دخلت اليرموك في أتون الازمة، دخل اقتصاد مدينة اربد أو جزء كبير منه في أزمة.