فلول "الربيع العربي" ودماء الفلسطينيين
تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT
في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل ارتكاب جرائمها الفظيعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من غزة إلى الضفة، تحاول بعض الأطراف التي اعتادت الصيد في المياه العكرة، استغلال الوضع لخدمة مشروعها التخريبي الذي أثبتت الأيام أنه لا يصب في الأخير إلا في مصلحة أعداء الأمة، ولا يخدم إلا المراهنين على فشلها وتخلفها وهزيمتها الحضارية.
الواضح، أن هناك من يحاول انتهاز الفرصة للتحريض على الأنظمة الوطنية المعتدلة التي سعت دائما إلى تحصين ما يمكن تحصينه من جدار العروبة المهدد بالانهيار والاندثار، ليس فقط من القوى الإقليمية والدولية التي لا تخفي أطماعها ولا أجنداتها التوسعية، وإنما كذلك، وبالأساس، من قوى داخلية ذات مرجعيات عقائدية وفكرية متشددة، وذات مشاريع حزبية وطائفية وفئوية لا تزال تعتقد أنها قادرة على تحقيقها بالاعتماد على التضليل الإعلامي وفبركة المعطيات وتزوير الحقائق والإساءة إلى الرموز الوطنية والقومية التي طالما أثبتت حكمتها وجديتها وعمق رؤيتها وقدرتها على خدمة دولها وأمتها.
لقد عادت فلول ما سمي بالربيع العربي، لتنتهج ذات الطريق ولتعتمد نفس الأسلوب في تقسيم المجتمعات والأنظمة العربية وفق معايير سبق أن تبين فشلها، وإن تلاشت وذهبت ريحها بعد فاصل قصير من حكم التحالفات الشاذة التي كانت في الأصل وليدة مخابر الاستخبارات الغربية، ثم جاءت في سياق شكل جديد من الثورات الملونة كان الهدف منه الوصول إلى ما عجزت عنه إسرائيل حاليا وهو تهجير الفلسطينيين من ديارهم، وخاصة في غزة، والدفع بهم إلى صحراء سيناء المصرية.
إن التحالفات التي تشكلت قبيل وخلال ثم بعيد فوضى الربيع العربي، لا تزال هي ذاتها اليوم قائمة على أهدافها الأولى، وإن اختلفت أشكالها ومواقعها وأدواتها، وهي تتحدث عن موجة جديدة من الثورات قد تندلع في أي وقت، دون أن تلاحظ من حولها أن الشعوب دفعت غاليا ثمن الفوضى الخلاقة، وأنها لم تعد مستعدة لدفع المزيد من أجل طموحات حركة أو شعارات حزب أو أهداف جماعة.
خلّفت فوضى الربيع العربي خرابا في البنى التحتية بمقدار 900 مليار دولار، وبحسب تقارير الأمم المتّحدة، وفي تقديرات أوّلية لما تحتاجه إعادة الإعمار في الدول المذكورة، تحتاج سوريا إلى 350 مليار دولار، ومثلها ليبيا والعراق، كما يحتاج اليمن إلى 200 مليار دولار، وبلغ حجم الخسائر السنوية في الناتج المحلي الإجمالي العربي بقيمة 640 مليار دولار، وارتفع إجمالي المديونيّة العربيّة من 328 مليار دولار في العام 2007 إلى 673 مليار دولار في العام 2017، كما تشرد الملايين من العرب خارج ديارهم، واتسعت دائرة الفقر والبطالة والتضخم وجاع الملايين في أوطانهم، وساد الفساد بشكل غير مسبوق، فكأنما الجراد أتى على الأخضر واليابس في الأقطار المنكوبة حينا باسم الدين والشريعة وأحيانا باسم الوطنية والديمقراطية، وظهر من علامات الشر الأشر منها، واستيقظت الفتن الدينية والمذهبية والطائفية والمناطقية، وتحركت الأطماع الشخصية والأسرية والفئوية للاستفادة من حالة الانفلات الذي عمّ كل شيء، فكانت خيبة الشعوب المريرة والقاسية من كل الشعارات التي رفعها “الربيعيون” بما في ذلك شعارات الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان.
وأغرب ما في الأمر، أن الشارع العربي الذي انتفض مع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، سرعان ما عاد إلى هدوئه وسكونه، وتخلى عن شعاراته الفضفاضة، وبات مكتفيا بملاحقة الأخبار عبر قنوات التلفزيون وصفحات التواصل الاجتماعي، وكأنه اكتشف أن هناك من يتجهون إلى استغلال مواقفه الوجدانية والحماسية وغضبه التلقائي مما يتعرض له المدنيون الفلسطينيون، واختار أن يسحب البساط من تحت أقدامهم، خصوصا وأن هناك من سعى بوضوح إلى بث الفتنة بين الشعوب وقياداتها، وبين هذه الدول وتلك، وهناك من اعتقد أن بإمكانه الالتحاق بقطار الربيع العربي بعد مغادرته مختلف محطاته من الأولى إلى النهائية.
قد يتساءل البعض لماذا لا تزال مسيرات الغضب تنشط بقوة في باريس ولندن وبرلين وواشنطن وغيرها؟ ولماذا لم يعد لها وجود في شوارع الدول العربية؟ ليأتي الجواب بأن العرب لم يعد لهم ثقة في الخطاب الإعلامي المنفلت، ولا في الشعارات الأيديولوجية المتشددة، ولا في المواقف الحكومية والحزبية والنقابية التي لم تغادر مواقع جبهة الصمود والتصدي التي تأسست في مثل هذا الشهر من العام 1977، ولم تعد أسماعها لاستقبال أصوات أخرى غير بث الإذاعات الموجهة.
إن ما تحاول فلول الربيع العربي القيام به هذه الأيام، من تحريض الرأي العام على أنظمة بعينها كانت ولا تزال تمثل صف الاعتدال العربي، لا علاقة له بمآسي الفلسطينيين وهم يواجهون عدواناً إرهابياً تدعمه حكومات “العالم الحر”، ولا بمواكب الألم والأحزان من وسط ركام البنايات المهدمة، ومن فوق جثث الضحايا، ومن وراء ستائر المأساة المخضبة بدماء الأطفال والنساء والعجائز، إلا من حيث العمل على استغلال الحالة في محاولة لإعادة الحياة إلى أجندة وقعت تحت تأثير الموت السريري منذ سنوات، وتبين أن المراهنة عليها هي في الأصل مراهنة على الفشل والهزيمة.
إن ما ذهب إليه المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الدكتور أنور قرقاش، من أن حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة، لم يمنع فلول الربيع العربي والميليشيات والمتطرفين من استغلال ذلك لشن حرب إعلامية خبيثة ضد الخليج ودول الاعتدال العربي ونشر الأكاذيب والافتراءات، يشير إلى أن الصورة باتت واضحة لمن يدقق في التفاصيل ولمن يقرأ المشهد بجميع جوانبه وخلفياته، حيث تحولت بعض وسائل الإعلام إلى منصات إدانة وتخوين وتكفير وتجريم لهذا النظام أو ذاك، مع الترويج المتعمد لقراءات خاطئة ومعطيات كاذبة واستنتاجات واهمة وفق التقسيم المستوحى من خطاب الفوضى الخلاقة والذي يستهدف صف الاعتدال العربي ويقدم داعمي التطرف والإرهاب وممولي الميليشيات والجماعات المسلحة والمبشرين بزمن الفتنة والانقسام على أنهم القادة والزعماء الوطنيون ورموز المقاومة والتغيير وحراس الثورات الديمقراطية وهداة الشعوب إلى ما تريد.
أهم ما تعتمد عليه تلك الفلول، هو إلغاء العقل ومعاداة الحكمة والاستفادة من حالة الغباء المستشري على الكثير من مواقع التوصل الاجتماعي، وقابلية بعض الفئات الاجتماعية للخضوع إلى لعبة التضليل الإعلامي وتصديق الأخبار الزائفة والصور والفيديوهات المفبركة والتصريحات المزورة، والترويج لأفكار وتصورات معينة بمعزل عن إكراهات الواقع الإقليمي والدولي وتعقيدات الجغرافيا السياسية وطبيعة التوازنات العسكرية والإستراتيجية التي فرضها التاريخ والجغرافيا وكرستها صراعات النفوذ بين القوى الكبرى.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي أحداث السودان سلطان النيادي غزة وإسرائيل مونديال الأندية الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل الربیع العربی ملیار دولار لا تزال
إقرأ أيضاً:
ما مصادر التمويل التي ستوفرها قمة المناخ "كوب 29"؟
الاقتصاد نيوز — متابعة
عُرفت قمة المناخ "كوب 29" التي تُعقد في باكو، أذربيجان، بلقب "قمة التمويل"، حيث يهدف الحدث إلى التوصل إلى اتفاق طموح جديد بشأن التمويلات المناخية الموجهة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة.
ومع ذلك، يمكن استخدام هذه التسمية لوصف العديد من القمم السابقة للأمم المتحدة التي جمعت زعماء العالم. فقد كان التركيز في محادثات "كوب 26" في غلاسغو على إشراك المؤسسات الاستثمارية في جهود مكافحة الاحترار العالمي، بينما تم تحقيق إنجازات في القمة التي عُقدت في شرم الشيخ بمصر العام التالي، حيث تم تأسيس صندوق لدعم الدول النامية في مواجهة آثار تغير المناخ.
وفي قمة "كوب 28" التي عُقدت العام الماضي، أعلنت الإمارات عن إطلاق صندوق بقيمة 30 مليار دولار لتمويل مشاريع تقليل الانبعاثات بالتعاون مع شركات مثل "بلاك روك"، و"تي بي جي"، و"بروكفيلد أسيت مانجمنت".